نقوس المهدي
كاتب
تقديم
إن السلطة التي تمارسها اللغة على الإنسان تكمن في كون الروح الإنسانية حسب هيردر تفكر بالكلمات، لذلك إذا أردنا تحليل الفكر، فما علينا إلا تحليل اللغة، وهذا التوجه قاد هيردر إلى رصد العلاقات المتوازية بين اختلاف الأنساق اللغوية واختلاف أنساق التفكير[1]. وفي السياق نفسه انصبت الأعمال الفكرية للفلاسفة واللغويين على كون اللغة تنفرد في شكلها البنائي ومحتواها الثقافي، فهي بذلك تكشف عن عقل الأمة، لأن اللغة هي عقلها، وعقلها هو لغتها. وينبغي الربط من خلال هذه الجدلية التفاعلية بين اللغة والعقل الربط بين خصوصية التفكير والإدراك وخصوصية اللغة، ذلك لأن التفكير والإدراك لا يمكن أن يتحددا ويتسما بقابلية التوصيل إلا من خلال اللغة، ومن تم تشكل هذه الأخيرة إلى جانب الفكر كيانا متلاحما لا يقبل التجزيء والتفكك ، وإذا كان هذا كذلك فإن الاختلافات القائمة بين اللغات ليست مجرد اختلافات صوتية ودلالية وصرفية وتركيبية، بل إنها تنطوي على اختلافات في تفسير العالم وفهمه وتشكل آثارا معبرة عن عقل الشعوب اللغوية[2].
إن الشعوب اللغوية المتحدثين بلغات مختلفة تعيش إلى حد ما عوالم مختلفة، وبناء على ذلك تتشكل لديهم أنساق متباينة في التفكير، يقول بواس في هذا السياق؛ في كل كلام منطوق تعمل مجموعة الأصوات المنطوقة من أجل أداء الأفكار، وكل مجموعة من الأصوات لها معنى معين واللغات لا تختلف في طبيعة عناصرها الصوتية، بل تختلف أيضا في مجموعات الأفكار المعبر عنها في مجموعات صوتية محددة، ومن تم فإن العدد الكلي للتأليفات الممكنة من العناصر الصوتية غير محدود، غير أن عددا محدودا فقط من التأليفات يستعمل في التعبير عن الأفكار، وهذا ينطوي ضمنا على أن العدد الكلي من الأفكار التي تعبر عنها هذه المجموعات الصوتية محدودة في العدد أيضا[3].
1 - اللغة والعالم
انشغل البحث الفلسفي واللساني باللغة، وجعلها قضية من قضاياه الجديرة بالدراسة، لأن العالم التي تنظمه اللغة وتفيئه مشكلة فلسفية، فرؤيتنا إلى العالم توضحها اللغة وتؤطرها، فنحن في إدراكه لا نتخطى الحدود التي ترسمها اللغة التي نتحدثها، لذلك رأى همبولد أن اللغة ليست أداة توصيل أفكارنا إلى الآخرين، ولكننا لا نستطيع إدراك العالم أو معرفته إلا عن طريق اللغة[4]، وهذا الإدراك مستحيل بدون استخدامها. كما أن البحث في سيكولوجية الشعوب وذهنياتها يرتكز على البحث في تاريخ اللغة وحياة مفرداتها وتطورها، وبذلك تتعلق فلسفة المجتمعات ورؤيتها إلى العالم بفلسفة اللغة، حركية المجتمعات أو بالأحرى حركية الزمن تتماس بشكل أو بآخر بحركية اللغة، فكما أن هناك حركة إلى الأمام داخل الزمن هناك حركة داخلية تعرفها اللغة، فالتفكير لا يمكن أن يرتبط إلا بالعقل اللغوي، وفي هذا الصدد لا نفاجأ إذا وجدنا أن الشعوب والأمم تعبر عن تعلقها و احترامها الشديد للغاتها، لأن هذا الانجذاب إلى هذه اللغات ما هو إلا زهو بتاريخها، ولهذا السبب نشأ ما يسمى بالفكر القومي في أوروبا[5] و غيرها من الأمم.
العقل اللغوي الجمعي كينونة وجود الإنسان في بيئة وعشيرة لغوية لها طقوس وجودية، تتأسس عبرها المؤسسة اللغوية الاجتماعية، وفيها تنشأ العلاقات والقيم ورؤية الإنسان إلى ذاته وعالمه، وما يسم هذه الرؤية عصيتها على التبدل والتغير، فهي تخرج الإنسان من كينونة المفرد إلى كينونة مجتمعية هوياتية.
من المؤكد أن لكل مجتمع ثقافته وطقوسه ومعتقداته وعاداته اللغوية، ورؤيته الخاصة إلى العالم، و مع أن بعض المفاهيم كالزمن، المكان، اللون، الفعل والجنس هي مفاهيم كونية قد نجدها في جل الثقافات واللغات، إلا أن رؤية كل ثقافة لهذه المفاهيم يمكن أن تختلف وتتضارب، ولهذا ففي كل الحالات التي تحتك فيها لغتان أو أكثر تظهر العديد من العناصر ذات الخصوصية الثقافية، حتى ليبدو و كأن الأفراد المنتمين لثقافات مختلفة يسكنون عوالم مختلفة. وحتى هذه العوالم المختلفة تسكنهم إن نزحوا إلى عوالم أخرى، فالثقافة البشرية والسلوك الاجتماعي والفكر لا توجد في غياب اللغة، فهذه الأخيرة تنمط الفكر المجتمعي وتقيده. فنحن لا نتخطى الحدود التي ترسمها لنا اللغة في حياتنا اللغوية وممارستنا المجتمعية. وفي هذا الإطار دافع فغنشتاين في صياغته للنظرية الذرية عن القول إن اللغة تصوير دقيق للواقع، وأن تركيب القضية الصادقة يطابق تركيب الواقعة التي تدل عليها، وأقل ما يقال دفاعا عن هذا التشابه في التركيب بين اللغة والواقع أن الاسم يدل على شيء فردي معين، وأن الصفة تطابق صفة محسوسة لذلك الشيء الفردي، وأن الفعل يقابل علاقة ما بين شيء وآخر، وتصوير اللغة للواقع كمثل خريطة أو رسم بياني[6].
منذ البدء ارتبطت الثقافة باللغة، واكتست العلاقة التي تربطهما أهمية بالغة في دراسات عدة، في ميادين علمية شتى، فمن الفلسفة إلى اللسانيات إلى الأنثروبولوجيا، حاول الدارسون استنباط علاقات و روابط تحكم العلاقة بين هاتين الظاهرتين المتلازمتين المتزاوجتين، وحتى الذين سعوا إلى تقعيد اللغة في معزل عن الثقافة، كانت دراساتهم أشبه بقواعد صورية لا رابط بينها، خذ على سبيل الجنس في اللغة العربية، فهذا المكون اللغوي لا يمكن تفسيره إلا بناء على نظرة العربي إلى العالم.
الأكيد أننا لن نجد هذا العدد من التوصيفات للصحراء إلا في اللغة العربية، وهي توصيفات تعكس نظرة العربي إلى المكان والفضاء، وهي غالبا ما تكون مشوبة بالحذر والخوف والوحشة والضياع والجذب وقلة المطر، وإضافة إلى ذلك تعرف اللغة العربية هيمنة الطابع الوجداني عليها، يدل على ذلك كثرة الألفاظ الدالة على الحب من قبيل الهوى والكلف ثم الشغف فالجوى والتبل ثم التتيم والهيام ، كما أن العين والصدر في الثقافة العربية ملازمان للأحزان والسهر من كثرة المآسي والآهات، وهذا الأمر تتوارثه الأجيال جيلا عن جيل رغم تغير الظروف والأحوال، ولا أدل على ذلك أن الشعراء العرب المحدثين وقفوا على الأطلال في مستهل أشعارهم سيرا على هدي الشعراء الجاهليين، حيث أضحى الطلل رمزا تخيليا مرتبطا بالثقافة والعقل العربيين.
إذا حاولنا ترجمة نص من لغة إلى أخرى نصادف صعوبة، وعلة ذلك أن الكلمات لا تتماثل مع بعضها البعض في اللغات المختلفة، فمثلا يوجد فرق كبير في الانجليزية بين الكلمتين ape قرد كبير الحجم وقرد صغير الحجم monkey، بينما توجد كلمة واحدة في اللغة الفرنسية وهي singe . من ناحية أخرى تقابل الكلمة الانجليزية ball كلمات فرنسية مختلفة ballon ،pelote ، balle ، boulette [7].
ففيما يتصل بالزمن، تظهر الفروق الزمنية في الأفعال دون الأسماء، لكن ذلك لا يشكل قاعدة عامة حيث نجد فصيلة الزمن في لغة الهوبي المستخدمة في كاليفورنيا تتجلى في الأسماء، فمثلا كلمة منزل تشتمل على ثلاثة أزمنة الماضي، الحاضر، المستقبل، وهي على التوالي xontaneen البيت الذي أصبح أنقاضا xonta البيت الذي يتواجد حاليا xontate البيت الذي لم يشيد بعد، واللغات من قبيل العربية والفرنسية لا يستخدم فيها هذا النظام ذاته، بل يتم استبداله باستعمال كلمات معينة غالبا ما تكون صفات من قبيل السنة الفارطة والزوجة السابقة[8].
في الفرنسية سلم من الأزمان المتنوعة، لا تعبر عن أقسام الزمن الثلاثة من ماض وحاضر ومستقبل بل أيضا عن الفروق النسبية للزمن ولا توجد إلا لغات قليلة لها ثروة اللغة الفرنسية في هذا الصدد فلا يكاد
يوجد في الألمانية إلا زمن واحد إذ تخلط في صيغة واحدة غير التام imparfait والماضي المحدد défini هذه الصيغة هي ichliebte أحببت أو كنت أحب وثروة اللغة الفرنسية تلك أتت من اللغة اللاتينية التي كانت من جهة الأزمان مزودة بسلسلة زاخرة من الصيغ. أما الزمن بمعناه الحقيقي فلا يوجد فيه في السامية إلا اثنان غير التام والتام وهما مشتقان من أصلين مختلفين ولكن لا ينبغي أن يفهم من هذين الاسمين تام أو غير تام ما يشبه الأزمنة في الفرنسية[9]. إن الإنسان العربي بقدر ما اهتم بالأحداث، لم يهتم بالزمن، فعندما تستمع الى الناس تجدهم يختزلون الماضي في أحداث لا أزمنة، فهم غير قادرين على تذكر أحداث الماضي بشكل متسلسل، إذ يقومون بانتقالات كبيرة ما بين أحداث الطفولة المبكرة وصولا إلى مرحلة البلوغ، وبالعكس، ما بين أحداث حالية إلى ماضٍ قصي، كما أنهم إن رتبوا الأحداث بالتسلسل، فسيكون ذلك اعتمادا على علامات زمنية خارجية.
