د
د.محمد عبدالحليم غنيم
من خلال متابعتي لإبداع " محمد عبد الله الهادي" لاحظت ميله لكتابة الرواية القصيرة أو ما يسمى بـ " Novella" ، فمن بين خمس روايات أنجزها الكاتب ، نجد له أربع روايات تندرج بصورة واضحة تحت هذا النوع الأدبي ، أي الرواية القصيرة ، وهي علي الترتيب : " الأحلام تتداعى " ، " ضباب الفجر " ، " الدنيا سيرك كبير " ، " عصا أبنوس " .
ومن أسف أنني لم أطلع علي روايتي " الأحلام تتداعى " و " ضباب الفجر " لكي أقوم بموازنة موضوعية بين رواية اليوم وما سبقها من أعمال للكاتب ، ولذلك ستكون قراءتي للرواية في سياق نماذج الرواية القصيرة بوصفـها نوعاً أدبيـاً له سماته المتميزة وبنائه المستقر . إن أعمالاً مثل " العجوز والبحر لـ " أرنست همنجواي ، و " تونيو كروجر " و " الموت في فينسيا " لتوماس مان ، و " قنديل أم هاشم " ليحيى حقي ، و " يوم قتل الزعيم " لنجيب محفوظ ، و " أنا الملك جئت " لبهاء طاهر علي سبيل المثال لا الحصر ، تعد نماذج جيدة أو مثالية للرواية القصيرة في الأدبين العربي والأجنبي ، ولن أبالغ إذا أضفت رواية " عصا أبنوس ذات مقبض ذهبي " لهذه النماذج ، فهي تعد أيضاً نموذجاً جيداً لبناء الرواية القصيرة كما سنرى عبر التحليل النقدي ، وسيكون من المفيد أن أشير في عجالة إلي مفهوم الرواية القصيرة وخصائصها ، فهي من حيث الحجم تقع في منزلة وسطى بين الرواية الطويلة و القصة القصيرة ، ومن حيث البناء تجمع بين مقومات كل من الرواية والقصة القصيرة ، وهي في ذات الوقت يعد منطقة خصبة لتداخل الأنواع الأدبية : الرواية والقصة القصيرة والدراما . ومع تسليمنا بكل ما سبق نميل إلي القول أن للرواية القصيرة شعريتها الخاصة ، وهو ما يتفق والتحديد التالي للرواية القصيرة : " فهي ذلك العمل النثري الفني ، الذي يحقق التوازن الواعي بين الإيجاز الدقيق والتوسع المطلق " (1) .
ويمكن أن نجمل الخصائص الجوهرية العامة فيما يلي :
ـ فكرة جادة ثرية :
تعتمد عليها الرواية القصيرة وتتخذها محوراً تدور حوله بهدف مجابهة هذه الفكرة فنياً ، وبلورة كل أبعادها الظاهـرة والخفية ، وفقاً لنسق يتواءم وهذا الشكل الفـنِّي .
ـ وحدة انطباع كلي :
وهذه الوحدة يحققها كاتب الرواية القصيرة من خلال تركيزه علي أزمة واحدة لها ثراؤها وعمقها دون أن تستغرقه التفصيلات التي لا ضرورة لها في بناء العمل أو سير أحداثه ، وهو بالطبع يعتمد في ذلك علي ذكاء المتلقي وفطنته .
ـ الوصف الموجز :
فكاتب الرواية القصيرة يعتمد فعلاً علي الوصف الموجز الفاعل ويرفض تماماً تقديم الصور الوصفية " الاسكتش " هادفاً من وراء ذلك خلق الإيجاز الموظف ، وحتى لا يصاب العمل بالترهل .
ـ حرية استخدام الزمن :
فنجد أن كاتب الرواية القصيرة يتمتع حقاً بالحركة في امتداد زمني حر ، أكثر مما هو متاح لكاتب القصة القصيرة .
ـ اللغة الدالة المعبرة :
تمتاز الرواية القصيرة بلغتها الدالة المعبرة عن الموقف والأشخاص دون زيادة أو نقصان ، وقد تشكل اللغة في كثير من الروايات القصيرة جزءاً أساسياً في البناء الروائي ، وتدخل في إطار التجربة الإبداعية ذاتها .(2)
في إطار هذا المفهوم وتلك الخصائص يمكن دراسة رواية " عصا أبنوس " وذلك عبر العناصر التالية : المحتوى / الحبكة / الشخصية / اللغة .
أولاً : المحتوى :
ــــــــ
ينطلق أي عمل سردي كيفما كان نوعه من فكرة أساسية تكمن خلف بنائه السردي ، فالراوي قبل أن يقوم بخلق شخصياته وأفعالها ومكان تواجدها وزمنها ينطلق من فكرة معينة يريد إبلاغها ، هذه الفكرة يمكن تسميتها علي غرار السيموطيقيين بالمحتوى ، أي محتوى الرسالة التي يريد الراوي إيصالها ، ونسمي هذا المحتوى العام بالوظيفة المركزية ، لأنها المراد الذي يوظف من أجله الراوي كل المكونات بقصد إيصاله إلي ذهن المتلقي ، بهذا المعنى يمكن اعتبار الوظيفة المركزية بمثابة الصورة المجردة التي يسعى الراوي ألي تحقيقها باعتماد مختلف الصور الملموسة ( شخصيات / أفعال / زمان / مكان ) (3) .
وهذه الوظيفة المركزية المتحكمة في بناء العمل الروائي هو ما نسميه نحن بالفكرة الجادة في الرواية القصيرة أو المحتوى الرئيسي . في " عصا أبنوس " يمكن تحديد الوظيفة المركزية في الجملة الخبرية التالية : إبراهيم العثماني يعود من الخليج إلي جزيرة مطاوع محملاً بالخيبة ، ومن ثم فشل فكرة الهجرة إلي الخليج .
إن عودة إبراهيم إلي جزيرة مطاوع دون أن يحق حلمه في الثراء المادي ، وفشله في البقاء في بلاد النفط يتبدى في كثير من أجزاء الرواية سواء علي لسان الراوي أو الشخوص المشاركة في الحدث ، بل في أفعال إبراهيم وكلامه أيضاً ، فإبراهيم عندما يركب الحافلة من فاقوس يحرص علي إخفاء نفسه ، فهو لا يريد أن يراه أحد ، يقول الراوي :
" صعـد من الباب الخلفي وهو يتمنى ألاَّ يراه أحد يعرفه كي لا يسأله بحكم العادة عن سبب عودته الآن ، ماذا يكون جوابه ؟ " (4) ، ويختار المقعد الأخير مخفياً وجهه : " اختار المقعد الأخير ، وضع حقيبته بجواره ، جلس منزلقا إلي الأمام حتى يخفي وجهه خلف مسند المقعـد الأمامي عن الآخرين . (5) فإخفاء الوجه تعبير طبيعي ومناسب للإحساس بالفشل ، إن الفشل أو جدوى الهجرة لا يتبدى في الرواية في عودة إبراهيم فقط ، ولكن يتمثل أيضاً بصورة واضحة ودالة دلالة رمزية بعيدة المعنى في قتل " آدم " ، ذلك الشامي علي الخازوق ، وهو الفعل الذي سبب صدمة كبرى لإبراهيم المثالي ، فكان قرار العودة ، فالخازوق لم يلبسه " آدم " وحده ، بل لبسه كل من هاجر إلي بلاد النفط ، حتى " عطية " نفسه ، علي الرغم من نجاحه في تحقيق الثراء ، لقد بس عطية الخازوق عندما ترك زوجة شابة تسير علي حل شعرها في القرية مما أدَّى في النهاية إلي قتلها ، أما الخازوق الذي لبسه " آدم " ولبسه معظم شخوص الرواية فهو من الأبنوس الخالص والذهب رمز الثراء والنجاح ، يقول الراوي في سخرية لاذعة : " وخازوق اليوم طبقاً لنظرية التطوُّر غير خازوق الأمـس . خازوق اليوم بلا ريب هو الأفضل والقيِّـم والأغلى ثمناً : خازوق من الأبنوس الخالص والمقبض من الذهب الحـر .. هنيئاً لك يا " آدم " .(6)
إن هذه الفكرة المركزية التي تنطلق منها الرواية ، أي عدم جدوى الهجرة لا ينعكس تأثيرها علي الشخوص الفاعلة بشكل مباشر في البناء السردي ، بل يتعدى تأثيرها إلي باقي الشخوص الثانوية في العمل كـ " عمران " أبي عطية والحاج "صالح العثماني " وأبنائه الآخرين و " رتيبة " أم إبراهيم أيضاً .
ثانياً : الحبكة :
ـــــــــ
" كثيراً ما يقال أن الرواية القصيرة تقدم أحداثاً متماسكة بطريقة منطقية " (7) ، أي تعتمد في بنائها علي حبكة قوية إذا جاز التعبير ، ومع ذلك يجب التأكيد علي أنه يجب أن تتلاءم هذه الحبكة مع المادة الروائية المستخدمة ، والمحتوى الكامن خلف هذه المادة ، وكاتبنا في " عصا أبنوس " يقدم لنا أحداثاً متماسكة بطريقة منطقية .
إن الحبكة في الرواية هنا تقوم علي بناء الرحلة ، وهي رحلة ذات بعدين ، الأول هو بعـد خارجي وهو قصير جداً ، لا يستغرق سوى ركوب الحافلة من فاقوس إلي جزيرة مطاوع ، والبعد الثاني داخلي يتمثل في رحلة طويلة عبر ذات الشخصية الرئيسية إبراهيم العثماني ، إنها رحلة كفاح شريفة عبر المدرسة والغيط والعمل في وزارة الزراعة والزواج من ابنة رجل غني ، ثم السفر إلى الخليج الذي كان يجب أن يكون تتويجاً لرحلة النجاح ، لكن العقبة الكئود في هذا السفر .
إن بناء الرواية باتخاذه شكل الرحلة ، يبدو متماسكاً ومنطقياً وقوياً في ذات الوقت ، فعبر هذه الرحلة القصيرة داخل الحافلة من فاقوس إلي جزيرة مطاوع ، بين لحظات الصحو والإغفاء ، بين لحظات الواقع والحلم ، نغوص داخل الشخصية ، ل معظم الشخوص في الرواية بواسطة راوٍ عليم ، لكن من خلال رؤية ذاتية ، هي رؤية إبراهيم العثماني .
إن ذروة الحدث في هذا البناء تتحقق بوصول إبراهيم إلي جزيرة مطاوع ، حيث يتجسد فشل الرحلة ، العودة دون تحقيق الحلم في الثراء ، يتجسد هذا الفشل بصورة مأساوية في قتل " آمال " زوجة " عطية " : "عندما وصل للـدار ، وجدهم يتزاحمون علي باب " عمران " . تنهَّـد ، توقَّـف ، التـقط أنفاسه المبعثـرة تحت قدمـيه ، وراح يشق لنفسه طريقاً بين الأجسـاد المتزاحمة .. ، كانت المصيبة مجسَّمةً علي أرضية الصالة : " آمـال " زوجة " عطيَّة " ملقـاة أرضاً وسط بركة صغيرة من الدماء ، مبعـثرة الأعضاء ، مشجـوجة الرأس ، يقف أخوها بجوارها ممسكاً بالفـأس الثقـيلة الملوثة بالدماء " .(8)
ثم تنتهي الرحلة والرواية معاً بسؤال من " عمران " إلي " إبراهيم العثماني " ، وكأنه المسئول الرئيسي عن كل ما حدث : " فين عطيَّة يا أستاذ ؟ .. فين عطيَّة ؟ .. يرضيك كـده ؟ " . هل هو بالفعل خطأ إبراهيم ، وأنه يتحمل المسئولية وتبعة ما جرى لأنه ترك بلده / وطنه وهاجر ؟ ، ربما .
ثالثاً : الشخصية :
ــــــــــ
تبدو الرواية القصيرة طبقاً لتصنيف " أدوين موير " في كتابه بناء الرواية لأنواع الرواية ، أقرب إلي ما أسماه بالرواية الدرامية ، يقول " موير " : " وفي هذا القسم تختفي الهوة بين الشخصيات والحبكة ، فليست الشخصيات فيها جزءاً من آلية الحبكة ولا الحبكة مجرد إطار بدائي يحيط بالشخصيات ، بل تلتحم علي العكس كلتاهما معاً في نسيج لا ينفصم " (9) .
وفي " عصا أبنوس " لمحمد عبد الله الهادي تلتحم الشخصية الرئيسية بالحبكة ، فكل الأفعال وردودها تصدر عنها تقريباً ، إننا كما أشرنا في الفقرة السابقة تأخذ الحبكة بناء الرحلة ، إن الصدام الدرامي بين الشخصية وهي هنا إبراهيم لا يتم بصورة مباشرة ، إنما الصدام الحقيقي يكون مع الواقع ككل ، الواقع الخارجي سواء في الخارج ( بلاد النفط ) أم في مصر ( جزيرة مطاوع ) ، وعندما يذهب إبراهيم إلي الخليج يكتشف قبح المكان ووحشيته ، ثم يكتشف زيف المؤسسة التي يعمل بها ، حيث تتخذ الدين شعاراً ، في حين يكون سلوكها أبعد ما يكون عن الدين ، و" عطية " صاحب الفضل عليه يجده قبيحاً أيضاً ، إذ يكاد يكون علي علم بما تفعله زوجته في جزيرة مطاوع . أما الطامة الكبرى فتكون برؤيته لفعل الخوزقة لآدم الشامي ، ذلك الإنسان الذي استطاع أن يقف في وجه الشر والقبح بجرأةٍ وتحد ، ولكن كانت نهايته ٍمأساة حقيقية ، إن "آدم " وجه العملة المقابل لإبراهيم ، لكن آدم مات أو استشهد وإبراهيم باقٍ ليعاني لعنة الواقع ، لذلك فلن نبالغ إذا قلنا أن شخصية إبراهيم مثل الشخصيات التراجيدية في المآسي التراجيدية في المسرح ، يهرب إبراهيم من هذا القبح ، ولكنه في النهاية يواجه من قبل عمران أبي عطية ، الذي كان أوصاه قبل سفره أن يقنع عطية بالعودة ليكبح جماح زوجته ، أو ليسكت الشر المسيطر عليها ، لكن إبراهيم يفشل في إقناعه العودة ، ثم يعود هو ومع ذلك يشعر بالفشل ، يظهر ذلك بوضوح وهو راكب الحافلة إذ يخشى أن يراه أحد من أهل الجزيرة .
لذلك كان المؤلف واعياً ، هو يوجه اللوم لإبراهيم علي لسان عمران في السطر الأخير من الرواية بقوله : " يرضيك كده ؟ " .
اعتمد المؤلف في تصوير الشخصيات الرئسية علي فيض الوعي الداخلي للشخصية عبر صوت راوٍ عليم يتداخل مع صوت الشخصية . أما بقية الشخصيات فكان يعتمد بصورة أكبر علي التصوير الخارجي ، بذكر ملمح خارجي أو أكثر للشخصية ، تصويره لشخصية الأوسطي " عبد البديع " علي سبيل المثال . والواقع أن تقنية الرحلة كبناء للرواية كان له الأثر الأكبر في اعتماد المؤلف علي لتصوير الداخلي للشخصيات ، كما أن هذا النوع من الرواية لا يحتمل اللجوء بكثرة إلي الوصف الخارجي للشخوص .
رابعاً : اللغة :
ـــــــ
لاشك أن اللغة تشكل عنصراً أساسياً في العمل الأدبي ، وفي " عصا أبنوس " ستلعب اللغة دوراً مهماً في توصيل المحتوى الذي أشرنا إليه في البداية ، وإذا كان البحث في لغة العمل الأدبي مرتبط بعناصر العمل الأخرى ، غير أن الحديث عن اللغة هنا لن يكون إلاَّ من خلال الأسلوب السردي في عناصره المتنوعة من سرد ووصف وحوار .
يبدأ " محمد عبد الله الهادي " الرواية بجمل خبرية تقريرية ، أقل ما توصف به هو الحدة ، يقول : " لم يصرخ ولم يطلب النجدة .
لم تذرف عيناه ، آنئـذ ، دمعةً واحدةً .
من ذا الذي سوف يسمعه في هذه البلاد ، ومن ذا الذي سوف يغيثه ؟ .
لم يركب قدميه ويفر بهما هارباً كجمل غضُوب " (10)
سنلاحظ أن الجملتين الثالثة والرابعة جاءتا في صورة استفهام ، لكنه استفهام غرضه النفي أيضاً ، مثل الجملتين السابقتين عليه .
إن النفي هنا بصوره المختلفة لن يكون إلاَّ مقدمة لاتخاذ موقف ، هو العودة إلي مصر تاركاً هذا الواقع القبيح ، ومسجلاً موقفاً أيدولوجياً وإن كان بشكل غير مباشر من الهجرة إلي بلاد النفط .
يعتمد المؤلف في لغة السرد علي الجمل القصيرة لتراكم التفاصيل الكثيرة مجسداً المشهد الروائي أمامنا ، بينما في الحوار يلجأ إلي اللهجة العامية سواء أكانت مصرية أم خليجية حسب الشخصية المتكلمة ، فنقرأ علي لسان الأم " أم الشيخ " بعد خوزقة " آدم " ، سؤالها :
ـ " ليش يا وليدي .. ليش ؟ " .
وفي حوارها مع حفيدها ، نقرأ :
" غيتينا يا جدّه .. خوزقـوه يا جدَّتي " .
ارتعـش صوتها الرفيـع أكثر بسـؤال آخر :
" إيـش تقول يا ولـد ولـدي ؟ " .
" خوزقـوه يا جدّتي مثل سليمـان الحلبي " .
" الحلبي ؟ .. إيش الحلبي هذا ؟ " .(11)
إن هذا الحوار لا يكشف فقط عن توافق لغة الحوار مع الشخصية ، ولكنه أيضاً يحمل بعداً آخر ، هو إدانة الجدَّة وابنها الذي خوزق " آدم " ، فهي لا تعرف من " سليمان الحلبي " ، وبالتالي لا تفهم معنى التضحية ، ومعنى حب الوطن ، ومعنى الوطن الذي جاء من أجله كل من " آدم " و " إبراهيم العثماني " و " عطية " ، إنهم يدافعون عن الوطن أو يضحون من أجله مثلهم مثل سليمان الحلبي .
ولقد وظَّف محمد عبد الله الهادي اللهجة العامية في الرواية بشكل ممتاز ، فإلي جانب ملاءمة اللهجة للشخصية ، نجد أن العبارة العامية يمكن أن تحمل بدلالات وشحنات عاطفية ، وتختتم الرواية بجملة عامية علي لسان عمران والد عطية :
" فين عطيَّة يا أستاذ ؟ .. فين عطيَّة ؟ .. يرضيك كـده ؟ " .
فهذه العبارة بقدر ما تحمل من ألم وعتاب ، تحمل أيضاً إدانة إلي إبراهيم العثماني الذي ترك عطية وعاد من غيره .
إلي جانب استخدام اللغة العامية في الحوار ، نجد محمد عبد الله الهادي يطعم السرد ببعض الأمثال العامية ، مثل قول الأم لإبراهيم :
ـ " أنت عاوز دار مبنية وعروسة مخبية يا بني " (12)
وعلي لسان الراوي : " كان إبراهيم يؤمن بالمثل الشعبي ( جع سنة تشبع العمر كله )(13)
ومثل هذه الأمثال تساعد علي وجود تنوع أسلوبي في السرد من شأنه أن ينشط ذاكرة المتلقي ويؤجج وعيه .
بقي أن أشير في نهاية هذه القراءة لرواية " عصا أبنوس ذات مقبض ذهبي " لمحمد عبد الله الهادي أن ثمة مأخذاً واحداً يمكن أن نأخذه علي المؤلف ، وهو طغيان صوت المؤلف علي صوت الراوي العليم في بعض الأحيان .
د.محمد عبدالحليم غنيم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* عصا أبنوس ذات مقبض ذهبي ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب . سلسلة كتاب الاتحاد ـ 2003م .
هوامش :
ــــ
1- حسن الجوخ : الرواية القصيرة .. أراء في تحديد المصطلح ، مجلة إبداع ، ع2 ديسمبر 1992 ، ص13 .
2- حسن الجوخ : المرجع نفسه ، ص15 .
3- سعيد يقطين : قال الراوي ـ المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء وبيروت ـ ط1 " 1997" ص 35 .
4- الرواية ص 10 .
5- الرواية ص 11 .
6- لرواية ص 106 .
7- أيان رايد ، القصة القصيرة ، ترجمة منى مؤنس ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1991 ، ص51 .
8- الرواية ص 114.
9- أدوين موير ، بناء الرواية ، ترجمة إبراهيم الصيرفي ، المؤسسة العامة للتأليف والأنباء والنشر ، القاهرة ، د.ت ص 37 .
10- الرواية ص 5 .
11- الرواية ص 4 .
12- الرواية ص 46 .
13- الرواية ص 51 .
* شعرية الرواية القصيرة
قراءة في رواية " عصا أبنوس ذات مقبض ذهبي " للكاتب الروائي محمد عبد الله الهادي
الدكتور / محمد عبدالحليم غنيم
ومن أسف أنني لم أطلع علي روايتي " الأحلام تتداعى " و " ضباب الفجر " لكي أقوم بموازنة موضوعية بين رواية اليوم وما سبقها من أعمال للكاتب ، ولذلك ستكون قراءتي للرواية في سياق نماذج الرواية القصيرة بوصفـها نوعاً أدبيـاً له سماته المتميزة وبنائه المستقر . إن أعمالاً مثل " العجوز والبحر لـ " أرنست همنجواي ، و " تونيو كروجر " و " الموت في فينسيا " لتوماس مان ، و " قنديل أم هاشم " ليحيى حقي ، و " يوم قتل الزعيم " لنجيب محفوظ ، و " أنا الملك جئت " لبهاء طاهر علي سبيل المثال لا الحصر ، تعد نماذج جيدة أو مثالية للرواية القصيرة في الأدبين العربي والأجنبي ، ولن أبالغ إذا أضفت رواية " عصا أبنوس ذات مقبض ذهبي " لهذه النماذج ، فهي تعد أيضاً نموذجاً جيداً لبناء الرواية القصيرة كما سنرى عبر التحليل النقدي ، وسيكون من المفيد أن أشير في عجالة إلي مفهوم الرواية القصيرة وخصائصها ، فهي من حيث الحجم تقع في منزلة وسطى بين الرواية الطويلة و القصة القصيرة ، ومن حيث البناء تجمع بين مقومات كل من الرواية والقصة القصيرة ، وهي في ذات الوقت يعد منطقة خصبة لتداخل الأنواع الأدبية : الرواية والقصة القصيرة والدراما . ومع تسليمنا بكل ما سبق نميل إلي القول أن للرواية القصيرة شعريتها الخاصة ، وهو ما يتفق والتحديد التالي للرواية القصيرة : " فهي ذلك العمل النثري الفني ، الذي يحقق التوازن الواعي بين الإيجاز الدقيق والتوسع المطلق " (1) .
ويمكن أن نجمل الخصائص الجوهرية العامة فيما يلي :
ـ فكرة جادة ثرية :
تعتمد عليها الرواية القصيرة وتتخذها محوراً تدور حوله بهدف مجابهة هذه الفكرة فنياً ، وبلورة كل أبعادها الظاهـرة والخفية ، وفقاً لنسق يتواءم وهذا الشكل الفـنِّي .
ـ وحدة انطباع كلي :
وهذه الوحدة يحققها كاتب الرواية القصيرة من خلال تركيزه علي أزمة واحدة لها ثراؤها وعمقها دون أن تستغرقه التفصيلات التي لا ضرورة لها في بناء العمل أو سير أحداثه ، وهو بالطبع يعتمد في ذلك علي ذكاء المتلقي وفطنته .
ـ الوصف الموجز :
فكاتب الرواية القصيرة يعتمد فعلاً علي الوصف الموجز الفاعل ويرفض تماماً تقديم الصور الوصفية " الاسكتش " هادفاً من وراء ذلك خلق الإيجاز الموظف ، وحتى لا يصاب العمل بالترهل .
ـ حرية استخدام الزمن :
فنجد أن كاتب الرواية القصيرة يتمتع حقاً بالحركة في امتداد زمني حر ، أكثر مما هو متاح لكاتب القصة القصيرة .
ـ اللغة الدالة المعبرة :
تمتاز الرواية القصيرة بلغتها الدالة المعبرة عن الموقف والأشخاص دون زيادة أو نقصان ، وقد تشكل اللغة في كثير من الروايات القصيرة جزءاً أساسياً في البناء الروائي ، وتدخل في إطار التجربة الإبداعية ذاتها .(2)
في إطار هذا المفهوم وتلك الخصائص يمكن دراسة رواية " عصا أبنوس " وذلك عبر العناصر التالية : المحتوى / الحبكة / الشخصية / اللغة .
أولاً : المحتوى :
ــــــــ
ينطلق أي عمل سردي كيفما كان نوعه من فكرة أساسية تكمن خلف بنائه السردي ، فالراوي قبل أن يقوم بخلق شخصياته وأفعالها ومكان تواجدها وزمنها ينطلق من فكرة معينة يريد إبلاغها ، هذه الفكرة يمكن تسميتها علي غرار السيموطيقيين بالمحتوى ، أي محتوى الرسالة التي يريد الراوي إيصالها ، ونسمي هذا المحتوى العام بالوظيفة المركزية ، لأنها المراد الذي يوظف من أجله الراوي كل المكونات بقصد إيصاله إلي ذهن المتلقي ، بهذا المعنى يمكن اعتبار الوظيفة المركزية بمثابة الصورة المجردة التي يسعى الراوي ألي تحقيقها باعتماد مختلف الصور الملموسة ( شخصيات / أفعال / زمان / مكان ) (3) .
وهذه الوظيفة المركزية المتحكمة في بناء العمل الروائي هو ما نسميه نحن بالفكرة الجادة في الرواية القصيرة أو المحتوى الرئيسي . في " عصا أبنوس " يمكن تحديد الوظيفة المركزية في الجملة الخبرية التالية : إبراهيم العثماني يعود من الخليج إلي جزيرة مطاوع محملاً بالخيبة ، ومن ثم فشل فكرة الهجرة إلي الخليج .
إن عودة إبراهيم إلي جزيرة مطاوع دون أن يحق حلمه في الثراء المادي ، وفشله في البقاء في بلاد النفط يتبدى في كثير من أجزاء الرواية سواء علي لسان الراوي أو الشخوص المشاركة في الحدث ، بل في أفعال إبراهيم وكلامه أيضاً ، فإبراهيم عندما يركب الحافلة من فاقوس يحرص علي إخفاء نفسه ، فهو لا يريد أن يراه أحد ، يقول الراوي :
" صعـد من الباب الخلفي وهو يتمنى ألاَّ يراه أحد يعرفه كي لا يسأله بحكم العادة عن سبب عودته الآن ، ماذا يكون جوابه ؟ " (4) ، ويختار المقعد الأخير مخفياً وجهه : " اختار المقعد الأخير ، وضع حقيبته بجواره ، جلس منزلقا إلي الأمام حتى يخفي وجهه خلف مسند المقعـد الأمامي عن الآخرين . (5) فإخفاء الوجه تعبير طبيعي ومناسب للإحساس بالفشل ، إن الفشل أو جدوى الهجرة لا يتبدى في الرواية في عودة إبراهيم فقط ، ولكن يتمثل أيضاً بصورة واضحة ودالة دلالة رمزية بعيدة المعنى في قتل " آدم " ، ذلك الشامي علي الخازوق ، وهو الفعل الذي سبب صدمة كبرى لإبراهيم المثالي ، فكان قرار العودة ، فالخازوق لم يلبسه " آدم " وحده ، بل لبسه كل من هاجر إلي بلاد النفط ، حتى " عطية " نفسه ، علي الرغم من نجاحه في تحقيق الثراء ، لقد بس عطية الخازوق عندما ترك زوجة شابة تسير علي حل شعرها في القرية مما أدَّى في النهاية إلي قتلها ، أما الخازوق الذي لبسه " آدم " ولبسه معظم شخوص الرواية فهو من الأبنوس الخالص والذهب رمز الثراء والنجاح ، يقول الراوي في سخرية لاذعة : " وخازوق اليوم طبقاً لنظرية التطوُّر غير خازوق الأمـس . خازوق اليوم بلا ريب هو الأفضل والقيِّـم والأغلى ثمناً : خازوق من الأبنوس الخالص والمقبض من الذهب الحـر .. هنيئاً لك يا " آدم " .(6)
إن هذه الفكرة المركزية التي تنطلق منها الرواية ، أي عدم جدوى الهجرة لا ينعكس تأثيرها علي الشخوص الفاعلة بشكل مباشر في البناء السردي ، بل يتعدى تأثيرها إلي باقي الشخوص الثانوية في العمل كـ " عمران " أبي عطية والحاج "صالح العثماني " وأبنائه الآخرين و " رتيبة " أم إبراهيم أيضاً .
ثانياً : الحبكة :
ـــــــــ
" كثيراً ما يقال أن الرواية القصيرة تقدم أحداثاً متماسكة بطريقة منطقية " (7) ، أي تعتمد في بنائها علي حبكة قوية إذا جاز التعبير ، ومع ذلك يجب التأكيد علي أنه يجب أن تتلاءم هذه الحبكة مع المادة الروائية المستخدمة ، والمحتوى الكامن خلف هذه المادة ، وكاتبنا في " عصا أبنوس " يقدم لنا أحداثاً متماسكة بطريقة منطقية .
إن الحبكة في الرواية هنا تقوم علي بناء الرحلة ، وهي رحلة ذات بعدين ، الأول هو بعـد خارجي وهو قصير جداً ، لا يستغرق سوى ركوب الحافلة من فاقوس إلي جزيرة مطاوع ، والبعد الثاني داخلي يتمثل في رحلة طويلة عبر ذات الشخصية الرئيسية إبراهيم العثماني ، إنها رحلة كفاح شريفة عبر المدرسة والغيط والعمل في وزارة الزراعة والزواج من ابنة رجل غني ، ثم السفر إلى الخليج الذي كان يجب أن يكون تتويجاً لرحلة النجاح ، لكن العقبة الكئود في هذا السفر .
إن بناء الرواية باتخاذه شكل الرحلة ، يبدو متماسكاً ومنطقياً وقوياً في ذات الوقت ، فعبر هذه الرحلة القصيرة داخل الحافلة من فاقوس إلي جزيرة مطاوع ، بين لحظات الصحو والإغفاء ، بين لحظات الواقع والحلم ، نغوص داخل الشخصية ، ل معظم الشخوص في الرواية بواسطة راوٍ عليم ، لكن من خلال رؤية ذاتية ، هي رؤية إبراهيم العثماني .
إن ذروة الحدث في هذا البناء تتحقق بوصول إبراهيم إلي جزيرة مطاوع ، حيث يتجسد فشل الرحلة ، العودة دون تحقيق الحلم في الثراء ، يتجسد هذا الفشل بصورة مأساوية في قتل " آمال " زوجة " عطية " : "عندما وصل للـدار ، وجدهم يتزاحمون علي باب " عمران " . تنهَّـد ، توقَّـف ، التـقط أنفاسه المبعثـرة تحت قدمـيه ، وراح يشق لنفسه طريقاً بين الأجسـاد المتزاحمة .. ، كانت المصيبة مجسَّمةً علي أرضية الصالة : " آمـال " زوجة " عطيَّة " ملقـاة أرضاً وسط بركة صغيرة من الدماء ، مبعـثرة الأعضاء ، مشجـوجة الرأس ، يقف أخوها بجوارها ممسكاً بالفـأس الثقـيلة الملوثة بالدماء " .(8)
ثم تنتهي الرحلة والرواية معاً بسؤال من " عمران " إلي " إبراهيم العثماني " ، وكأنه المسئول الرئيسي عن كل ما حدث : " فين عطيَّة يا أستاذ ؟ .. فين عطيَّة ؟ .. يرضيك كـده ؟ " . هل هو بالفعل خطأ إبراهيم ، وأنه يتحمل المسئولية وتبعة ما جرى لأنه ترك بلده / وطنه وهاجر ؟ ، ربما .
ثالثاً : الشخصية :
ــــــــــ
تبدو الرواية القصيرة طبقاً لتصنيف " أدوين موير " في كتابه بناء الرواية لأنواع الرواية ، أقرب إلي ما أسماه بالرواية الدرامية ، يقول " موير " : " وفي هذا القسم تختفي الهوة بين الشخصيات والحبكة ، فليست الشخصيات فيها جزءاً من آلية الحبكة ولا الحبكة مجرد إطار بدائي يحيط بالشخصيات ، بل تلتحم علي العكس كلتاهما معاً في نسيج لا ينفصم " (9) .
وفي " عصا أبنوس " لمحمد عبد الله الهادي تلتحم الشخصية الرئيسية بالحبكة ، فكل الأفعال وردودها تصدر عنها تقريباً ، إننا كما أشرنا في الفقرة السابقة تأخذ الحبكة بناء الرحلة ، إن الصدام الدرامي بين الشخصية وهي هنا إبراهيم لا يتم بصورة مباشرة ، إنما الصدام الحقيقي يكون مع الواقع ككل ، الواقع الخارجي سواء في الخارج ( بلاد النفط ) أم في مصر ( جزيرة مطاوع ) ، وعندما يذهب إبراهيم إلي الخليج يكتشف قبح المكان ووحشيته ، ثم يكتشف زيف المؤسسة التي يعمل بها ، حيث تتخذ الدين شعاراً ، في حين يكون سلوكها أبعد ما يكون عن الدين ، و" عطية " صاحب الفضل عليه يجده قبيحاً أيضاً ، إذ يكاد يكون علي علم بما تفعله زوجته في جزيرة مطاوع . أما الطامة الكبرى فتكون برؤيته لفعل الخوزقة لآدم الشامي ، ذلك الإنسان الذي استطاع أن يقف في وجه الشر والقبح بجرأةٍ وتحد ، ولكن كانت نهايته ٍمأساة حقيقية ، إن "آدم " وجه العملة المقابل لإبراهيم ، لكن آدم مات أو استشهد وإبراهيم باقٍ ليعاني لعنة الواقع ، لذلك فلن نبالغ إذا قلنا أن شخصية إبراهيم مثل الشخصيات التراجيدية في المآسي التراجيدية في المسرح ، يهرب إبراهيم من هذا القبح ، ولكنه في النهاية يواجه من قبل عمران أبي عطية ، الذي كان أوصاه قبل سفره أن يقنع عطية بالعودة ليكبح جماح زوجته ، أو ليسكت الشر المسيطر عليها ، لكن إبراهيم يفشل في إقناعه العودة ، ثم يعود هو ومع ذلك يشعر بالفشل ، يظهر ذلك بوضوح وهو راكب الحافلة إذ يخشى أن يراه أحد من أهل الجزيرة .
لذلك كان المؤلف واعياً ، هو يوجه اللوم لإبراهيم علي لسان عمران في السطر الأخير من الرواية بقوله : " يرضيك كده ؟ " .
اعتمد المؤلف في تصوير الشخصيات الرئسية علي فيض الوعي الداخلي للشخصية عبر صوت راوٍ عليم يتداخل مع صوت الشخصية . أما بقية الشخصيات فكان يعتمد بصورة أكبر علي التصوير الخارجي ، بذكر ملمح خارجي أو أكثر للشخصية ، تصويره لشخصية الأوسطي " عبد البديع " علي سبيل المثال . والواقع أن تقنية الرحلة كبناء للرواية كان له الأثر الأكبر في اعتماد المؤلف علي لتصوير الداخلي للشخصيات ، كما أن هذا النوع من الرواية لا يحتمل اللجوء بكثرة إلي الوصف الخارجي للشخوص .
رابعاً : اللغة :
ـــــــ
لاشك أن اللغة تشكل عنصراً أساسياً في العمل الأدبي ، وفي " عصا أبنوس " ستلعب اللغة دوراً مهماً في توصيل المحتوى الذي أشرنا إليه في البداية ، وإذا كان البحث في لغة العمل الأدبي مرتبط بعناصر العمل الأخرى ، غير أن الحديث عن اللغة هنا لن يكون إلاَّ من خلال الأسلوب السردي في عناصره المتنوعة من سرد ووصف وحوار .
يبدأ " محمد عبد الله الهادي " الرواية بجمل خبرية تقريرية ، أقل ما توصف به هو الحدة ، يقول : " لم يصرخ ولم يطلب النجدة .
لم تذرف عيناه ، آنئـذ ، دمعةً واحدةً .
من ذا الذي سوف يسمعه في هذه البلاد ، ومن ذا الذي سوف يغيثه ؟ .
لم يركب قدميه ويفر بهما هارباً كجمل غضُوب " (10)
سنلاحظ أن الجملتين الثالثة والرابعة جاءتا في صورة استفهام ، لكنه استفهام غرضه النفي أيضاً ، مثل الجملتين السابقتين عليه .
إن النفي هنا بصوره المختلفة لن يكون إلاَّ مقدمة لاتخاذ موقف ، هو العودة إلي مصر تاركاً هذا الواقع القبيح ، ومسجلاً موقفاً أيدولوجياً وإن كان بشكل غير مباشر من الهجرة إلي بلاد النفط .
يعتمد المؤلف في لغة السرد علي الجمل القصيرة لتراكم التفاصيل الكثيرة مجسداً المشهد الروائي أمامنا ، بينما في الحوار يلجأ إلي اللهجة العامية سواء أكانت مصرية أم خليجية حسب الشخصية المتكلمة ، فنقرأ علي لسان الأم " أم الشيخ " بعد خوزقة " آدم " ، سؤالها :
ـ " ليش يا وليدي .. ليش ؟ " .
وفي حوارها مع حفيدها ، نقرأ :
" غيتينا يا جدّه .. خوزقـوه يا جدَّتي " .
ارتعـش صوتها الرفيـع أكثر بسـؤال آخر :
" إيـش تقول يا ولـد ولـدي ؟ " .
" خوزقـوه يا جدّتي مثل سليمـان الحلبي " .
" الحلبي ؟ .. إيش الحلبي هذا ؟ " .(11)
إن هذا الحوار لا يكشف فقط عن توافق لغة الحوار مع الشخصية ، ولكنه أيضاً يحمل بعداً آخر ، هو إدانة الجدَّة وابنها الذي خوزق " آدم " ، فهي لا تعرف من " سليمان الحلبي " ، وبالتالي لا تفهم معنى التضحية ، ومعنى حب الوطن ، ومعنى الوطن الذي جاء من أجله كل من " آدم " و " إبراهيم العثماني " و " عطية " ، إنهم يدافعون عن الوطن أو يضحون من أجله مثلهم مثل سليمان الحلبي .
ولقد وظَّف محمد عبد الله الهادي اللهجة العامية في الرواية بشكل ممتاز ، فإلي جانب ملاءمة اللهجة للشخصية ، نجد أن العبارة العامية يمكن أن تحمل بدلالات وشحنات عاطفية ، وتختتم الرواية بجملة عامية علي لسان عمران والد عطية :
" فين عطيَّة يا أستاذ ؟ .. فين عطيَّة ؟ .. يرضيك كـده ؟ " .
فهذه العبارة بقدر ما تحمل من ألم وعتاب ، تحمل أيضاً إدانة إلي إبراهيم العثماني الذي ترك عطية وعاد من غيره .
إلي جانب استخدام اللغة العامية في الحوار ، نجد محمد عبد الله الهادي يطعم السرد ببعض الأمثال العامية ، مثل قول الأم لإبراهيم :
ـ " أنت عاوز دار مبنية وعروسة مخبية يا بني " (12)
وعلي لسان الراوي : " كان إبراهيم يؤمن بالمثل الشعبي ( جع سنة تشبع العمر كله )(13)
ومثل هذه الأمثال تساعد علي وجود تنوع أسلوبي في السرد من شأنه أن ينشط ذاكرة المتلقي ويؤجج وعيه .
بقي أن أشير في نهاية هذه القراءة لرواية " عصا أبنوس ذات مقبض ذهبي " لمحمد عبد الله الهادي أن ثمة مأخذاً واحداً يمكن أن نأخذه علي المؤلف ، وهو طغيان صوت المؤلف علي صوت الراوي العليم في بعض الأحيان .
د.محمد عبدالحليم غنيم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* عصا أبنوس ذات مقبض ذهبي ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب . سلسلة كتاب الاتحاد ـ 2003م .
هوامش :
ــــ
1- حسن الجوخ : الرواية القصيرة .. أراء في تحديد المصطلح ، مجلة إبداع ، ع2 ديسمبر 1992 ، ص13 .
2- حسن الجوخ : المرجع نفسه ، ص15 .
3- سعيد يقطين : قال الراوي ـ المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء وبيروت ـ ط1 " 1997" ص 35 .
4- الرواية ص 10 .
5- الرواية ص 11 .
6- لرواية ص 106 .
7- أيان رايد ، القصة القصيرة ، ترجمة منى مؤنس ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1991 ، ص51 .
8- الرواية ص 114.
9- أدوين موير ، بناء الرواية ، ترجمة إبراهيم الصيرفي ، المؤسسة العامة للتأليف والأنباء والنشر ، القاهرة ، د.ت ص 37 .
10- الرواية ص 5 .
11- الرواية ص 4 .
12- الرواية ص 46 .
13- الرواية ص 51 .
* شعرية الرواية القصيرة
قراءة في رواية " عصا أبنوس ذات مقبض ذهبي " للكاتب الروائي محمد عبد الله الهادي
الدكتور / محمد عبدالحليم غنيم
التعديل الأخير بواسطة المشرف: