د
د.محمد عبدالحليم غنيم
هذه رواية " فئران بلا جحور " أحدث روايات الكاتب الليبي المعروف أحمد إبراهيم الفقيه , ينحو فيها منحى جديدا في رواية الصحراء , إذا جاز هذا التعبير , وعالم الصحراء أو المكان الصحراوي في أعمال الفقيه ليس جديدا عليه , فقد سبق له أن كتب عن هذا العالم في روايته السابقة " حقول الرماد " غير أن الفقيه كان يركز فيها على البشر أكثر مما يرتكز على الصحراء / المكان , أما هنا في روايته الجديدة " فئران بلا جحور " فإن المكان يأخذ حيزا أكبر وبعدا أوسع , ولن نبالغ إذا قلنا إن المكان بمفرداته من البشر والحيوان والنبات يجسد بطولة خاصة , هي البطولة الجماعية للمكان وما يحل فيه . فالصحراء في الرواية ليست مجرد مساحة مسطحة من أرض ورجال وشمس وليل وحيوان ونبات , إنما هي صورة مصغرة لوحدة الكون , وقد حصر المؤلف هذا الكون في رقعة صغيرة من الأرض هي ( وادي جندوبة ) وزمن محدود هو خمسة أيام، وعدد قليل من البشر يتمثل في قافلتين , الأولى قوامها أربعون شخصا قادمة من ( مزدة ) , والثانية قوامها ثمانية أشخاص قادمة من ( بير حكيم ) تلتقي القافلتان على غير موعد فوق أرض جندوبة , بحثا عن الرزق أو قل هربا من الجوع الذي يكاد يفتك بهما , الجدير بالذكر أن المؤلف وضع عنوانا داخليا للرواية تحت العنوان الأصلي هو " صفحة من كتاب الجوع " ومن هنا يتفجر الصراع الرئيسي في الرواية إنه الصراع من أجل البقاء أو للحفاظ على غريزة الحياة إذا جاز التعبير .
ولأن الصراع من أجل البقاء هو أساس الحياة فإن الفقيه يستغل هذه التيمة , فيثيرها بتعدد أشكال الصراع وتنوعها , فثمة صراع بين البشر والجرابيع , وصراع بين البشر والطبيعة، وصراع بين البشر والتقاليد , وصراع بين البشر والبشر , فهذا التنوع في أشكال الصراع هو الذي أعطى للرواية حيويتها .
تنتظم الرواية في خمس وثلاثين فصلا موزعة دون تساو بين البشر والحيوانات القاطنة في المكان , فالفصول الخاصة بالبشر طويلة وعددها أكبر بينما الفصول الخاصة بالحيوانات قصيرة وعددها أقل , وهذا التفاوت في العدد بين الفصول حيلة فنية من المؤلف , فتفاوت العدد يعادل التفاوت بين الإنسان والحيوان , فالبسر يأتون إلى المكان محتلين له , ومستولين على خيراته طاردين أصحابه الجرابيع والسحالي والحشرات وغيرهم , بل أنهم لا يكتفون بذلك فها هم آل جبريل ( القافلة الثانية ) يصطادون الجرابيع ويأكلونها .
والخيال الجامح من أبرز سمات الفن القصصي عند المؤلف كما أشار إلى ذلك من قبل الدكتور على الراعي , وهذه السمة تظهر هنا أيما ظهور , حيث يمزج الفقيه بين الواقعي والخيالي , فعالم الحيوان بجرابيعه ونمله وسحاليه وثعابينه يبدو قريبا منا , يعيش بيننا ويتحدث لغتنا , يجتمع ويخطط ليتخذ موقفا من الإنسان الظالم المحتل , وقد استفاد الفقيه من خبرته القصصية فجعل الفصول الخاصة بالحيوان قصيرة جدا , فكانت بمثابة هجاء وسخرية حكيمة من جهل الإنسان وظلمه , وهي فصول تستدعي إلى الذاكرة حكايات الحيوان عند إخوان الصفا فى رسالة "تداعى الإنسان على الحيوان" ومن قبلهم ابن المقفع في " كليلة ودمنة" , ومن قبل هذا وذاك حكاية الحيوان في القرآن الكريم , وهو استدعاء غير مباشر , إنه استدعاء لمدلول الحكاية وجوهرها , فعندما تحط القافلة في جندوبة بجمالها وحميرها ,يضرب فأر عجوز كفا بكف ,ويلتفت لمن حوله من أبناء وأحفاد قائلا :
- خذوا حذركم فها قد أتى من سينكل بشعبنا المسالم ويشيع في أرضنا هذه الفساد والموت والخراب " ( الرواية ص 9 )
فصوت الفأر العجوز قريب من صوت النملة التي حذرت قومها من سليمان وجنوده في القرآن الكريم , قال تعالى " حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " ( النمل – 18 )
ولا يقتصر حضور التراث أو التناص معه على الفصول التي يقوم ببطولتها الحيوان ولكن يمتد إلى الفصول الأخرى من الرواية , فثمة توظيف للتراث البدوي الليبي ،وثمة توظيف للتراث الشعبي , كسيرة بنى هلال والحكايات والمعتقدات الشعبية بصورة عامة .