ربما ترجع هذه الصعوبة التي تعترض الإنسان العربي في التعامل الدقيق مع الزمن إلى غياب فصيلة الزمن النحوي نسبيا في لغته، ويمكن لكل عربي أن يستنتج بأن العرب أقل اهتماما بالزمن من الغربيين. إذ يعيش الإنسان الغربي تحت رحمة الزمن، ويبقى دائما واعيا بما سيفعل أوما يجب أن يفعل في مكان وزمان محددين في المستقبل القريب، وإليك مثالا عن الفرق ما بين العالمين: يقول الفرنسي أيمكنني زيارتك غدا في الخامسة مساء، أما العربي فيقول سآتي لزيارتك غدا مساء، والمساء وقت من العصر وحتى وقت المغرب، أوقد يقول مساء في الأيام القليلة القادمة، وعلى ضوء إهمال الوقت هذا والنمط السلوكي الذي يتمظهر به، لن نتفاجأ بغياب مفهوم دقة التوقيت في الثقافة العربية ، وهذا راجع إلى عدم تحديد الزمن في اللغة العربية بشكل دقيق . لذلك نستنتج أن الكائن البشري لا يعيش في العالم المادي وحيدا، كما لا يكون وحيدا في عالم النشاط الاجتماعي كما هو المعتقد عادة، إنه يعيش تحت هيمنة واسعة تمارسها اللغة، إن حقيقة الأمر تتمثل في أن العالم الحقيقي يتشكل تدريجيا على مدى واسع من خلال العادات اللغوية للجماعة.
وقد تشكل العقل اللغوي عبر الاندماج الثقافي ويراد به ارتباط نمط ثقافي معين بنمط ثقافي آخر فلا يستطيع فرد لا ينتمي إلى الثقافة الإسلامية أن يفهم أو يتصور تحريم الإسلام للزواج من الأقارب بالرضاع إلا إذا درس نظام هذا الدين، ونجد أيضا ما يشبه ذلك في قبائل النوير الإفريقية التي تحرم الزواج بين أفراد نفس الفئة العمرية، أي لا يستطيع رجل أن يزوج مثلا ابنه من ابنة رجل يشترك معه في طبقة العمر، لأن هذه البنت تكون بمثابة ابنة له، ويعتبر الرجل بمثابة أبيها، وكذلك قد لا يفهم أحد نظام زواج الميت أو زواج الشبح لدى بعض القبائل الإفريقية إلا من خلال نظام دينهم الذي يصور الموت بمثابة نوع من الحياة الثانية في معتقدهم.
إن اللغات كما تتباين وتختلف في مقولاتها التركيبية تختلف أيضا في مفرداتها ومعانيها التي تتطابق مع ثقافة الجماعة اللغوية، فثقافة أبناء الصحراء تعرف مفردات كثيرة للنخيل والإبل، ولكنها لا تعرف إلا مفردات قليلة دالة على الثلج. أما إذا نظرنا إلى لغة الإسكيمو نجد أنها حافلة بالمفردات الدالة على الثلج من قبيل الثلج الصلب واللين والذائب والمتجمد[10].
إن تصنيف التذكير والتأنيث يختلف من لغة إلى أخرى لاعتبارات ثانوية في نظام اللغة ذاتها، فبعض التقسيمات يكون مردها إلى الكبر والصغر أو القوة والضعف أو الخشونة واللين، ففي لغة بورما أربع عشرة تقسيمة، فالأشياء تنقسم باعتبار التسطح والطول وكونها للنقل، والحيوانات والمجموعات والمركبات والكهنة، ويصنف الجنس في لغة Albxaz وهي إحدى اللغات القوقازية وفق ثلاث فئات هي: ١. كائنات حية مذكرة، ٢. كائنات حية مؤنثة ، ٣. أشياء غير حية[11]
وتميز لغة الالجونكين بين جنس حي وغير حي ، ويندرج ضمن الحي إلى جانب الحيوان الأشجار والأحجار والقمر والرعد والثلج. وتطلق اللغات في الميدان الإفريقي على الجنس اسم الطبقة، فاللغات النبطية يسيطر عليها وجود الطبقات التي تمتاز بلاصقة خاصة وعليها توزع جميع الكلمات الموجودة في اللغة، ويعلل فندريس ذلك بأنه محاولة قام بها العقل لتصنيف المعاني المتنوعة التي يعبر عنها بواسطة الأسماء، وأغلب الظن أن هذا التصنيف يقوم على التصور الذي كان في ذهن السابقين عن العالم، وقد ساعدت عليه بواعث غيبية ودينية[12].وخلاصة القول إن تصنيف الجنس مقولة اجتماعية تؤثثها تصورات الجماعات اللغوية ونظرتها إلى العالم.
وقد انبنى تصنيف الجنس في كثير من اللغات ومنها العربية على توزيع المجردات والمحسوسات على صنفين هما المذكر والمؤنث، فإذا كان المذكر والمؤنث مرتبطان بالجنس الطبيعي وهو قرينة حسية مادية، فإن هذه القرينة منتفاة في المؤنث غير الطبيعي أو المجازي، مما يخلق نوعا من الغموض في التصنيف والتوزيع.
يصنف الساميون الجنس إلى قسمين، وفي هذا يفترض رايت whright أن الخيال الخصب للساميين كان يرى أن جميع الأشياء حتى تلك التي يبدو أن لا حياة فيها تتمتع بالحياة، لذلك لم يبرز عندهم سوى جنسين وحسب ، وكذلك في الطبيعة جنسان[13].
تميز العربية بين الجنس لغة واصطلاحا فالتذكير خلاف التأنيث، فالتذكير معادل للقوة والأنفة والصلابة، أما التأنيث فيلتصق باللين والسهولة والإنتاج والخصب، ويتسق هذا التصور مع تصورات النحويين الذين ذهبوا إلى كون التذكير أصل والتأنيث فرع، وهذا ما صرح به سيبويه " الأشياء كلها أصلها التذكير ثم تختص بعد، فكل مؤنث شيء والشيء يذكر، فالتذكير أول وهو أشد تمكنا [14]" لعل هذا الفهم النحوي نابع من خلال قصة الخلق الأولى، فكما أن الذكر أول، وهو أول الخليقة، فالأنثى ثان مجترح منه، كذلك المذكر في اللغة فهو عمدة الجنس والمؤنث فرع، لذا ظل الذكر بدون علامة تذكير لأنه الأصل وهو الأول، وإنما ألحقت علامة التأنيث بالمؤنث غالبا لأنه فرع التذكير. وفي لغة الماساي من شعوب افريقية يوجد جنس لما هو كبير وقوي وجنس آخر لما هو صغير وضعيف وهذا ما يترجمه بعضهم تحكما بالمقابلة بين المذكر والمؤنث ol tungani الرجل الكبير en dungani الرجل الصغير[15].
إن العشيرة الثقافية تميل إلى تجزيء العالم إلى عناصر وتصنيف الكلمات تبعا لنفس التصنيف، وكل هذا يعكس تصورنا للعالم الذي تختزنه أذهان أفرادها ويدل على ذلك تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف، وتجزيء كل نمط من هذه الأنماط إلى عناصر فرعية، كل ذلك نابع من الأحداث والروابط والعناصر الواقعة في العالم الموضوعي، أما التجريد فيشكل مرحلة متأخرة من مراحل تطور اللغة والعقل والبشري والمخيال الإنساني. وربطا بما تم استخلاصه آنفا يمكن الافتراض بأن المحيط الثقافي الذي تعيش فيه الجماعة اللغوية يلعب دورا فعلا في تشكيل إدراكها للعالم من ناحية وتكوين كلامها من ناحية أخرى، ويظهر أثر هذا الجانب في تسمية مفاهيم الأشياء المحيطة بها. وبناء على ذلك فإن المعجم اللغوي صورة أو انعكاس للأنماط الثقافية التي تعيشها الشعوب، وهذا ما يفسر لنا شيوع وتنوع وتعدد الكلمات الدالة على الأرز في لغات شرق آسيا، وتعدد الكلمات الدالة على الثلج في لغة الاسكيمو، وعشرات الكلمات الدالة على البطاطس الحلوة في إحدى اللغات المتكلمة بشمال الباسفيك، وتنوع الكلمات الدالة على الماشية والبقر في لغات إفريقيا. وأكثر من ذلك فقد نجد أسماء ومفاهيم معينة لا يمكن أن تشير إلى لغات بعينها، ويرجع ذلك إلى كونها ليست موجودة البتة في العالم الذي تعيش فيه الشعوب المتكلمة بتلك اللغات، ونستدل على ذلك باللغات الأوربية التي لا تعرف كلمات تشير إلى العم والضرة والخال، لكن بالمقابل نجدها حاضرة في الثقافة العربية التي تشيع فيها هذه المفردات المرتبطة بنظام القرابة.
لقد حاول وورف أن يثبت علاقة اللغة برؤية الإنسان إلى العالم من المقارنة بين ضمير المخاطب في اللغات المختلفة لكي يبين اختلاف الأنماط اللغوية والثقافية في المجتمعات المختلفة، فبينما نجد في الفرنسية نوعين من الضمير للمخاطب tu – vous نجد في الانجليزية لفظا واحدا هو you ، نجد الناس المتحدثين بلغة النافاهو لا يعرفون ضمير الغائب بالمعنى السائد في اللغات الأوربية الحديثة، وإنما عندهم بدلا من ذلك أربع فئات من الضمائر يستخدمونها للأشخاص الغائبين تبعا للعلاقات الاجتماعية التي تربطهم بهم، وليس تبعا لطبيعة الشخص الغائب من مذكر أو مؤنث أو مفرد أو جمع وهذه الفئات الأربعة التي يميز بينها النافاهو هي الأشخاص القريبون سيكولوجيا من المتكلم أو الذين يفضلهم دون غيرهم وينزلهم منزلة خاصة ثم ثانيا الأشخاص البعيدون سيكولوجيا مثل غير النافاهونيين أو الأقرباء الذين يعاملون بطريقة رسمية وثالثا الشخص الغائب غير المحدد أو غير المعروفة شخصيته أو عمله وأخيرا الغائب الذي يشار بالنسبة لزمان أو مكان معين أو حالة معينة بالذات[16].
ويلاحظ أن نظرية سابير وورف تقوم على مبدأين الأول هو الحتمية اللغوية Linguistic deteminism حيث تحدد اللغة الطريقة التي يفكر بها أفراد مجتمع ما، فالأفكار التي يتبناها المجتمع هي مضامين التواصل اللغوي أي أن اللغة تحدد الفكر وليس العكس، والمبدأ الثاني هو النسبية اللغوية Linguistic relativity ويراد بهذا المبدأ بنية اللغة التي يوظفها المجتمع، حيث تعمل هذه البنية على تشكيل تصورات المجتمع عن العالم. وعليه فإن بنية النسق اللغوي يتضمن رؤية خاصة للعالم تختلف عن رؤية العالم المتضمنة في نسق لغة أخرى، فالمجتمعات اللغوية المختلفة تفكر بطرق مختلفة ولها سلوك لغوي معين.
وفيما يتعلق بالمثنى نجده في السنسكريتية، و قد كانت الفارسية القديمة والزندية تستعملانه، ولا يوجد منه اثر في الفهلوية، ولا يوجد المثنى في الأرمينية ولا في اللاتينية منذ أقدم تاريخ نعرفه لهما، أما في السلافية القديمة فهو يتمتع بالحياة، ولا زالت بعض لهجاتها تستعمله حتى يومنا هذا مثل السلوفينية، وهو في بعض اللهجات اللتوانية في سبيل الانقراض[17]، وإذا كان هذا حال العربية التي تعرف حضور المثنى، فإنه في لهجاتها شبه منعدم الاستعمال إن لم يكن منعدما بالفعل.
2 - متوازيات لغوية : الطبيعة والتمثال
من الطبيعي والحسي إلى المجرد حركة دوران دلالية تشكلت في إطارها التماثيل اللغوية العربية، ولا أدل على ذلك أن المتأمل في حياة المفردات يدرك اشتقاقها من الأرض والطبيعة مسكن الإنسان ومأواه ومستقره اللغوي في تعالق مع حركته وسكونه وصمته ولغطه و إحساسه المادي واللامادي، من كل هذه المصادر انسكبت المفردات في قوالب وصيغ تعبر عن نظرة الإنسان العربي والسامي عموما إلى العالم، ومن ذلك تعريف الفارابي لكلمة جوهر كمايلي: "والجوهر عند الجمهور يدل على الأشياء المعدنية أو الحجارية التي عندهم بالوضع والاعتبار نفيسة، وهي التي يتباهون في اقتنائها مثل اليواقيت واللؤلؤ فيقولون فيمن عندهم من الناس نفيس ذو فضائل عندهم أنه جوهر من جوهر ويعنون جيد الجوهر ويعنون جيد الجنس وجيد الآباء والأمهات أو جيد الفطرة[18]".
وكذلك برهان اشتقت من برهن أو بره بمعنى القطع، وهي في الحبشية برهان أي النور أو الإيضاح، فبره عندهم بمعنى اتضح أو أنار[19]، وقد انزاح هذا المكون النوراني من دلالته الطبيعية للدلالة على الحجة والبينة والقاسم بينهما البيان.
3 - من الحرارة الطبيعية إلى الحرارة الإنسانية
"إيرو" في اللغة الأكادية بمعنى يشعل، وتقابل أر وحر في العربية ، وأيضا وردت حر في العبرية والآرامية[20]، والمتأمل في لفظة "إيرو" يدرك أن الأكادية تميل الكسر المتلو بضم، و احتفاظ العربية بنفس اللفظة مع إبدال الهمزة حاء ، وهناك علاقة دلالية صوتية تلك الجامعة بين الإحساس بالحرارة الجسدية والنفسية، فالأول يفضي إلى الثاني في تواز دلالي صاحب العربي منذ عصوره الأولى، إذ النطق بهذا الصوت يؤشر على شعور باللذة أوالألم، لننظر في المتناظرات بين النار والصوت من جهة، والعاطفة المختزنة للأحاسيس من جهة أخرى من خلال بعض الأمثلة على سبيل التمثيل لا الحصر:
أحح: حكاية تنحنح أَو توجع. وأَحَّ الرجلُ: رَدَّدَ التَّنَحْنُحَ في حلقه، وقيل: كأَنه تَوَجُّعٌ مع تَنَحْنُح.
والأُحاحُ، بالضم: العَطَشُ. والأُحاحُ: اشتداد الحرّ، وقيل: اشتداد الحزن أَو العَطش. وسمعت له أُحاحاً وأَحِيحاً إِذا سمعته يتوجع من غيظ أَو حزن؛ قال:
يَطْوي الحَيازِيمَ على أُحاحِ
من خلال المعطيات اللغوية السابقة يلاحظ حدوث تحول من الحرارة كمعطى طبيعي إلى الإحساس بالحرارة الإنسانية كمكون نفسي عاطفي، وبعد تفحصنا لما جمعته بعض المعاجم حول المشترك المعجمي السامي اتضح أنها توقفت عند حدود الطبيعي البدائي، لننظر إلى مايلي:
حر في العربية harar في العبرية وفي الآرامية har بمعنى أصبح حارا[21].
حم في العربية وفي العبرية hamam، وفي الآرامية hamam، وفي السريانية ham وكلها بمعنى حمي وأصبح حارا[22].
لقد استمد العربي خاصة مفهوم الشوق والإحساس بالحرارة العاطفية من الحرارة الطبيعية، وهذا راجع إلى طابع بيئته الموسوم بقسوة الحر، ولذلك تطور هذا المكون الطبيعي، وأضحى لا ينفصل عن المكون النفسي العاطفي إلى درجة أننا أصبحنا نصادف في لغتنا العربية المعاصرة تعابير من قبيل حرارة اللقاء واستقبله بحرارة .
4 - الغين من التباس المخرج إلى غموض في الدلالة
إطو لفظة أكادية بمعنى أظلم أعتم، و قد وردت نفس اللفظة في الحبشية بتعويض الهمزة بالغين غطو بدلالة ستر حجب[23]، والملاحظ بروز علاقة بين الظلمة والعتمة الطبيعيتين اللتين تمتان بصلة إلى الوجود والعالم، وغط وغطى وغطس وغطش وعتم ناتجة عن تحول دلالي في "إطو"، وما يؤكد ما أومأنا إليه احتفاظ جذور عربية كثيرة بالدلالة على الظلمة و الاستتار.
يلاحظ المتفحص لمادة المعجم العربي حدوث تداخل صوتي بين الجيم والغين في اللغات السامية فجن العربية ترد على التوالي في العبرية والآرامية ganan و aggen وكلها بمعنى غطى[24].
هناك تحول حدث في جن الذي انتقل إلى جنز وجنح عبر قاعدة توسيع بإقحام النون والحاء، وقد وردت هذه الصيغة في الحبشية ganaz وفي الآرامية gnaz، وفي السريانية gnaz وكلها بمعنى أخفى وغطى وستر[25]. ١. غمض في العبرية camas وفي السريانية cmas بمعنى أغمض عينيه[26].٢. غروب في العبرية erub وفي السريانية [27]raba.
نعتقد أن العلاقة بين الغين و الجيم تبادلية في اللغة العربية، وهناك معطيات لغوية عديدة تؤيد هذا الطرح لننظر إلى هذه الأمثلة:
د ج ن: الدَّجْنُ إلباس الغيم السماء وقد دَجَنَ يومنا من باب نصر و الدُّجُنَّةُ من الغيم المطبق تطبيقا الريان المظلم الذي ليس فيه مطر يقال يوم دَجْنٍ ويوم دُجُنَّةٍ وكذا الليلة على الوجهين بالوصف والإضافة و الدَّجْنُ أيضا المطر الكثير و الدَّجْنَةُ بالضم الظلمة .
5 - من تفتيت الصوت إلى تفتيت الدلالة
إن صوت الباء المهموس p بقي في اللغات السامية كالعبرية والآرامية والأكادية، لكنه تحول إلى صوت احتكاكي مهموس في العربية والحبشية فحدث إبدال داخل اللغات السامية بين الفاء والباء، لننظر إلى هذه الأمثلة:
فت في العبرية patat وفي السريانية pat [28].
فتح في الحبشية fataha وفي العبرية patah وفي الآرامية ptah وفي السريانية ptah [29].
فرص في العبرية paras وفي الأشورية parasu [30].
فصع في العبرية pasac وفي الآرامية psac [31].
فصل في العبرية pasal وفي الآرامية psal بمعنى قشر وقطع [32].
استنتاجات
كثير من الكلمات السامية حدث فيها إبدال بين الفاء والباء وما يؤشر على ذلك احتفاظ العربية بالمزاوجة داخل كثير من المفردات بين هذين الصامتين ، لنتأمل مايلي:
فثث: الفَثُّ: تَمْر فَثٌّ: مُنْتَشِرٌ ليس في جِرابٍ ولا وِعاءٍ، كَبَثٍّ؛ عن كراع. اللحياني: تَمْر فَثٌّ، وفَذٌّ، وبَذٌّ: وهو المُتَفَرَّقُ الذي لا يَلْزَقُ بعضه ببعض. وقال الأَعرابي: تمر فَضٌّ، مثله.
