نقوس المهدي
كاتب
تُنشئ المؤسسة تلاميذها منذ نعومة أظافرهم على قراءة الأدب، إذ تطالبهم بحفظ نصوص المتنبي وإيليا أبو ماضي، وقراءة إبداعات غسان كنفاني وجرجي زيدان، لكنها ما تلبث أن تنكر فائدة الأدب عندما يكبر هؤلاء التلاميذ، ويرغبون في التخصص في الأدب، آنذاك تنصرف المؤسسة عن هذا التلميذ الحالم، الذي لم يدرك بعد أن الأدب تسلية لا تخصص؛ متعة لا “أكل عيش”. لكن بعيدا عن الوظيفة وأكل العيش -وعن أن طلاب الأدب في الغالب لا يملكون سوى أن يصبحوا مدرسين، يدرسون من سيصبحون مدرسين- أ لا يملك الأدب جدوى؟ أ لا يمكنه إحداث تغيير في العالم؟ أ لا يستطيع أن ينطق بلسان من لا لسان له؟ وفي ارتباط بالعنوان: أ لا يستطيع الأدب أن يمحوا الفروقات الجندرية التي نعيشها في المجتمع العربي الذكورية كل يوم، أو على الأقل أن يكشفها؟
إن الجندر لا يحيل على الاختلاف البيولوجي بين الذكر والأنثى، بل على الأحكام والأدوار التي خلقتها الثقافة لكل واحد منهما، لننتقل من ثمة، من ثنائية الذكر والأنثى الطبيعية، إلى ثنائية الذكورة والأنوثة الثقافية، ولعل من قرأ فوكو، يدرك هذه السلطة التي تمارسها علينا الثقافة، لندخل بذلك، في ثنائياتي المركز والهامش، والمعرفة والسلطة.
عندما نعود إلى سؤال جدوى الأدب في الكشف عن الفروق الجندرية، نلاحظ للوهلة الأولى، بأن الأدب لا يستطيع أن يفعل شيئا، لأنه بدوره واحد من منتجات الثقافة، بل واحد من وسائلها لإبقاء هذه الاختلافات قائمة، أي واحدا من الوسائل التي تتيحها الثقافة للمتمردين عليها للنطق من خلالها، وهو ما يتأكد انطلاقا مما أشار إليه الغذامي، في كتابه النقد الثقافي؛ قراءة في الأنساق الثقافية العربية، حيث قال: “المؤسسة الاجتماعية هنا لا تروض رعاياها عبر فرض القيود عليهم، فحسب، بل إنها تقرر لهم سلفا الوسائل التي بها يقامون تلك القيود.. ما جرى اعتباره ثورة ضد السلطة لم يكن في حقيقته سوى واحدة من وسائل السلطة لترسيخ وجودها، وبه تتوسع السلطة وتتقوى. ولقد حدث أن المؤسسة الثقافية الذكورية ازدادت قوة واتساعا مع نشوء المقاومة النسوية لها لأن الأخيرة تستمد وسائلها من خطاب الهيمنة ذاته.. نجاح الثورة يعني سقوطها كخطاب معارض”.[1]
هل يعني هذا أننا وصلنا منذ البداية إلى طريق مسدود، طريق تتيح فيه الثقافة للأقليات هامشا من الحرية للتعبير عن رفضهم، لكي يصمتوا ويظنوا أنفسهم أحرارا، ومن ثمة يتوقفون عن المطالبة بأكثر من ذلك؟ هل يعني هذا أن البقاء في الهامش بلا صوت ولا جمهور هو الحل؟
إن الأدب لم يكن أبدا بريئا من الحمولات الإيديولوجية للثقافة، وأغراضها التدجينية للأفراد، ذاك أن الثقافة هي من يحدد ما هو أدب وما ليس بأدب، كما أن ما تدرجه في نطاق “الأدب” لا بد وأن يحقق لها فائدة معينة، ويكفي أن نتذكر أن رواية روبنسون كروزو لديفو، كانت واحدة من الكتابات التي مهدت للاستعمار، إذ صورت الآخر كبدائي، يحتاج لتدخل الذات الأوربية لتخليصه من وحشيته، وتعريفه على “الثقافة”، وأن رواية الغريب، قد صورت العربي بدون صوت أو هوية، بل حتى قتله خلا من أي دواعي درامية، وكان من التفاهة بحيث كانت “الشمس”[2] سببا في مصيره العبثي.