وتتجلى براعة الكاتب الفنية عندما يوظف الحكاية الشعبية توظيفا فنيا , حيث يتداخل بناؤها مع بناء الرواية , فيأتي بناء الحكاية موازيا لبناء الرواية أحيانا ويأتي بمثابة النبوءة أو الحلم الذي يتحقق عبر بناء الرواية فيما بعد , ففي الفصل العاشر على سبيل المثال – تحكى الحاجة خديجة لحفيدها ( على ) قصة أم بسيسي العصفورة مع الفأر الذي سرق غذاءها من الحليب , وكيف عاقبته بانتزاع ذيله , تحكي الجدة القصة غير البريئة للطفل البريء فينام قبل النهاية بقليل , وخلاصة القصة أن الفأر لكي يحصل على ذيله المقطوع عليه أن يقوم بجلب شيء ما من شخص ما , وهذا الشخص يحيله على شخص آخر , وهكذا، وينام الحفيد عندما يطلب صانع الخبز من الفأر إحضار الشعير من الحقل لكي يعطي له رغيفا " استغرق الولد في النوم وما عاد بحاجة إلى إكمال الحكاية والفأر الذي جاء يطلب سنبلة من حقل الشعير , أدرك أن التسول لن يحل المشكلة , فقرر أن يأخذ الحقل كله , ويستولي بأظافره وأنيابه على كل ما فيه من سنابل الشعير ولم يعد مرغما على استجداء المساعدة من الحجر والشجر والبشر والطير وكائنات البادية الأخرى , فقد أضحى هو سيد الموقف " ( الرواية ص 54 )
إن الكاتب يوسع من دلالة الحكاية الشعبية فلا تقف عند مجرد إلهاء الطفل أو جعله يألف عالم الفئران المحيط به , فالحكاية هنا بناء رمزي وإشارة ذكية لسيطرة الجرابيع على الموقف في وادي جندوبة , فقد استطاعت أن تجمع الشعير كله وتدفنه تحت الأرض في جحورها قبل مجيء القافلة .
وعلى الرغم من قسوة الجوع فإن عاطفة الحب النبيلة تبقى كامنة في نفوس الشخصيات , فمجرد أن تمتلئ البطون , تظهر هذه العاطفة بقوة , فلا ينسى الفقي( برهان )حبه القديم (لفاطمة)ويسرع إلى إنقاذها عندما يلدغها ثعبان , على الرغم من أنها متزوجة من رجل آخر غيره , وينشط جمال نساء آل جبريل هذه العاطفة أيضا , فيخرج مسعود الروماني على تقاليد القبيلة ويتزوج زهرة من آل جبريل , ويميل الفقي برهان بعاطفته نحو رابحة زعيمة آل جبريل , أما العجوز مريومة فتشيع روح السلام والود بين جميع أفراد القبيلة , على حين تبدو الحاجة خديجة زوجة شيخ القبيلة بمثابة أم الجميع حقا , ولكن لابد من ضحية لهذه العاطفة النبيلة , فعلى الرغم من طهر العلاقة بين عامر وزينب فإنها تنتهي بفضيحة غير مقصودة حيث تهاجمها الذئاب وتمزق ملابسها , ويفتضح أمرها بين أفراد القبيلتين ومع ذلك نشعر في نهاية الرواية بالسعادة تعم الجميع , وكأن الجوع بمثابة الماء المقدس الذي تطهر به البشر والكائنات الأخرى , فعندما يأتي السيل متدفقا نحو الوادي , يتجاور البشر مع الحيوان , ونسمع لأول مرة ضحكة الشيخ حامد وهي ضحكة تنتقل عدواها إلى جميع أفراد القبيلة , فعندما يسمع لفظ " شعير الجرابيع " من الفقي برهان , يدهش قائلا :
" - هل تسمونها حقا شعير الجرابيع ؟
والتفت يبحث عن زوجته الحاجة خديجة ليقول لها ضاحكا :
- هل سمعت يا حاجة ؟ إنه يقول شعير الجرابيع
وظل يعيد هذه الجملة ضاحكا , فسرى الضحك بين الجميع , حتى تحول لدى القبطان إلى قهقهة " ( الرواية ص 247 )
وباندفاع السيل وقوته في الوادي تتقافز الجرابيع بين أرجل الرجال , وكأنها تحتمي بها , كأن مصيرها ارتبط بمصيرهم , ومن هنا تتحقق دلالة العنوان " فئران بلا جحور " فالمدلول يشمل البشر والجرابيع معا , وكأننا مع الكاتب أمام قصيدة رثاء للإنسان العربي الفقير الذي يصارع الفئران من أجل حفنة شعير ولكنه رثاء مشبع بالفكاهة والحكمة والفن الجميل .
[SIZE=4]دكتور / محمد عبد الحليم غنيم
[SIZE=3]بطولة المكان في رواية " فئران بلا جحور "[/SIZE]
[SIZE=6]للكاتب الليبي / أحمد إبراهيم الفقيه[/SIZE]
[/SIZE]
[SIZE=4]
[/SIZE]
ولأن الصراع من أجل البقاء هو أساس الحياة فإن الفقيه يستغل هذه التيمة , فيثيرها بتعدد أشكال الصراع وتنوعها , فثمة صراع بين البشر والجرابيع , وصراع بين البشر والطبيعة، وصراع بين البشر والتقاليد , وصراع بين البشر والبشر , فهذا التنوع في أشكال الصراع هو الذي أعطى للرواية حيويتها .
تنتظم الرواية في خمس وثلاثين فصلا موزعة دون تساو بين البشر والحيوانات القاطنة في المكان , فالفصول الخاصة بالبشر طويلة وعددها أكبر بينما الفصول الخاصة بالحيوانات قصيرة وعددها أقل , وهذا التفاوت في العدد بين الفصول حيلة فنية من المؤلف , فتفاوت العدد يعادل التفاوت بين الإنسان والحيوان , فالبسر يأتون إلى المكان محتلين له , ومستولين على خيراته طاردين أصحابه الجرابيع والسحالي والحشرات وغيرهم , بل أنهم لا يكتفون بذلك فها هم آل جبريل ( القافلة الثانية ) يصطادون الجرابيع ويأكلونها .
والخيال الجامح من أبرز سمات الفن القصصي عند المؤلف كما أشار إلى ذلك من قبل الدكتور على الراعي , وهذه السمة تظهر هنا أيما ظهور , حيث يمزج الفقيه بين الواقعي والخيالي , فعالم الحيوان بجرابيعه ونمله وسحاليه وثعابينه يبدو قريبا منا , يعيش بيننا ويتحدث لغتنا , يجتمع ويخطط ليتخذ موقفا من الإنسان الظالم المحتل , وقد استفاد الفقيه من خبرته القصصية فجعل الفصول الخاصة بالحيوان قصيرة جدا , فكانت بمثابة هجاء وسخرية حكيمة من جهل الإنسان وظلمه , وهي فصول تستدعي إلى الذاكرة حكايات الحيوان عند إخوان الصفا فى رسالة "تداعى الإنسان على الحيوان" ومن قبلهم ابن المقفع في " كليلة ودمنة" , ومن قبل هذا وذاك حكاية الحيوان في القرآن الكريم , وهو استدعاء غير مباشر , إنه استدعاء لمدلول الحكاية وجوهرها , فعندما تحط القافلة في جندوبة بجمالها وحميرها ,يضرب فأر عجوز كفا بكف ,ويلتفت لمن حوله من أبناء وأحفاد قائلا :
- خذوا حذركم فها قد أتى من سينكل بشعبنا المسالم ويشيع في أرضنا هذه الفساد والموت والخراب " ( الرواية ص 9 )
فصوت الفأر العجوز قريب من صوت النملة التي حذرت قومها من سليمان وجنوده في القرآن الكريم , قال تعالى " حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " ( النمل – 18 )
ولا يقتصر حضور التراث أو التناص معه على الفصول التي يقوم ببطولتها الحيوان ولكن يمتد إلى الفصول الأخرى من الرواية , فثمة توظيف للتراث البدوي الليبي ،وثمة توظيف للتراث الشعبي , كسيرة بنى هلال والحكايات والمعتقدات الشعبية بصورة عامة .
وتتجلى براعة الكاتب الفنية عندما يوظف الحكاية الشعبية توظيفا فنيا , حيث يتداخل بناؤها مع بناء الرواية , فيأتي بناء الحكاية موازيا لبناء الرواية أحيانا ويأتي بمثابة النبوءة أو الحلم الذي يتحقق عبر بناء الرواية فيما بعد , ففي الفصل العاشر على سبيل المثال – تحكى الحاجة خديجة لحفيدها ( على ) قصة أم بسيسي العصفورة مع الفأر الذي سرق غذاءها من الحليب , وكيف عاقبته بانتزاع ذيله , تحكي الجدة القصة غير البريئة للطفل البريء فينام قبل النهاية بقليل , وخلاصة القصة أن الفأر لكي يحصل على ذيله المقطوع عليه أن يقوم بجلب شيء ما من شخص ما , وهذا الشخص يحيله على شخص آخر , وهكذا، وينام الحفيد عندما يطلب صانع الخبز من الفأر إحضار الشعير من الحقل لكي يعطي له رغيفا " استغرق الولد في النوم وما عاد بحاجة إلى إكمال الحكاية والفأر الذي جاء يطلب سنبلة من حقل الشعير , أدرك أن التسول لن يحل المشكلة , فقرر أن يأخذ الحقل كله , ويستولي بأظافره وأنيابه على كل ما فيه من سنابل الشعير ولم يعد مرغما على استجداء المساعدة من الحجر والشجر والبشر والطير وكائنات البادية الأخرى , فقد أضحى هو سيد الموقف " ( الرواية ص 54 )
إن الكاتب يوسع من دلالة الحكاية الشعبية فلا تقف عند مجرد إلهاء الطفل أو جعله يألف عالم الفئران المحيط به , فالحكاية هنا بناء رمزي وإشارة ذكية لسيطرة الجرابيع على الموقف في وادي جندوبة , فقد استطاعت أن تجمع الشعير كله وتدفنه تحت الأرض في جحورها قبل مجيء القافلة .
وعلى الرغم من قسوة الجوع فإن عاطفة الحب النبيلة تبقى كامنة في نفوس الشخصيات , فمجرد أن تمتلئ البطون , تظهر هذه العاطفة بقوة , فلا ينسى الفقي( برهان )حبه القديم (لفاطمة)ويسرع إلى إنقاذها عندما يلدغها ثعبان , على الرغم من أنها متزوجة من رجل آخر غيره , وينشط جمال نساء آل جبريل هذه العاطفة أيضا , فيخرج مسعود الروماني على تقاليد القبيلة ويتزوج زهرة من آل جبريل , ويميل الفقي برهان بعاطفته نحو رابحة زعيمة آل جبريل , أما العجوز مريومة فتشيع روح السلام والود بين جميع أفراد القبيلة , على حين تبدو الحاجة خديجة زوجة شيخ القبيلة بمثابة أم الجميع حقا , ولكن لابد من ضحية لهذه العاطفة النبيلة , فعلى الرغم من طهر العلاقة بين عامر وزينب فإنها تنتهي بفضيحة غير مقصودة حيث تهاجمها الذئاب وتمزق ملابسها , ويفتضح أمرها بين أفراد القبيلتين ومع ذلك نشعر في نهاية الرواية بالسعادة تعم الجميع , وكأن الجوع بمثابة الماء المقدس الذي تطهر به البشر والكائنات الأخرى , فعندما يأتي السيل متدفقا نحو الوادي , يتجاور البشر مع الحيوان , ونسمع لأول مرة ضحكة الشيخ حامد وهي ضحكة تنتقل عدواها إلى جميع أفراد القبيلة , فعندما يسمع لفظ " شعير الجرابيع " من الفقي برهان , يدهش قائلا :
" - هل تسمونها حقا شعير الجرابيع ؟
والتفت يبحث عن زوجته الحاجة خديجة ليقول لها ضاحكا :
- هل سمعت يا حاجة ؟ إنه يقول شعير الجرابيع
وظل يعيد هذه الجملة ضاحكا , فسرى الضحك بين الجميع , حتى تحول لدى القبطان إلى قهقهة " ( الرواية ص 247 )
وباندفاع السيل وقوته في الوادي تتقافز الجرابيع بين أرجل الرجال , وكأنها تحتمي بها , كأن مصيرها ارتبط بمصيرهم , ومن هنا تتحقق دلالة العنوان " فئران بلا جحور " فالمدلول يشمل البشر والجرابيع معا , وكأننا مع الكاتب أمام قصيدة رثاء للإنسان العربي الفقير الذي يصارع الفئران من أجل حفنة شعير ولكنه رثاء مشبع بالفكاهة والحكمة والفن الجميل .
[SIZE=4]دكتور / محمد عبد الحليم غنيم
[SIZE=3]بطولة المكان في رواية " فئران بلا جحور "[/SIZE]
[SIZE=6]للكاتب الليبي / أحمد إبراهيم الفقيه[/SIZE]
[/SIZE]
[SIZE=4]