الأَصمعي: فَثَّ جُلَّتَه فَثّاً إِذا نَثَرَ تمرَها. وما رأَينا جُلَّةً أَكثر مَفَثَّةً منها أَي أَكثر نَزَلاً. ويقال: وُجِدَ لبني فلان مَفَثَّةٌ إِذا عُدُّوا، فوُجِدَ لهم كَثْرةٌ. ويقال: انْفَثَّ الرجلُ من هَمٍّ آَصابَه انْفِثاثاٍ أَي انكسَر.
بثث : بث الخبر يبثه ويبثه، وأبثه وبثثه وبثبثه: نشره، وفرقه، فانبث. وبثثتك السر، وأبثثتك: أظهرته لك. وتمر بث: متفرق، منثور. وبث الغبار، وبثبثه: هيجه. والمنبث: المغشي عليه. والبث: الحال، وأشد الحزن. واستبثه إياه: طلب إليه أن يبثه إياه.
فتت: فَتَّ الشيءَ يَفُتُّه فَتّاً، وفَتَّتَه: دَقَّه. وقيل: فَتَّه كَسَره؛ وقيل: كسره بأَصابعه قال الليث: الفَتُّ أَن تأْخذ الشيء بإِصبعك، فَتُصَيِّرَه فُتاتاً أَي دُقاقاً، فهو مَفْتُوتٌ وفَتِيتٌ. وفي المثل: كَفّاً مُطْلَقةً تَفُتُّ اليَرْمَعَ؛ اليَرْمَع: حجارة بيض تُفَتُّ باليد؛ وقد انْفَتَّ وتَفَتَّتَ. والفُتاتُ: ما تَفَتَّت؛ وفُتاتُ الشيء: ما تكسر منه؛
بتت: البَتُّ: القَطْعُ المُسْتَأْصِل يقال: بَتَتُّ الحبلَ فانْبَتَّ. ابن سيده: بَتَّ الشيءَ يَبُتُّه، ويَبِتُّه بَتّاً، وأَبَتَّه: قطَعه قَطْعاً مُسْتَأْصلا.ُ
فطر: فطَرَ الشيءَ يَفْطُرُه فَطْراً فانْفَطَر وفطَّرَه: شقه وتَفَطَّرَ الشيءُ: تشقق. والفَطْر: الشق، وجمعه فُطُور. وفي التنزيل العزيز: هل ترى من فُطُور؛
بطر: بَطَرَ الشيءَ يَبْطُرُه ويَبْطِرُه بَطْراً، فهو مبطور وبطير: شقه
والبَطْرُ: الشَّقُّ؛ وبه سمي البَيْطارُ بَيْطاراً والبَطِيرُ والبَيْطَرُ والبَيْطارُ والبِيَطْر
٦. تحولات صواتية واستقرار في الدلالة
العلاقة بين صوتي ج و ق ملتبسة في اللغات السامية ونعتقد أن الأصل فيها القاف، فالجيم والقاف يتحققان g
جد في العبرية gadad وفي الآرامية gdad وفي السريانية gad.
جدع في العبرية gad وفي السريانية gda وكلها بمعنى قطع
جدف في العبرية gadaf وفي الآرامية gadef وفي السريانية gadef وفي الحبشية gadaf.
جز في العبرية gazaz وفي الآرامية gzaz وفي السريانية gaz وكلها بمعنى قط.
جزر في العبرية gazar وفي الآرامية gzar وفي السريانية gzar وكلها بمعنى قطع.
جزم في الحبشية gazama وفي السريانية gdam بمعنى قطع[33]
من الأنين إلى الحنين توليدات معجمية وتحولات في الدلالة
بالأجارتية والعبرية والآرامية ، و بالسريانية، حن يحن enānu(m) بالآشورية، و بالأكادية enēnu(m)
والعربية حن.[34]
يصدر الإنسان أصواتا وتأوهات دالة على الحزن حينا أو الفرح حينا آخر، ولذلك كانت النون صوتا مصاحبا للألم ، حيث ورد في لسان العرب أن في مادة "أن ن" مايلي: أن يئن أناً وأنيناً وأناناً وتأناناً: تأوه.
إن التأوه هنا صوت صادر عن ألم جسدي أو نفسي ، فمن الصوت التي يصدر عن النفس ابتدع الانسان السامي فعلا مماثلا لذلك الصوت، فكيف انتقلنا إذا من الأنين إلى الحنين؟.
ورد في مادة "ح ن ن" مايلي: حنت الناقة : نزعت إلى أوطانها أو أولادها ، والناقة تحن إلى إثر ولدها حنينا تطرب مع صوت ، وقيل : حنينها نزاعها بصوت وبغير صوت والأكثر أن الحنين بالصوت ، وتحننت الناقة على ولدها: تعطفت، وكذلك الشاة ، عن اللحياني . الأزهري عن الليث: حنين الناقة صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها . الأزهري الحنين للناقة والأنين للشاة.
يبرز من هذا التعريف المعجمي أن الإنسان استمد من صوت الناقة الموسوم بالشوق إلى الولد والوطن أنينه وحنينه. فالناقة في بعدها الأنثروبلوجي كانت بمثابة الأم التي لا تفارق العربي في استقراره وترحاله يرتبط حنينه إلى الديار بحنينها وأنينه بأنينها، وهذا البعد الارتكاسي للزمن ربما جعل العربي حتى زماننا هذا لا يكترث بالحاضر أو المستقبل، بل يتعلق بماضيه أشد التعلق ، ولذلك نجد لديه نزوعا إلى ماضيه.
7 - من قذارة في الحلق إلى قذارة في الصوت
شيء طبيعي أن تتلاحم العلاقة بين الصوت ومدلوله، وأن يدل الصوت بمجرد النطق به على صورة ذهنية ترتبط بصورة خارجية، وهذا يعني أن كل صوت يرمز إلى معنى، حيث تتشكل دلالات الأصوات حسب جرس أصواتها
وفي ضوء هذه الفكرة التي تربط بين الأصوات ومدلولاتها تكونت نظرية المحاكاة التي تشير الى تقليد الإنسان للأصوات التي سمعها من حوله، من هنا نشأت الكلمات للتعبير عن مصدر الصوت المسموع ذلك أن الأصوات التي تدل على الغضب والنفور تقليد مباشر لأصوات الطبيعة والدليل على ذلك أن بعض الأصوات ما زالت تحافظ على مدلولاتها في بعض الثقافات الشعبية والعربية من قبيل صوت الخاء التي ترتبط دلالته في الثقافة العربية بالاستهجان والقذارة والنذالة، وهذا ينسج مع دلالة هذا الصوت في المعاجم العربية ، حيث تدل كلمة (أخْ) على" القذر " ( لسان العرب : مادة أخخ).
والواقع أن دلالة الخاء في المعاجم العربية لا تخرج عن التعبير عن البشاعة والقذارة وكل ما يثير الاشمئزاز ، وفيمايلي بعض الأمثلة الدالة على ذلك:
الأَخُّ: القَذَر - المُسْتأْخِد المُسْتكين - المتبختر المختال - البخثرة: الكدر في ماء أو ثوب - البخر النتن في الفم - البخص، لحم يخالطه بياض من فساد فيه - البخق، محركةً: أقبح العور، وأكثره غمصاً.
قائمة المصادر والمراجع
1. أساسيات اللغة، تراسك، ترجمة رانيا إبراهيم يوسف، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة، 2002.
2. الإشكالية اللغوية في الفلسفة العربية، جيرار جهامي، دار المشرق بيروت، 1994.
3. حضارة اللغة مجلة عالم الفكر العدد الاول 1971 ص ص 11 -
5. في فلسفة اللغة، محمود فهمي،، دار النهضة العربية للطباعة والنشر 1985
6. الكتاب، سيبويه أبو عمرو بن عثمان، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي القاهرة، الطبعة الثالثة 1988.
7. اللسان الأكادي، مرعي عيد، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة دمشق، 2012.
8 . اللغة، فندريس، ترجمة عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص، مكتبة الأنجلو المصرية.
9. اللغة والجنس: حفريات لغوية في الذكورة والأنوثة، دار الشروق للنشر والتوزيع عمان الاردن، 2002.
10 . اللغة كائن حي، جرجي زيدان ، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة 2012
11. معجم مفردات المشترك السامي في اللغة العربية، حازم علي كمال الدين، مكتبة الآداب القاهرة ، 2008.
الهوامش
[1] . اللغة والفكر والعالم، ص 8 9
[2] . اللغة، ص 299
[3] . اللغة والفكر والعالم، ص 13 14
[4] .اللغة ، ص 57
[5] . محاضرات في نشوء الفكرة القومية ص 28
[6] . في فلسفة اللغة ، ص 38
[7] . أساسيات اللغة، ص 69
[8] . أساسيات اللغة ص 65
[9] . اللغة، ص 135 – 136
[10] . اساسيات اللغة، ص 76
[11] . اللغة والجنس، ص 52
[12] . نفسه ص 53
[13] . اللغة والجنس، ص 48
[14] . الكتاب / 3، ص 241
[15] . اللغة، ص 132
[16] .حضارة اللغة، ص 27
[17] . اللغة، ص 13
[18] . الإشكالية اللغوية في الفلسفة العربية، ص 98
[19] . اللغة العربية كائن حي، ص 20
[20] . اللسان الأكادي، ص 148.
