نقوس المهدي
كاتب
كانت الساعتان في معصميه اﻷيسر واﻷيمن تشيران إلى الثامنة تماماً حين فتح الحاج حسني باب دكانه ودخل وهو يستفتح بدعاء البركة. منذ اثني عشر عاماً أي منذ أن تقاعد من عمله ككاتب عدل في محكمة المنطقة. وكان قد طرد من الدكان مستأجره القديم "جميل البقال" الذي تأخّر ثلاثة أيام عن سداد مبلغ اﻹيجار ثم دهن بنفسه الجدران وكتب على زجاج الواجهة بما تبقى من الدهان كلمتي "كاتب استدعاء".
في الحقيقة لقد كانت المنطقة منذ أمد بعيد بحاجة إلى خدمة كهذه، ورغم أن معظم مشاكل سكان المنطقة كان يجري حلّها عرفياً إلا إن الدولة كانت كثيراً ما تجبرهم بقوة الجندرمة على الخضوع لعدالتها والوقوف على أبواب محكمتها.
كان الحاج حسني قد نظّم الدور منذ اليوم اﻷول من عمله في الدكان الذي تحوّل إلى مكتب، كل واحد كان يحاول أن يكون اﻷول وكأنه يخشى ألا يصله الدور وتتعطّل مصالحه لدى الدولة، وكان على الحاج حسني تعويد الناس على النظام:
- الذي يصل أولاً عليه أن يقف على مبعدة قدمين من باب المكتب وكل من يأتي بعده يقف خلفه ولا يأتيني أحدكم بيد فارغة فمصالح الدولة يلزمها دفع المال.
ومنذ اثني عشر عاماً لم يحدث أن اختل نظام الدور الذي وضعه الحاج حسني مرة واحدة، ولا حدث أن جاءه مراجع بيد فارغة ﻷن خدمة الحاج الطويلة في محاكم الدولة قد جعلت من كلمته قانوناً لدى الناس.
في ساعة محدّدة من كل صباح ومع صياح الديك، ينهض الحاج حسني من فراشه، ومع أول سعلة تخرج من حلقه ينهض جميع أهل الدار من سباتهم، يخرج ولده البكر يده المدسوسة منذ اﻷمس بين نهدي زوجته ويغادر الفراش متأففاً، يسل حفيده البالغ يده من سرواله وينهض على عجل، بينما تطرد سعلته تلك أطياف فرسان اﻷحلام التي ترتاد منام ابنتيه كل ليلة. كان بيته كأنه قاعة محكمة وسعاله مطرقة القاضي. ودون أن يجهر واحد منهم بالقول، كثيراً ما كان أفراد العائلة يتفاهمون فيما بينهم بالنظرات بينما يكتم الصغار ضحكهم متجنبين تعكير صفو نظام البيت.
يرتدي الحاج حسني بنطاله ومعطفه اللذين ظل يرتديهما طيلة فترة خدمته في المحكمة حتى بعد أن بليا وتغير لونهما بسبب الكوي المتواصل من اللازوردي إلى لون آخر براق، ويعقد ربطة عنقه العريضة التي رفض تركها لغبار تقاعده، ثم يجلس إلى مائدة اﻹفطار. لا يلبث أن يتوافد أبناؤه اﻷربعة المتزوجون فيجلسون إلى جانبه كل حسب سنّه - كان اﻷربعة قد اتخذوا والدهم قدوة وسلكوا في وظائف الدولة - ويليهم على المائدة الحفدة الصغار. وبعد أن ينتهي الرجال من إفطارهم، ينهضون لتحلّ محلهم إناث العائلة: اﻷم وابنتاها وكنائنها اﻷربع إضافة إلى الحفيدات.
في منزل الحاج حسني ساعة جدارية رهيبة لا تؤخّر دقيقة ولا تقدّم، ومثلما كانت مواقيت الطعام والشاي والنوم والتلفزيون قد تمّ تحديدها كذلك اﻷيام: يوم النزهة ويوم التنّور ويوم الكبول (طعام يصنع من الطحين والبرغل) ويوم الخيرات...
لم يكن أحد يعرف مثلاً لماذا اﻷربعاء والسبت للتنّور، ولا لماذا لا تخطر أكلة الكوارع على بال أحد قبل أن ينقضي الشهر ويحضر القصّاب كعادته منذ عشرين عاماً ثلاثة منها مع اﻷحشاء والسجق. لا أحد كان يعرف بالضبط من الذي سنّ هذه القوانين، أهو الحاج حسني أم والده الذي خدم أمراء المنطقة ككاتب مدة أربعين عاماً أم جدّه، لكن لم يكن أحد يجهل أن النظام هو رأس كل شيء في دار الحاج حسني.
كان عقرب الساعة المتّجه نحو الحادية عشرة مقصلة حادة تهبط بجميع الرؤوس إلى مخداتها وكأن جميع أفراد العائلة جسد واحد يتداعى معاً في تلك الساعة إلى الفراش، لكن كل مخدة تمنح صاحبها نوماً مختلفاً.
في مكتبه وكعادته كل صباح، يخرج الحاج قطعة قماش صغيرة من الدرج ليزيل بها الغبار ويبدأ أول ما يبدأ بصورة "مصطفى كمال" المعلّقة على الجدار وبعد ذلك صورة والده. كان يفعل ذلك بحرص وخشوع كمن يؤدي عملاً مباركاً، يبدأ بالعينين والحاجبين الزرقاوين والشاربين الصفراوين قبل أن ينتقل إلى العينين السوداوين والشاربين المفتولين. كان ينظف بأقصى درجات الحذر كتفي المعطف في الصورة متجنباً أن تمس يداه ربطة العنق خشية أن يفسدها، وما أن ينتهي من عمله هذا حتى يحضر فنجان قهوته المرة من المقهى القريب، يحتسيها بخمس رشفات سريعة يعقبها بثلاث جرعات من الماء.
ثبّت نظارته السميكة على أنفه ثم دفع بورقة جديدة في اﻵلة الكاتبة ليدخل أول المراجعين. ينقر المراجع طرف الباب بلطف قبل أن يدخل ويمثل أمام الحاج ويبدأ بسرد قصته. يقبل عليه الحاج حسني بكل جوارحه ودون أن يقاطعه بكلمة واحدة وحالما ينتهي المراجع لا يقول الحاج سوى كلمة واحدة مكرّرة "هيا، هيا".
ثم يشرع في تمرير أصابعه على أزرار اﻵلة الكاتبة التي ألصق الحاج عليها لصاقات صغيرة تدل على الحروف بعد أن انمحت حروفها اﻷصلية لكثرة الاستعمال. وبعد أن ينتهي من تدبيج ورقة الاستدعاء والتي يغلب أن تكون نصف كلماتها من اللغة العثمانية، يهبّ واقفاً على قدميه ويشرع في قراءتها بصوت عال. يستمع إليه المراجع بكل اهتمام ومهما غمضت عليه كلماتها فإنه لم يكن ليشك لحظة في أن هذه الورقة دواء علّته وهي قدمه التي سيدخل بها دار الحكومة. وفي كل مرة، يخرج المراجع من مكتب الحاج حسني مغتبطاً ولسانه يلهج بالدعاء له.
حين يحضر حفيداه إلى المكتب، يفطن الحاج إلى أن الساعة قد بلغت الثانية عشرة. يناولهم بعض اﻷشياء من زاوية المكتب وبدون أن يلتفت إلى طابور مراجعيه يعلن "انتهى دوامنا"، ثم يهمّ بإغلاق المكتب والذهاب إلى البيت. وحين يستوقفه أحدهم ويسأله سؤالاً ما يزجره: "حبيبي ... تعال بعد الظهر، نحن أيضاً لدينا مشاغلنا ولكن إياكم وإفساد الدور".
في الحقيقة، إن مشاغل الحاج حسني كانت كثيرة، ومن تلك المشاغل أن نصف دكاكين السوق كانت ملكاً له، ومع مطلع كل شهر تصله تباعاً ظروف بيضاء مختومة تتضمن مبلغ اﻹيجار ومدوّن عليها اسم المستأجر وقيمة المبلغ. وإذا حدث وماطل أحدهم في إرسال المبلغ قبل انتهاء فترة الدوام الصباحي في اليوم اﻷول، يرسل الحاج حفيده فإن فشل في تحصيل المبلغ يرسل ولده في اليوم الثاني فإن عاد فارغ اليدين يمضي الحاج في اليوم الثالث بنفسه إلى المستأجر وبدون حتى أن يذكر اﻷجرة يصرخ في وجهه: "يا حبيبي، مهلتك ثلاثة أيام وقد انتهت، وأنا قد أجرت دكاني إلى فلان". وعندها لم يكن دعاء المستأجر وتوسلاته سوى عبث ولا شيء يمنع الحاج من تنفيذ تهديده بالفعل.
لم تكن هذه كبرى مشاغل الحاج، اﻷهم أنه كان قد أعدّ لكل فرد من أفراد عائلته ملفاً خاصاً دوّن عليه اسمه وتاريخ ميلاده، وقد وضع تلك الملفات على الرف المصنوع من خشب الجوز في غرفته الخاصة لا يطّلع عليها أحد سواه، وقد دوّن في تلك الملفات كل ما يتعلّق بصاحب الملف: شهادة الولادة، الشهادات المدرسية، التراخيص الحكومية، تقارير المشافي، التقديرات والامتيازات المدرسية ودفتر العائلة للمتزوجين منهم، إضافة طبعاً إلى "بيان النظام" الذي كان الحاج حسني يملأه شخصياً.
فإذا تأخّر أحد أفراد العائلة في الاستيقاظ صباحاً، أو تثاقل أحد الصغار عن الوقوف عند دخول شخص أكبر منه سناً، أو غاب عن دوامه في المدرسة، أو عصت الكنّة أمراً لحماتها؛ يدخل الحاج إلى غرفته ويدوّن العقوبة المناسبة في ملف الشخص المخالف: المتأخّر في النوم لا إفطار له، والغائب يوماً عن دوام المدرسة محروم من مصروفه أسبوعاً كاملاً، والغياب عن العمل يكلف الغائب اقتطاع راتب نصف شهر، أما الكنّة التي تعصي حماتها أو زوجها فمحرومة من زيارة بيت أهلها لمدة شهر.
العقوبات في دار الحاج حسني خفيفة فقط ﻷن اﻷخطاء والمخالفات خفيفة، ولم يحدث قط أن ارتكب أحدهم خطأ كبيراً باستثناء مرة واحدة قام بها الابن البكر حين كان ما يزال عازباً إذ انساق مع أهوائه ومع رفاق السوء وعاد ذات ليلة إلى البيت وهو مخمور. بالطبع طرده الحاج حسني من البيت تلك الليلة ودوّن في ملفه "يُحرم عزّت من دخول هذا البيت شهراً كاملاً ولا يدخله حتى ولو متّ خلال هذا الشهر".
وﻷن عزّت كان شاباً طائشاً حينها فقد أرسل إلى والده بعد أيام صورته وقد صوّب فوهة مسدس إلى صدغه مهدداً بالانتحار إذا لم يعف عنه الحاج، فكان جواب اﻷب أن أضاف إلى ملف عزّت الجملة التالية "يُحرم عزّت من دخول هذا البيت أحد عشر شهراً أخرى". وحتى بعد أن انقضت المدة وعاد عزّت إلى البيت لم يخطر ﻷحد أن يسأل: لماذا أحد عشر شهراً؟
لم يدخل الحاج في حياته ولو بالخطأ نادياً للقمار ولا شرب منكراً، والمرة الوحيدة التي شم فيها رائحته كانت تلك التي عاد فيها عزت مخموراً إلى البيت مع الفتاة التي ادّعى أنه تزوجها. لم يفوّت الحاج فرض صلاة ولا أفطر يوماً في رمضان، والمرة الوحيدة التي عوقب فيها بصفعة كانت في الجيش حين ناوب ثلاث ساعات بدل ساعتين، وخمس وثلاثون سنة من خدمته ككاتب عدل كانت تلخصها كلمة واحدة: النظام.
ومع أنه كان مجرد كاتب إلا أنه كان قد حفظ جميع نصوص القانون، وإذا حدث وشعر أحد القضاة أو القانونيين الشباب بالحرج في مسألة ما سرعان ما يسعفه الحاج حسني بالنص القانوني المناسب. حتى في تلك اﻷيام التي كان يشعر فيها بالتعب وبالكاد يتماسك على قدميه لم يحدث أن طلب إذناً أو إجازة ولا حتى اﻹجازة السنوية. وحتى في فترة ما بعد الظهيرة حين كانت المحكمة تفرغ تماماً، كان الحاج حسني يجلس خلف اﻵلة الكاتبة ويجد لنفسه أي عمل يشغل نفسه به. كان يردد دائماً "البطالة طعمها لذيذ وإذا ذاقها المرء مرة واحدة فإنه لن يصبر على فراقها بعد ذلك".
كان قد أوصى جميع أفراد عائلته مراراً وتكراراً: "حتى لو مات أبي لا أريد أن أرى أحداً منكم في مكتبي في المحكمة". ورغم ذلك فقد دخل عليه ذات يوم ابنه اﻷصغر وقال وهو ما يزال يلهث: "أسرع يا أبي، لقد مات جدي". ساد الوجوم في المكتب وخُيّل إلى الجميع أن الحاج حسني لم ينهض عند سماعه هذا الخبر المفاجئ ﻷنه أصيب بالشلل. لكن فجأة رفع الحاج حسني عينيه الجافتين وقال مخاطباً ابنه: هيا يا بني، سألحق بك بعد انقضاء الدوام. ورغم أن جميع زملائه في العمل كانوا يقطعون دوامهم ويذهبون إلى زيارة قبر والده إلا الحاج حسني نفسه، الذي كان يبقى على رأس عمله في المحكمة ساعة وستاً وعشرين دقيقة إضافية، وكان لا يرى في غياب زملائه سوى حججاً واهية للتهرّب من العمل.
ولو سُئل أهل المنطقة من أكثر المتضررين من طبائع الحاج حسني، لقالوا: لا المراجعين ولا المستأجرين ولا حتى زوجته التي تعاشره منذ خمس وأربعين سنة وتنام وتصحو معه، بل ابنتاه المسكينتان اللتان لم تتزوجا حتى اليوم بسبب والدهما واللتان تحترقان يومياً ليس بنيرانه فقط ولكن كذلك بنيران زوجات إخوتهم في كل ليلة.
لكن الحاج حسني كان يعتبر ابنته الكبرى زليخة، مفخرته الحقيقية وكان ملفها اﻷبيض هو المكافأة الحقيقية التي يرى اﻷب أنه نالها خلال سنوات عمره الطويلة. ومنذ أن بلغت الثامنة عشرة وحتى الخامسة والعشرين، تقدّم لخطبة زليخة الكثير من الشباب الذين كان يحدوهم اﻷمل رغم معرفتهم بطباع اﻷب وأنه قد يطردهم شرّ طردة. وها هي اﻵن ومنذ سنوات لم ترفع ملقط شعر إلى وجهها حتى لقد ظهر طيف شارب خفيف كشوارب المراهقين على شفتها العليا. تخلّت زليخة عن إعداد "جهاز عرسها" وكانت تقضي الوقت المتبقي عن أعمال المنزل في قراءة القرآن والصلاة. وكان الحاج حسني كلما رآها منكبة على القرآن يبتسم بسرور بالغ ويشعر إن شبراً واحداً يفصله عن رب العالمين.
الصغرى سميّة لم تكن تشبه زليخة في شيء، لا بشعرها الذي كانت تقضي صباحها في دهنه وتمشيطه وإرساله بعناية على كتفيها وظهرها، ولا بحاجبيها اللذين لم يكونا بحاجة لملقط ومع ذلك كانت لا تنفك تعتني بهما، ولا بنهديها اللذين لم يكونا قد تهدلا بعد مثل نهدي أختها، ولا باستقامة ظهرها الذي كانت تحصره في ثياب ضيقة حين يكون اﻷب في عمله وتراها تهرع من هذه الغرفة إلى تلك لتقف أخيراً على نافذة غرفة الطابق الثاني المطلة على السوق، وبالمحصلة فإنها لم تكن تشبه أختها ولم تكن تريد أن يكون لها حظ كحظها.
ورغم أن أمهات العرسان كن يتخاطفن هذا النوع من البنات إلا أن تجاربهن مع خطبة زليخة كانت تمنعهنّ من التقدّم. ثلاث عائلات فقط تقدّمت لخطبة سميّة بسبب إلحاح أولادهم عليهم لكن الحاج حسني رد الجميع خائبين وهو يقول: "حبيبي، كيف أزوج الصغيرة والكبيرة ما تزال عزباء، في أي قانون رأيتم هذا؟ إن كنتم تعلمونه وأجهله فخبروني رجاء حبيبي". وبالطبع فإن خطاب البنت الكبرى لم يكونوا أحسن حظاً.
بلغت الساعة الخامسة مساء، وفرغ الحاج حسني من عمله على اﻵلة الكاتبة. غطاها قبل أن ينتزع ورقة اليوم من التقويم المعلق، كانت تشير إلى الثاني عشر من شهر آب 1989. أغلق باب المكتب ولجأ إلى ظلّ شجرة الدلب مع بعض جيرانه كما هي العادة، أما في الشتاء فكان اجتماعهم في دكان عبدو الحلاق. كان من عادة الحاج حسني أن يقرأ عليهم ما هو مكتوب في ورقة التقويم وكان يبدأ أولا باﻵية ثم بالحديث ثم باﻷمثال ثم مواعيد الأذان لكل مدينة ثم طبق اليوم ثم أسماء المواليد الجدد، ولم يكن أحد ينبس ببنت شفة حتى ينتهي الحاج من القراءة، وهذه واحدة من العادات التي واظب عليها الحاج يومياً طوال العام.
في ذلك اليوم، كان كل شيء يسير وفق نظام ساعتيه لا تأخير ولا تقديم، وكان الحاج على وشك أن يقرأ الحديث الشريف من ورقة التقويم حين أقبل أحد أحفاده وهو يركض لاهثاً وألصق فمه بأذن جده وهمس بصوت مبحوح:
"الحقنا يا جدي، عمتي فرّت من البيت وجدتي تقول إنها لحقت بأحدهم" وﻷن الصبي كان يلهث فقد بلغت كلماته أسماع جميع من كان حاضراً فأحنى الجميع رؤوسهم في الحال خجلاً من هول ما سمعوا.
أظلمت الدنيا في عيني الحاج حسني. وفي طريقه إلى البيت، قتل سمية بيديه ألف مرة ودوّن خبر فعلتها وموتها في ملفها، ثم أخرجها من قبرها وأعاد قتلها بطريقة أخرى. وكلما شعر أن شيئا من جسدها ما يزال يتحرك تحت قميصها الضيق كان يعيد قتلها مرة أخرى. ولشدة اضطرابه في الطريق، لم ينظر في وجه أحد حتى بلغ باب بيته بل حتى إنه لم ينظر في وجه ابنته التي فتحت له الباب، ظنها رجلاً. كان الجميع ينام ويستيقظ في الوقت المحدد، المستأجرون ملتزمون بالدفع في اليوم المعلوم، المراجعون يقفون على الدور أمام مكتبه كما عودهم، وأولاده الذين يقبضون رواتبهم يأتونه بها في الحال، ديك الدار يصيح يومياً في ساعته المعتادة، إذاً ما الذي حدث...؟ ما الذي تغيّر وعاث بهذا النظام فساداً وحرف المياه عن مجاريها
- لماذا فعلت سمية ذلك؟
- سمية في البيت يا حاج، الهاربة هي زليخة.
حدّق الحاج في وجه زوجته التي كانت ما تزال تلطم رأسها وتقتلع شعرها ثم تلفّت حوله فوقعت عيناه على سمية، كانت متكورة بالقرب من اﻷطفال في زاوية الغرفة... نيران زليخة اللاهبة أحرقت كل شيء في أرجاء المنزل. بدأ يهذي: "ماذا، من؟ من كان ذلك؟ سمية، زليخ...لماااااذا... " ثم دخل غرفته وهو مطرق الرأس ولم يخرج منها طيلة ذلك اليوم. وفي اليوم التالي، استيقظت العائلة ليس على صوت سعاله ولكن على صوت أزرار اﻵلة الكاتبة. هاج الحاج حسني فدوّنت اﻵلة الكاتبة أنه اهتاج ثم بكى فدوّنت بكاءه.
ومع حلول المساء، فتح باب غرفته وخرج فوجد الجميع مترقبين بانتظاره. لم يكن أحد منهم قد تحرّك من البيت ولا أدى عملاً، كانوا في الصالون يترقبون خروجه. ومن دون أن يلج غرفة الصالون وقف عند مدخل غرفته وقرأ:
- حتى ولو متّ فإنها ممنوعة من وطء عتبة هذا البيت، حتى ولو أنجبت سبعة أولاد فجميعهم محروم من دخول بيتي.
ومنذ ذلك اليوم، لم يغادر الحاج حسني غرفته. وطيلة ستة أشهر لم يره أحد من أفراد عائلته. كان يخرج ليلاً ويطوف كشبح في أنحاء البيت، يتوضأ ويصلي ويبقى ساهراً لساعات طوال يفكر في أمر ما. كان يفكر فيما دوّنه في ملف زليخة وكيف أن فرارها بهذا الشكل لوث ملفين كان يعتز بهما أشد الاعتزاز. لم يكلم أحداً طيلة اﻷشهر الستة اللاحقة، لم يسأل مع من فرّت، ولا أصاب من الطعام الذي كانت زوجته تضعه بانتظام أمام باب غرفته سوى الماء والخبز. اﻵن فهم أن وقفات سمية على نافذة الغرفة العلوية لم تكن عبثاً، لقد كانت اللعينة تسعى بين أختها وبين "خلو" بائع البصل اﻷخضر.
مرت اﻷشهر الستة بسرعة كما يمر عمر إنسان، وفُتح باب الغرفة أخيراً وخرج منها الحاج حسني يسبقه سعاله الذي أيقظ جميع أهل الدار وكأنهم جسد واحد. في تلك الليلة، رأى الجميع بما فيهم الحاج أحلاماً مختلفة وكثيرة.
في اليوم اﻷول من عودة الحاج إلى حياته الطبيعية كانت أول جملة نطق بها على الإفطار الصباحي هي:
- النظام... هذا البيت يحتاج قبل كل شيء إلى نظام!
* كاتب كردي من مواليد مدينة ديار بكر عام 1977، ويقيم اليوم في إسطنبول
** ترجمة عن الكردية إبراهيم خليل
في الحقيقة لقد كانت المنطقة منذ أمد بعيد بحاجة إلى خدمة كهذه، ورغم أن معظم مشاكل سكان المنطقة كان يجري حلّها عرفياً إلا إن الدولة كانت كثيراً ما تجبرهم بقوة الجندرمة على الخضوع لعدالتها والوقوف على أبواب محكمتها.
كان الحاج حسني قد نظّم الدور منذ اليوم اﻷول من عمله في الدكان الذي تحوّل إلى مكتب، كل واحد كان يحاول أن يكون اﻷول وكأنه يخشى ألا يصله الدور وتتعطّل مصالحه لدى الدولة، وكان على الحاج حسني تعويد الناس على النظام:
- الذي يصل أولاً عليه أن يقف على مبعدة قدمين من باب المكتب وكل من يأتي بعده يقف خلفه ولا يأتيني أحدكم بيد فارغة فمصالح الدولة يلزمها دفع المال.
ومنذ اثني عشر عاماً لم يحدث أن اختل نظام الدور الذي وضعه الحاج حسني مرة واحدة، ولا حدث أن جاءه مراجع بيد فارغة ﻷن خدمة الحاج الطويلة في محاكم الدولة قد جعلت من كلمته قانوناً لدى الناس.
في ساعة محدّدة من كل صباح ومع صياح الديك، ينهض الحاج حسني من فراشه، ومع أول سعلة تخرج من حلقه ينهض جميع أهل الدار من سباتهم، يخرج ولده البكر يده المدسوسة منذ اﻷمس بين نهدي زوجته ويغادر الفراش متأففاً، يسل حفيده البالغ يده من سرواله وينهض على عجل، بينما تطرد سعلته تلك أطياف فرسان اﻷحلام التي ترتاد منام ابنتيه كل ليلة. كان بيته كأنه قاعة محكمة وسعاله مطرقة القاضي. ودون أن يجهر واحد منهم بالقول، كثيراً ما كان أفراد العائلة يتفاهمون فيما بينهم بالنظرات بينما يكتم الصغار ضحكهم متجنبين تعكير صفو نظام البيت.
يرتدي الحاج حسني بنطاله ومعطفه اللذين ظل يرتديهما طيلة فترة خدمته في المحكمة حتى بعد أن بليا وتغير لونهما بسبب الكوي المتواصل من اللازوردي إلى لون آخر براق، ويعقد ربطة عنقه العريضة التي رفض تركها لغبار تقاعده، ثم يجلس إلى مائدة اﻹفطار. لا يلبث أن يتوافد أبناؤه اﻷربعة المتزوجون فيجلسون إلى جانبه كل حسب سنّه - كان اﻷربعة قد اتخذوا والدهم قدوة وسلكوا في وظائف الدولة - ويليهم على المائدة الحفدة الصغار. وبعد أن ينتهي الرجال من إفطارهم، ينهضون لتحلّ محلهم إناث العائلة: اﻷم وابنتاها وكنائنها اﻷربع إضافة إلى الحفيدات.
في منزل الحاج حسني ساعة جدارية رهيبة لا تؤخّر دقيقة ولا تقدّم، ومثلما كانت مواقيت الطعام والشاي والنوم والتلفزيون قد تمّ تحديدها كذلك اﻷيام: يوم النزهة ويوم التنّور ويوم الكبول (طعام يصنع من الطحين والبرغل) ويوم الخيرات...
لم يكن أحد يعرف مثلاً لماذا اﻷربعاء والسبت للتنّور، ولا لماذا لا تخطر أكلة الكوارع على بال أحد قبل أن ينقضي الشهر ويحضر القصّاب كعادته منذ عشرين عاماً ثلاثة منها مع اﻷحشاء والسجق. لا أحد كان يعرف بالضبط من الذي سنّ هذه القوانين، أهو الحاج حسني أم والده الذي خدم أمراء المنطقة ككاتب مدة أربعين عاماً أم جدّه، لكن لم يكن أحد يجهل أن النظام هو رأس كل شيء في دار الحاج حسني.
كان عقرب الساعة المتّجه نحو الحادية عشرة مقصلة حادة تهبط بجميع الرؤوس إلى مخداتها وكأن جميع أفراد العائلة جسد واحد يتداعى معاً في تلك الساعة إلى الفراش، لكن كل مخدة تمنح صاحبها نوماً مختلفاً.
في مكتبه وكعادته كل صباح، يخرج الحاج قطعة قماش صغيرة من الدرج ليزيل بها الغبار ويبدأ أول ما يبدأ بصورة "مصطفى كمال" المعلّقة على الجدار وبعد ذلك صورة والده. كان يفعل ذلك بحرص وخشوع كمن يؤدي عملاً مباركاً، يبدأ بالعينين والحاجبين الزرقاوين والشاربين الصفراوين قبل أن ينتقل إلى العينين السوداوين والشاربين المفتولين. كان ينظف بأقصى درجات الحذر كتفي المعطف في الصورة متجنباً أن تمس يداه ربطة العنق خشية أن يفسدها، وما أن ينتهي من عمله هذا حتى يحضر فنجان قهوته المرة من المقهى القريب، يحتسيها بخمس رشفات سريعة يعقبها بثلاث جرعات من الماء.
ثبّت نظارته السميكة على أنفه ثم دفع بورقة جديدة في اﻵلة الكاتبة ليدخل أول المراجعين. ينقر المراجع طرف الباب بلطف قبل أن يدخل ويمثل أمام الحاج ويبدأ بسرد قصته. يقبل عليه الحاج حسني بكل جوارحه ودون أن يقاطعه بكلمة واحدة وحالما ينتهي المراجع لا يقول الحاج سوى كلمة واحدة مكرّرة "هيا، هيا".
ثم يشرع في تمرير أصابعه على أزرار اﻵلة الكاتبة التي ألصق الحاج عليها لصاقات صغيرة تدل على الحروف بعد أن انمحت حروفها اﻷصلية لكثرة الاستعمال. وبعد أن ينتهي من تدبيج ورقة الاستدعاء والتي يغلب أن تكون نصف كلماتها من اللغة العثمانية، يهبّ واقفاً على قدميه ويشرع في قراءتها بصوت عال. يستمع إليه المراجع بكل اهتمام ومهما غمضت عليه كلماتها فإنه لم يكن ليشك لحظة في أن هذه الورقة دواء علّته وهي قدمه التي سيدخل بها دار الحكومة. وفي كل مرة، يخرج المراجع من مكتب الحاج حسني مغتبطاً ولسانه يلهج بالدعاء له.
حين يحضر حفيداه إلى المكتب، يفطن الحاج إلى أن الساعة قد بلغت الثانية عشرة. يناولهم بعض اﻷشياء من زاوية المكتب وبدون أن يلتفت إلى طابور مراجعيه يعلن "انتهى دوامنا"، ثم يهمّ بإغلاق المكتب والذهاب إلى البيت. وحين يستوقفه أحدهم ويسأله سؤالاً ما يزجره: "حبيبي ... تعال بعد الظهر، نحن أيضاً لدينا مشاغلنا ولكن إياكم وإفساد الدور".
في الحقيقة، إن مشاغل الحاج حسني كانت كثيرة، ومن تلك المشاغل أن نصف دكاكين السوق كانت ملكاً له، ومع مطلع كل شهر تصله تباعاً ظروف بيضاء مختومة تتضمن مبلغ اﻹيجار ومدوّن عليها اسم المستأجر وقيمة المبلغ. وإذا حدث وماطل أحدهم في إرسال المبلغ قبل انتهاء فترة الدوام الصباحي في اليوم اﻷول، يرسل الحاج حفيده فإن فشل في تحصيل المبلغ يرسل ولده في اليوم الثاني فإن عاد فارغ اليدين يمضي الحاج في اليوم الثالث بنفسه إلى المستأجر وبدون حتى أن يذكر اﻷجرة يصرخ في وجهه: "يا حبيبي، مهلتك ثلاثة أيام وقد انتهت، وأنا قد أجرت دكاني إلى فلان". وعندها لم يكن دعاء المستأجر وتوسلاته سوى عبث ولا شيء يمنع الحاج من تنفيذ تهديده بالفعل.
لم تكن هذه كبرى مشاغل الحاج، اﻷهم أنه كان قد أعدّ لكل فرد من أفراد عائلته ملفاً خاصاً دوّن عليه اسمه وتاريخ ميلاده، وقد وضع تلك الملفات على الرف المصنوع من خشب الجوز في غرفته الخاصة لا يطّلع عليها أحد سواه، وقد دوّن في تلك الملفات كل ما يتعلّق بصاحب الملف: شهادة الولادة، الشهادات المدرسية، التراخيص الحكومية، تقارير المشافي، التقديرات والامتيازات المدرسية ودفتر العائلة للمتزوجين منهم، إضافة طبعاً إلى "بيان النظام" الذي كان الحاج حسني يملأه شخصياً.
فإذا تأخّر أحد أفراد العائلة في الاستيقاظ صباحاً، أو تثاقل أحد الصغار عن الوقوف عند دخول شخص أكبر منه سناً، أو غاب عن دوامه في المدرسة، أو عصت الكنّة أمراً لحماتها؛ يدخل الحاج إلى غرفته ويدوّن العقوبة المناسبة في ملف الشخص المخالف: المتأخّر في النوم لا إفطار له، والغائب يوماً عن دوام المدرسة محروم من مصروفه أسبوعاً كاملاً، والغياب عن العمل يكلف الغائب اقتطاع راتب نصف شهر، أما الكنّة التي تعصي حماتها أو زوجها فمحرومة من زيارة بيت أهلها لمدة شهر.
العقوبات في دار الحاج حسني خفيفة فقط ﻷن اﻷخطاء والمخالفات خفيفة، ولم يحدث قط أن ارتكب أحدهم خطأ كبيراً باستثناء مرة واحدة قام بها الابن البكر حين كان ما يزال عازباً إذ انساق مع أهوائه ومع رفاق السوء وعاد ذات ليلة إلى البيت وهو مخمور. بالطبع طرده الحاج حسني من البيت تلك الليلة ودوّن في ملفه "يُحرم عزّت من دخول هذا البيت شهراً كاملاً ولا يدخله حتى ولو متّ خلال هذا الشهر".
وﻷن عزّت كان شاباً طائشاً حينها فقد أرسل إلى والده بعد أيام صورته وقد صوّب فوهة مسدس إلى صدغه مهدداً بالانتحار إذا لم يعف عنه الحاج، فكان جواب اﻷب أن أضاف إلى ملف عزّت الجملة التالية "يُحرم عزّت من دخول هذا البيت أحد عشر شهراً أخرى". وحتى بعد أن انقضت المدة وعاد عزّت إلى البيت لم يخطر ﻷحد أن يسأل: لماذا أحد عشر شهراً؟
لم يدخل الحاج في حياته ولو بالخطأ نادياً للقمار ولا شرب منكراً، والمرة الوحيدة التي شم فيها رائحته كانت تلك التي عاد فيها عزت مخموراً إلى البيت مع الفتاة التي ادّعى أنه تزوجها. لم يفوّت الحاج فرض صلاة ولا أفطر يوماً في رمضان، والمرة الوحيدة التي عوقب فيها بصفعة كانت في الجيش حين ناوب ثلاث ساعات بدل ساعتين، وخمس وثلاثون سنة من خدمته ككاتب عدل كانت تلخصها كلمة واحدة: النظام.
ومع أنه كان مجرد كاتب إلا أنه كان قد حفظ جميع نصوص القانون، وإذا حدث وشعر أحد القضاة أو القانونيين الشباب بالحرج في مسألة ما سرعان ما يسعفه الحاج حسني بالنص القانوني المناسب. حتى في تلك اﻷيام التي كان يشعر فيها بالتعب وبالكاد يتماسك على قدميه لم يحدث أن طلب إذناً أو إجازة ولا حتى اﻹجازة السنوية. وحتى في فترة ما بعد الظهيرة حين كانت المحكمة تفرغ تماماً، كان الحاج حسني يجلس خلف اﻵلة الكاتبة ويجد لنفسه أي عمل يشغل نفسه به. كان يردد دائماً "البطالة طعمها لذيذ وإذا ذاقها المرء مرة واحدة فإنه لن يصبر على فراقها بعد ذلك".
كان قد أوصى جميع أفراد عائلته مراراً وتكراراً: "حتى لو مات أبي لا أريد أن أرى أحداً منكم في مكتبي في المحكمة". ورغم ذلك فقد دخل عليه ذات يوم ابنه اﻷصغر وقال وهو ما يزال يلهث: "أسرع يا أبي، لقد مات جدي". ساد الوجوم في المكتب وخُيّل إلى الجميع أن الحاج حسني لم ينهض عند سماعه هذا الخبر المفاجئ ﻷنه أصيب بالشلل. لكن فجأة رفع الحاج حسني عينيه الجافتين وقال مخاطباً ابنه: هيا يا بني، سألحق بك بعد انقضاء الدوام. ورغم أن جميع زملائه في العمل كانوا يقطعون دوامهم ويذهبون إلى زيارة قبر والده إلا الحاج حسني نفسه، الذي كان يبقى على رأس عمله في المحكمة ساعة وستاً وعشرين دقيقة إضافية، وكان لا يرى في غياب زملائه سوى حججاً واهية للتهرّب من العمل.
ولو سُئل أهل المنطقة من أكثر المتضررين من طبائع الحاج حسني، لقالوا: لا المراجعين ولا المستأجرين ولا حتى زوجته التي تعاشره منذ خمس وأربعين سنة وتنام وتصحو معه، بل ابنتاه المسكينتان اللتان لم تتزوجا حتى اليوم بسبب والدهما واللتان تحترقان يومياً ليس بنيرانه فقط ولكن كذلك بنيران زوجات إخوتهم في كل ليلة.
لكن الحاج حسني كان يعتبر ابنته الكبرى زليخة، مفخرته الحقيقية وكان ملفها اﻷبيض هو المكافأة الحقيقية التي يرى اﻷب أنه نالها خلال سنوات عمره الطويلة. ومنذ أن بلغت الثامنة عشرة وحتى الخامسة والعشرين، تقدّم لخطبة زليخة الكثير من الشباب الذين كان يحدوهم اﻷمل رغم معرفتهم بطباع اﻷب وأنه قد يطردهم شرّ طردة. وها هي اﻵن ومنذ سنوات لم ترفع ملقط شعر إلى وجهها حتى لقد ظهر طيف شارب خفيف كشوارب المراهقين على شفتها العليا. تخلّت زليخة عن إعداد "جهاز عرسها" وكانت تقضي الوقت المتبقي عن أعمال المنزل في قراءة القرآن والصلاة. وكان الحاج حسني كلما رآها منكبة على القرآن يبتسم بسرور بالغ ويشعر إن شبراً واحداً يفصله عن رب العالمين.
الصغرى سميّة لم تكن تشبه زليخة في شيء، لا بشعرها الذي كانت تقضي صباحها في دهنه وتمشيطه وإرساله بعناية على كتفيها وظهرها، ولا بحاجبيها اللذين لم يكونا بحاجة لملقط ومع ذلك كانت لا تنفك تعتني بهما، ولا بنهديها اللذين لم يكونا قد تهدلا بعد مثل نهدي أختها، ولا باستقامة ظهرها الذي كانت تحصره في ثياب ضيقة حين يكون اﻷب في عمله وتراها تهرع من هذه الغرفة إلى تلك لتقف أخيراً على نافذة غرفة الطابق الثاني المطلة على السوق، وبالمحصلة فإنها لم تكن تشبه أختها ولم تكن تريد أن يكون لها حظ كحظها.
ورغم أن أمهات العرسان كن يتخاطفن هذا النوع من البنات إلا أن تجاربهن مع خطبة زليخة كانت تمنعهنّ من التقدّم. ثلاث عائلات فقط تقدّمت لخطبة سميّة بسبب إلحاح أولادهم عليهم لكن الحاج حسني رد الجميع خائبين وهو يقول: "حبيبي، كيف أزوج الصغيرة والكبيرة ما تزال عزباء، في أي قانون رأيتم هذا؟ إن كنتم تعلمونه وأجهله فخبروني رجاء حبيبي". وبالطبع فإن خطاب البنت الكبرى لم يكونوا أحسن حظاً.
بلغت الساعة الخامسة مساء، وفرغ الحاج حسني من عمله على اﻵلة الكاتبة. غطاها قبل أن ينتزع ورقة اليوم من التقويم المعلق، كانت تشير إلى الثاني عشر من شهر آب 1989. أغلق باب المكتب ولجأ إلى ظلّ شجرة الدلب مع بعض جيرانه كما هي العادة، أما في الشتاء فكان اجتماعهم في دكان عبدو الحلاق. كان من عادة الحاج حسني أن يقرأ عليهم ما هو مكتوب في ورقة التقويم وكان يبدأ أولا باﻵية ثم بالحديث ثم باﻷمثال ثم مواعيد الأذان لكل مدينة ثم طبق اليوم ثم أسماء المواليد الجدد، ولم يكن أحد ينبس ببنت شفة حتى ينتهي الحاج من القراءة، وهذه واحدة من العادات التي واظب عليها الحاج يومياً طوال العام.
في ذلك اليوم، كان كل شيء يسير وفق نظام ساعتيه لا تأخير ولا تقديم، وكان الحاج على وشك أن يقرأ الحديث الشريف من ورقة التقويم حين أقبل أحد أحفاده وهو يركض لاهثاً وألصق فمه بأذن جده وهمس بصوت مبحوح:
"الحقنا يا جدي، عمتي فرّت من البيت وجدتي تقول إنها لحقت بأحدهم" وﻷن الصبي كان يلهث فقد بلغت كلماته أسماع جميع من كان حاضراً فأحنى الجميع رؤوسهم في الحال خجلاً من هول ما سمعوا.
أظلمت الدنيا في عيني الحاج حسني. وفي طريقه إلى البيت، قتل سمية بيديه ألف مرة ودوّن خبر فعلتها وموتها في ملفها، ثم أخرجها من قبرها وأعاد قتلها بطريقة أخرى. وكلما شعر أن شيئا من جسدها ما يزال يتحرك تحت قميصها الضيق كان يعيد قتلها مرة أخرى. ولشدة اضطرابه في الطريق، لم ينظر في وجه أحد حتى بلغ باب بيته بل حتى إنه لم ينظر في وجه ابنته التي فتحت له الباب، ظنها رجلاً. كان الجميع ينام ويستيقظ في الوقت المحدد، المستأجرون ملتزمون بالدفع في اليوم المعلوم، المراجعون يقفون على الدور أمام مكتبه كما عودهم، وأولاده الذين يقبضون رواتبهم يأتونه بها في الحال، ديك الدار يصيح يومياً في ساعته المعتادة، إذاً ما الذي حدث...؟ ما الذي تغيّر وعاث بهذا النظام فساداً وحرف المياه عن مجاريها
- لماذا فعلت سمية ذلك؟
- سمية في البيت يا حاج، الهاربة هي زليخة.
حدّق الحاج في وجه زوجته التي كانت ما تزال تلطم رأسها وتقتلع شعرها ثم تلفّت حوله فوقعت عيناه على سمية، كانت متكورة بالقرب من اﻷطفال في زاوية الغرفة... نيران زليخة اللاهبة أحرقت كل شيء في أرجاء المنزل. بدأ يهذي: "ماذا، من؟ من كان ذلك؟ سمية، زليخ...لماااااذا... " ثم دخل غرفته وهو مطرق الرأس ولم يخرج منها طيلة ذلك اليوم. وفي اليوم التالي، استيقظت العائلة ليس على صوت سعاله ولكن على صوت أزرار اﻵلة الكاتبة. هاج الحاج حسني فدوّنت اﻵلة الكاتبة أنه اهتاج ثم بكى فدوّنت بكاءه.
ومع حلول المساء، فتح باب غرفته وخرج فوجد الجميع مترقبين بانتظاره. لم يكن أحد منهم قد تحرّك من البيت ولا أدى عملاً، كانوا في الصالون يترقبون خروجه. ومن دون أن يلج غرفة الصالون وقف عند مدخل غرفته وقرأ:
- حتى ولو متّ فإنها ممنوعة من وطء عتبة هذا البيت، حتى ولو أنجبت سبعة أولاد فجميعهم محروم من دخول بيتي.
ومنذ ذلك اليوم، لم يغادر الحاج حسني غرفته. وطيلة ستة أشهر لم يره أحد من أفراد عائلته. كان يخرج ليلاً ويطوف كشبح في أنحاء البيت، يتوضأ ويصلي ويبقى ساهراً لساعات طوال يفكر في أمر ما. كان يفكر فيما دوّنه في ملف زليخة وكيف أن فرارها بهذا الشكل لوث ملفين كان يعتز بهما أشد الاعتزاز. لم يكلم أحداً طيلة اﻷشهر الستة اللاحقة، لم يسأل مع من فرّت، ولا أصاب من الطعام الذي كانت زوجته تضعه بانتظام أمام باب غرفته سوى الماء والخبز. اﻵن فهم أن وقفات سمية على نافذة الغرفة العلوية لم تكن عبثاً، لقد كانت اللعينة تسعى بين أختها وبين "خلو" بائع البصل اﻷخضر.
مرت اﻷشهر الستة بسرعة كما يمر عمر إنسان، وفُتح باب الغرفة أخيراً وخرج منها الحاج حسني يسبقه سعاله الذي أيقظ جميع أهل الدار وكأنهم جسد واحد. في تلك الليلة، رأى الجميع بما فيهم الحاج أحلاماً مختلفة وكثيرة.
في اليوم اﻷول من عودة الحاج إلى حياته الطبيعية كانت أول جملة نطق بها على الإفطار الصباحي هي:
- النظام... هذا البيت يحتاج قبل كل شيء إلى نظام!
* كاتب كردي من مواليد مدينة ديار بكر عام 1977، ويقيم اليوم في إسطنبول
** ترجمة عن الكردية إبراهيم خليل