أما في مجال الفروقات الجندرية، فقد عمقت روايات عديدة الاختلاف الجندري، ومثال ذلك: رواية الضوء الهارب لبرادة، التي جعلت السارد المذكر، يتحدث بأسلوب مباشر، في حين جعلت صوت المرأة لا يصلنا سوى بخطابات غير مباشرة (رسائل، يوميات..)، لا تصلنا إلا من خلال نظرة السارد المذكر، الذي لا يكتفي بتقديمها، بل ويعلق عليها كذلك، مما يجعل الرواية، عبارة عن” رواية امرأة/نساء يمارسن العراء ليبحن ويعترفن فتأتي الرواية من خلالهن لتحاور المسكوت في مجتمعنا وهو الجنس. ثنائية المرأة/الرجل، ثنائية تحكم الكون الإبداعي ولكنها سرعان ما تنهار لتكشف عن مفارقة تجعل العالم الروائي عالما ذكوريا. فرغم أن النص يحدثنا عن نساء متعددات، غيلانه كنزة فاطمة، ونساء أخريات يتفاوت حضورهن النصي وإن كن يحضرن كوحدات فاعلة، يصبح الرجل محور السرد، ومركزه فلا تقتحم المرأة العالم الروائي إلا من خلال السارد المتباين حكائيا” [3]. أما إذا حاولت المرأة أن تحكي بضمير المذكر في روايتها، لتكشف عن الصورة الاختزالية التي يصورها بها الرجل، فسرعان ما تتهم بـ”الفحولة المسترجلة”.[4]
إن الأدب خطاب محايد في ذاته، ولكن مستعمليه، هم من يستطيعون تحويله إلى أداة تظليمية أو تنويرية. وقد كانت فرجينيا وولف، واحدة من المتنويرين الذين وظفوا الخطاب الأدبي، لفضح الخطاب الجندري الذي تمارسه الثقافة، خاصة في كتابها A room of one’s own، حيث بينت الكاتبة أن الثقافة بفروقاتها وخطاباتها، قد نفتها إلى عزلتها/ غرفتها، لتمارس إبداعها بعيدا عن عيون الآخر، الذي منعها حتى من دخول المكتبة، حيث كان دخول المكتبة في زمنها حقا للرجال وحدهم، إلا أنها ما لبثت أن عبرت عما يشبه مقولة الغذامي السابقة، إذ قالت:
“While it is unpleasant to be locked out … it is worse, perhaps, to be locked in.” (Virginia Woolf, A Room of One’s Own). [5]
النفي من المؤسسة ليس أمرا سلبيا في رأي وولف، بل السلبي يبرز عندما تضمك المؤسسة إلى هوامشها وتفرض عليك الائتمار بأوامرها، كاعتراف منك بفضلها عليك لأنها قبلتك داخل أسوارها، ماذا يجدي الأدب إذن، والثقافة صانعته؟ كيف تعبر المبدعة عن لواعجها دون أن تخضع للمؤسسة وهي تعبر بواحدة من الوسائل والخطابات التي خلقتها المؤسسة للتحكم في خطاباتها؟ كيف الخروج من هذه الدوامة، حيث تختلط المعارضة بالخضوع، والثورة بالمهادنة والنفي بالانتصار؟
إن الأدب في الحقيقة، لم يدعي في أي لحظة من لحظاته أنه يستطيع تقديم جوابا لهذه الأسئلة، ذاك أن الأدب ليس خيط أرينا، بقدر ما هو المتاهة نفسها (طبعا، في هذا التشبيه، ستكون الثقافة هي وحش المونيطور الواقف بالمرصاد لكل من يدخل المتاهة)؛ إن الأدب عبارة عن سؤال معلق أبدا، متموقع أبدا في المابين، بين الأقليات (الحركات النسوية، السود..) التي تحاول التعبير بواسطة الأدب عن رفضها للسلطة، والثقافة التي تحاول أن تُطوّع هذه الأقليات وتغريها بالاكتفاء بما حققته من مكاسب، من منطلق أنه: “أ لا يكفي المرأة أنها استطاعت ليس فقط الدخول إلى المكتبة، بل إلى الجامعة كذلك؟!”
هل يعني تموقع الأدب في منطقة المابين، ضرورة إيجاد الحركات النسوية لخطاب آخر، يوجد خارج حدود المؤسسة والثقافة، للدفاع عن حقوقها، أم أن ما يسري على الأدب يسري على غيره من الخطابات؟ أخشى أن الجواب عن هذا السؤال ينحصر في الاحتمال الثاني، ذاك أنه بما أن الإنسان مخلوق ثقافي، فلا فرار له من الثقافة وخطاباتها، ليتضح من ثمة، أن الأدب عاجز عن التنصل من سلطة الثقافة، ولكنه لا يختلف في ذلك عن الإنسان، الذي لا يمكنه أن يتنصل من تنشئته الاجتماعية، وما بثته فيه من قيم وتمييزات ثقافية، لذلك كان من الضروري أن يدخل الاثنان، أي الأدب والإنسان، في لعبة الثقافة، وأن يساوماها انطلاقا من خطاباتها التي تحددهما معا، علّهما يستطيعان الاستمرار، فيها وبها، أو على الأقل على هامشها.
وخلاصة القول، إن التمييزات الجندرية ستظل قائمة ومستمرة، ولن يستطيع الأدب أو غيره من الخطابات الإبداعية والفكرية، انتزاع الذكورة من عرشها، ذاك أننا نناقش الجندرية بلغة خلقها رجل (الغلبة دائما للمذكر المخاطب، حتى لو كنا أمام ألف امرأة ورجل سنخاطبـ”هم” بأنتم)، ونعي ذواتنا انطلاقا من تاريخ دوّنه رجل (وإلا أين النساء الشاعرات والمبدعات في الأدب العربي، فحتى رسالة الغفران التي ضمت المغمورين والمعروفين من الشعراء، لم تذكر سوى شاعرة واحدة، وضعتها على هامش الجنة مشغولة بالنظر إلى حال أخيها في جهنم، لتكون الخنثاء من ثمة بمثابة أبيات حسن التخلص، أي وسيلة المعري للانتقال من الحديث عن الجنة إلى الحديث عن النار دون أن يشعر متلقيه بهذا الانتقال الفضائي) ، بل ونؤمن بدين جنته مهيأة للرجل وحده (الحور العين مثلا).
ليس للأدب إذن، أن يصنع شيئا ذا بال يفيد المرأة ويخلص من تبعات الفروقات الجندرية، ولكن يكفيه أنه يحاول، أن يجعلها تعي بمعضلتها الوجودية، المتمثلة في الظلم المضاعف الذي يمارس عليها؛ ظلم الثقافة لأفرادها جميعا، وظلم الرجل للمرأة، وربما كان الوعي بهذه المعضلة دليلا يقودها، خارج المتاهة، ويحررها من خوفها من وحش الثقافة.
بيبليوغرافيا:
باللغة العربية:
بنكراد، سعيد. الشرعية وسلطة المتخيل، اللاذقية، دار الحوار، 2016.
الطاهري، بديعة. “صورة المرأة في رواية “الضوء الهارب” لمحمد برادة”، مجلة فكر ونقد 34، دجنبر 2000
الغذامي، عبد الله. النقد الثقافي؛ قراءة في الأنساق الثقافية العربية، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2005
باللغة الإنجليزية:
Dana Olwan, “Women without Men: Knowing Woman: Gender & The Gendering of Knowledge” (paper presented in the weekly lectures in SOSH faculty, Doha institute, Doha, 17 November 2016
[1] عبد الله الغذامي، النقد الثقافي؛ قراءة في الأنساق الثقافية العربية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2005)، ص46
[2] عندما سأل القاضي بطل رواية الغريب لكامو، عن سبب قتل العربي، اكتفى بالرد: “A cause du soleil monsieur”، أي بسبب الشمس يا سيدي. أنظر:
Albert Camus, L’étranger (Paris: Gallimard, 2000)
[3] بديعة الطاهري، “صورة المرأة في رواية “الضوء الهارب” لمحمد برادة”، مجلة فكر ونقد 34، (دجنبر 2000)، 31.
[4] أنظر مقال: سعيد بنكراد، “السرد النسائي أو الفحولة المسترجلة”، ضمن: الشرعية وسلطة المتخيل (اللاذقية: دار الحوار، 2016)، ص:33-53.
[5] Virginia Woolf, A Room of One’s Own , quoted by: Dana Olwan, “Women without Men: Knowing Woman: Gender & The Gendering of Knowledge” (paper presented in the weekly lectures in SOSH faculty, Doha institute, Doha, 17 November 2016)
* عن حكمة
إن الجندر لا يحيل على الاختلاف البيولوجي بين الذكر والأنثى، بل على الأحكام والأدوار التي خلقتها الثقافة لكل واحد منهما، لننتقل من ثمة، من ثنائية الذكر والأنثى الطبيعية، إلى ثنائية الذكورة والأنوثة الثقافية، ولعل من قرأ فوكو، يدرك هذه السلطة التي تمارسها علينا الثقافة، لندخل بذلك، في ثنائياتي المركز والهامش، والمعرفة والسلطة.
عندما نعود إلى سؤال جدوى الأدب في الكشف عن الفروق الجندرية، نلاحظ للوهلة الأولى، بأن الأدب لا يستطيع أن يفعل شيئا، لأنه بدوره واحد من منتجات الثقافة، بل واحد من وسائلها لإبقاء هذه الاختلافات قائمة، أي واحدا من الوسائل التي تتيحها الثقافة للمتمردين عليها للنطق من خلالها، وهو ما يتأكد انطلاقا مما أشار إليه الغذامي، في كتابه النقد الثقافي؛ قراءة في الأنساق الثقافية العربية، حيث قال: “المؤسسة الاجتماعية هنا لا تروض رعاياها عبر فرض القيود عليهم، فحسب، بل إنها تقرر لهم سلفا الوسائل التي بها يقامون تلك القيود.. ما جرى اعتباره ثورة ضد السلطة لم يكن في حقيقته سوى واحدة من وسائل السلطة لترسيخ وجودها، وبه تتوسع السلطة وتتقوى. ولقد حدث أن المؤسسة الثقافية الذكورية ازدادت قوة واتساعا مع نشوء المقاومة النسوية لها لأن الأخيرة تستمد وسائلها من خطاب الهيمنة ذاته.. نجاح الثورة يعني سقوطها كخطاب معارض”.[1]
هل يعني هذا أننا وصلنا منذ البداية إلى طريق مسدود، طريق تتيح فيه الثقافة للأقليات هامشا من الحرية للتعبير عن رفضهم، لكي يصمتوا ويظنوا أنفسهم أحرارا، ومن ثمة يتوقفون عن المطالبة بأكثر من ذلك؟ هل يعني هذا أن البقاء في الهامش بلا صوت ولا جمهور هو الحل؟
إن الأدب لم يكن أبدا بريئا من الحمولات الإيديولوجية للثقافة، وأغراضها التدجينية للأفراد، ذاك أن الثقافة هي من يحدد ما هو أدب وما ليس بأدب، كما أن ما تدرجه في نطاق “الأدب” لا بد وأن يحقق لها فائدة معينة، ويكفي أن نتذكر أن رواية روبنسون كروزو لديفو، كانت واحدة من الكتابات التي مهدت للاستعمار، إذ صورت الآخر كبدائي، يحتاج لتدخل الذات الأوربية لتخليصه من وحشيته، وتعريفه على “الثقافة”، وأن رواية الغريب، قد صورت العربي بدون صوت أو هوية، بل حتى قتله خلا من أي دواعي درامية، وكان من التفاهة بحيث كانت “الشمس”[2] سببا في مصيره العبثي.
أما في مجال الفروقات الجندرية، فقد عمقت روايات عديدة الاختلاف الجندري، ومثال ذلك: رواية الضوء الهارب لبرادة، التي جعلت السارد المذكر، يتحدث بأسلوب مباشر، في حين جعلت صوت المرأة لا يصلنا سوى بخطابات غير مباشرة (رسائل، يوميات..)، لا تصلنا إلا من خلال نظرة السارد المذكر، الذي لا يكتفي بتقديمها، بل ويعلق عليها كذلك، مما يجعل الرواية، عبارة عن” رواية امرأة/نساء يمارسن العراء ليبحن ويعترفن فتأتي الرواية من خلالهن لتحاور المسكوت في مجتمعنا وهو الجنس. ثنائية المرأة/الرجل، ثنائية تحكم الكون الإبداعي ولكنها سرعان ما تنهار لتكشف عن مفارقة تجعل العالم الروائي عالما ذكوريا. فرغم أن النص يحدثنا عن نساء متعددات، غيلانه كنزة فاطمة، ونساء أخريات يتفاوت حضورهن النصي وإن كن يحضرن كوحدات فاعلة، يصبح الرجل محور السرد، ومركزه فلا تقتحم المرأة العالم الروائي إلا من خلال السارد المتباين حكائيا” [3]. أما إذا حاولت المرأة أن تحكي بضمير المذكر في روايتها، لتكشف عن الصورة الاختزالية التي يصورها بها الرجل، فسرعان ما تتهم بـ”الفحولة المسترجلة”.[4]
إن الأدب خطاب محايد في ذاته، ولكن مستعمليه، هم من يستطيعون تحويله إلى أداة تظليمية أو تنويرية. وقد كانت فرجينيا وولف، واحدة من المتنويرين الذين وظفوا الخطاب الأدبي، لفضح الخطاب الجندري الذي تمارسه الثقافة، خاصة في كتابها A room of one’s own، حيث بينت الكاتبة أن الثقافة بفروقاتها وخطاباتها، قد نفتها إلى عزلتها/ غرفتها، لتمارس إبداعها بعيدا عن عيون الآخر، الذي منعها حتى من دخول المكتبة، حيث كان دخول المكتبة في زمنها حقا للرجال وحدهم، إلا أنها ما لبثت أن عبرت عما يشبه مقولة الغذامي السابقة، إذ قالت:
“While it is unpleasant to be locked out … it is worse, perhaps, to be locked in.” (Virginia Woolf, A Room of One’s Own). [5]
النفي من المؤسسة ليس أمرا سلبيا في رأي وولف، بل السلبي يبرز عندما تضمك المؤسسة إلى هوامشها وتفرض عليك الائتمار بأوامرها، كاعتراف منك بفضلها عليك لأنها قبلتك داخل أسوارها، ماذا يجدي الأدب إذن، والثقافة صانعته؟ كيف تعبر المبدعة عن لواعجها دون أن تخضع للمؤسسة وهي تعبر بواحدة من الوسائل والخطابات التي خلقتها المؤسسة للتحكم في خطاباتها؟ كيف الخروج من هذه الدوامة، حيث تختلط المعارضة بالخضوع، والثورة بالمهادنة والنفي بالانتصار؟
إن الأدب في الحقيقة، لم يدعي في أي لحظة من لحظاته أنه يستطيع تقديم جوابا لهذه الأسئلة، ذاك أن الأدب ليس خيط أرينا، بقدر ما هو المتاهة نفسها (طبعا، في هذا التشبيه، ستكون الثقافة هي وحش المونيطور الواقف بالمرصاد لكل من يدخل المتاهة)؛ إن الأدب عبارة عن سؤال معلق أبدا، متموقع أبدا في المابين، بين الأقليات (الحركات النسوية، السود..) التي تحاول التعبير بواسطة الأدب عن رفضها للسلطة، والثقافة التي تحاول أن تُطوّع هذه الأقليات وتغريها بالاكتفاء بما حققته من مكاسب، من منطلق أنه: “أ لا يكفي المرأة أنها استطاعت ليس فقط الدخول إلى المكتبة، بل إلى الجامعة كذلك؟!”
هل يعني تموقع الأدب في منطقة المابين، ضرورة إيجاد الحركات النسوية لخطاب آخر، يوجد خارج حدود المؤسسة والثقافة، للدفاع عن حقوقها، أم أن ما يسري على الأدب يسري على غيره من الخطابات؟ أخشى أن الجواب عن هذا السؤال ينحصر في الاحتمال الثاني، ذاك أنه بما أن الإنسان مخلوق ثقافي، فلا فرار له من الثقافة وخطاباتها، ليتضح من ثمة، أن الأدب عاجز عن التنصل من سلطة الثقافة، ولكنه لا يختلف في ذلك عن الإنسان، الذي لا يمكنه أن يتنصل من تنشئته الاجتماعية، وما بثته فيه من قيم وتمييزات ثقافية، لذلك كان من الضروري أن يدخل الاثنان، أي الأدب والإنسان، في لعبة الثقافة، وأن يساوماها انطلاقا من خطاباتها التي تحددهما معا، علّهما يستطيعان الاستمرار، فيها وبها، أو على الأقل على هامشها.
وخلاصة القول، إن التمييزات الجندرية ستظل قائمة ومستمرة، ولن يستطيع الأدب أو غيره من الخطابات الإبداعية والفكرية، انتزاع الذكورة من عرشها، ذاك أننا نناقش الجندرية بلغة خلقها رجل (الغلبة دائما للمذكر المخاطب، حتى لو كنا أمام ألف امرأة ورجل سنخاطبـ”هم” بأنتم)، ونعي ذواتنا انطلاقا من تاريخ دوّنه رجل (وإلا أين النساء الشاعرات والمبدعات في الأدب العربي، فحتى رسالة الغفران التي ضمت المغمورين والمعروفين من الشعراء، لم تذكر سوى شاعرة واحدة، وضعتها على هامش الجنة مشغولة بالنظر إلى حال أخيها في جهنم، لتكون الخنثاء من ثمة بمثابة أبيات حسن التخلص، أي وسيلة المعري للانتقال من الحديث عن الجنة إلى الحديث عن النار دون أن يشعر متلقيه بهذا الانتقال الفضائي) ، بل ونؤمن بدين جنته مهيأة للرجل وحده (الحور العين مثلا).
ليس للأدب إذن، أن يصنع شيئا ذا بال يفيد المرأة ويخلص من تبعات الفروقات الجندرية، ولكن يكفيه أنه يحاول، أن يجعلها تعي بمعضلتها الوجودية، المتمثلة في الظلم المضاعف الذي يمارس عليها؛ ظلم الثقافة لأفرادها جميعا، وظلم الرجل للمرأة، وربما كان الوعي بهذه المعضلة دليلا يقودها، خارج المتاهة، ويحررها من خوفها من وحش الثقافة.
بيبليوغرافيا:
باللغة العربية:
بنكراد، سعيد. الشرعية وسلطة المتخيل، اللاذقية، دار الحوار، 2016.
الطاهري، بديعة. “صورة المرأة في رواية “الضوء الهارب” لمحمد برادة”، مجلة فكر ونقد 34، دجنبر 2000
الغذامي، عبد الله. النقد الثقافي؛ قراءة في الأنساق الثقافية العربية، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2005
باللغة الإنجليزية:
Dana Olwan, “Women without Men: Knowing Woman: Gender & The Gendering of Knowledge” (paper presented in the weekly lectures in SOSH faculty, Doha institute, Doha, 17 November 2016
[1] عبد الله الغذامي، النقد الثقافي؛ قراءة في الأنساق الثقافية العربية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2005)، ص46
[2] عندما سأل القاضي بطل رواية الغريب لكامو، عن سبب قتل العربي، اكتفى بالرد: “A cause du soleil monsieur”، أي بسبب الشمس يا سيدي. أنظر:
Albert Camus, L’étranger (Paris: Gallimard, 2000)
[3] بديعة الطاهري، “صورة المرأة في رواية “الضوء الهارب” لمحمد برادة”، مجلة فكر ونقد 34، (دجنبر 2000)، 31.
[4] أنظر مقال: سعيد بنكراد، “السرد النسائي أو الفحولة المسترجلة”، ضمن: الشرعية وسلطة المتخيل (اللاذقية: دار الحوار، 2016)، ص:33-53.
[5] Virginia Woolf, A Room of One’s Own , quoted by: Dana Olwan, “Women without Men: Knowing Woman: Gender & The Gendering of Knowledge” (paper presented in the weekly lectures in SOSH faculty, Doha institute, Doha, 17 November 2016)
* عن حكمة