د
د.عبدالحميد القط
كتب الدكتور محمد عبد الحليم غنيم مجموعته القصصية الأولى بعنوان " لن أقلع عن هذه العادة " وقد كانت مجموعة ناضجة من حيث شكلها ومحتواها ، وتأتي مجموعته الثانية لتؤكد من جديد رسوخ قدم موهبة متميزة في القصة القصيرة ، وهذه المجموعة بعنوان " رجل وامرأة " وبالقصة محاولات للتجديد في الشكل القصصي ، وقصص تخضع للبناء القصصي المألوف .
ومن هذا التجديد مثلا ما يفعله في قصة "رجل وامرأة " حيث يقوم الكاتب باستخدام ضمير الغائب في فقرتين منها تدوران حول الزوج وعلاقته بامرأته ثم تكون الرواية على النحو التالي :ارتدى رجل ملابسه في عجل ، والفقرة الثانية تبدأ بـ ارتدى رجل ملابسه في عجل ، والفقرة الثالثة تكون على لسان الزوجة : ارتدى زوجي ملابسه في عجل ، والفقرة الرابعة تكون على لسان الزوج : ارتديت ملابسي . وربما يكون مغزى القصة التحرر من الروتين اليومي للزوج في تعبيره عن مشاعره ورقته الجمة .
وهناك قصص تستخدم الرمز مثل قصة " شعرة ملح " ، وهي تصور طفلا يبكي ، ولا يتوقف عن البكاء ، وتأتي جارة أم الطفل لتستعير شعرة ملح ، ولكن أم الطفل ترفض إعطاءها ما تطلبه وتحيلها إلى جارة أخرى ، وبعد قليل تعود المرأة وتهمس في أذن زوج أم الطفل بكلمات وعندئذ يغضب الرجل ويبصق في وجه امرأته . وعند ذلك يتوقف بكاء الطفل الذي كان لا يوقف ، وكأن هذا الطفل يرمز إلى القيم المفتقدة في حياتنا أو يرمز إلى ضمير الشعب وإلى قيمه المهدرة .
وهناك قصة رمزية أخرى تعد من أجمل قصص المجموعة وهي قصة " حكاية الرجل بلا ذيل " حيث يخرج السجين من السجن الذي قضى به خمسة عشر عاما ، لقد وجد كل شيء قد تغير ، ولكنه اكتشف شيئا جديدا هو ان الرجال والنساء لهم ذيول ، وبعد أن اطمأن إلى أنه أصبح حرا لا سجن ولا مراقبة يلاحظ أن وضعه أصبح غريبا ، ذلك أنه الوحيد الذي لا يملك ذيلا ، ويصور الكاتب ذلك بقوله " لكن أن يكون هو بلا ذيل ! كان هذا هو مثار الدهشة والعجب معا لأهل المدينة طبقا لقوانين المدينة الصارمة ، لا يحق لأحد أن يسأله ، لماذا هو بلا ذيل ؟ ثم إن الأمر سيكون محرجا إذا كان له ذيل ويخفيه مثل بعض الشباب المخنث في البلاد هذه الأيام ، إذ يخفونه بربطه خلف الظهر أو بقص بعضه وارتداء السراويل الواسعة فوقه " ( ص87 ) .
لقد تحول الرجل إلى أعجوبة ، وكانت عيون الناس تحاصره من كل جانب ، وصورته الصحف وكتبت تحت صورته أعجوبة العصر ،بل إنه نفسه ما لبث أن اقتنع أنه من الطبيعي أن يكون للإنسان ذيل سواء أكان رجل أم امرأة ، ولكنه مع ذلك لم يسلم من العقاب ، وحوكم بتهمة بتر ذيله ، فحبس ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات .
والقصة رمز سياسي لأن الأوضاع المقلوبة لابد أن تجارى ومن لا يجاري هذه الأوضاع ويحاول أن يعيش يهلك ، وإن كنا لا نعرف سبب سجنه ، فإنه ربما كان مسجونا سياسيا .
ومن القصص الجيدة في المجموعة قصة " اللمس " وتصور علاقة مدرس بزميلته الحسناء وهو مدرس جاد مشهود له بالكفاءة رغم قصر المدة التي قضاها بالمدرسة التي يعمل بها ، وتتوثق صلته بزميلة له ، فيدعوها للقاء خارج المدرسة ، وهناك تطلب المدرسة عشاء ، فأسقط في يده لأنه لم يكن يملك من النقود ما يمكنه من دفع ثمن العشاء ولا يستطيع تناول الطعام ، ولكن الزميلة الحسناء تخبره أنها ستدفع الحساب ، وبهذا تنتهي القصة ، والقصة بها جهد فني متميز عن ذلك الوصف الموضوعي الدقيق لما يدور داخل نفس المدرس ، ثم ينتقل إلى الرواية بضمير المتكلم ، ونعرف أن اسمه صالح ، ثم ينتقل إلى ضمير الغائب ، ثم ينتقل مرة أخرى إلى ضمير المتكلم ، حيث نعلم أنه كانت له حبيبة سابقة تدعى سلوى أحمد ، ثم يعود إلى ضمير الغائب ، وتضرب له الفتاة الموعد ويكون ما حدث من عجزه عن دفع ثمن الطعام الذي أكلت منه ولم يتذوقه هو لحرج موقفه ، وهي قصة رائعة حقا لما فيها من بساطة وصدق في التصوير والتعبير .
والقصص في هذه المجموعة قصص إنسانية وللأطفال فيها نصيب طيب فقصة " سلمى " تصور طفلة من جامعات أعقاب السجائر تعاني من البؤس والفاقة ، يسقط الأطفال الذين يلعبون بالكرة علبة تضع فيها ما جمعته من أعقاب السجائر التي تعتبرها مالها وثروتها ، وعندما أخذت تجمع أعقاب السجائر أثارت فضول الطفل راوي القصة ، والذي كان من أسرة ميسورة الحال فيتعقبها ويشتري لها طعاما ويعلم أنها تبيع ما معها لشيخ القبيلة العجوز ليعطيها خبزا ويوفر لها مكانا تبيت فيه وعندما يعرض عليها أن تأتي معه إلى منزله لا تقبل منه ذلك ، وتضحك منه بصوت عال ومن الواضح أن الفتاة تكبر الطفل راوي القصة وأنها أكثر وعيا منه .
وقصة " يوم الصيد " تصور رحلة طفل مع جده لصيد السمك ، حيث يوقظه جده عند الفجر ، وفي ظلام الليل لكي يشارك جده في عمله ، ويرافق الطفل جده إلى هذه الرحلة الشاقة على النفس ويكون متألما في البداية ولكنه يعود سعيدا في النهاية ، والطفل هو راوي القصة أيضا ، ويبدو أن عالم الطفل وما يلفه من خيال وأوهام هو عالم مفضل للكاتب ، فهو يريد أن يصور شقاء الأطفال وعذابهم وأحزانهم .
وقصة " فرقة ضد فرقة " يختلط فيها لهو الأطفال باعتدادهم بالقيم ويرتبط بهذا ما يعانونه من الحرمان وشخصيات القصة من الأطفال ، وراويها طفل كذلك ، والقصة تشير إلى معاناة الراوي بطريقة غير مباشرة عندما يذكر أن صديقه إبراهيم الذي يكبره بثلاث سنوات ، كان يضربه أثناء عمله في المقاومة اليدوية لدودة القطن ، ولا يكتفي بذلك بل يخبر " الخولي " الذي يعاقبه بالضرب كذلك ، وكيف أنه توقف عن الاشتراك في هذا العمل المضني ، وكان الراوي وإبراهيم وبعض الأطفال يلعبون لعبة كان يلعبها الصبيان في الريف عادة ، مع تصوير الكاتب لما يدور في ذهن الأطفال عن الجن والعفاريت ، وحيث يجد الراوي زميلين له وهما يقفان إلى جوار قدر كبير من النحاس قد طبخ فيه المحشي وهما يأكلان منه ، وإبراهيم معهما وهو ما نعرف قصته مع الراوي .
وقد أثر هذا تأثيرا سلبيا على الراوي وعلى "سيد" أحد الأولاد المشتركين في اللعب ، وكانت أمه هي التي أعدت هذا الطعام ، وقد سرق طعام الأسرة فبكى "سيد" وبكى الراوي ، حيث أن أم سيد وهي صديقة أم الراوي كانت ستعطيه منه .
وهذه القصة تروي الظروف القاسية التي يعيش في ظلها الأطفال من فقر وحرمان والاضطرار إلى الانخراط في عمل قاس لا يتناسب مع سنهم .
ونجد بعض القصص تتناول إحساس بطلها بالمطاردة ، وهي قصة كابوسية إن صح هذا التعبير وعنوانها " مطاردة محسومة " وتصور ـ كما قلنا ـ إحساس بطلها ، وتظل هذه المطاردة حتى يقع في قبضة مطارديه ، ولكنها لا يمكن أن تكون إلا قصة رمزية تصور ما يشعر به الإنسان المعاصر من مطاردة دائمة دون أن يجد لنفسه مهربا من مطارديه ، وإنما هو معرض للسرقة أيضا حيث تسرق حافظة نقوده وهو في الأتوبيس ، بل إنه ليس له من مهرب إلا بادعاء الموت .
والعمل أو البطالة لهما مساحة في هذه المجموعة مثل بطل قصة " شاي بالنعناع "حيث يقف أحد المتقدمين للعمل أمام من يتسلم منهم الطلبات أو من سيقوم بتقرير صلاحيتهم وخلفه طابور طويل من طالبي الوظيفة ، ومع أن المتقدم للعمل قد أصبح بعد عناء أمام الشخص الذي بيده الحسم في أمر التعيين ومع أنه يحمل ليسانس الآداب ، فإنه يلبي طلب الرجل الذي عرض عليه عشرة جنيهات ليشتري له علبة سجائر ولكنها مارلوبورو وقد أصيب جميع من يقفون في الطابور من طالبي الوظائف بالدهشة والاحتقار إذ كيف يقبل أن يقوم بهذا العمل الذي لا يتناسب مع مكانته العلمية .
وقد أخذ " آدم " وهذا هو اسم طالب الوظيفة المبلغ وذهب إلى أحد المقاهي الرخيصة ليشرب شايا بالنعناع ويبحث في جريدة المساء عن إعلان عن وظيفة جديدة .
وتصور قصة " القطار البطيء " إحدى مشاكل العاطلين عن العمل ، فقد قرر أن ينفق بعض المال على الفقراء حتى يتمكن بفضل دعائهم من الحصول على العمل الذي يلهث في السعي خلفه ، وبعد أن ركب القطار البطيء بمشقة ووصل إلى المكان الذي يبحث فيه عن عمل ، ... يجد ما لم يكن في الحسبان ، لقد وجده مغلقا ، وكان المكان الذي يقصده هو مصلحة الجوازات ، لقد كان اليوم يوم إجازة .
وقصة " عسرانة " التي لا يجد زوجها عملا ، رغم حرصه على هذا العمل هي قصة جيدة ، وقد ضاق بعسرانة الحال لسوء عيشها مع زوجها ، وعدم توفر الحد الأدنى للحياة ، فقد يئست من صلاح حال زوجها المادي ، وآمنت بعجزه عن إشباع حاجاتها وحاجة أولادها من طعام وشراب وغيرها من الحاجات الأخرى .
ومشكلته أنه يريد أن تعود زوجته إلى منزله ، ولكن حماته تحول دون ذلك ، بل إن الزوجة في النهاية ترفض أن تعود إليه ، بل إنه يوسط أناسا لهم قدرهم قريته ، ولكن عسرانة ترفض العودة إليه ، ثم يذهب " إبراهيم " إلى زوجته في منزل أبيها ، ويصور الكتب ذلك بقوله : " فجأة وجد نفسه وجها لوجه أمام عسرانة ، لا يفصل بينهما إلا طشت غسيل ، كانت جالسة فجلس أمامها ، ثم قال :
ـ صباح الخير يا عسرانة .
فلم ترد ورمت بنظرها بعيدا
ـ كده يا عسرانة تهون عليك العشرة .
فلم ترد أيضا ورمت بنظرها بعيدا " ( ص 8 ، 9 )
وكان يمكن أن تعود عسرانة مع زوجها ، ولكن لغير السبب الذي ذكره الكاتب ، فقد عادت عسرانه مع زوجها ، لأنها رأت أعضاءه التناسلية ، وهو أمر يثير الضحك والابتسام . وكان يمكن من خلال الحوار أن تعود المياه إلى مجاريها بين الرجل وزوجته ، بعد أن يبدي لها الحنان والعطف والشوق مما يثير لديها المشاعر التي قد تحرك مشاعرها وغرائزها ، ولكن أن تكون العودة للسبب الذي ذكره الكاتب فهو أمر غير مقبول ، رغم الجهد الكبير الذي بذله المؤلف لتحقيق النهاية الغريبة التي استغربها الناس ، وإن لم تكن غريبة عند الكاتب .
ومن القصص الرمزية القصيرة جدا في هذه المجموعة قصة " صورة معلقة على الجدار " والقصة الموجزة تقول أن رجلا كان يسير في الطريق أو يتجول في المدينة ، وإذا بثلاثة رجال ملثمين طوال ضخام يرتدون ملابس غريبة الشكل يقبضون عليه ويضعونه في الحبس ، وتهمته بتر ذيله ، أي أنه كان له ذيل فبتره ، وفي محبسه صورة لحمار ضخم وأبرز ما فيه أن له ذيلا ضخما ، ومغرى التهمة الرمزي أن من يستخدم عقله ويفكر يكون قد اخترق القوانين وخالف التعليمات ، فلابد أن يكون الإنسان كالحيوان لا يفكر ، ولا يلاحظ ولا يناقش وإلا كان مكانه السجن ، وهي تمثل موجزا لقصة " رجل بلا ذيل " وهي آخر قصص المجموعة .
ويستخدم تكنيك الحلم في قصة " مادة اسمها الكرنك " وهي تمثل حلما يرى فيه الراوي زميلاته في الجامعة ، وهو حلم منسق ، وإن كان به فعل العقل الباطن وخصوصا الروث الذي علق بأصابع قدمه ، وزميلته بعد عتاب على علاقته بأحد الفتيات تعطيه ورقة من فئة الخمسة جنيهات ، ولدهشته في الحلم يستيقظ ليرى الخمسة جنيهات حقيقة واقعة ، إذ كان قد طلبها من أمه قبل أن ينام ووضعتها له أمه على مخدته حتى يستيقظ فيجدها ليذهب للسؤال عن النتيجة النهائية له في الليسانس الذي قد امتحن فيه ، وكانت هذه الخمسة جنيهات تمثل حلما له ، وعندما يلتقي بالفتاة التي كان يحبها في الجامعة يخجل أن يقص عليها ما رآه في المنام ، وقد أنهاها الكاتب نهاية بارعة ، بقوله : " وعندما عدت إلى المنزل كنت قد نسيت أن أقول لها هل لدينا مادة اسمها " الكرنك " ؟ " .
والكرنك هو اسم الرواية المعروفة للكاتب المصري نجيب محفوظ ، وكان راوي القصة وقد أخبرته زميلته في الجامعة في الحلم أنها رسبت في الأدب المقارن والكرنك .
أما قصة " الوقوف في المنتصف " فهي قصة تمثل كابوسا أو حلما ، إنها تمثل رؤيا يراها أحدهم وهو راوي القصة حيث تأخذه امرأة من يده وتدخله غرفة أو ما شابه ذلك وتطلب إليه أن يخلع ملابسه قطعة قطعة وهو يفعل ذلك مستسلما حتى يصبح عاريا كيوم ولدته أمه ، يصيح فلا يسمعه أحد ، مع اعتقاده بأن الناس جميعا يسمعونه ، ثم تلمس المرأة خده فينتفض كالذي مسته الكهرباء ويشرع في ارتداء ملابسه قطعة قطعة أيضا ، وعندما يحاول الخروج يجد الباب مغلقا ، فيدور في الحجرة ويقف في المنتصف لا يمكنه أن يتقدم أو يتأخر ، وعندما يصيح طلبا للنجدة ، بينما تبدأ المرأة في خلع ملابسها قطعة قطعة ، نسيت أن أقول أن المرأة كانت تدعوه أخوها السفلي .
وقصة " لأجل أن يكون في يدك صنعة " وهي قصة تمثل محاولة للتجديد ، وتروى بضمير الغائب وتدور بين صياد وخليفة لعله سجين لأنه يسمع صليل المفاتيح في يد الحارس خارج الغرفة ، والصياد يطلب من الخليفة إن أراد أن يتعلم صنعة ، فالصيد صنعة مناسبة ، وخلع عليه الصياد جبته لكي تنفعه في أثناء مهنته الجديدة ، وربما كانت القصة حلما لأن الخليفة لم يتأكد من كون ما رآه من الصياد حقيقة أو حلما ، لكنه علم بحقيقة أنه في الحبس .
ومن قبيل التجريب الذي يختلط فيه الواقع بالخيال قصة " حكاية الشاعر المنكود وزوجته النكداء " وهي قصة أيضا من القصص الشعبية على الأقل تنطلق من المنطلق الشعبي ، " قالت لي جدتي : عليك أن تحتفظ بالطاقية والعصا .. فهما اللتان بقيتا لي فقط ، أما الحصان فقد باعه أبوك بعد أن عرس بأمك ، وبعد ذلك لم أطلب من جدتي أن تقص علىً الحكاية لأنني كنت أعيشها في كل لحظة وكنت صغيرا ، لم أكن قد ابتليت بالنكداء " . ثم بدأ ينسج من هذه العناصر الشعبية الطاقية والعصا والحصان قصته التي ربما كانت ترمز إلى القهر أو الظلم أو الحرمان يدخل فيهما عنصر جديد وهو الماء .
على أية حال ، فإن هذه المجموعة تمثل رؤية واقعية تعني بمشاكل الناس وهمومهم ، وبخاصة الفقراء منهم وما يعانونه من حرمان في سبيل الحصول على لقمة العيش ، فهي تتناول العاطلين عن العمل ، وما يلاقونه في أثناء البحث عنه أو عدم وجوده ، وأثر ذلك حتى على حياتهم الزوجية ، والكاتب يمتلك اللغة البسيطة المعبرة عن القص دون حذلقة ، كما أن هذه اللغة قد ترتفع في بعض الأحيان إلى مستوى الشعر ، وأعتقد أن الكاتب ـ وهو حريص على التجريب ـ لو أنه ظل واقعيا لكان خيرا له ولفن القصة القصيرة الذي يزاوله ، لكنه على أية حال ، كاتب ناضج ، يمتلك أدواته ويسيطر عليه سيطرة تامة تقريبا ,
د. عبد الحميد القط
أستاذ الأدب الحديث بجامعة المنصورة
ومن هذا التجديد مثلا ما يفعله في قصة "رجل وامرأة " حيث يقوم الكاتب باستخدام ضمير الغائب في فقرتين منها تدوران حول الزوج وعلاقته بامرأته ثم تكون الرواية على النحو التالي :ارتدى رجل ملابسه في عجل ، والفقرة الثانية تبدأ بـ ارتدى رجل ملابسه في عجل ، والفقرة الثالثة تكون على لسان الزوجة : ارتدى زوجي ملابسه في عجل ، والفقرة الرابعة تكون على لسان الزوج : ارتديت ملابسي . وربما يكون مغزى القصة التحرر من الروتين اليومي للزوج في تعبيره عن مشاعره ورقته الجمة .
وهناك قصص تستخدم الرمز مثل قصة " شعرة ملح " ، وهي تصور طفلا يبكي ، ولا يتوقف عن البكاء ، وتأتي جارة أم الطفل لتستعير شعرة ملح ، ولكن أم الطفل ترفض إعطاءها ما تطلبه وتحيلها إلى جارة أخرى ، وبعد قليل تعود المرأة وتهمس في أذن زوج أم الطفل بكلمات وعندئذ يغضب الرجل ويبصق في وجه امرأته . وعند ذلك يتوقف بكاء الطفل الذي كان لا يوقف ، وكأن هذا الطفل يرمز إلى القيم المفتقدة في حياتنا أو يرمز إلى ضمير الشعب وإلى قيمه المهدرة .
وهناك قصة رمزية أخرى تعد من أجمل قصص المجموعة وهي قصة " حكاية الرجل بلا ذيل " حيث يخرج السجين من السجن الذي قضى به خمسة عشر عاما ، لقد وجد كل شيء قد تغير ، ولكنه اكتشف شيئا جديدا هو ان الرجال والنساء لهم ذيول ، وبعد أن اطمأن إلى أنه أصبح حرا لا سجن ولا مراقبة يلاحظ أن وضعه أصبح غريبا ، ذلك أنه الوحيد الذي لا يملك ذيلا ، ويصور الكاتب ذلك بقوله " لكن أن يكون هو بلا ذيل ! كان هذا هو مثار الدهشة والعجب معا لأهل المدينة طبقا لقوانين المدينة الصارمة ، لا يحق لأحد أن يسأله ، لماذا هو بلا ذيل ؟ ثم إن الأمر سيكون محرجا إذا كان له ذيل ويخفيه مثل بعض الشباب المخنث في البلاد هذه الأيام ، إذ يخفونه بربطه خلف الظهر أو بقص بعضه وارتداء السراويل الواسعة فوقه " ( ص87 ) .
لقد تحول الرجل إلى أعجوبة ، وكانت عيون الناس تحاصره من كل جانب ، وصورته الصحف وكتبت تحت صورته أعجوبة العصر ،بل إنه نفسه ما لبث أن اقتنع أنه من الطبيعي أن يكون للإنسان ذيل سواء أكان رجل أم امرأة ، ولكنه مع ذلك لم يسلم من العقاب ، وحوكم بتهمة بتر ذيله ، فحبس ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات .
والقصة رمز سياسي لأن الأوضاع المقلوبة لابد أن تجارى ومن لا يجاري هذه الأوضاع ويحاول أن يعيش يهلك ، وإن كنا لا نعرف سبب سجنه ، فإنه ربما كان مسجونا سياسيا .
ومن القصص الجيدة في المجموعة قصة " اللمس " وتصور علاقة مدرس بزميلته الحسناء وهو مدرس جاد مشهود له بالكفاءة رغم قصر المدة التي قضاها بالمدرسة التي يعمل بها ، وتتوثق صلته بزميلة له ، فيدعوها للقاء خارج المدرسة ، وهناك تطلب المدرسة عشاء ، فأسقط في يده لأنه لم يكن يملك من النقود ما يمكنه من دفع ثمن العشاء ولا يستطيع تناول الطعام ، ولكن الزميلة الحسناء تخبره أنها ستدفع الحساب ، وبهذا تنتهي القصة ، والقصة بها جهد فني متميز عن ذلك الوصف الموضوعي الدقيق لما يدور داخل نفس المدرس ، ثم ينتقل إلى الرواية بضمير المتكلم ، ونعرف أن اسمه صالح ، ثم ينتقل إلى ضمير الغائب ، ثم ينتقل مرة أخرى إلى ضمير المتكلم ، حيث نعلم أنه كانت له حبيبة سابقة تدعى سلوى أحمد ، ثم يعود إلى ضمير الغائب ، وتضرب له الفتاة الموعد ويكون ما حدث من عجزه عن دفع ثمن الطعام الذي أكلت منه ولم يتذوقه هو لحرج موقفه ، وهي قصة رائعة حقا لما فيها من بساطة وصدق في التصوير والتعبير .
والقصص في هذه المجموعة قصص إنسانية وللأطفال فيها نصيب طيب فقصة " سلمى " تصور طفلة من جامعات أعقاب السجائر تعاني من البؤس والفاقة ، يسقط الأطفال الذين يلعبون بالكرة علبة تضع فيها ما جمعته من أعقاب السجائر التي تعتبرها مالها وثروتها ، وعندما أخذت تجمع أعقاب السجائر أثارت فضول الطفل راوي القصة ، والذي كان من أسرة ميسورة الحال فيتعقبها ويشتري لها طعاما ويعلم أنها تبيع ما معها لشيخ القبيلة العجوز ليعطيها خبزا ويوفر لها مكانا تبيت فيه وعندما يعرض عليها أن تأتي معه إلى منزله لا تقبل منه ذلك ، وتضحك منه بصوت عال ومن الواضح أن الفتاة تكبر الطفل راوي القصة وأنها أكثر وعيا منه .
وقصة " يوم الصيد " تصور رحلة طفل مع جده لصيد السمك ، حيث يوقظه جده عند الفجر ، وفي ظلام الليل لكي يشارك جده في عمله ، ويرافق الطفل جده إلى هذه الرحلة الشاقة على النفس ويكون متألما في البداية ولكنه يعود سعيدا في النهاية ، والطفل هو راوي القصة أيضا ، ويبدو أن عالم الطفل وما يلفه من خيال وأوهام هو عالم مفضل للكاتب ، فهو يريد أن يصور شقاء الأطفال وعذابهم وأحزانهم .
وقصة " فرقة ضد فرقة " يختلط فيها لهو الأطفال باعتدادهم بالقيم ويرتبط بهذا ما يعانونه من الحرمان وشخصيات القصة من الأطفال ، وراويها طفل كذلك ، والقصة تشير إلى معاناة الراوي بطريقة غير مباشرة عندما يذكر أن صديقه إبراهيم الذي يكبره بثلاث سنوات ، كان يضربه أثناء عمله في المقاومة اليدوية لدودة القطن ، ولا يكتفي بذلك بل يخبر " الخولي " الذي يعاقبه بالضرب كذلك ، وكيف أنه توقف عن الاشتراك في هذا العمل المضني ، وكان الراوي وإبراهيم وبعض الأطفال يلعبون لعبة كان يلعبها الصبيان في الريف عادة ، مع تصوير الكاتب لما يدور في ذهن الأطفال عن الجن والعفاريت ، وحيث يجد الراوي زميلين له وهما يقفان إلى جوار قدر كبير من النحاس قد طبخ فيه المحشي وهما يأكلان منه ، وإبراهيم معهما وهو ما نعرف قصته مع الراوي .
وقد أثر هذا تأثيرا سلبيا على الراوي وعلى "سيد" أحد الأولاد المشتركين في اللعب ، وكانت أمه هي التي أعدت هذا الطعام ، وقد سرق طعام الأسرة فبكى "سيد" وبكى الراوي ، حيث أن أم سيد وهي صديقة أم الراوي كانت ستعطيه منه .
وهذه القصة تروي الظروف القاسية التي يعيش في ظلها الأطفال من فقر وحرمان والاضطرار إلى الانخراط في عمل قاس لا يتناسب مع سنهم .
ونجد بعض القصص تتناول إحساس بطلها بالمطاردة ، وهي قصة كابوسية إن صح هذا التعبير وعنوانها " مطاردة محسومة " وتصور ـ كما قلنا ـ إحساس بطلها ، وتظل هذه المطاردة حتى يقع في قبضة مطارديه ، ولكنها لا يمكن أن تكون إلا قصة رمزية تصور ما يشعر به الإنسان المعاصر من مطاردة دائمة دون أن يجد لنفسه مهربا من مطارديه ، وإنما هو معرض للسرقة أيضا حيث تسرق حافظة نقوده وهو في الأتوبيس ، بل إنه ليس له من مهرب إلا بادعاء الموت .
والعمل أو البطالة لهما مساحة في هذه المجموعة مثل بطل قصة " شاي بالنعناع "حيث يقف أحد المتقدمين للعمل أمام من يتسلم منهم الطلبات أو من سيقوم بتقرير صلاحيتهم وخلفه طابور طويل من طالبي الوظيفة ، ومع أن المتقدم للعمل قد أصبح بعد عناء أمام الشخص الذي بيده الحسم في أمر التعيين ومع أنه يحمل ليسانس الآداب ، فإنه يلبي طلب الرجل الذي عرض عليه عشرة جنيهات ليشتري له علبة سجائر ولكنها مارلوبورو وقد أصيب جميع من يقفون في الطابور من طالبي الوظائف بالدهشة والاحتقار إذ كيف يقبل أن يقوم بهذا العمل الذي لا يتناسب مع مكانته العلمية .
وقد أخذ " آدم " وهذا هو اسم طالب الوظيفة المبلغ وذهب إلى أحد المقاهي الرخيصة ليشرب شايا بالنعناع ويبحث في جريدة المساء عن إعلان عن وظيفة جديدة .
وتصور قصة " القطار البطيء " إحدى مشاكل العاطلين عن العمل ، فقد قرر أن ينفق بعض المال على الفقراء حتى يتمكن بفضل دعائهم من الحصول على العمل الذي يلهث في السعي خلفه ، وبعد أن ركب القطار البطيء بمشقة ووصل إلى المكان الذي يبحث فيه عن عمل ، ... يجد ما لم يكن في الحسبان ، لقد وجده مغلقا ، وكان المكان الذي يقصده هو مصلحة الجوازات ، لقد كان اليوم يوم إجازة .
وقصة " عسرانة " التي لا يجد زوجها عملا ، رغم حرصه على هذا العمل هي قصة جيدة ، وقد ضاق بعسرانة الحال لسوء عيشها مع زوجها ، وعدم توفر الحد الأدنى للحياة ، فقد يئست من صلاح حال زوجها المادي ، وآمنت بعجزه عن إشباع حاجاتها وحاجة أولادها من طعام وشراب وغيرها من الحاجات الأخرى .
ومشكلته أنه يريد أن تعود زوجته إلى منزله ، ولكن حماته تحول دون ذلك ، بل إن الزوجة في النهاية ترفض أن تعود إليه ، بل إنه يوسط أناسا لهم قدرهم قريته ، ولكن عسرانة ترفض العودة إليه ، ثم يذهب " إبراهيم " إلى زوجته في منزل أبيها ، ويصور الكتب ذلك بقوله : " فجأة وجد نفسه وجها لوجه أمام عسرانة ، لا يفصل بينهما إلا طشت غسيل ، كانت جالسة فجلس أمامها ، ثم قال :
ـ صباح الخير يا عسرانة .
فلم ترد ورمت بنظرها بعيدا
ـ كده يا عسرانة تهون عليك العشرة .
فلم ترد أيضا ورمت بنظرها بعيدا " ( ص 8 ، 9 )
وكان يمكن أن تعود عسرانة مع زوجها ، ولكن لغير السبب الذي ذكره الكاتب ، فقد عادت عسرانه مع زوجها ، لأنها رأت أعضاءه التناسلية ، وهو أمر يثير الضحك والابتسام . وكان يمكن من خلال الحوار أن تعود المياه إلى مجاريها بين الرجل وزوجته ، بعد أن يبدي لها الحنان والعطف والشوق مما يثير لديها المشاعر التي قد تحرك مشاعرها وغرائزها ، ولكن أن تكون العودة للسبب الذي ذكره الكاتب فهو أمر غير مقبول ، رغم الجهد الكبير الذي بذله المؤلف لتحقيق النهاية الغريبة التي استغربها الناس ، وإن لم تكن غريبة عند الكاتب .
ومن القصص الرمزية القصيرة جدا في هذه المجموعة قصة " صورة معلقة على الجدار " والقصة الموجزة تقول أن رجلا كان يسير في الطريق أو يتجول في المدينة ، وإذا بثلاثة رجال ملثمين طوال ضخام يرتدون ملابس غريبة الشكل يقبضون عليه ويضعونه في الحبس ، وتهمته بتر ذيله ، أي أنه كان له ذيل فبتره ، وفي محبسه صورة لحمار ضخم وأبرز ما فيه أن له ذيلا ضخما ، ومغرى التهمة الرمزي أن من يستخدم عقله ويفكر يكون قد اخترق القوانين وخالف التعليمات ، فلابد أن يكون الإنسان كالحيوان لا يفكر ، ولا يلاحظ ولا يناقش وإلا كان مكانه السجن ، وهي تمثل موجزا لقصة " رجل بلا ذيل " وهي آخر قصص المجموعة .
ويستخدم تكنيك الحلم في قصة " مادة اسمها الكرنك " وهي تمثل حلما يرى فيه الراوي زميلاته في الجامعة ، وهو حلم منسق ، وإن كان به فعل العقل الباطن وخصوصا الروث الذي علق بأصابع قدمه ، وزميلته بعد عتاب على علاقته بأحد الفتيات تعطيه ورقة من فئة الخمسة جنيهات ، ولدهشته في الحلم يستيقظ ليرى الخمسة جنيهات حقيقة واقعة ، إذ كان قد طلبها من أمه قبل أن ينام ووضعتها له أمه على مخدته حتى يستيقظ فيجدها ليذهب للسؤال عن النتيجة النهائية له في الليسانس الذي قد امتحن فيه ، وكانت هذه الخمسة جنيهات تمثل حلما له ، وعندما يلتقي بالفتاة التي كان يحبها في الجامعة يخجل أن يقص عليها ما رآه في المنام ، وقد أنهاها الكاتب نهاية بارعة ، بقوله : " وعندما عدت إلى المنزل كنت قد نسيت أن أقول لها هل لدينا مادة اسمها " الكرنك " ؟ " .
والكرنك هو اسم الرواية المعروفة للكاتب المصري نجيب محفوظ ، وكان راوي القصة وقد أخبرته زميلته في الجامعة في الحلم أنها رسبت في الأدب المقارن والكرنك .
أما قصة " الوقوف في المنتصف " فهي قصة تمثل كابوسا أو حلما ، إنها تمثل رؤيا يراها أحدهم وهو راوي القصة حيث تأخذه امرأة من يده وتدخله غرفة أو ما شابه ذلك وتطلب إليه أن يخلع ملابسه قطعة قطعة وهو يفعل ذلك مستسلما حتى يصبح عاريا كيوم ولدته أمه ، يصيح فلا يسمعه أحد ، مع اعتقاده بأن الناس جميعا يسمعونه ، ثم تلمس المرأة خده فينتفض كالذي مسته الكهرباء ويشرع في ارتداء ملابسه قطعة قطعة أيضا ، وعندما يحاول الخروج يجد الباب مغلقا ، فيدور في الحجرة ويقف في المنتصف لا يمكنه أن يتقدم أو يتأخر ، وعندما يصيح طلبا للنجدة ، بينما تبدأ المرأة في خلع ملابسها قطعة قطعة ، نسيت أن أقول أن المرأة كانت تدعوه أخوها السفلي .
وقصة " لأجل أن يكون في يدك صنعة " وهي قصة تمثل محاولة للتجديد ، وتروى بضمير الغائب وتدور بين صياد وخليفة لعله سجين لأنه يسمع صليل المفاتيح في يد الحارس خارج الغرفة ، والصياد يطلب من الخليفة إن أراد أن يتعلم صنعة ، فالصيد صنعة مناسبة ، وخلع عليه الصياد جبته لكي تنفعه في أثناء مهنته الجديدة ، وربما كانت القصة حلما لأن الخليفة لم يتأكد من كون ما رآه من الصياد حقيقة أو حلما ، لكنه علم بحقيقة أنه في الحبس .
ومن قبيل التجريب الذي يختلط فيه الواقع بالخيال قصة " حكاية الشاعر المنكود وزوجته النكداء " وهي قصة أيضا من القصص الشعبية على الأقل تنطلق من المنطلق الشعبي ، " قالت لي جدتي : عليك أن تحتفظ بالطاقية والعصا .. فهما اللتان بقيتا لي فقط ، أما الحصان فقد باعه أبوك بعد أن عرس بأمك ، وبعد ذلك لم أطلب من جدتي أن تقص علىً الحكاية لأنني كنت أعيشها في كل لحظة وكنت صغيرا ، لم أكن قد ابتليت بالنكداء " . ثم بدأ ينسج من هذه العناصر الشعبية الطاقية والعصا والحصان قصته التي ربما كانت ترمز إلى القهر أو الظلم أو الحرمان يدخل فيهما عنصر جديد وهو الماء .
على أية حال ، فإن هذه المجموعة تمثل رؤية واقعية تعني بمشاكل الناس وهمومهم ، وبخاصة الفقراء منهم وما يعانونه من حرمان في سبيل الحصول على لقمة العيش ، فهي تتناول العاطلين عن العمل ، وما يلاقونه في أثناء البحث عنه أو عدم وجوده ، وأثر ذلك حتى على حياتهم الزوجية ، والكاتب يمتلك اللغة البسيطة المعبرة عن القص دون حذلقة ، كما أن هذه اللغة قد ترتفع في بعض الأحيان إلى مستوى الشعر ، وأعتقد أن الكاتب ـ وهو حريص على التجريب ـ لو أنه ظل واقعيا لكان خيرا له ولفن القصة القصيرة الذي يزاوله ، لكنه على أية حال ، كاتب ناضج ، يمتلك أدواته ويسيطر عليه سيطرة تامة تقريبا ,
د. عبد الحميد القط
أستاذ الأدب الحديث بجامعة المنصورة
التعديل الأخير بواسطة المشرف: