نقوس المهدي
كاتب
لحظة الحديث عن الأدب الساخر لا يمكن إغفال قلة حضور هذا الأدب في المشهد العربي، وهو أمر قد يكون بحاجة إلى تحليل يتجاوز دائرة الأدب نفسه، ويتطرق إلى الواقع العربي عموماً إلى مختلف بناه، وإلى سيكولوجية الإنسان العربي بشكل عام، ولكن من المهم أيضاً أن نقول إن الأدب العربي قد عرف الكثير من التجارب والنصوص السردية أو الشعرية الساخرة، غير أن تسليط الضوء “ربما” عليها لم يرق إلى مكانتها، وإلى مدى أهميتها في سياق الأدب العربي نفسه، وهو أمر “ربما” استمر حتى تاريخنا المعاصر، وقد تكون النظرة العامة إلى هذا الأدب قد حرمته من أن ينال حقه بالمتابعة، أو النقد، وبالتالي كانت المحصلة انحسار دائرة كتّاب هذا الأدب من جهة، ومن جهة أخرى قلة متابعيه .
ارتبط الأدب الساخر قديماً بشكل أساسي بالهجاء، خاصة في الشعر، وقد ظهرت قامات شعرية كبيرة في مراحل مختلفة من التاريخ العربي، ومنهم بشار بن برد الذي لم ينج من هجائه كبار القوم في زمانه، ورجالات السياسة، حتى أنه كان يهجو أحياناً نفسه:
“في حلتي جسم فتى ناحل
لو هبت الريح به طاحا”
ومن القامات الكبيرة كان الحطيئة واحداً من الشعراء الذين وجهوا هجاءهم إلى أقرب المقربين إليهم، ومنهم أمه، وهو أمر وإن كان يتجاوز العرف الأخلاقي، لكنه من الناحية الأدبية الصرفة لا يخرج عن نطاق الضرورات الإبداعية لما يشكله من اختراق للعرف العام، وهذه إحدى أهم سمات الأدب الساخر، حيث يسقط العرف والمألوف لمصلحة قوة النص:
“جزاك اللهُ شراً من عجوز
ولقّاك العقوقَ من البنينا
تنحي فاجلسي عني بعيداً
أراح اللهُ منكِ العالمينا
ألم أُظهر لك البغضاءَ مني
ولكن لا أخالك تعلمينا” .
قد تكون هناك الكثير من المشتركات بين الأدب الساخر قديمه وحديثه، وهذا “ربما” أمر طبيعي، إذ يعتمد هذا الأدب على المفارقة بالدرجة الأولى، وعلى كسر المألوف في التعاطي مع الصور النمطية، فإذا كان احترام الأم وتبجيلها هو الأمر الطبيعي في مختلف المنظومات الدينية والاجتماعية فإن السخرية منها نوع من المفارقة والخروج عن ذلك المألوف .
إذاً، ستبقى المفارقة جزءاً أصيلاً من الأدب الساخر، لكنها ستتحول حسب التحولات التاريخية والاجتماعية التي سيعرفها التاريخ العربي، وستصبح في التاريخ المعاصر تعبيراً عن حالة نقدية، يتوجه فيها الكاتب بنقده إلى الأنظمة السياسية ومختلف البنى الأخرى، ويعبر من خلالها عن موقف رافض للمنظومة القيمية التي تقف وراءها، وما تنتجه من أنماط سلوك، وهي أنماط سلوك تبدو للكاتب الساخر مملوءة بالمتناقضات، ولذلك فإنه يقوم بتناولها من زاوية محددة، هي تماماً زاوية غير مألوفة عادة لدى الجمهور، وهو ما ينتج السخرية داخل النص، أو لدى المتلقي، وهكذا يولد نوع من التواطؤ بين النص والمتلقي .
من جهة أخرى يجب الإقرار بأن الكتابة الساخرة الحديثة تفاوتت بين بلد عربي وآخر، حيث أدت مجموعة من العوامل إلى ظهور أدب ساخر أكثر حضوراً كماً وكيفاً في بعض البلدان أكثر من بلدان أخرى، ويمكن القول إن مصر وسوريا كانتا رائدتين في هذا الأدب، وهو أمر يمكن فهمه تبعاً لتطور حركة الأدب في هذين البلدين أكثر من غيرهما، فظهر الأدب الساخر كجزء من حركة أدبية عامة .
وبعيداً عن أية محاولة لتأريخ حركة الأدب الساخر في البلدان العربية، أو قراءة طبيعته وفقاً لأسباب مجتمعية محددة، يمكن القول إن هذا الأدب يشكل بحد ذاته مساحة فاعلة، وموازية في تأثيرها للأدب الجاد، أو ما يسمى عادة الأدب الملتزم، فقد كانت الكثير من القضايا مشتركة بين هذين النوعين من الأدب، فإذا كان الأدب الجاد قد أخذ على عاتقه فضح لكثير من الممارسات الخاطئة في المجتمع، وتعرية زيف بعض الفئات والطبقات، فإن الأدب الساخر قام بالدور نفسه على طريقته الخاصة، من دون الانزلاق في عملية التنظير التي شابت الكثير من الكتابات الأدبية النقدية، وبذلك جنب الأدب الساخر نفسه الخروج من ناصية الجمالي والفني إلى ناصية الايديولوجي .
ومن جهة أخرى فإن الأدب الساخر شعراً أم سرداً كان قريباً إلى شرائح اجتماعية لم تكن تحظى عادة بنصيب من الكتابات الأخرى، وقد أتت بعض الكتابات الساخرة باللهجة العامية مثل أشعار بيرم التونسي، وأحمد فؤاد نجم، وكانت قريبة من نبض الشارع، وقضاياه الراهنة في كل مرحلة من المراحل، كذلك كانت كتابات محمود السعدني، وقصص زكريا تامر، وخطيب بدلة، وإبراهيم صاموئيل، وغيرهم، وفي المسرح العربي كان هناك الكثير من النماذج التي قدمت على شكل عروض مسرحية، ولم يحظ معظمها بالتحول إلى كتب، وفي المسرح تحديداً يمكن التمييز بوضوح بين المسرح الساخر والمسرح الكوميدي، فالمسرح العربي الساخر كان أقرب إلى الكوميديا السوداء، ولقد أنتجت البلدان العربية في هذا المجال أعمالاً كثيرة، وكان بعضها بالعامية، وقد تكون أبرزها أعمال زياد الرحباني التي تناولت بالسخرية مسار الحرب الأهلية في لبنان، وتطرقت بالنقد إلى مختلف القوى، وحازت تلك الأعمال استحسان قطاعات واسعة من الجمهور داخل لبنان وخارجه .
وإذا نظرنا بموضوعية إلى واقع الكتابات الساخرة في العقدين الأخيرين فإننا سنجد انحساراً واضحاً لهذه الكتابات، حتى أن الصحافة الأدبية التي كانت تحتفل بالكتابات الساخرة غابت عنها هذه الكتابات، وهو ما يجد تفسيره في الواقع العربي نفسه، فالكتابة الساخرة تتطلب وجود حد أدنى من مناخ الحرية، فهي معروفة بأنها كتابات لاذعة، وفيها نقد غالباً ما يكون موجهاً نحو الفئات الأكثر نفوذاً في المجتمع، ولذا فإن انحسارها يؤشر إلى تناقص مقدار الحريات في الواقع العربي، كما يؤشر إلى غياب التسامح من قبل تلك الفئات مع الكتابة الساخرة، أو مع أية محاولة نقدية لها .
ما يمكن السؤال عنه اليوم في ظل التحولات الجارية في الوطن العربي هو: هل ستعود الكتابة الساخرة إلى الانتعاش مرة أخرى؟ فمن البدهي أن تكون القدرة على السخرية وإمكانية تقبلها بصدر رحب مؤشراً على تطور أي مجتمع باتجاه ارتفاع منسوب الحرية في حياته العامة، كما أنه مؤشر على مجتمع لا يتخذ من الكآبة صفة نفسية وحيدة وواحدة له، وإنما قادر على أن يمارس نوعاً من السخرية على نفسه، وعلى ما يجري من حوله، وأن يضحك من المفارقات الموجودة من حوله، وهو ضحك يؤدي بالضرورة إلى وعي بطبيعة التحديات المفروض عليه أن يواجهها، وفي طليعتها التناقض بين مجموع القيم والشعارات المرفوعة والممارسات الفعلية للأفراد والجماعات على مختلف مشاربهم.
ارتبط الأدب الساخر قديماً بشكل أساسي بالهجاء، خاصة في الشعر، وقد ظهرت قامات شعرية كبيرة في مراحل مختلفة من التاريخ العربي، ومنهم بشار بن برد الذي لم ينج من هجائه كبار القوم في زمانه، ورجالات السياسة، حتى أنه كان يهجو أحياناً نفسه:
“في حلتي جسم فتى ناحل
لو هبت الريح به طاحا”
ومن القامات الكبيرة كان الحطيئة واحداً من الشعراء الذين وجهوا هجاءهم إلى أقرب المقربين إليهم، ومنهم أمه، وهو أمر وإن كان يتجاوز العرف الأخلاقي، لكنه من الناحية الأدبية الصرفة لا يخرج عن نطاق الضرورات الإبداعية لما يشكله من اختراق للعرف العام، وهذه إحدى أهم سمات الأدب الساخر، حيث يسقط العرف والمألوف لمصلحة قوة النص:
“جزاك اللهُ شراً من عجوز
ولقّاك العقوقَ من البنينا
تنحي فاجلسي عني بعيداً
أراح اللهُ منكِ العالمينا
ألم أُظهر لك البغضاءَ مني
ولكن لا أخالك تعلمينا” .
قد تكون هناك الكثير من المشتركات بين الأدب الساخر قديمه وحديثه، وهذا “ربما” أمر طبيعي، إذ يعتمد هذا الأدب على المفارقة بالدرجة الأولى، وعلى كسر المألوف في التعاطي مع الصور النمطية، فإذا كان احترام الأم وتبجيلها هو الأمر الطبيعي في مختلف المنظومات الدينية والاجتماعية فإن السخرية منها نوع من المفارقة والخروج عن ذلك المألوف .
إذاً، ستبقى المفارقة جزءاً أصيلاً من الأدب الساخر، لكنها ستتحول حسب التحولات التاريخية والاجتماعية التي سيعرفها التاريخ العربي، وستصبح في التاريخ المعاصر تعبيراً عن حالة نقدية، يتوجه فيها الكاتب بنقده إلى الأنظمة السياسية ومختلف البنى الأخرى، ويعبر من خلالها عن موقف رافض للمنظومة القيمية التي تقف وراءها، وما تنتجه من أنماط سلوك، وهي أنماط سلوك تبدو للكاتب الساخر مملوءة بالمتناقضات، ولذلك فإنه يقوم بتناولها من زاوية محددة، هي تماماً زاوية غير مألوفة عادة لدى الجمهور، وهو ما ينتج السخرية داخل النص، أو لدى المتلقي، وهكذا يولد نوع من التواطؤ بين النص والمتلقي .
من جهة أخرى يجب الإقرار بأن الكتابة الساخرة الحديثة تفاوتت بين بلد عربي وآخر، حيث أدت مجموعة من العوامل إلى ظهور أدب ساخر أكثر حضوراً كماً وكيفاً في بعض البلدان أكثر من بلدان أخرى، ويمكن القول إن مصر وسوريا كانتا رائدتين في هذا الأدب، وهو أمر يمكن فهمه تبعاً لتطور حركة الأدب في هذين البلدين أكثر من غيرهما، فظهر الأدب الساخر كجزء من حركة أدبية عامة .
وبعيداً عن أية محاولة لتأريخ حركة الأدب الساخر في البلدان العربية، أو قراءة طبيعته وفقاً لأسباب مجتمعية محددة، يمكن القول إن هذا الأدب يشكل بحد ذاته مساحة فاعلة، وموازية في تأثيرها للأدب الجاد، أو ما يسمى عادة الأدب الملتزم، فقد كانت الكثير من القضايا مشتركة بين هذين النوعين من الأدب، فإذا كان الأدب الجاد قد أخذ على عاتقه فضح لكثير من الممارسات الخاطئة في المجتمع، وتعرية زيف بعض الفئات والطبقات، فإن الأدب الساخر قام بالدور نفسه على طريقته الخاصة، من دون الانزلاق في عملية التنظير التي شابت الكثير من الكتابات الأدبية النقدية، وبذلك جنب الأدب الساخر نفسه الخروج من ناصية الجمالي والفني إلى ناصية الايديولوجي .
ومن جهة أخرى فإن الأدب الساخر شعراً أم سرداً كان قريباً إلى شرائح اجتماعية لم تكن تحظى عادة بنصيب من الكتابات الأخرى، وقد أتت بعض الكتابات الساخرة باللهجة العامية مثل أشعار بيرم التونسي، وأحمد فؤاد نجم، وكانت قريبة من نبض الشارع، وقضاياه الراهنة في كل مرحلة من المراحل، كذلك كانت كتابات محمود السعدني، وقصص زكريا تامر، وخطيب بدلة، وإبراهيم صاموئيل، وغيرهم، وفي المسرح العربي كان هناك الكثير من النماذج التي قدمت على شكل عروض مسرحية، ولم يحظ معظمها بالتحول إلى كتب، وفي المسرح تحديداً يمكن التمييز بوضوح بين المسرح الساخر والمسرح الكوميدي، فالمسرح العربي الساخر كان أقرب إلى الكوميديا السوداء، ولقد أنتجت البلدان العربية في هذا المجال أعمالاً كثيرة، وكان بعضها بالعامية، وقد تكون أبرزها أعمال زياد الرحباني التي تناولت بالسخرية مسار الحرب الأهلية في لبنان، وتطرقت بالنقد إلى مختلف القوى، وحازت تلك الأعمال استحسان قطاعات واسعة من الجمهور داخل لبنان وخارجه .
وإذا نظرنا بموضوعية إلى واقع الكتابات الساخرة في العقدين الأخيرين فإننا سنجد انحساراً واضحاً لهذه الكتابات، حتى أن الصحافة الأدبية التي كانت تحتفل بالكتابات الساخرة غابت عنها هذه الكتابات، وهو ما يجد تفسيره في الواقع العربي نفسه، فالكتابة الساخرة تتطلب وجود حد أدنى من مناخ الحرية، فهي معروفة بأنها كتابات لاذعة، وفيها نقد غالباً ما يكون موجهاً نحو الفئات الأكثر نفوذاً في المجتمع، ولذا فإن انحسارها يؤشر إلى تناقص مقدار الحريات في الواقع العربي، كما يؤشر إلى غياب التسامح من قبل تلك الفئات مع الكتابة الساخرة، أو مع أية محاولة نقدية لها .
ما يمكن السؤال عنه اليوم في ظل التحولات الجارية في الوطن العربي هو: هل ستعود الكتابة الساخرة إلى الانتعاش مرة أخرى؟ فمن البدهي أن تكون القدرة على السخرية وإمكانية تقبلها بصدر رحب مؤشراً على تطور أي مجتمع باتجاه ارتفاع منسوب الحرية في حياته العامة، كما أنه مؤشر على مجتمع لا يتخذ من الكآبة صفة نفسية وحيدة وواحدة له، وإنما قادر على أن يمارس نوعاً من السخرية على نفسه، وعلى ما يجري من حوله، وأن يضحك من المفارقات الموجودة من حوله، وهو ضحك يؤدي بالضرورة إلى وعي بطبيعة التحديات المفروض عليه أن يواجهها، وفي طليعتها التناقض بين مجموع القيم والشعارات المرفوعة والممارسات الفعلية للأفراد والجماعات على مختلف مشاربهم.