[21] . معجم مفردات المشترك السامي في اللغة العربية، ص 140
[22] . المرجع نفسه، ص149
[23] . اللسان الأكادي، مرعي عيد، ص
[24] . معجم مفردات المشترك السامي في اللغة العربية، ص 130
[25] . المرجع نفسه، ص 130
[26] . المرجع نفسه، ص 287
[27] . المرجع نفسه، ص 28
[28] . المرجع نفسه، ص 288
[29] . المرجع نفسه، ص 288
[30]. المرجع نفسه، ص 296
[31] . المرجع نفسه، ص 296
[32] . المرجع نفسه، ص 296
[33] . المرجع نفسه ، الصفحات 116 – 117 118 123 124
[34] . اللسان الاكادي ، ص 148
* (الدكتور التهامي الحايني، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين الرباط – المغرب)
* مجلة اللغة
إن السلطة التي تمارسها اللغة على الإنسان تكمن في كون الروح الإنسانية حسب هيردر تفكر بالكلمات، لذلك إذا أردنا تحليل الفكر، فما علينا إلا تحليل اللغة، وهذا التوجه قاد هيردر إلى رصد العلاقات المتوازية بين اختلاف الأنساق اللغوية واختلاف أنساق التفكير[1]. وفي السياق نفسه انصبت الأعمال الفكرية للفلاسفة واللغويين على كون اللغة تنفرد في شكلها البنائي ومحتواها الثقافي، فهي بذلك تكشف عن عقل الأمة، لأن اللغة هي عقلها، وعقلها هو لغتها. وينبغي الربط من خلال هذه الجدلية التفاعلية بين اللغة والعقل الربط بين خصوصية التفكير والإدراك وخصوصية اللغة، ذلك لأن التفكير والإدراك لا يمكن أن يتحددا ويتسما بقابلية التوصيل إلا من خلال اللغة، ومن تم تشكل هذه الأخيرة إلى جانب الفكر كيانا متلاحما لا يقبل التجزيء والتفكك ، وإذا كان هذا كذلك فإن الاختلافات القائمة بين اللغات ليست مجرد اختلافات صوتية ودلالية وصرفية وتركيبية، بل إنها تنطوي على اختلافات في تفسير العالم وفهمه وتشكل آثارا معبرة عن عقل الشعوب اللغوية[2].
إن الشعوب اللغوية المتحدثين بلغات مختلفة تعيش إلى حد ما عوالم مختلفة، وبناء على ذلك تتشكل لديهم أنساق متباينة في التفكير، يقول بواس في هذا السياق؛ في كل كلام منطوق تعمل مجموعة الأصوات المنطوقة من أجل أداء الأفكار، وكل مجموعة من الأصوات لها معنى معين واللغات لا تختلف في طبيعة عناصرها الصوتية، بل تختلف أيضا في مجموعات الأفكار المعبر عنها في مجموعات صوتية محددة، ومن تم فإن العدد الكلي للتأليفات الممكنة من العناصر الصوتية غير محدود، غير أن عددا محدودا فقط من التأليفات يستعمل في التعبير عن الأفكار، وهذا ينطوي ضمنا على أن العدد الكلي من الأفكار التي تعبر عنها هذه المجموعات الصوتية محدودة في العدد أيضا[3].
1 - اللغة والعالم
انشغل البحث الفلسفي واللساني باللغة، وجعلها قضية من قضاياه الجديرة بالدراسة، لأن العالم التي تنظمه اللغة وتفيئه مشكلة فلسفية، فرؤيتنا إلى العالم توضحها اللغة وتؤطرها، فنحن في إدراكه لا نتخطى الحدود التي ترسمها اللغة التي نتحدثها، لذلك رأى همبولد أن اللغة ليست أداة توصيل أفكارنا إلى الآخرين، ولكننا لا نستطيع إدراك العالم أو معرفته إلا عن طريق اللغة[4]، وهذا الإدراك مستحيل بدون استخدامها. كما أن البحث في سيكولوجية الشعوب وذهنياتها يرتكز على البحث في تاريخ اللغة وحياة مفرداتها وتطورها، وبذلك تتعلق فلسفة المجتمعات ورؤيتها إلى العالم بفلسفة اللغة، حركية المجتمعات أو بالأحرى حركية الزمن تتماس بشكل أو بآخر بحركية اللغة، فكما أن هناك حركة إلى الأمام داخل الزمن هناك حركة داخلية تعرفها اللغة، فالتفكير لا يمكن أن يرتبط إلا بالعقل اللغوي، وفي هذا الصدد لا نفاجأ إذا وجدنا أن الشعوب والأمم تعبر عن تعلقها و احترامها الشديد للغاتها، لأن هذا الانجذاب إلى هذه اللغات ما هو إلا زهو بتاريخها، ولهذا السبب نشأ ما يسمى بالفكر القومي في أوروبا[5] و غيرها من الأمم.
العقل اللغوي الجمعي كينونة وجود الإنسان في بيئة وعشيرة لغوية لها طقوس وجودية، تتأسس عبرها المؤسسة اللغوية الاجتماعية، وفيها تنشأ العلاقات والقيم ورؤية الإنسان إلى ذاته وعالمه، وما يسم هذه الرؤية عصيتها على التبدل والتغير، فهي تخرج الإنسان من كينونة المفرد إلى كينونة مجتمعية هوياتية.
من المؤكد أن لكل مجتمع ثقافته وطقوسه ومعتقداته وعاداته اللغوية، ورؤيته الخاصة إلى العالم، و مع أن بعض المفاهيم كالزمن، المكان، اللون، الفعل والجنس هي مفاهيم كونية قد نجدها في جل الثقافات واللغات، إلا أن رؤية كل ثقافة لهذه المفاهيم يمكن أن تختلف وتتضارب، ولهذا ففي كل الحالات التي تحتك فيها لغتان أو أكثر تظهر العديد من العناصر ذات الخصوصية الثقافية، حتى ليبدو و كأن الأفراد المنتمين لثقافات مختلفة يسكنون عوالم مختلفة. وحتى هذه العوالم المختلفة تسكنهم إن نزحوا إلى عوالم أخرى، فالثقافة البشرية والسلوك الاجتماعي والفكر لا توجد في غياب اللغة، فهذه الأخيرة تنمط الفكر المجتمعي وتقيده. فنحن لا نتخطى الحدود التي ترسمها لنا اللغة في حياتنا اللغوية وممارستنا المجتمعية. وفي هذا الإطار دافع فغنشتاين في صياغته للنظرية الذرية عن القول إن اللغة تصوير دقيق للواقع، وأن تركيب القضية الصادقة يطابق تركيب الواقعة التي تدل عليها، وأقل ما يقال دفاعا عن هذا التشابه في التركيب بين اللغة والواقع أن الاسم يدل على شيء فردي معين، وأن الصفة تطابق صفة محسوسة لذلك الشيء الفردي، وأن الفعل يقابل علاقة ما بين شيء وآخر، وتصوير اللغة للواقع كمثل خريطة أو رسم بياني[6].
منذ البدء ارتبطت الثقافة باللغة، واكتست العلاقة التي تربطهما أهمية بالغة في دراسات عدة، في ميادين علمية شتى، فمن الفلسفة إلى اللسانيات إلى الأنثروبولوجيا، حاول الدارسون استنباط علاقات و روابط تحكم العلاقة بين هاتين الظاهرتين المتلازمتين المتزاوجتين، وحتى الذين سعوا إلى تقعيد اللغة في معزل عن الثقافة، كانت دراساتهم أشبه بقواعد صورية لا رابط بينها، خذ على سبيل الجنس في اللغة العربية، فهذا المكون اللغوي لا يمكن تفسيره إلا بناء على نظرة العربي إلى العالم.
الأكيد أننا لن نجد هذا العدد من التوصيفات للصحراء إلا في اللغة العربية، وهي توصيفات تعكس نظرة العربي إلى المكان والفضاء، وهي غالبا ما تكون مشوبة بالحذر والخوف والوحشة والضياع والجذب وقلة المطر، وإضافة إلى ذلك تعرف اللغة العربية هيمنة الطابع الوجداني عليها، يدل على ذلك كثرة الألفاظ الدالة على الحب من قبيل الهوى والكلف ثم الشغف فالجوى والتبل ثم التتيم والهيام ، كما أن العين والصدر في الثقافة العربية ملازمان للأحزان والسهر من كثرة المآسي والآهات، وهذا الأمر تتوارثه الأجيال جيلا عن جيل رغم تغير الظروف والأحوال، ولا أدل على ذلك أن الشعراء العرب المحدثين وقفوا على الأطلال في مستهل أشعارهم سيرا على هدي الشعراء الجاهليين، حيث أضحى الطلل رمزا تخيليا مرتبطا بالثقافة والعقل العربيين.
إذا حاولنا ترجمة نص من لغة إلى أخرى نصادف صعوبة، وعلة ذلك أن الكلمات لا تتماثل مع بعضها البعض في اللغات المختلفة، فمثلا يوجد فرق كبير في الانجليزية بين الكلمتين ape قرد كبير الحجم وقرد صغير الحجم monkey، بينما توجد كلمة واحدة في اللغة الفرنسية وهي singe . من ناحية أخرى تقابل الكلمة الانجليزية ball كلمات فرنسية مختلفة ballon ،pelote ، balle ، boulette [7].
ففيما يتصل بالزمن، تظهر الفروق الزمنية في الأفعال دون الأسماء، لكن ذلك لا يشكل قاعدة عامة حيث نجد فصيلة الزمن في لغة الهوبي المستخدمة في كاليفورنيا تتجلى في الأسماء، فمثلا كلمة منزل تشتمل على ثلاثة أزمنة الماضي، الحاضر، المستقبل، وهي على التوالي xontaneen البيت الذي أصبح أنقاضا xonta البيت الذي يتواجد حاليا xontate البيت الذي لم يشيد بعد، واللغات من قبيل العربية والفرنسية لا يستخدم فيها هذا النظام ذاته، بل يتم استبداله باستعمال كلمات معينة غالبا ما تكون صفات من قبيل السنة الفارطة والزوجة السابقة[8].
في الفرنسية سلم من الأزمان المتنوعة، لا تعبر عن أقسام الزمن الثلاثة من ماض وحاضر ومستقبل بل أيضا عن الفروق النسبية للزمن ولا توجد إلا لغات قليلة لها ثروة اللغة الفرنسية في هذا الصدد فلا يكاد
يوجد في الألمانية إلا زمن واحد إذ تخلط في صيغة واحدة غير التام imparfait والماضي المحدد défini هذه الصيغة هي ichliebte أحببت أو كنت أحب وثروة اللغة الفرنسية تلك أتت من اللغة اللاتينية التي كانت من جهة الأزمان مزودة بسلسلة زاخرة من الصيغ. أما الزمن بمعناه الحقيقي فلا يوجد فيه في السامية إلا اثنان غير التام والتام وهما مشتقان من أصلين مختلفين ولكن لا ينبغي أن يفهم من هذين الاسمين تام أو غير تام ما يشبه الأزمنة في الفرنسية[9]. إن الإنسان العربي بقدر ما اهتم بالأحداث، لم يهتم بالزمن، فعندما تستمع الى الناس تجدهم يختزلون الماضي في أحداث لا أزمنة، فهم غير قادرين على تذكر أحداث الماضي بشكل متسلسل، إذ يقومون بانتقالات كبيرة ما بين أحداث الطفولة المبكرة وصولا إلى مرحلة البلوغ، وبالعكس، ما بين أحداث حالية إلى ماضٍ قصي، كما أنهم إن رتبوا الأحداث بالتسلسل، فسيكون ذلك اعتمادا على علامات زمنية خارجية.
ربما ترجع هذه الصعوبة التي تعترض الإنسان العربي في التعامل الدقيق مع الزمن إلى غياب فصيلة الزمن النحوي نسبيا في لغته، ويمكن لكل عربي أن يستنتج بأن العرب أقل اهتماما بالزمن من الغربيين. إذ يعيش الإنسان الغربي تحت رحمة الزمن، ويبقى دائما واعيا بما سيفعل أوما يجب أن يفعل في مكان وزمان محددين في المستقبل القريب، وإليك مثالا عن الفرق ما بين العالمين: يقول الفرنسي أيمكنني زيارتك غدا في الخامسة مساء، أما العربي فيقول سآتي لزيارتك غدا مساء، والمساء وقت من العصر وحتى وقت المغرب، أوقد يقول مساء في الأيام القليلة القادمة، وعلى ضوء إهمال الوقت هذا والنمط السلوكي الذي يتمظهر به، لن نتفاجأ بغياب مفهوم دقة التوقيت في الثقافة العربية ، وهذا راجع إلى عدم تحديد الزمن في اللغة العربية بشكل دقيق . لذلك نستنتج أن الكائن البشري لا يعيش في العالم المادي وحيدا، كما لا يكون وحيدا في عالم النشاط الاجتماعي كما هو المعتقد عادة، إنه يعيش تحت هيمنة واسعة تمارسها اللغة، إن حقيقة الأمر تتمثل في أن العالم الحقيقي يتشكل تدريجيا على مدى واسع من خلال العادات اللغوية للجماعة.
وقد تشكل العقل اللغوي عبر الاندماج الثقافي ويراد به ارتباط نمط ثقافي معين بنمط ثقافي آخر فلا يستطيع فرد لا ينتمي إلى الثقافة الإسلامية أن يفهم أو يتصور تحريم الإسلام للزواج من الأقارب بالرضاع إلا إذا درس نظام هذا الدين، ونجد أيضا ما يشبه ذلك في قبائل النوير الإفريقية التي تحرم الزواج بين أفراد نفس الفئة العمرية، أي لا يستطيع رجل أن يزوج مثلا ابنه من ابنة رجل يشترك معه في طبقة العمر، لأن هذه البنت تكون بمثابة ابنة له، ويعتبر الرجل بمثابة أبيها، وكذلك قد لا يفهم أحد نظام زواج الميت أو زواج الشبح لدى بعض القبائل الإفريقية إلا من خلال نظام دينهم الذي يصور الموت بمثابة نوع من الحياة الثانية في معتقدهم.
إن اللغات كما تتباين وتختلف في مقولاتها التركيبية تختلف أيضا في مفرداتها ومعانيها التي تتطابق مع ثقافة الجماعة اللغوية، فثقافة أبناء الصحراء تعرف مفردات كثيرة للنخيل والإبل، ولكنها لا تعرف إلا مفردات قليلة دالة على الثلج. أما إذا نظرنا إلى لغة الإسكيمو نجد أنها حافلة بالمفردات الدالة على الثلج من قبيل الثلج الصلب واللين والذائب والمتجمد[10].
إن تصنيف التذكير والتأنيث يختلف من لغة إلى أخرى لاعتبارات ثانوية في نظام اللغة ذاتها، فبعض التقسيمات يكون مردها إلى الكبر والصغر أو القوة والضعف أو الخشونة واللين، ففي لغة بورما أربع عشرة تقسيمة، فالأشياء تنقسم باعتبار التسطح والطول وكونها للنقل، والحيوانات والمجموعات والمركبات والكهنة، ويصنف الجنس في لغة Albxaz وهي إحدى اللغات القوقازية وفق ثلاث فئات هي: ١. كائنات حية مذكرة، ٢. كائنات حية مؤنثة ، ٣. أشياء غير حية[11]
وتميز لغة الالجونكين بين جنس حي وغير حي ، ويندرج ضمن الحي إلى جانب الحيوان الأشجار والأحجار والقمر والرعد والثلج. وتطلق اللغات في الميدان الإفريقي على الجنس اسم الطبقة، فاللغات النبطية يسيطر عليها وجود الطبقات التي تمتاز بلاصقة خاصة وعليها توزع جميع الكلمات الموجودة في اللغة، ويعلل فندريس ذلك بأنه محاولة قام بها العقل لتصنيف المعاني المتنوعة التي يعبر عنها بواسطة الأسماء، وأغلب الظن أن هذا التصنيف يقوم على التصور الذي كان في ذهن السابقين عن العالم، وقد ساعدت عليه بواعث غيبية ودينية[12].وخلاصة القول إن تصنيف الجنس مقولة اجتماعية تؤثثها تصورات الجماعات اللغوية ونظرتها إلى العالم.
وقد انبنى تصنيف الجنس في كثير من اللغات ومنها العربية على توزيع المجردات والمحسوسات على صنفين هما المذكر والمؤنث، فإذا كان المذكر والمؤنث مرتبطان بالجنس الطبيعي وهو قرينة حسية مادية، فإن هذه القرينة منتفاة في المؤنث غير الطبيعي أو المجازي، مما يخلق نوعا من الغموض في التصنيف والتوزيع.
يصنف الساميون الجنس إلى قسمين، وفي هذا يفترض رايت whright أن الخيال الخصب للساميين كان يرى أن جميع الأشياء حتى تلك التي يبدو أن لا حياة فيها تتمتع بالحياة، لذلك لم يبرز عندهم سوى جنسين وحسب ، وكذلك في الطبيعة جنسان[13].
تميز العربية بين الجنس لغة واصطلاحا فالتذكير خلاف التأنيث، فالتذكير معادل للقوة والأنفة والصلابة، أما التأنيث فيلتصق باللين والسهولة والإنتاج والخصب، ويتسق هذا التصور مع تصورات النحويين الذين ذهبوا إلى كون التذكير أصل والتأنيث فرع، وهذا ما صرح به سيبويه " الأشياء كلها أصلها التذكير ثم تختص بعد، فكل مؤنث شيء والشيء يذكر، فالتذكير أول وهو أشد تمكنا [14]" لعل هذا الفهم النحوي نابع من خلال قصة الخلق الأولى، فكما أن الذكر أول، وهو أول الخليقة، فالأنثى ثان مجترح منه، كذلك المذكر في اللغة فهو عمدة الجنس والمؤنث فرع، لذا ظل الذكر بدون علامة تذكير لأنه الأصل وهو الأول، وإنما ألحقت علامة التأنيث بالمؤنث غالبا لأنه فرع التذكير. وفي لغة الماساي من شعوب افريقية يوجد جنس لما هو كبير وقوي وجنس آخر لما هو صغير وضعيف وهذا ما يترجمه بعضهم تحكما بالمقابلة بين المذكر والمؤنث ol tungani الرجل الكبير en dungani الرجل الصغير[15].
إن العشيرة الثقافية تميل إلى تجزيء العالم إلى عناصر وتصنيف الكلمات تبعا لنفس التصنيف، وكل هذا يعكس تصورنا للعالم الذي تختزنه أذهان أفرادها ويدل على ذلك تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف، وتجزيء كل نمط من هذه الأنماط إلى عناصر فرعية، كل ذلك نابع من الأحداث والروابط والعناصر الواقعة في العالم الموضوعي، أما التجريد فيشكل مرحلة متأخرة من مراحل تطور اللغة والعقل والبشري والمخيال الإنساني. وربطا بما تم استخلاصه آنفا يمكن الافتراض بأن المحيط الثقافي الذي تعيش فيه الجماعة اللغوية يلعب دورا فعلا في تشكيل إدراكها للعالم من ناحية وتكوين كلامها من ناحية أخرى، ويظهر أثر هذا الجانب في تسمية مفاهيم الأشياء المحيطة بها. وبناء على ذلك فإن المعجم اللغوي صورة أو انعكاس للأنماط الثقافية التي تعيشها الشعوب، وهذا ما يفسر لنا شيوع وتنوع وتعدد الكلمات الدالة على الأرز في لغات شرق آسيا، وتعدد الكلمات الدالة على الثلج في لغة الاسكيمو، وعشرات الكلمات الدالة على البطاطس الحلوة في إحدى اللغات المتكلمة بشمال الباسفيك، وتنوع الكلمات الدالة على الماشية والبقر في لغات إفريقيا. وأكثر من ذلك فقد نجد أسماء ومفاهيم معينة لا يمكن أن تشير إلى لغات بعينها، ويرجع ذلك إلى كونها ليست موجودة البتة في العالم الذي تعيش فيه الشعوب المتكلمة بتلك اللغات، ونستدل على ذلك باللغات الأوربية التي لا تعرف كلمات تشير إلى العم والضرة والخال، لكن بالمقابل نجدها حاضرة في الثقافة العربية التي تشيع فيها هذه المفردات المرتبطة بنظام القرابة.
لقد حاول وورف أن يثبت علاقة اللغة برؤية الإنسان إلى العالم من المقارنة بين ضمير المخاطب في اللغات المختلفة لكي يبين اختلاف الأنماط اللغوية والثقافية في المجتمعات المختلفة، فبينما نجد في الفرنسية نوعين من الضمير للمخاطب tu – vous نجد في الانجليزية لفظا واحدا هو you ، نجد الناس المتحدثين بلغة النافاهو لا يعرفون ضمير الغائب بالمعنى السائد في اللغات الأوربية الحديثة، وإنما عندهم بدلا من ذلك أربع فئات من الضمائر يستخدمونها للأشخاص الغائبين تبعا للعلاقات الاجتماعية التي تربطهم بهم، وليس تبعا لطبيعة الشخص الغائب من مذكر أو مؤنث أو مفرد أو جمع وهذه الفئات الأربعة التي يميز بينها النافاهو هي الأشخاص القريبون سيكولوجيا من المتكلم أو الذين يفضلهم دون غيرهم وينزلهم منزلة خاصة ثم ثانيا الأشخاص البعيدون سيكولوجيا مثل غير النافاهونيين أو الأقرباء الذين يعاملون بطريقة رسمية وثالثا الشخص الغائب غير المحدد أو غير المعروفة شخصيته أو عمله وأخيرا الغائب الذي يشار بالنسبة لزمان أو مكان معين أو حالة معينة بالذات[16].
ويلاحظ أن نظرية سابير وورف تقوم على مبدأين الأول هو الحتمية اللغوية Linguistic deteminism حيث تحدد اللغة الطريقة التي يفكر بها أفراد مجتمع ما، فالأفكار التي يتبناها المجتمع هي مضامين التواصل اللغوي أي أن اللغة تحدد الفكر وليس العكس، والمبدأ الثاني هو النسبية اللغوية Linguistic relativity ويراد بهذا المبدأ بنية اللغة التي يوظفها المجتمع، حيث تعمل هذه البنية على تشكيل تصورات المجتمع عن العالم. وعليه فإن بنية النسق اللغوي يتضمن رؤية خاصة للعالم تختلف عن رؤية العالم المتضمنة في نسق لغة أخرى، فالمجتمعات اللغوية المختلفة تفكر بطرق مختلفة ولها سلوك لغوي معين.
وفيما يتعلق بالمثنى نجده في السنسكريتية، و قد كانت الفارسية القديمة والزندية تستعملانه، ولا يوجد منه اثر في الفهلوية، ولا يوجد المثنى في الأرمينية ولا في اللاتينية منذ أقدم تاريخ نعرفه لهما، أما في السلافية القديمة فهو يتمتع بالحياة، ولا زالت بعض لهجاتها تستعمله حتى يومنا هذا مثل السلوفينية، وهو في بعض اللهجات اللتوانية في سبيل الانقراض[17]، وإذا كان هذا حال العربية التي تعرف حضور المثنى، فإنه في لهجاتها شبه منعدم الاستعمال إن لم يكن منعدما بالفعل.
2 - متوازيات لغوية : الطبيعة والتمثال
من الطبيعي والحسي إلى المجرد حركة دوران دلالية تشكلت في إطارها التماثيل اللغوية العربية، ولا أدل على ذلك أن المتأمل في حياة المفردات يدرك اشتقاقها من الأرض والطبيعة مسكن الإنسان ومأواه ومستقره اللغوي في تعالق مع حركته وسكونه وصمته ولغطه و إحساسه المادي واللامادي، من كل هذه المصادر انسكبت المفردات في قوالب وصيغ تعبر عن نظرة الإنسان العربي والسامي عموما إلى العالم، ومن ذلك تعريف الفارابي لكلمة جوهر كمايلي: "والجوهر عند الجمهور يدل على الأشياء المعدنية أو الحجارية التي عندهم بالوضع والاعتبار نفيسة، وهي التي يتباهون في اقتنائها مثل اليواقيت واللؤلؤ فيقولون فيمن عندهم من الناس نفيس ذو فضائل عندهم أنه جوهر من جوهر ويعنون جيد الجوهر ويعنون جيد الجنس وجيد الآباء والأمهات أو جيد الفطرة[18]".
وكذلك برهان اشتقت من برهن أو بره بمعنى القطع، وهي في الحبشية برهان أي النور أو الإيضاح، فبره عندهم بمعنى اتضح أو أنار[19]، وقد انزاح هذا المكون النوراني من دلالته الطبيعية للدلالة على الحجة والبينة والقاسم بينهما البيان.
3 - من الحرارة الطبيعية إلى الحرارة الإنسانية
"إيرو" في اللغة الأكادية بمعنى يشعل، وتقابل أر وحر في العربية ، وأيضا وردت حر في العبرية والآرامية[20]، والمتأمل في لفظة "إيرو" يدرك أن الأكادية تميل الكسر المتلو بضم، و احتفاظ العربية بنفس اللفظة مع إبدال الهمزة حاء ، وهناك علاقة دلالية صوتية تلك الجامعة بين الإحساس بالحرارة الجسدية والنفسية، فالأول يفضي إلى الثاني في تواز دلالي صاحب العربي منذ عصوره الأولى، إذ النطق بهذا الصوت يؤشر على شعور باللذة أوالألم، لننظر في المتناظرات بين النار والصوت من جهة، والعاطفة المختزنة للأحاسيس من جهة أخرى من خلال بعض الأمثلة على سبيل التمثيل لا الحصر:
أحح: حكاية تنحنح أَو توجع. وأَحَّ الرجلُ: رَدَّدَ التَّنَحْنُحَ في حلقه، وقيل: كأَنه تَوَجُّعٌ مع تَنَحْنُح.
والأُحاحُ، بالضم: العَطَشُ. والأُحاحُ: اشتداد الحرّ، وقيل: اشتداد الحزن أَو العَطش. وسمعت له أُحاحاً وأَحِيحاً إِذا سمعته يتوجع من غيظ أَو حزن؛ قال:
يَطْوي الحَيازِيمَ على أُحاحِ
من خلال المعطيات اللغوية السابقة يلاحظ حدوث تحول من الحرارة كمعطى طبيعي إلى الإحساس بالحرارة الإنسانية كمكون نفسي عاطفي، وبعد تفحصنا لما جمعته بعض المعاجم حول المشترك المعجمي السامي اتضح أنها توقفت عند حدود الطبيعي البدائي، لننظر إلى مايلي:
حر في العربية harar في العبرية وفي الآرامية har بمعنى أصبح حارا[21].
حم في العربية وفي العبرية hamam، وفي الآرامية hamam، وفي السريانية ham وكلها بمعنى حمي وأصبح حارا[22].
لقد استمد العربي خاصة مفهوم الشوق والإحساس بالحرارة العاطفية من الحرارة الطبيعية، وهذا راجع إلى طابع بيئته الموسوم بقسوة الحر، ولذلك تطور هذا المكون الطبيعي، وأضحى لا ينفصل عن المكون النفسي العاطفي إلى درجة أننا أصبحنا نصادف في لغتنا العربية المعاصرة تعابير من قبيل حرارة اللقاء واستقبله بحرارة .
4 - الغين من التباس المخرج إلى غموض في الدلالة
إطو لفظة أكادية بمعنى أظلم أعتم، و قد وردت نفس اللفظة في الحبشية بتعويض الهمزة بالغين غطو بدلالة ستر حجب[23]، والملاحظ بروز علاقة بين الظلمة والعتمة الطبيعيتين اللتين تمتان بصلة إلى الوجود والعالم، وغط وغطى وغطس وغطش وعتم ناتجة عن تحول دلالي في "إطو"، وما يؤكد ما أومأنا إليه احتفاظ جذور عربية كثيرة بالدلالة على الظلمة و الاستتار.
يلاحظ المتفحص لمادة المعجم العربي حدوث تداخل صوتي بين الجيم والغين في اللغات السامية فجن العربية ترد على التوالي في العبرية والآرامية ganan و aggen وكلها بمعنى غطى[24].
هناك تحول حدث في جن الذي انتقل إلى جنز وجنح عبر قاعدة توسيع بإقحام النون والحاء، وقد وردت هذه الصيغة في الحبشية ganaz وفي الآرامية gnaz، وفي السريانية gnaz وكلها بمعنى أخفى وغطى وستر[25]. ١. غمض في العبرية camas وفي السريانية cmas بمعنى أغمض عينيه[26].٢. غروب في العبرية erub وفي السريانية [27]raba.
نعتقد أن العلاقة بين الغين و الجيم تبادلية في اللغة العربية، وهناك معطيات لغوية عديدة تؤيد هذا الطرح لننظر إلى هذه الأمثلة:
د ج ن: الدَّجْنُ إلباس الغيم السماء وقد دَجَنَ يومنا من باب نصر و الدُّجُنَّةُ من الغيم المطبق تطبيقا الريان المظلم الذي ليس فيه مطر يقال يوم دَجْنٍ ويوم دُجُنَّةٍ وكذا الليلة على الوجهين بالوصف والإضافة و الدَّجْنُ أيضا المطر الكثير و الدَّجْنَةُ بالضم الظلمة .
5 - من تفتيت الصوت إلى تفتيت الدلالة
إن صوت الباء المهموس p بقي في اللغات السامية كالعبرية والآرامية والأكادية، لكنه تحول إلى صوت احتكاكي مهموس في العربية والحبشية فحدث إبدال داخل اللغات السامية بين الفاء والباء، لننظر إلى هذه الأمثلة:
فت في العبرية patat وفي السريانية pat [28].
فتح في الحبشية fataha وفي العبرية patah وفي الآرامية ptah وفي السريانية ptah [29].
فرص في العبرية paras وفي الأشورية parasu [30].
فصع في العبرية pasac وفي الآرامية psac [31].
فصل في العبرية pasal وفي الآرامية psal بمعنى قشر وقطع [32].
استنتاجات
كثير من الكلمات السامية حدث فيها إبدال بين الفاء والباء وما يؤشر على ذلك احتفاظ العربية بالمزاوجة داخل كثير من المفردات بين هذين الصامتين ، لنتأمل مايلي:
فثث: الفَثُّ: تَمْر فَثٌّ: مُنْتَشِرٌ ليس في جِرابٍ ولا وِعاءٍ، كَبَثٍّ؛ عن كراع. اللحياني: تَمْر فَثٌّ، وفَذٌّ، وبَذٌّ: وهو المُتَفَرَّقُ الذي لا يَلْزَقُ بعضه ببعض. وقال الأَعرابي: تمر فَضٌّ، مثله.
الأَصمعي: فَثَّ جُلَّتَه فَثّاً إِذا نَثَرَ تمرَها. وما رأَينا جُلَّةً أَكثر مَفَثَّةً منها أَي أَكثر نَزَلاً. ويقال: وُجِدَ لبني فلان مَفَثَّةٌ إِذا عُدُّوا، فوُجِدَ لهم كَثْرةٌ. ويقال: انْفَثَّ الرجلُ من هَمٍّ آَصابَه انْفِثاثاٍ أَي انكسَر.
بثث : بث الخبر يبثه ويبثه، وأبثه وبثثه وبثبثه: نشره، وفرقه، فانبث. وبثثتك السر، وأبثثتك: أظهرته لك. وتمر بث: متفرق، منثور. وبث الغبار، وبثبثه: هيجه. والمنبث: المغشي عليه. والبث: الحال، وأشد الحزن. واستبثه إياه: طلب إليه أن يبثه إياه.
فتت: فَتَّ الشيءَ يَفُتُّه فَتّاً، وفَتَّتَه: دَقَّه. وقيل: فَتَّه كَسَره؛ وقيل: كسره بأَصابعه قال الليث: الفَتُّ أَن تأْخذ الشيء بإِصبعك، فَتُصَيِّرَه فُتاتاً أَي دُقاقاً، فهو مَفْتُوتٌ وفَتِيتٌ. وفي المثل: كَفّاً مُطْلَقةً تَفُتُّ اليَرْمَعَ؛ اليَرْمَع: حجارة بيض تُفَتُّ باليد؛ وقد انْفَتَّ وتَفَتَّتَ. والفُتاتُ: ما تَفَتَّت؛ وفُتاتُ الشيء: ما تكسر منه؛
بتت: البَتُّ: القَطْعُ المُسْتَأْصِل يقال: بَتَتُّ الحبلَ فانْبَتَّ. ابن سيده: بَتَّ الشيءَ يَبُتُّه، ويَبِتُّه بَتّاً، وأَبَتَّه: قطَعه قَطْعاً مُسْتَأْصلا.ُ
فطر: فطَرَ الشيءَ يَفْطُرُه فَطْراً فانْفَطَر وفطَّرَه: شقه وتَفَطَّرَ الشيءُ: تشقق. والفَطْر: الشق، وجمعه فُطُور. وفي التنزيل العزيز: هل ترى من فُطُور؛
بطر: بَطَرَ الشيءَ يَبْطُرُه ويَبْطِرُه بَطْراً، فهو مبطور وبطير: شقه
والبَطْرُ: الشَّقُّ؛ وبه سمي البَيْطارُ بَيْطاراً والبَطِيرُ والبَيْطَرُ والبَيْطارُ والبِيَطْر
٦. تحولات صواتية واستقرار في الدلالة
العلاقة بين صوتي ج و ق ملتبسة في اللغات السامية ونعتقد أن الأصل فيها القاف، فالجيم والقاف يتحققان g
جد في العبرية gadad وفي الآرامية gdad وفي السريانية gad.
جدع في العبرية gad وفي السريانية gda وكلها بمعنى قطع
جدف في العبرية gadaf وفي الآرامية gadef وفي السريانية gadef وفي الحبشية gadaf.
جز في العبرية gazaz وفي الآرامية gzaz وفي السريانية gaz وكلها بمعنى قط.
جزر في العبرية gazar وفي الآرامية gzar وفي السريانية gzar وكلها بمعنى قطع.
جزم في الحبشية gazama وفي السريانية gdam بمعنى قطع[33]
من الأنين إلى الحنين توليدات معجمية وتحولات في الدلالة
بالأجارتية والعبرية والآرامية ، و بالسريانية، حن يحن enānu(m) بالآشورية، و بالأكادية enēnu(m)
والعربية حن.[34]
يصدر الإنسان أصواتا وتأوهات دالة على الحزن حينا أو الفرح حينا آخر، ولذلك كانت النون صوتا مصاحبا للألم ، حيث ورد في لسان العرب أن في مادة "أن ن" مايلي: أن يئن أناً وأنيناً وأناناً وتأناناً: تأوه.
إن التأوه هنا صوت صادر عن ألم جسدي أو نفسي ، فمن الصوت التي يصدر عن النفس ابتدع الانسان السامي فعلا مماثلا لذلك الصوت، فكيف انتقلنا إذا من الأنين إلى الحنين؟.
ورد في مادة "ح ن ن" مايلي: حنت الناقة : نزعت إلى أوطانها أو أولادها ، والناقة تحن إلى إثر ولدها حنينا تطرب مع صوت ، وقيل : حنينها نزاعها بصوت وبغير صوت والأكثر أن الحنين بالصوت ، وتحننت الناقة على ولدها: تعطفت، وكذلك الشاة ، عن اللحياني . الأزهري عن الليث: حنين الناقة صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها . الأزهري الحنين للناقة والأنين للشاة.
يبرز من هذا التعريف المعجمي أن الإنسان استمد من صوت الناقة الموسوم بالشوق إلى الولد والوطن أنينه وحنينه. فالناقة في بعدها الأنثروبلوجي كانت بمثابة الأم التي لا تفارق العربي في استقراره وترحاله يرتبط حنينه إلى الديار بحنينها وأنينه بأنينها، وهذا البعد الارتكاسي للزمن ربما جعل العربي حتى زماننا هذا لا يكترث بالحاضر أو المستقبل، بل يتعلق بماضيه أشد التعلق ، ولذلك نجد لديه نزوعا إلى ماضيه.
7 - من قذارة في الحلق إلى قذارة في الصوت
شيء طبيعي أن تتلاحم العلاقة بين الصوت ومدلوله، وأن يدل الصوت بمجرد النطق به على صورة ذهنية ترتبط بصورة خارجية، وهذا يعني أن كل صوت يرمز إلى معنى، حيث تتشكل دلالات الأصوات حسب جرس أصواتها
وفي ضوء هذه الفكرة التي تربط بين الأصوات ومدلولاتها تكونت نظرية المحاكاة التي تشير الى تقليد الإنسان للأصوات التي سمعها من حوله، من هنا نشأت الكلمات للتعبير عن مصدر الصوت المسموع ذلك أن الأصوات التي تدل على الغضب والنفور تقليد مباشر لأصوات الطبيعة والدليل على ذلك أن بعض الأصوات ما زالت تحافظ على مدلولاتها في بعض الثقافات الشعبية والعربية من قبيل صوت الخاء التي ترتبط دلالته في الثقافة العربية بالاستهجان والقذارة والنذالة، وهذا ينسج مع دلالة هذا الصوت في المعاجم العربية ، حيث تدل كلمة (أخْ) على" القذر " ( لسان العرب : مادة أخخ).
والواقع أن دلالة الخاء في المعاجم العربية لا تخرج عن التعبير عن البشاعة والقذارة وكل ما يثير الاشمئزاز ، وفيمايلي بعض الأمثلة الدالة على ذلك:
الأَخُّ: القَذَر - المُسْتأْخِد المُسْتكين - المتبختر المختال - البخثرة: الكدر في ماء أو ثوب - البخر النتن في الفم - البخص، لحم يخالطه بياض من فساد فيه - البخق، محركةً: أقبح العور، وأكثره غمصاً.
قائمة المصادر والمراجع
1. أساسيات اللغة، تراسك، ترجمة رانيا إبراهيم يوسف، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة، 2002.
2. الإشكالية اللغوية في الفلسفة العربية، جيرار جهامي، دار المشرق بيروت، 1994.
3. حضارة اللغة مجلة عالم الفكر العدد الاول 1971 ص ص 11 -
5. في فلسفة اللغة، محمود فهمي،، دار النهضة العربية للطباعة والنشر 1985
6. الكتاب، سيبويه أبو عمرو بن عثمان، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي القاهرة، الطبعة الثالثة 1988.
7. اللسان الأكادي، مرعي عيد، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة دمشق، 2012.
8 . اللغة، فندريس، ترجمة عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص، مكتبة الأنجلو المصرية.
9. اللغة والجنس: حفريات لغوية في الذكورة والأنوثة، دار الشروق للنشر والتوزيع عمان الاردن، 2002.
10 . اللغة كائن حي، جرجي زيدان ، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة 2012
11. معجم مفردات المشترك السامي في اللغة العربية، حازم علي كمال الدين، مكتبة الآداب القاهرة ، 2008.
الهوامش
[1] . اللغة والفكر والعالم، ص 8 9
[2] . اللغة، ص 299
[3] . اللغة والفكر والعالم، ص 13 14
[4] .اللغة ، ص 57
[5] . محاضرات في نشوء الفكرة القومية ص 28
[6] . في فلسفة اللغة ، ص 38
[7] . أساسيات اللغة، ص 69
[8] . أساسيات اللغة ص 65
[9] . اللغة، ص 135 – 136
[10] . اساسيات اللغة، ص 76
[11] . اللغة والجنس، ص 52
[12] . نفسه ص 53
[13] . اللغة والجنس، ص 48
[14] . الكتاب / 3، ص 241
[15] . اللغة، ص 132
[16] .حضارة اللغة، ص 27
[17] . اللغة، ص 13
[18] . الإشكالية اللغوية في الفلسفة العربية، ص 98
[19] . اللغة العربية كائن حي، ص 20
[20] . اللسان الأكادي، ص 148.
[21] . معجم مفردات المشترك السامي في اللغة العربية، ص 140
[22] . المرجع نفسه، ص149
[23] . اللسان الأكادي، مرعي عيد، ص
[24] . معجم مفردات المشترك السامي في اللغة العربية، ص 130
[25] . المرجع نفسه، ص 130
[26] . المرجع نفسه، ص 287
[27] . المرجع نفسه، ص 28
[28] . المرجع نفسه، ص 288
[29] . المرجع نفسه، ص 288
[30]. المرجع نفسه، ص 296
[31] . المرجع نفسه، ص 296
[32] . المرجع نفسه، ص 296
[33] . المرجع نفسه ، الصفحات 116 – 117 118 123 124
[34] . اللسان الاكادي ، ص 148
* (الدكتور التهامي الحايني، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين الرباط – المغرب)
* مجلة اللغة