د
د.محمد عبدالحليم غنيم
المغامرة الفنية فى غناء النجوم
قراءة فى "غناء النجوم" لأحمد إبراهيم الفقيه
د.محمد عبدالحليم غنيم
يقول أحمد إبراهيم الفقيه في مقدمة كتابه "غناء النجوم" "هذه المسرحيات الصغيرة تتيح للكاتب فرصة كبرى للمغامرة الفنية لأنها غالبا ما تقدم لجمهور من المتخصصين والمهتمين بمتابعة إنجازات المسرح الطليعي والمسرح الحديث ، لذلك فهى من الأعمال القريبة إلى قلبي " . ص 8
وقد سبق للفقيه أن كتب مسرحيات طويلة مثل (هند ومنصور والغزالات ـ كاتب لم يكتب شيئا ـ لعبة الرجل والمرأة) هذا إلى جانب أعماله المعروفة فى القصة القصيرة والرواية ، أما هذه المسرحيات الخمس القصيرة التي يتضمنها هذا الكتاب ، فتعد بحق مغامرة فنية تكشف عن إمكانيات مبدع كبير يضارع كتاب هذا النوع من المسرحيات ذات الفصل الواحد مما يذكرنا بـ هارولد بنتر و أوجين يونسكو و جان آنوى وغيرهم ، وسنحاول في قراءتنا أن نجليً هذه الإمكانيات .
ولنبدأ بالمسرحية الأولى وهي عنوان المجموعة "غناء النجوم" فهي أطول مسرحيات الكتاب (25 صفحة) يشي عنوان المسرحية وبداية الأحداث والشخصيتان المتحاورتان بأننا أمام موضوع رومانسي إلا أنه سرعان ما تتلاشى هذه الرومانسية ونكتشف اننا إزاء واقع مؤلم ، وهنا تكمن المفارقة ، فى بداية الحوار نتعرف على رجل وامرأة قضيا ليلة حب فى أرض خالية بعيدة عن البشر ، ولا يزال أثرها باديا عليهما ، فالمرأة تقول للرجل :
هل تصدقني إذا قلت لك بأنني تصورت البارحة ، أنني أسمع غناء النجوم ، وأن غناءها كان جميلا .
الرجل : طبعا أصدقك إن حياة البشر فوق الأرض ما كانت لتستمر لولا هداية النجوم ، التي تباشر رعايتها لنا من المهد إلى اللحد " ص 10 .
ويستمر الحوار على هذا النحو الرومانسي لتبدو المفارقة جلية عندما نعلم أن هذا المكان بل هذا الجو الرومانسي أيضا كان محض الوهم ، فهذا المكان الذي التقى فيه الحبيبان ما هو إلا أرض مزروعة بالألغام من آثار الحرب ، ولذلك يجد المتحاوران نفسهما في ورطة حقيقية
وإذا كانت هذه المسرحية القصيرة والمسرحية عامة أقرب إلى فن القصة القصيرة فى الاعتماد على التكثيف والإيجاز ووحدة الانطباع وقلة الشخصيات ، فإن الفقيه لا يلتزم بذلك فقط ، بل يشعرنا بجلال المسرح التراجيدي القائم فى بنائه على الصراع ، فنجد الصراع فى هذه المسرحية منوعا ومتدرجا ليصل بنا إلى نقطة لا يمكن التراجع عنها ، وتؤدي فى النهاية إلى الكشف عن التغير فى طبيعة الشخصيات أساس هذا الصراع الذي يجعلنا نتلمس فى بساطة رؤية المؤلف أو فحوى الرسالة الفنية للعمل .
هناك صراع الرجل والمرأة مع الطبيعة ثم صراع المرأة مع نفسها حيث تندم لأنها تركت زوجها وخرجت فى صحبة رجل غريب ، ثم صراع المرأة مع الرجل ، ثم صراع الرجل والمرأة مع الإعلام الذي سيفضح كليهما وكل هذه الصراعات تصب فى النهاية فى صراع واحد هو صراع الحلم الجميل مع الواقع القذر الممثل فى الحروب وآثارها . ولعلنا نلمح هنا نبرة موقف سياسي من الحروب التي أشعلها بالتأكيد الاستعمار سابق أو الحضارة الأوروبية حاليا .
والمسرحية الثانية فى هذه المجموعة هى " زائر المساء" تذكرنا بجو مسرحيات هارولد بنتر وتركيزه علي تيمة الزائر ولا غرابة في ذلك فقد تأثر الفقيه بالمسرح الإنجليزي بل إن المسرحية كتبت في الأصل بالإنجليزية وما بين أيدينا ترجمة لها بالعربية , والأشخاص والأجواء كلها أجنبية ولو لم يضع الكاتب اسمه لقلنا إنها لكاتب إنجليزي .
يفتح الستار علي السيدة والخادمة ونفهم أن السيدة تخشى الظلام وتنتظر زائرا الليلة , وبعد قليل تطلب من الخادمة أن تغادر البيت إن الزائر هنا يطرق الباب منذ عام كل ليلة ومع ذلك لا تفتح إليه السيدة إلا إن هذه الليلة التي هي بالصدفة تاريخ ميلاده تعزم علي فتح الباب وتشعر أنه سيطرق الباب الليلة وبالفعل يأتي في الموعد عندما يحل الظلام وتفتح له الباب ويدور الحوار بينهما لنعرف أنه مجرم قاتل وأنه كان مجرد أداة لتنفيذ جرائم هذه السيدة , سيدة المجتمع التي تفتح ملجأ للأيتام , وهي زوجة شخصية اقتصادية كبيرة وقد أصبحت أرملة الآن , وهاهو الزائر يأتي الليلة لكي يذكرها بالوصية التي يجب أن تكتبها له, ثم يخنقها كما يفعل بجميع ضحاياه .
ماذا يريد أن يقول الفقيه في هذه المسرحية المرعبة ؟ إنها إدانة للغرب الحضاري المنزوعة منة الرحمة فالسيدة هنا رمز للغرب الذي يقتات علي آلام الشعوب الفقيرة , تلك الآلام التي يصنعها بنفسه , إنها رسالة سياسية شديدة الذكاء , تنفذ إلي وعينا بلا ضجيج أو صراخ فهل نعي هذه الرسالة ؟
وتأتي المسرحية الثالثة " الصحيفة " لتدين الغرب وموقفه من العرب والشرق الفقير الذي يبيع الأسلحة إلي إسرائيل وجنوب إفريقية العنصرية سابقا , والواقع أن الإدانة لا تأتي بشكل مباشر فالموضوع السياسي هنا لا يبرز إلا من إشارات بسيطة تأتي عرضا في الحوار.
تدور المسرحية بين زوجين إنجليزيين فى أواخر العمر ، يقول الرجل :
" تعرفين ما هو الروتين ؟ عندما يصبح الشيء روتينيا فقد انتهى "
هذه الجملة فى اعتقادي مفتاح فهم دلالة المسرحية ، فهذا الزوج الكفيف داب على قراءة صحيفة واحدة لمدة خمسة عشر عاما ونكتشف فى نهاية الأحداث أنه كان يقرأها بالمقلوب طوال هذه المدة . من المؤكد أنه قرأها مرة واحدة على الأقل ، والمفارقة أن الزوج الكفيف يثور ثورة عارمة ويمزق الصحيفة لأن زوجته وضعتها له بجوار الباب بالمقلوب فكان يقرأها على هذا الوضع المقلوب .
هو : كيف تسمحين لنفسك بارتكاب غلطة فظيعة مثل هذه ؟
هي : كل يوم ولمدة خمسة عشر عاما ، آخذ الصحيفة بعد أن تكمل قراءتها وأضعها هناك علي عتبة الباب لتقرأها فى اليوم التالي ، نفس الصحيفة وبنفس الطريقة ، دونما خطأ واحد كل هذه السنوات ثم تأتي لتسمى هفوة بسيطة مثل هذه غلطة فظيعة " ص 63 .
يأخذ الرجل الكفيف الصحيفة من يد الزوجة ليمزقها ويضعها فى المدفأة ، واضح إذا مغزى المسرحية فهذا الكفيف رمز للمواطن الأوروبي الذي يقرأ الأحداث بطريقة مقلوبة ، ولأن هذا الأوروبي قد كف بصره واقترب من نهاية العمر فلا فائدة ، كتب الفقيه هذه المسرحية مثل سابقتها فى الأصل بالإنجليزية أثناء إقامته في لندن .
ونأتي للمسرحية الرابعة "لن يقتلوا الربيع" التي كتبها المؤلف إثر غارة أمريكية على ليبيا سنة 1986 . فهي حوارية وطنية ، تدين بشكل مباشر أمريكا وغطرستها ، وواضح من العنوان الذي يبدأ بحرف النفي للمستقبل "لن" إنها يمكن أن تدخل تحت أدب المقاومة فهي دليل إدانة بالوثائق لأمريكا خاصة ولحضارة الغرب عامة ، لذلك فهي تعد امتداد للمسرحيات الثلاثة السابقة ، وتبدو لغة المقاومة على لسان الرجل الأول إحدى الشخصيات الحوارية فى قوله :
" وكما أن الطيور لا تهجر سماءها
والجذور لا تهجر أعشاشها
نحن أيضا يا أماه لن نهجر ربيع الحياة فى بلادنا ، سنظل نعيش معه ونحتفل به ونغني على موسيقى الفجر التي لا تعزفها أيامه الخضراء " ص 71 .
أما آخر المسرحيات "هارولد" فهي حوارية قصيرة جدا لا تدين الغرب الحضاري بقدر ما تدين السلطة التي تقهر الإنسان ، فتجعله مسخا لا يستطيع أن يعرف اسمه ، بل ويفقد هويته ، وتقول المسرحية ببساطة أن السلطة الممثلة فى المدير تمسخ الفرد وتفقده هويته وتشكله كما تريد ، ففى أحد مكاتب أحد المديرين يدخل رجل اسمه الحقيقي "آلان" يطلب عملا وقبل أن يتكلم يناديه المدير بـ هارولد ، ويحاول الرجل أن يفهم المدير أن هارولد هذا ليس اسمه ولكن بلا فائدة ، وتكون المفاجأة عندما يخرج الرجل كل ما يثبت هويته من بطاقات سواء شخصية أو تأمينية أو مواصلات عامة وغيرها ويقدمها للمدير ، الذي يعيدها إليه مرة أخرى مؤكدا أن الاسم فيها جميعا هو "هارولد" ، فيقرأ الرجل الاسم "هارولد على كل بطاقة في ذهول يفقده توازنه وتكون آخر كلماته :
أحس بالاختناق لا أستطيع أن أتنفس ، لا أستطيع أن أتنفس " ص 77 .
وأحمد إبراهيم الفقيه يدرك تماما أنه يغامر فنيا ، لذلك نجده واعيا بقواعد المسرحية ، أو الشكل الدرامي ، فتتوفر في جميع المسرحيات بما فيها حوارية "لن يقتلوا الربيع" الأركان الأساسية للشكل الدرامي على حد قول جون جالزورثى : الشخصية والحبكة والحوار والمعنى المستدق "
فنحن أمام شخصيات فاعلة تدخل في صراع حقيقي سواء مع نفسها أو مع الواقع الخارجي بواسطة حوار يقترب أحيانا من لغة الشعر ، يحمل رموزا تساعدنا على الوصول لهذا المعنى المستدق .
أحمد إبراهيم الفقيه ، غناء النجوم ، دار الشروق ، القاهرة 1997 .
د. محمد عبد الحليم غنيم
قراءة فى "غناء النجوم" لأحمد إبراهيم الفقيه
د.محمد عبدالحليم غنيم
يقول أحمد إبراهيم الفقيه في مقدمة كتابه "غناء النجوم" "هذه المسرحيات الصغيرة تتيح للكاتب فرصة كبرى للمغامرة الفنية لأنها غالبا ما تقدم لجمهور من المتخصصين والمهتمين بمتابعة إنجازات المسرح الطليعي والمسرح الحديث ، لذلك فهى من الأعمال القريبة إلى قلبي " . ص 8
وقد سبق للفقيه أن كتب مسرحيات طويلة مثل (هند ومنصور والغزالات ـ كاتب لم يكتب شيئا ـ لعبة الرجل والمرأة) هذا إلى جانب أعماله المعروفة فى القصة القصيرة والرواية ، أما هذه المسرحيات الخمس القصيرة التي يتضمنها هذا الكتاب ، فتعد بحق مغامرة فنية تكشف عن إمكانيات مبدع كبير يضارع كتاب هذا النوع من المسرحيات ذات الفصل الواحد مما يذكرنا بـ هارولد بنتر و أوجين يونسكو و جان آنوى وغيرهم ، وسنحاول في قراءتنا أن نجليً هذه الإمكانيات .
ولنبدأ بالمسرحية الأولى وهي عنوان المجموعة "غناء النجوم" فهي أطول مسرحيات الكتاب (25 صفحة) يشي عنوان المسرحية وبداية الأحداث والشخصيتان المتحاورتان بأننا أمام موضوع رومانسي إلا أنه سرعان ما تتلاشى هذه الرومانسية ونكتشف اننا إزاء واقع مؤلم ، وهنا تكمن المفارقة ، فى بداية الحوار نتعرف على رجل وامرأة قضيا ليلة حب فى أرض خالية بعيدة عن البشر ، ولا يزال أثرها باديا عليهما ، فالمرأة تقول للرجل :
هل تصدقني إذا قلت لك بأنني تصورت البارحة ، أنني أسمع غناء النجوم ، وأن غناءها كان جميلا .
الرجل : طبعا أصدقك إن حياة البشر فوق الأرض ما كانت لتستمر لولا هداية النجوم ، التي تباشر رعايتها لنا من المهد إلى اللحد " ص 10 .
ويستمر الحوار على هذا النحو الرومانسي لتبدو المفارقة جلية عندما نعلم أن هذا المكان بل هذا الجو الرومانسي أيضا كان محض الوهم ، فهذا المكان الذي التقى فيه الحبيبان ما هو إلا أرض مزروعة بالألغام من آثار الحرب ، ولذلك يجد المتحاوران نفسهما في ورطة حقيقية
وإذا كانت هذه المسرحية القصيرة والمسرحية عامة أقرب إلى فن القصة القصيرة فى الاعتماد على التكثيف والإيجاز ووحدة الانطباع وقلة الشخصيات ، فإن الفقيه لا يلتزم بذلك فقط ، بل يشعرنا بجلال المسرح التراجيدي القائم فى بنائه على الصراع ، فنجد الصراع فى هذه المسرحية منوعا ومتدرجا ليصل بنا إلى نقطة لا يمكن التراجع عنها ، وتؤدي فى النهاية إلى الكشف عن التغير فى طبيعة الشخصيات أساس هذا الصراع الذي يجعلنا نتلمس فى بساطة رؤية المؤلف أو فحوى الرسالة الفنية للعمل .
هناك صراع الرجل والمرأة مع الطبيعة ثم صراع المرأة مع نفسها حيث تندم لأنها تركت زوجها وخرجت فى صحبة رجل غريب ، ثم صراع المرأة مع الرجل ، ثم صراع الرجل والمرأة مع الإعلام الذي سيفضح كليهما وكل هذه الصراعات تصب فى النهاية فى صراع واحد هو صراع الحلم الجميل مع الواقع القذر الممثل فى الحروب وآثارها . ولعلنا نلمح هنا نبرة موقف سياسي من الحروب التي أشعلها بالتأكيد الاستعمار سابق أو الحضارة الأوروبية حاليا .
والمسرحية الثانية فى هذه المجموعة هى " زائر المساء" تذكرنا بجو مسرحيات هارولد بنتر وتركيزه علي تيمة الزائر ولا غرابة في ذلك فقد تأثر الفقيه بالمسرح الإنجليزي بل إن المسرحية كتبت في الأصل بالإنجليزية وما بين أيدينا ترجمة لها بالعربية , والأشخاص والأجواء كلها أجنبية ولو لم يضع الكاتب اسمه لقلنا إنها لكاتب إنجليزي .
يفتح الستار علي السيدة والخادمة ونفهم أن السيدة تخشى الظلام وتنتظر زائرا الليلة , وبعد قليل تطلب من الخادمة أن تغادر البيت إن الزائر هنا يطرق الباب منذ عام كل ليلة ومع ذلك لا تفتح إليه السيدة إلا إن هذه الليلة التي هي بالصدفة تاريخ ميلاده تعزم علي فتح الباب وتشعر أنه سيطرق الباب الليلة وبالفعل يأتي في الموعد عندما يحل الظلام وتفتح له الباب ويدور الحوار بينهما لنعرف أنه مجرم قاتل وأنه كان مجرد أداة لتنفيذ جرائم هذه السيدة , سيدة المجتمع التي تفتح ملجأ للأيتام , وهي زوجة شخصية اقتصادية كبيرة وقد أصبحت أرملة الآن , وهاهو الزائر يأتي الليلة لكي يذكرها بالوصية التي يجب أن تكتبها له, ثم يخنقها كما يفعل بجميع ضحاياه .
ماذا يريد أن يقول الفقيه في هذه المسرحية المرعبة ؟ إنها إدانة للغرب الحضاري المنزوعة منة الرحمة فالسيدة هنا رمز للغرب الذي يقتات علي آلام الشعوب الفقيرة , تلك الآلام التي يصنعها بنفسه , إنها رسالة سياسية شديدة الذكاء , تنفذ إلي وعينا بلا ضجيج أو صراخ فهل نعي هذه الرسالة ؟
وتأتي المسرحية الثالثة " الصحيفة " لتدين الغرب وموقفه من العرب والشرق الفقير الذي يبيع الأسلحة إلي إسرائيل وجنوب إفريقية العنصرية سابقا , والواقع أن الإدانة لا تأتي بشكل مباشر فالموضوع السياسي هنا لا يبرز إلا من إشارات بسيطة تأتي عرضا في الحوار.
تدور المسرحية بين زوجين إنجليزيين فى أواخر العمر ، يقول الرجل :
" تعرفين ما هو الروتين ؟ عندما يصبح الشيء روتينيا فقد انتهى "
هذه الجملة فى اعتقادي مفتاح فهم دلالة المسرحية ، فهذا الزوج الكفيف داب على قراءة صحيفة واحدة لمدة خمسة عشر عاما ونكتشف فى نهاية الأحداث أنه كان يقرأها بالمقلوب طوال هذه المدة . من المؤكد أنه قرأها مرة واحدة على الأقل ، والمفارقة أن الزوج الكفيف يثور ثورة عارمة ويمزق الصحيفة لأن زوجته وضعتها له بجوار الباب بالمقلوب فكان يقرأها على هذا الوضع المقلوب .
هو : كيف تسمحين لنفسك بارتكاب غلطة فظيعة مثل هذه ؟
هي : كل يوم ولمدة خمسة عشر عاما ، آخذ الصحيفة بعد أن تكمل قراءتها وأضعها هناك علي عتبة الباب لتقرأها فى اليوم التالي ، نفس الصحيفة وبنفس الطريقة ، دونما خطأ واحد كل هذه السنوات ثم تأتي لتسمى هفوة بسيطة مثل هذه غلطة فظيعة " ص 63 .
يأخذ الرجل الكفيف الصحيفة من يد الزوجة ليمزقها ويضعها فى المدفأة ، واضح إذا مغزى المسرحية فهذا الكفيف رمز للمواطن الأوروبي الذي يقرأ الأحداث بطريقة مقلوبة ، ولأن هذا الأوروبي قد كف بصره واقترب من نهاية العمر فلا فائدة ، كتب الفقيه هذه المسرحية مثل سابقتها فى الأصل بالإنجليزية أثناء إقامته في لندن .
ونأتي للمسرحية الرابعة "لن يقتلوا الربيع" التي كتبها المؤلف إثر غارة أمريكية على ليبيا سنة 1986 . فهي حوارية وطنية ، تدين بشكل مباشر أمريكا وغطرستها ، وواضح من العنوان الذي يبدأ بحرف النفي للمستقبل "لن" إنها يمكن أن تدخل تحت أدب المقاومة فهي دليل إدانة بالوثائق لأمريكا خاصة ولحضارة الغرب عامة ، لذلك فهي تعد امتداد للمسرحيات الثلاثة السابقة ، وتبدو لغة المقاومة على لسان الرجل الأول إحدى الشخصيات الحوارية فى قوله :
" وكما أن الطيور لا تهجر سماءها
والجذور لا تهجر أعشاشها
نحن أيضا يا أماه لن نهجر ربيع الحياة فى بلادنا ، سنظل نعيش معه ونحتفل به ونغني على موسيقى الفجر التي لا تعزفها أيامه الخضراء " ص 71 .
أما آخر المسرحيات "هارولد" فهي حوارية قصيرة جدا لا تدين الغرب الحضاري بقدر ما تدين السلطة التي تقهر الإنسان ، فتجعله مسخا لا يستطيع أن يعرف اسمه ، بل ويفقد هويته ، وتقول المسرحية ببساطة أن السلطة الممثلة فى المدير تمسخ الفرد وتفقده هويته وتشكله كما تريد ، ففى أحد مكاتب أحد المديرين يدخل رجل اسمه الحقيقي "آلان" يطلب عملا وقبل أن يتكلم يناديه المدير بـ هارولد ، ويحاول الرجل أن يفهم المدير أن هارولد هذا ليس اسمه ولكن بلا فائدة ، وتكون المفاجأة عندما يخرج الرجل كل ما يثبت هويته من بطاقات سواء شخصية أو تأمينية أو مواصلات عامة وغيرها ويقدمها للمدير ، الذي يعيدها إليه مرة أخرى مؤكدا أن الاسم فيها جميعا هو "هارولد" ، فيقرأ الرجل الاسم "هارولد على كل بطاقة في ذهول يفقده توازنه وتكون آخر كلماته :
أحس بالاختناق لا أستطيع أن أتنفس ، لا أستطيع أن أتنفس " ص 77 .
وأحمد إبراهيم الفقيه يدرك تماما أنه يغامر فنيا ، لذلك نجده واعيا بقواعد المسرحية ، أو الشكل الدرامي ، فتتوفر في جميع المسرحيات بما فيها حوارية "لن يقتلوا الربيع" الأركان الأساسية للشكل الدرامي على حد قول جون جالزورثى : الشخصية والحبكة والحوار والمعنى المستدق "
فنحن أمام شخصيات فاعلة تدخل في صراع حقيقي سواء مع نفسها أو مع الواقع الخارجي بواسطة حوار يقترب أحيانا من لغة الشعر ، يحمل رموزا تساعدنا على الوصول لهذا المعنى المستدق .
أحمد إبراهيم الفقيه ، غناء النجوم ، دار الشروق ، القاهرة 1997 .
د. محمد عبد الحليم غنيم
التعديل الأخير بواسطة المشرف: