نقوس المهدي
كاتب
في ( فصل المقال ) و( ضميمة العلم الإلهي ) عرض ابن رشد لثلاث من القضايا الرئيسية التي دار حولها الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين :
1 – العالم، وهل هو قديم أو محدث.. ومعنى القدم والحدوث.
2 – العلم الإلهي، وهل هو محيط بالجزئيات، أو مقتصر على الكليات.
3 – المعاد، وهل هو مادي أو روحي.
ولك قصد ابن رشد لم يكن، في هذا النص الذي نقدم له، إلى هذه القضايا في الأساس، لأنها أكبر من أن يوفيها حقها من البحث في هذا الحيز الضيق والنطاق المحدود، هذا، إلى أنه قد وفاها حقها عندما ناقش فيها المتكلمين في كتابه (مناهج الأدلة)، وعندما رد على الإمام الغزالي في (تهافت التهافت)، وإنما كان تعرضه لهذه القضايا هنا من باب ضرب الأمثلة وتقديم النماذج التطبيقية التي يوضح بها مقصده من هذا النص، والذي هو أساسا إثبات إخاء الحكمة (الفلسفة) للشريعة، وتقديم المنهج الذي نصل باستخدامه إلى الإيمان بهذا الإخاء..
فهذا النص أقرب إلى أن يكون حديثا في المنهج منه إلى أن يكون ساعيا إلى دراسة هذه القضايا الثلاث التي عرض لها بالإشارة والتمثيل.. ومن هنا تأتي أهميته بين نصوص ابن رشد المؤلفة، التي اشتملت على وجهات نظره الخاصة أكثر مما اشتملت عليها شروحه على كتب أرسطو.
ومن بين عناصر هذا المنهج الذي قدمه ابن رشد في هذا النص، يبرز لنا عنصران:
1 – التأويل
2 – واختلاف مراتب الناس باختلاف طباعهم وتفاضلها في التصديق:
التأويل : وهو أمر يراه ابن رشد ضروريا لأهل النظر أكثر من ضرورته للفقهاء، لأنهم أقدر عليه، وأحق باستخدامه، ولأن دواعيهم إليه لا تقاس بها دواعي الفقهاء في هذا المقام.. كما يراه السبيل إلى نفي ما يبدو من تعارض وتناقض بين ظواهر بعض النصوص وبين الحقائق اليقينية التي تجيء ثمرة للبرهان عند أهل النظر والعاملين بصناعة الحكمة.. وهو يقطع بصلاحيات التأويل في كل المواطن والمواقف التي يبدو فيها مثل هذا التعارض بين ظواهر النصوص ومعطيات البرهان.
و معنى التأويل عنده: "هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية ، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز" وذلك مثل أن يسمى الشيء " بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه " إلخ إلخ..
والعلة في لزوم التأويل لأهل النظر أكثر من لزومه للفقهاء ، نابعة من الفرق بين نوعية القياس عند كل فريق، فإذا كان جائزا للفقيه الذي يستخدم القياس الظني أن يؤول " فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب علم البرهان.. وعنده قياس يقيني"؟.
و وحدة الحقيقة، مع اختلاف طرق الوصول إليها، وتفاوت النسب بين المقادير التي يعيها منها الناس، دليل على لزوم التأويل، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لإزالة التعارض الذي يبدو احيانا بين ظواهر بعض النصوص وبين معطيات البرهان، ومن هنا كان حكم ابن رشد وقوله: " ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع ، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون اللتأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن...".
بل وأكثر من ذلك يذهب ابن رشد إلى أن في "الألفاظ" الشرع، وظواهر نصوصه ما يشهد للتأويل في كل موطن يحتاج التوفيق بين الحكمة والشريعة فيه إلى التأويل، وفي ذلك يقول: "إنه ما من منطوق في الشرع، مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا اعتبر تصفحت سائر أجزائه، وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو ما يقارب أن يشهد..." فكأنما قصد الشرع إلى ذلك قصدا.. وذلك لغرض "تنبيه الراسخين في العلم على التأويل" الذي يجمع بين ظواهر الانصوص وبين ما يعارضها من حقائق البرهان.
***
والأمر الذي يتميز به حديث ابن رشد في هذا االتأويل، وضرورته، وقواعده إنما يتعلق بتطبيقه لقواعد هذا المنهج على القضايا الثلاث الأساسية التي دار من حولها الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين، فهو عندما يشير إلى أن الأشعرية قد أولوا بعض النصوص، والمعتزلة قد أولوا الكثير من النصوص، وعندما يستشهد بالغزالي الذي تحدث في (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) عن المراتب الخمسة للوجود: الذاتي والحسي والخيالي والعقلي والشبهي.. فكأنما يريد أن يقول لنا: إن العبرة ليست في التسليم بجواز التأويل أو وجوبه، ولا في تعداد مراتب الوجود التي لا يكفر المصدق إذا تصور شيئا من أمور الآخرة مثلا على أي مرتبة من هذه المراتب... إن العبرة ليست في ذكر ذلك والحديث عنه، وإنما هي في تطبيق هذا المنهج على الفقضايا الرئيسية التي شغلت الكثيرين بالجدل والخلاف.. فالغزالي برغم إيمانه بهذا المنهج إلا أنه أخطأ في تطبيقه عند ما كفر الفلاسفة لمسلمين بصدد هذه القضايا الثلاثة: العالم والمعاد والعلم القديم..
فلو تأول الغزالي ظواهر النصوص التي وردت في المعاد، مثلا، لما كفر الذين صدقوا وآمنوا بوجود السعادة الأخروية و الشقاء الأخروي، بسبب تأولهم للتفاصيل والجزئيات التي جاءت بها ظواهر بعض النصوص في هذا المقام.. لأنهم لم ينكروا وجود المعاد. وإنما تأولوا ظواهر بعض النصوص دون الخروج عن مراتب الوجود التي عددها الغزالي نفسه في هذا الباب. ومثل ذلك قائم في غير قضية المعاد من قضايا الخلاف بين الغزالي وفلاسفة المسلمين.
مراتب الناس: وانطلاقا من هذا الموقف المؤمن بوحدة الحقيقة، واختلاف طرق الوصول إليها، وتفاوت درجات الناس وحظوظهم في تحصيلها، قال ابن رشد: إن هناك مستويات ثلاثة للناس إزاء التصديق "وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية".
فجمهور الناس وعامتهم، الذين هم مقصد الشرع الأول، إنما يأتي لهم اليقين ويتحصل لهم الإطمئنان بواسطة الأقاويل الخطابية والوعظية والشعرية، وهي وإن تكن غير كافية لإقناع أهل الجدل، وغير صالحة لإقناع أصحاب البرهان، إلا أنها كافية لتحقيق يقين العامة وإيمانهم، ووصولهم إلى التصديق بل إنه يجب أن لا نتعدى بهم هذا النطاق، لأن الدخول بهم في ميدان الجدل، أو حقائق البرهان، وذاهب بإيمانهم، دون أن تكون لهم القدرة على استخدام هذه الأدوات، ومن ثم فلا يستطيعون أن يحصلوا بواسطتها أي نوع من أنواع التصديق واليقين.
والمرتبة التي تلي الجمهور، صعودا، هي مرتبة أهل الجدل، الذين لم يصلوا إلى مرتبة أهل البرهان، وإن كانوا قد ارتفعوا عن دائرة العامة والجمهور.. وهؤلاء لهم الأقاويل الجدلية سبيلا إلى التصديق واليقين. وهم إذا طلب إليهم التصديق بالأقاويل الخطابية لم يتحصل لهم يقين، وإذا سلكوا للتصديق طريق البرهان لم تتيسر لهم هذه الأدوات، ومن ثم لا تتحصل لهم ثمرات استخدامها..
وفي القمة يأتي أهل النظر، العارفون بصناعة الحكمة، والسالكون إلى التصديق طريق البرهان، وهم الفلاسفة الذين يجب أن يصونوا صناعتهم هذه عن أهل الجدل، وعن الجمهور، وذلك حفاظا على التصديق الذي تحصل لكل فريق من السبيل لذي هيئ له وفق ما لديه من إمكانيات..
- من فصل المقال لابن رشد . تحقيق محمد عمارة. دار المعارف بمصر. 1969
1 – العالم، وهل هو قديم أو محدث.. ومعنى القدم والحدوث.
2 – العلم الإلهي، وهل هو محيط بالجزئيات، أو مقتصر على الكليات.
3 – المعاد، وهل هو مادي أو روحي.
ولك قصد ابن رشد لم يكن، في هذا النص الذي نقدم له، إلى هذه القضايا في الأساس، لأنها أكبر من أن يوفيها حقها من البحث في هذا الحيز الضيق والنطاق المحدود، هذا، إلى أنه قد وفاها حقها عندما ناقش فيها المتكلمين في كتابه (مناهج الأدلة)، وعندما رد على الإمام الغزالي في (تهافت التهافت)، وإنما كان تعرضه لهذه القضايا هنا من باب ضرب الأمثلة وتقديم النماذج التطبيقية التي يوضح بها مقصده من هذا النص، والذي هو أساسا إثبات إخاء الحكمة (الفلسفة) للشريعة، وتقديم المنهج الذي نصل باستخدامه إلى الإيمان بهذا الإخاء..
فهذا النص أقرب إلى أن يكون حديثا في المنهج منه إلى أن يكون ساعيا إلى دراسة هذه القضايا الثلاث التي عرض لها بالإشارة والتمثيل.. ومن هنا تأتي أهميته بين نصوص ابن رشد المؤلفة، التي اشتملت على وجهات نظره الخاصة أكثر مما اشتملت عليها شروحه على كتب أرسطو.
ومن بين عناصر هذا المنهج الذي قدمه ابن رشد في هذا النص، يبرز لنا عنصران:
1 – التأويل
2 – واختلاف مراتب الناس باختلاف طباعهم وتفاضلها في التصديق:
التأويل : وهو أمر يراه ابن رشد ضروريا لأهل النظر أكثر من ضرورته للفقهاء، لأنهم أقدر عليه، وأحق باستخدامه، ولأن دواعيهم إليه لا تقاس بها دواعي الفقهاء في هذا المقام.. كما يراه السبيل إلى نفي ما يبدو من تعارض وتناقض بين ظواهر بعض النصوص وبين الحقائق اليقينية التي تجيء ثمرة للبرهان عند أهل النظر والعاملين بصناعة الحكمة.. وهو يقطع بصلاحيات التأويل في كل المواطن والمواقف التي يبدو فيها مثل هذا التعارض بين ظواهر النصوص ومعطيات البرهان.
و معنى التأويل عنده: "هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية ، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز" وذلك مثل أن يسمى الشيء " بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه " إلخ إلخ..
والعلة في لزوم التأويل لأهل النظر أكثر من لزومه للفقهاء ، نابعة من الفرق بين نوعية القياس عند كل فريق، فإذا كان جائزا للفقيه الذي يستخدم القياس الظني أن يؤول " فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب علم البرهان.. وعنده قياس يقيني"؟.
و وحدة الحقيقة، مع اختلاف طرق الوصول إليها، وتفاوت النسب بين المقادير التي يعيها منها الناس، دليل على لزوم التأويل، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لإزالة التعارض الذي يبدو احيانا بين ظواهر بعض النصوص وبين معطيات البرهان، ومن هنا كان حكم ابن رشد وقوله: " ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع ، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون اللتأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن...".
بل وأكثر من ذلك يذهب ابن رشد إلى أن في "الألفاظ" الشرع، وظواهر نصوصه ما يشهد للتأويل في كل موطن يحتاج التوفيق بين الحكمة والشريعة فيه إلى التأويل، وفي ذلك يقول: "إنه ما من منطوق في الشرع، مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا اعتبر تصفحت سائر أجزائه، وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو ما يقارب أن يشهد..." فكأنما قصد الشرع إلى ذلك قصدا.. وذلك لغرض "تنبيه الراسخين في العلم على التأويل" الذي يجمع بين ظواهر الانصوص وبين ما يعارضها من حقائق البرهان.
***
والأمر الذي يتميز به حديث ابن رشد في هذا االتأويل، وضرورته، وقواعده إنما يتعلق بتطبيقه لقواعد هذا المنهج على القضايا الثلاث الأساسية التي دار من حولها الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين، فهو عندما يشير إلى أن الأشعرية قد أولوا بعض النصوص، والمعتزلة قد أولوا الكثير من النصوص، وعندما يستشهد بالغزالي الذي تحدث في (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) عن المراتب الخمسة للوجود: الذاتي والحسي والخيالي والعقلي والشبهي.. فكأنما يريد أن يقول لنا: إن العبرة ليست في التسليم بجواز التأويل أو وجوبه، ولا في تعداد مراتب الوجود التي لا يكفر المصدق إذا تصور شيئا من أمور الآخرة مثلا على أي مرتبة من هذه المراتب... إن العبرة ليست في ذكر ذلك والحديث عنه، وإنما هي في تطبيق هذا المنهج على الفقضايا الرئيسية التي شغلت الكثيرين بالجدل والخلاف.. فالغزالي برغم إيمانه بهذا المنهج إلا أنه أخطأ في تطبيقه عند ما كفر الفلاسفة لمسلمين بصدد هذه القضايا الثلاثة: العالم والمعاد والعلم القديم..
فلو تأول الغزالي ظواهر النصوص التي وردت في المعاد، مثلا، لما كفر الذين صدقوا وآمنوا بوجود السعادة الأخروية و الشقاء الأخروي، بسبب تأولهم للتفاصيل والجزئيات التي جاءت بها ظواهر بعض النصوص في هذا المقام.. لأنهم لم ينكروا وجود المعاد. وإنما تأولوا ظواهر بعض النصوص دون الخروج عن مراتب الوجود التي عددها الغزالي نفسه في هذا الباب. ومثل ذلك قائم في غير قضية المعاد من قضايا الخلاف بين الغزالي وفلاسفة المسلمين.
مراتب الناس: وانطلاقا من هذا الموقف المؤمن بوحدة الحقيقة، واختلاف طرق الوصول إليها، وتفاوت درجات الناس وحظوظهم في تحصيلها، قال ابن رشد: إن هناك مستويات ثلاثة للناس إزاء التصديق "وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية".
فجمهور الناس وعامتهم، الذين هم مقصد الشرع الأول، إنما يأتي لهم اليقين ويتحصل لهم الإطمئنان بواسطة الأقاويل الخطابية والوعظية والشعرية، وهي وإن تكن غير كافية لإقناع أهل الجدل، وغير صالحة لإقناع أصحاب البرهان، إلا أنها كافية لتحقيق يقين العامة وإيمانهم، ووصولهم إلى التصديق بل إنه يجب أن لا نتعدى بهم هذا النطاق، لأن الدخول بهم في ميدان الجدل، أو حقائق البرهان، وذاهب بإيمانهم، دون أن تكون لهم القدرة على استخدام هذه الأدوات، ومن ثم فلا يستطيعون أن يحصلوا بواسطتها أي نوع من أنواع التصديق واليقين.
والمرتبة التي تلي الجمهور، صعودا، هي مرتبة أهل الجدل، الذين لم يصلوا إلى مرتبة أهل البرهان، وإن كانوا قد ارتفعوا عن دائرة العامة والجمهور.. وهؤلاء لهم الأقاويل الجدلية سبيلا إلى التصديق واليقين. وهم إذا طلب إليهم التصديق بالأقاويل الخطابية لم يتحصل لهم يقين، وإذا سلكوا للتصديق طريق البرهان لم تتيسر لهم هذه الأدوات، ومن ثم لا تتحصل لهم ثمرات استخدامها..
وفي القمة يأتي أهل النظر، العارفون بصناعة الحكمة، والسالكون إلى التصديق طريق البرهان، وهم الفلاسفة الذين يجب أن يصونوا صناعتهم هذه عن أهل الجدل، وعن الجمهور، وذلك حفاظا على التصديق الذي تحصل لكل فريق من السبيل لذي هيئ له وفق ما لديه من إمكانيات..
- من فصل المقال لابن رشد . تحقيق محمد عمارة. دار المعارف بمصر. 1969