نقوس المهدي
كاتب
أفلاطون: الفن محاكاة للواقع
في الكتاب العاشر من الجمهورية نجد الحوار التالي :
سقراط: ثمة أمور كثيرة تجعلني اعتقد أن المدينة التي أقمناها هي افصل المدن، وأعظم ما يؤيد دلك ما حددناه خاصا بالشعر.
غلوكون: أي وجه منه تعني ؟
سقراط: اقصد ألا نقبل البتة شيئا من شعر المحاكاة، واحسب أن هذا الأمر أصبح أكثر وضوحا بعد أن ميزنا أقسام النفس المختلفة .
غلوكون: مادا تعني ؟
سقراط: هذا سر بيني وبينك لا تذيعه على شعراء التراجيديا وغيرهم من أصحاب المحاكاة وهو أن جميع شعر المحاكاة فيما يظهر لي يفسد عقول الدين يسمعونه، اللهم إلا إذا كان عندهم ترياق يقيهم منه، وهو معرفتهم بطبيعته الحقة .
انطلاقا من هذا الحوار نستنتج رفض أفلاطون لما يسمى بشعر المحاكاة ولهذا يحق لنا أن نطرح السؤالين التاليين: ما المقصود بالمحاكاة هنا؟ ولماذا وقف أفلاطون موقفا سلبيا من فن المحاكاة ؟
إذا ما تتبعنا المحاورة نجد أن سقراط يتوجه بسؤال إلى غلوكون قائلا: " أستطيع أن تخبرني ما المحاكاة بوجه عام؟ فالحق أني لا أعرف ما هي" فيجيب غلوكون قائلا: " وهل تتوقع مني أنا أن أدركها؟" وهذا يعلن غلوكون عن عدم جرأته على إعطاء تحديد معين للمحاكاة ليترك لسقراط مهمة القيام بذلك .
وهنا يعطي سقراط مثال السرير و المنضدة حيث أن صانع الأسرة والمناضد يصنعها انطلاقا من "المثال" الذي لا يمكن أن يكون صانعه سوى صانع أكبر وأمهر يقول عنه أفلاطون بلسان سقراط "هذا الصانع ليس قادرا على صنع جميع المصنوعات فقط، ولكنه هو الذي يصوغ جميع الكائنات الحية، كما يصنع نفسه وجميع الأشياء الأخرى... الأرض والسماء والآلهة وكل ما هو موجود في السماء أو في الجحيم تحت الأرض".
إن الإله إذن خلق المثال الأول لسرير كامل الصفات، ثم يأتي النجار ويصنع سريرا عن طريق تقليد أو محاكاة يكون لسرير الإله المثالي، ثم يأتي المصور ويرسم السرير الذي صنعه النجار، وبهذا التقليد أو المحاكاة يكون عمله بعيدا عن الحقيقة بثلاث درجات. والشاعر شأنه شأن المصور لا يصل إلا إلى ظواهر الأشياء دون النفوذ إلى طبيعتها أو إلى جوهرها الأصلي. وهكذا فالفن عموما هو "محاكاة للمظهر" والمحاكاة- يقول أفلاطون- بعيدة عن الحقيقة، ويظهر أنها تتمكن من صنع جميع الأشياء لأنها تلمس جانبا صغيرا منها فقط، وليس هذا الجانب إلا شبها منها: مثال ذلك أن المصور يرسم صانع الأحذية أو النجار أو أي صانع آخر، مع أنه لا يعرف شيئا عن صنعتهم. ولكنه إذا كان فنانا بارعا استطاع أن يرسم النجار ويعرضه من بعيد فيخدع الصبيان والبسطاء حتى ليخيل إليهم أنهم يرون حقيقيا "
إن الفن لا يحاكي إذن سوى الظاهر، بخلاف الفيلسوف الذي يدرك الحقيقة ويتصل بها كما هي في عالم المثل. ومن هنا فقد ذهب أفلاطون إلى أن إنتاج الشعراء يتسم بالضعف والرداءة، فالمحاكاة لا تخلق بالنسبة إليه سوى ما هو وضيع، إنها لا تنفذ إلى أعماق الأشياء، فالشاعر يمتح من مرجعية لا تخرج عن إطار الصورة أو الظل أي عما هو ظاهري؛ فالعنصر الفاعل في التعامل مع هذه المرجعية يختزل على العموم في الأحاسيس
والمشاعر الحيوانية أي المكون السيئ للروح. يقول أفلاطون: "إننا على حق في مهاجمته أي الشاعر ووضعه في المكانة ذاتها التي يوضع فيها الرسام، ذلك لأنه شبيهه في كونه ينجز أعمالا ذات ثمن بخس إذا ماقارناها بالحقيقة، وإنه ليشبهه أيضا، بينما لا تجمعه أية علاقة بالجانب الأفضل منها".
وإذا كان أفلاطون يعترض على الفن لإرتباطه بالظاهر دون الحقيقة‘ فإنه يعترض عليه لجملة من أسباب أخرى يمكن اختزالها في ما يلي:
أولا: إن الفن والشعر بصفة خاصة يؤثر تأثيرا سيئا في الطبيعة الإنسانية بما يقدم لها من نماذج ضارة: فالشاعر يفقد شخصيته في شخصيات الآخرين، ولابد أن يكون قد اكتسب شيئا من الشر إذا كان استطاع أن يتحدث بلسان الأشرار ويحسن التعبير عن مواقفهم.
أما السبب الثاني فهو أن الشعر يصور الآلهة بصورة غير لائقة: فالشعراء يصفون الآلهة بصفات لو نسبت إلى البشر أنفسهم لما وجدوا فيها ما يشرفهم: إذ تظهر الآلهة لديهم غيورة، منتقمة، لاهية، ساخرة وعابثة بل خليعة في بعض الأحيان. أما أفلاطون فيريد أن تكون للآلهة أفضل صورة ممكنة ولاسيما في أذهان النشء الذين ينبغي أن تضمن لهم الدولة المثلى أفضل تربية. أما السبب الثالث فيعود إلى عدم لقدرة الشعر على تحقيق الهدف المنشود الذي هو تأسيس المدينة الفاضلة وسن القوانين الكفيلة بتحقيق التوازن الاجتماعي؛ و الفلسفة وحدها تستطيع تحقيق هذه المهمة. إن الفيلسوف- في نظر أفلاطون- هو المبدع الوحيد الذي يستطيع خلق أسس متينة تسمح ببناء مجتمع يسوده العدل و باقي الفضائل الأخرى.
وإذا كان أفلاطون قد استخف بالشعر وطرد الشعراء من جمهوريته واعتبر الشعر دون مستوى الفلسفة، فهل سيتبع أرسطو أستاذه في النهج؟ أم أنه سيؤسس لتصور جديد للشعر و لمهمة الشعراء؟ .
ذلك ما سنحاول أن نتعرف عليه من خلال تقديمنا لنظرية المحاكاة عند أرسطو كما صاغها في كتاب"فن الشعر".
أرسطو: المحاكاة جوهر العمل الفني
إذا رجعنا إلى الأصل الاشتقاقي لكلمة "فن" اليونانية، لوجدنا أن هذه الكلمة لم تكن تعني سوى "النشاط الصناعي النافع بصفة عامة"، فلم يكن لفظ "الفن" عند اليونان قاصرا على الشعر والنحت والموسيقى والغناء وغيرها من الفنون الجميلة، بل كان يشمل أيضا الكثير من الصناعات المهنية كالتجارة والحدادة والبناء وغيرها من مظاهر الإنتاج الصناعي. من هنا نجد أرسطو يدرج الفن ضمن ما يمكن تسميته بالمعارف الإنتاجية التي تعني بصنع الأشياء، بما في ذلك بناء البيوت والحصون، وصناعة الملابس والزجاج، بل كل ما يمكن أن ينتجه الإنسان كوضع القصائد والخطب.
وكتاب "فن الشعر" يمثل بجانب كتاب "الخطابة" العلوم الإنتاجية في نظام الفلسفة الأرسطية لهذا فأرسطو لا يهدف من خلال كتابه وضع حقائق ثابتة ونهائية كما هو الحال في العلوم النظرية كالرياضيات وما وراء الطبيعة، وإنما يهدف أساسا إلى مجرد المساعدة في صنع شاعر جيد، عن صياغة قواعد لنوع شعري معين، وهي قواعد لا يمكن أن تدعي لنفسها صفة الجزم النهائي.
إن الفن بهذا المعنى ينطوي على قيمة صناعية وإنتاجية تبعده عن أن يكون مجرد صدى للجمال الطبيعي. وإذا كان مؤرخو الفلسفة قد نسبوا إلى أرسطو أنه قال إن الفن محا كاة للطبيعة فإننا سنكشف من خلال تقديمنا لأفكار أرسطو في كتاب "فن الشعر" أنه كان
دائما ينظر إلى الفن باعتباره يصنع ماعجزت الطبيعة عن تحقيقه، إن مهمة الفنان لا تنحصر في إمدادنا بصورة مكررة لما يحدث في الطبيعة وإنما تنحصر في العمل على تعديل الطبيعة وتبديل الواقع وتنقيح الحياة. حقا إن الفنان قد يستلهم الواقع، أو يستوحي الطبيعة، أو يصدر عن الحياة، ولكن من المؤكد أن العمل الفني لا يمكن أن يكون هوا لواقع عينه، والطبيعة نفسها، والحياة ذاتها.
لقد اعتبر أرسطو بأن الفن في جوهره وأصله هو محاكاة للطبيعة من طرف الإنسان. وهذه المحاكاة هي طبيعة غريزية في الإنسان، وبواسطتها يستطيع الطفل مثلا أن يتعلم اللغة من خلال تقليده لما يصدر عن الكبار من كلمات، ولولاها لكان التعلم مستحيلا. بهذا المعنى فالنزعة إلى المحاكاة تولد مع الإنسان، وبها يكتسب بعض المعارف الأولى.
يقول أرسطو: "يبدو أن الشعر نشأ عن سببين، كلاهما طبيعي، فالمحاكاة غريزية في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة، كما أن الناس يجدون لذة في المحاكاة... وسبب آخر هو أن التعلم لذيذ، لا للفلاسفة وحدهم، بل وأيضا لسائر الناس. فنحن نسر برؤية الصور لأ ننا نفيد من مشاهدتها علما ونستنبط ما تدل عليه، كأن نقول إن هذه الصورة صورة فلان". (1)
هكذا يبدو أن الشعر عند أرسطو نشا عن أمر طبيعي في الإنسان، لأن سببيه طبيعيان وهما:
1 - الميل إلى المحاكاة، وهو ما يميز الإنسان عن سائر الحيوان ويمكنه من اكتساب معارفه الأولى.
2- شعور الإنسان باللذة أمام أعمال المحاكاة.
ويرجع أرسطو نشأة الشعر إلى نزعة طبيعية أيضا في الإنسان، وهي ميله إلى اللحن والإيقاع باعتبارهما عنصرين جوهريين في الشعر. من هنا فالشعر نشأ عن المحاكاة كفطرة إنسانية من جهة، وعن ميل الإنسان الطبيعي إلى اللحن والإيقاع من جهة أخرى. يقول أرسطو: " لما كانت غريزة المحاكاة طبيعية فينا، شأنها شأن اللحن والإيقاع، كان أكبر الناس حظا من هذه المواهب في البدء هم الذين تقدموا شيئا فشيئا وارتجلوا، ومن ارتجالهم ولد الشعر". (2)
إن أصل الشعر إذن، يرجع إلى الميل الفطري لدى الإنسان إلى الإيقاع والانسجام.
وعن هذين الميلين الفطريين نشأ في البداية الشعر الارتجالي الذي انقسم إلى شعر هجاء وشعر مديح، وعن الأول ظهرت الكوميديا، وعن الثاني ظهرت المأساة، ولهذا فإن الملهاة والمأساة أعلى مراحل تطور الشعر.
إن هدف فنون المحاكاة هو تحقيق اللذة للإنسان. فماذا يقصد أرسطو باللذة؟ واضح أن أرسطو يستخدم مفهوم اللذة بالمعنى الروحي وليس بالمعنى الحسي. فهو يقصد تلك اللذة السامية التي تترتب عنها متعة جمالية مصدرها الإحساس والشعور وليس الجسد.
وفضلا عن تحقيق فنون المحاكاة للمتعة واللذة، فإن المأساة – كأحد فنون المحاكاة والتي أولاها أرسطو عناية خاصة - تهدف على تحقيق ما اسماه أرسطو " بالتطهير" من انفعالي الخوف والرحمة أو الشفقة. وهكذا يتحدث أرسطو عما يمكن تسميته بالوظيفة التطهيرية أو الانفعالية التي تجعل مهمة الفن هي تطهير انفعالاتنا. فالفن التراجيدي( المأساوي) يحدث استبعادا أو طردا لما لدينا من مشاعر الخوف والرأفة والحب وما إلى ذلك من مشاعر عنيفة، بأن يستوعب في نطاق خيالي غير ضار كل ما لدينا من حاجة إلى الشعور بمثل تلك الانفعالات: فالعمل الفني هنا إنما يقوم بوظيفة إيجابية هامة ألا وهي التحرير أو التحصين الخلقي من الانفعالات الحادة التي تنتاب النفس الإنسانية.
و انطلاقا من وظيفة الفن هاته، يمكن أن نلاحظ بأن"أرسطو" أولى الفن والشعر منه بصفة خاصة اهتماما بالغا؛ فإن كان "أفلاطون" قد استخلف بالشعراء وطرد الشعراء من جمهوريته، فإن "أرسطو" أعاد الاعتبار للشعر واعتبره وسيلة للتعلم مثله مثل الفلسفة؛ فالشعر يعلمنا الفضيلة عن طريق التخيل، أما الفلسفة فتبين لنا صواب الاعتقاد بالاعتماد على الاستدلال. وإذا كانت الفنون محاكاة، فإنها تختلف في أمور ثلاثة:
- إما تختلف في مادة أو وسيلة المحاكاة.
- أو تختلف في موضوع أو مضمون المحاكاة.
- أو تختلف في طريقة المحاكاة.
فيما يخص وسيلة المحاكاة، يتحدث أرسطو عن ثلاثة وسائل رئيسية: الوزن (الانسجام)، و اللغة والإيقاع:
أ- فالوزن والإيقاع يستعملان معا في الضرب على القيثارة
ب-أما الرقص فيعتمد الوزن وحده دون الإيقاع: فالراقصون يحاكون عن طريق الحركة الموزونة إما انفعالات أي عواطف ومشاعر، وإما أفعال أي سلوكات وممارسات إنسانية محددة، وإما شخصيات معينة بكل أوصافها الخارجية أو الداخلية.
ج- وقد تعتمد فنون أخرى على اللغة فقط سواء أكانت تلك اللغة نثرا أوشعرا .
أما فيما يخص موضوع المحاكاة أو مضمونها، فقد ذهب أرسطو إلى أن موضوع الفنون هو " أفعال الناس" أو " الناس وهم في حالة فعل"، والناس إما أن يكونوا فوق المستوى العام أوكما هم عليه في المستوى العام، أو دون المستوى العام. من هنا كانت المحاكاة الفنية تتناول إما موضوعا نبيلا وجليلا أو تتناول موضوعا رديئا ومنحطا أو تتناول موضوعا هو من النبالة والدونية في موقع وسط. فموضوع المحاكاة في المأساة هو أفعال الناس الفضلاء أي الإنسان وقد اكتسب خصالا ومميزات فوق المستوى العادي للناس،أما موضوع المحاكاة في الملهاة فهو أفعال الناس الأراذل، أي الإنسان وقد اكتسب صفات دون المستوى العام من الناس.
إن موضوع المحاكاة إذن :
إن المحاكاة بهذا المعنى هي ما يجعل عملا ينتمي أو لا ينتمي إلى الفن. وهذا واضح في حديث أرسطو عن مهمة الشاعر وتمييزها عن مهمة المؤرخ، حيث يقول: " واضح كذالك مما قلناه أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأموركما وقعت فعلا، بل رواية ما يمكن أن يقع... ذالك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان في كون الأول يروي الأحداث نثرا في الوقت الذي يرويها الآخر شعرا، وإنما يتمايزان من حيث أن أحدهما يروي الأحداث كما وقعت فعلا، بينما يرويها الآخركما يمكن أن تقع."(3)
إن الشعر أكثر سموا من التاريخ، فهو "يروي الكلي، بينما التاريخ يروي الجزئي".(4) وكل هذا يبعد صفة الحرفية عن المحاكاة، ويجعلها محاكاة لنموذج الشيء كما يتمثله الشاعر و ليس كما هو موجود في الواقع. إن عنصر الخيال يلعب دورا هاما أثناء عملية المحاكاة التي يقوم بها الشاعر. فهو يقدم حقيقة عن واقع جديد أكثر علوا ومرتبة من الواقع الفعلي. ويتم ذالك بطبيعة الحال عن طريق تشكيل مادة المحاكاة والتنسيق بين أجزائها وحذف ما هو غير ضروري فيها حتى تستطيع أن تعبر عن فكرة عالمية وشاملة يتخذها الفنان إزاء الواقع الطبيعي. وهكذا فالعمل الفني الذي يخلقه الفنان المحاكي ليس عملا واقعيا بالمعنى الفعلي أي يمكن أن نعثر له عن شبيه في عالم التجربة الفعلية أو فيما هو موجود في الطبيعة من وقائع ومشاهد. فالشخصيات والوقائع التي وصفها سوفوكليس في مسرحياته أو هوميروس في ملاحمه ليست هي تلك الشخصيات أو الوقائع التي وجدت فعلا في التاريخ، وإنما هي شخصيات ووقائع تعبر عن تمثل صاحبها لما يجري فعلا على مسرح التاريخ.
إن المحاكاة في الفن قد ترتبط إما:
أ- ما هو كائن ( الواقع ).
ب- ما ينبغي أن يكون ( المثال).
ج- ما يحكي الناس عنه ( الظن).
وفي هذا الإطار يتحدث أرسطو عن علاقة الشعر بكل من المستحيل، غير الممكن والمتناقض.
1- المستحيل: يقول أرسطو: "ينبغي أن نستعين في المآسي بالأمور العجيبة (المخالفة للمألوف). أما في الملحمة، فيمكن أن نذهب في هذا إلى حد الأمور غير المعقولة التي يصدر عنها خصوصا العجب".(5) وهكذا فالتعبير عن المستحيل في الشعر يمكن تبريره على أساس أن الشاعر لا يصور الأشخاص كما هم عليه، بل على أساس أن يكونوا أحسن مما هم عليه.
يقول أرسطو: "وبالجملة، فإن الأمر المستحيل ينبغي أن يبرر على اعتبار الشعر أو ما هو أفضل أو الرأي الشائع: أما عن الشعر، فإن المستحيل المقنع أفضل من الممكن الذي لا يقنع.
أجل، قد يكون من المستحيل وجود أناس مثل الذي يصورهم زيوكسيس، لكن إنما يرسمهم خيرا مما هم، لأن من يتخذ قدوة يجب أن يكون أفضل ممن هو بالفعل. والرأي الشائع ينبغي أن يبرر الأمور اللامعقولة. وأحيانا نبين أنه ليس بلامعقول، إذ من المحتمل أن الأشياء تقع أحيانا بخلاف ما هو محتمل"(6)
2 – غير الممكن : أما في معرض تبريره لتصوير الشاعر ل"غير الممكن"، فيذهب أرسطو إلى أن ذلك يمكن رده إما الرأي السائد أي المعتقد العام؛ فيكون ما يعبر عنه الشاعر ممكنا بالنسبة إليه وغير ممكن بالنسبة لعامة الناس، أو يمكن رده إلى أن غير الممكن في فترة زمنية قد يكون ممكنا في زمن آخر سابق أو لاحق.
3- المتناقض: يمكن تبرير ما يبدو متناقضا في الشعر انطلاقا من نفس القواعد المستخدمة في الحجاج الجدلي. فهل ياترى يتكلم الشاعر عن نفس الشيء وبنفس الكيفية؟ لأن التناقض قد يفسر انطلا قا من غموض المعنى واحتمال الكلمة لأكثر من معنى في الشعر.
إن ما يمكن استنتاجه أخيرا هو أن المحاكاة في نظر أرسطو ليست مجرد نسخ آلي
أو تقليد حرفي وإنما هي رؤية إبداعية يستطيع الشاعر من خلالها أن يخلق عملا جديدا من مادة الحياة والواقع طبقا لما كان أو لما هو كائن أو لما يمكن أن يكون أو كما كان يعتقد أنه كان كذلك. وبهذا تكون دلالة المحاكاة ليست إلا إعادة خلق.
وهكذا، فالفن الحقيقي – حسب أرسطو- هو تعبير خلاق و مبدع عن الحقيقة التي لا تتعدى نطاق الممكن، بخلاف الفن المزيف الذي يقدم حقائق مغلوطة تبعده عن مجال الممكن عقليا أي عن الحقيقة.
من هنا جعل أرسطو الفن في خدمة الحقيقة: فالفنان الجدير بهذا الاسم في نظره يجب عليه أن يستخدم كل طاقته الخلاقة وخياله المبدع في التعبير عن حقائق الأشياء. فالفن شأنه شأن الفلسفة يمكنه أيضا الوصول إلى الحقيقة اعتمادا على التخيل والتمثيل مثلما تصل إليه الفلسفة عن طريق التجريد والتعميم المرتبطين بالعقل.
_______________________
1- أرسطو، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت، ص12
2- نفسه ، ص 13
3- نفسه،ص 20
4- نفسه
5- نفسه، ص 69
6- نفسه،ص77
في الكتاب العاشر من الجمهورية نجد الحوار التالي :
سقراط: ثمة أمور كثيرة تجعلني اعتقد أن المدينة التي أقمناها هي افصل المدن، وأعظم ما يؤيد دلك ما حددناه خاصا بالشعر.
غلوكون: أي وجه منه تعني ؟
سقراط: اقصد ألا نقبل البتة شيئا من شعر المحاكاة، واحسب أن هذا الأمر أصبح أكثر وضوحا بعد أن ميزنا أقسام النفس المختلفة .
غلوكون: مادا تعني ؟
سقراط: هذا سر بيني وبينك لا تذيعه على شعراء التراجيديا وغيرهم من أصحاب المحاكاة وهو أن جميع شعر المحاكاة فيما يظهر لي يفسد عقول الدين يسمعونه، اللهم إلا إذا كان عندهم ترياق يقيهم منه، وهو معرفتهم بطبيعته الحقة .
انطلاقا من هذا الحوار نستنتج رفض أفلاطون لما يسمى بشعر المحاكاة ولهذا يحق لنا أن نطرح السؤالين التاليين: ما المقصود بالمحاكاة هنا؟ ولماذا وقف أفلاطون موقفا سلبيا من فن المحاكاة ؟
إذا ما تتبعنا المحاورة نجد أن سقراط يتوجه بسؤال إلى غلوكون قائلا: " أستطيع أن تخبرني ما المحاكاة بوجه عام؟ فالحق أني لا أعرف ما هي" فيجيب غلوكون قائلا: " وهل تتوقع مني أنا أن أدركها؟" وهذا يعلن غلوكون عن عدم جرأته على إعطاء تحديد معين للمحاكاة ليترك لسقراط مهمة القيام بذلك .
وهنا يعطي سقراط مثال السرير و المنضدة حيث أن صانع الأسرة والمناضد يصنعها انطلاقا من "المثال" الذي لا يمكن أن يكون صانعه سوى صانع أكبر وأمهر يقول عنه أفلاطون بلسان سقراط "هذا الصانع ليس قادرا على صنع جميع المصنوعات فقط، ولكنه هو الذي يصوغ جميع الكائنات الحية، كما يصنع نفسه وجميع الأشياء الأخرى... الأرض والسماء والآلهة وكل ما هو موجود في السماء أو في الجحيم تحت الأرض".
إن الإله إذن خلق المثال الأول لسرير كامل الصفات، ثم يأتي النجار ويصنع سريرا عن طريق تقليد أو محاكاة يكون لسرير الإله المثالي، ثم يأتي المصور ويرسم السرير الذي صنعه النجار، وبهذا التقليد أو المحاكاة يكون عمله بعيدا عن الحقيقة بثلاث درجات. والشاعر شأنه شأن المصور لا يصل إلا إلى ظواهر الأشياء دون النفوذ إلى طبيعتها أو إلى جوهرها الأصلي. وهكذا فالفن عموما هو "محاكاة للمظهر" والمحاكاة- يقول أفلاطون- بعيدة عن الحقيقة، ويظهر أنها تتمكن من صنع جميع الأشياء لأنها تلمس جانبا صغيرا منها فقط، وليس هذا الجانب إلا شبها منها: مثال ذلك أن المصور يرسم صانع الأحذية أو النجار أو أي صانع آخر، مع أنه لا يعرف شيئا عن صنعتهم. ولكنه إذا كان فنانا بارعا استطاع أن يرسم النجار ويعرضه من بعيد فيخدع الصبيان والبسطاء حتى ليخيل إليهم أنهم يرون حقيقيا "
إن الفن لا يحاكي إذن سوى الظاهر، بخلاف الفيلسوف الذي يدرك الحقيقة ويتصل بها كما هي في عالم المثل. ومن هنا فقد ذهب أفلاطون إلى أن إنتاج الشعراء يتسم بالضعف والرداءة، فالمحاكاة لا تخلق بالنسبة إليه سوى ما هو وضيع، إنها لا تنفذ إلى أعماق الأشياء، فالشاعر يمتح من مرجعية لا تخرج عن إطار الصورة أو الظل أي عما هو ظاهري؛ فالعنصر الفاعل في التعامل مع هذه المرجعية يختزل على العموم في الأحاسيس
والمشاعر الحيوانية أي المكون السيئ للروح. يقول أفلاطون: "إننا على حق في مهاجمته أي الشاعر ووضعه في المكانة ذاتها التي يوضع فيها الرسام، ذلك لأنه شبيهه في كونه ينجز أعمالا ذات ثمن بخس إذا ماقارناها بالحقيقة، وإنه ليشبهه أيضا، بينما لا تجمعه أية علاقة بالجانب الأفضل منها".
وإذا كان أفلاطون يعترض على الفن لإرتباطه بالظاهر دون الحقيقة‘ فإنه يعترض عليه لجملة من أسباب أخرى يمكن اختزالها في ما يلي:
أولا: إن الفن والشعر بصفة خاصة يؤثر تأثيرا سيئا في الطبيعة الإنسانية بما يقدم لها من نماذج ضارة: فالشاعر يفقد شخصيته في شخصيات الآخرين، ولابد أن يكون قد اكتسب شيئا من الشر إذا كان استطاع أن يتحدث بلسان الأشرار ويحسن التعبير عن مواقفهم.
أما السبب الثاني فهو أن الشعر يصور الآلهة بصورة غير لائقة: فالشعراء يصفون الآلهة بصفات لو نسبت إلى البشر أنفسهم لما وجدوا فيها ما يشرفهم: إذ تظهر الآلهة لديهم غيورة، منتقمة، لاهية، ساخرة وعابثة بل خليعة في بعض الأحيان. أما أفلاطون فيريد أن تكون للآلهة أفضل صورة ممكنة ولاسيما في أذهان النشء الذين ينبغي أن تضمن لهم الدولة المثلى أفضل تربية. أما السبب الثالث فيعود إلى عدم لقدرة الشعر على تحقيق الهدف المنشود الذي هو تأسيس المدينة الفاضلة وسن القوانين الكفيلة بتحقيق التوازن الاجتماعي؛ و الفلسفة وحدها تستطيع تحقيق هذه المهمة. إن الفيلسوف- في نظر أفلاطون- هو المبدع الوحيد الذي يستطيع خلق أسس متينة تسمح ببناء مجتمع يسوده العدل و باقي الفضائل الأخرى.
وإذا كان أفلاطون قد استخف بالشعر وطرد الشعراء من جمهوريته واعتبر الشعر دون مستوى الفلسفة، فهل سيتبع أرسطو أستاذه في النهج؟ أم أنه سيؤسس لتصور جديد للشعر و لمهمة الشعراء؟ .
ذلك ما سنحاول أن نتعرف عليه من خلال تقديمنا لنظرية المحاكاة عند أرسطو كما صاغها في كتاب"فن الشعر".
أرسطو: المحاكاة جوهر العمل الفني
إذا رجعنا إلى الأصل الاشتقاقي لكلمة "فن" اليونانية، لوجدنا أن هذه الكلمة لم تكن تعني سوى "النشاط الصناعي النافع بصفة عامة"، فلم يكن لفظ "الفن" عند اليونان قاصرا على الشعر والنحت والموسيقى والغناء وغيرها من الفنون الجميلة، بل كان يشمل أيضا الكثير من الصناعات المهنية كالتجارة والحدادة والبناء وغيرها من مظاهر الإنتاج الصناعي. من هنا نجد أرسطو يدرج الفن ضمن ما يمكن تسميته بالمعارف الإنتاجية التي تعني بصنع الأشياء، بما في ذلك بناء البيوت والحصون، وصناعة الملابس والزجاج، بل كل ما يمكن أن ينتجه الإنسان كوضع القصائد والخطب.
وكتاب "فن الشعر" يمثل بجانب كتاب "الخطابة" العلوم الإنتاجية في نظام الفلسفة الأرسطية لهذا فأرسطو لا يهدف من خلال كتابه وضع حقائق ثابتة ونهائية كما هو الحال في العلوم النظرية كالرياضيات وما وراء الطبيعة، وإنما يهدف أساسا إلى مجرد المساعدة في صنع شاعر جيد، عن صياغة قواعد لنوع شعري معين، وهي قواعد لا يمكن أن تدعي لنفسها صفة الجزم النهائي.
إن الفن بهذا المعنى ينطوي على قيمة صناعية وإنتاجية تبعده عن أن يكون مجرد صدى للجمال الطبيعي. وإذا كان مؤرخو الفلسفة قد نسبوا إلى أرسطو أنه قال إن الفن محا كاة للطبيعة فإننا سنكشف من خلال تقديمنا لأفكار أرسطو في كتاب "فن الشعر" أنه كان
دائما ينظر إلى الفن باعتباره يصنع ماعجزت الطبيعة عن تحقيقه، إن مهمة الفنان لا تنحصر في إمدادنا بصورة مكررة لما يحدث في الطبيعة وإنما تنحصر في العمل على تعديل الطبيعة وتبديل الواقع وتنقيح الحياة. حقا إن الفنان قد يستلهم الواقع، أو يستوحي الطبيعة، أو يصدر عن الحياة، ولكن من المؤكد أن العمل الفني لا يمكن أن يكون هوا لواقع عينه، والطبيعة نفسها، والحياة ذاتها.
لقد اعتبر أرسطو بأن الفن في جوهره وأصله هو محاكاة للطبيعة من طرف الإنسان. وهذه المحاكاة هي طبيعة غريزية في الإنسان، وبواسطتها يستطيع الطفل مثلا أن يتعلم اللغة من خلال تقليده لما يصدر عن الكبار من كلمات، ولولاها لكان التعلم مستحيلا. بهذا المعنى فالنزعة إلى المحاكاة تولد مع الإنسان، وبها يكتسب بعض المعارف الأولى.
يقول أرسطو: "يبدو أن الشعر نشأ عن سببين، كلاهما طبيعي، فالمحاكاة غريزية في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة، كما أن الناس يجدون لذة في المحاكاة... وسبب آخر هو أن التعلم لذيذ، لا للفلاسفة وحدهم، بل وأيضا لسائر الناس. فنحن نسر برؤية الصور لأ ننا نفيد من مشاهدتها علما ونستنبط ما تدل عليه، كأن نقول إن هذه الصورة صورة فلان". (1)
هكذا يبدو أن الشعر عند أرسطو نشا عن أمر طبيعي في الإنسان، لأن سببيه طبيعيان وهما:
1 - الميل إلى المحاكاة، وهو ما يميز الإنسان عن سائر الحيوان ويمكنه من اكتساب معارفه الأولى.
2- شعور الإنسان باللذة أمام أعمال المحاكاة.
ويرجع أرسطو نشأة الشعر إلى نزعة طبيعية أيضا في الإنسان، وهي ميله إلى اللحن والإيقاع باعتبارهما عنصرين جوهريين في الشعر. من هنا فالشعر نشأ عن المحاكاة كفطرة إنسانية من جهة، وعن ميل الإنسان الطبيعي إلى اللحن والإيقاع من جهة أخرى. يقول أرسطو: " لما كانت غريزة المحاكاة طبيعية فينا، شأنها شأن اللحن والإيقاع، كان أكبر الناس حظا من هذه المواهب في البدء هم الذين تقدموا شيئا فشيئا وارتجلوا، ومن ارتجالهم ولد الشعر". (2)
إن أصل الشعر إذن، يرجع إلى الميل الفطري لدى الإنسان إلى الإيقاع والانسجام.
وعن هذين الميلين الفطريين نشأ في البداية الشعر الارتجالي الذي انقسم إلى شعر هجاء وشعر مديح، وعن الأول ظهرت الكوميديا، وعن الثاني ظهرت المأساة، ولهذا فإن الملهاة والمأساة أعلى مراحل تطور الشعر.
إن هدف فنون المحاكاة هو تحقيق اللذة للإنسان. فماذا يقصد أرسطو باللذة؟ واضح أن أرسطو يستخدم مفهوم اللذة بالمعنى الروحي وليس بالمعنى الحسي. فهو يقصد تلك اللذة السامية التي تترتب عنها متعة جمالية مصدرها الإحساس والشعور وليس الجسد.
وفضلا عن تحقيق فنون المحاكاة للمتعة واللذة، فإن المأساة – كأحد فنون المحاكاة والتي أولاها أرسطو عناية خاصة - تهدف على تحقيق ما اسماه أرسطو " بالتطهير" من انفعالي الخوف والرحمة أو الشفقة. وهكذا يتحدث أرسطو عما يمكن تسميته بالوظيفة التطهيرية أو الانفعالية التي تجعل مهمة الفن هي تطهير انفعالاتنا. فالفن التراجيدي( المأساوي) يحدث استبعادا أو طردا لما لدينا من مشاعر الخوف والرأفة والحب وما إلى ذلك من مشاعر عنيفة، بأن يستوعب في نطاق خيالي غير ضار كل ما لدينا من حاجة إلى الشعور بمثل تلك الانفعالات: فالعمل الفني هنا إنما يقوم بوظيفة إيجابية هامة ألا وهي التحرير أو التحصين الخلقي من الانفعالات الحادة التي تنتاب النفس الإنسانية.
و انطلاقا من وظيفة الفن هاته، يمكن أن نلاحظ بأن"أرسطو" أولى الفن والشعر منه بصفة خاصة اهتماما بالغا؛ فإن كان "أفلاطون" قد استخلف بالشعراء وطرد الشعراء من جمهوريته، فإن "أرسطو" أعاد الاعتبار للشعر واعتبره وسيلة للتعلم مثله مثل الفلسفة؛ فالشعر يعلمنا الفضيلة عن طريق التخيل، أما الفلسفة فتبين لنا صواب الاعتقاد بالاعتماد على الاستدلال. وإذا كانت الفنون محاكاة، فإنها تختلف في أمور ثلاثة:
- إما تختلف في مادة أو وسيلة المحاكاة.
- أو تختلف في موضوع أو مضمون المحاكاة.
- أو تختلف في طريقة المحاكاة.
فيما يخص وسيلة المحاكاة، يتحدث أرسطو عن ثلاثة وسائل رئيسية: الوزن (الانسجام)، و اللغة والإيقاع:
أ- فالوزن والإيقاع يستعملان معا في الضرب على القيثارة
ب-أما الرقص فيعتمد الوزن وحده دون الإيقاع: فالراقصون يحاكون عن طريق الحركة الموزونة إما انفعالات أي عواطف ومشاعر، وإما أفعال أي سلوكات وممارسات إنسانية محددة، وإما شخصيات معينة بكل أوصافها الخارجية أو الداخلية.
ج- وقد تعتمد فنون أخرى على اللغة فقط سواء أكانت تلك اللغة نثرا أوشعرا .
أما فيما يخص موضوع المحاكاة أو مضمونها، فقد ذهب أرسطو إلى أن موضوع الفنون هو " أفعال الناس" أو " الناس وهم في حالة فعل"، والناس إما أن يكونوا فوق المستوى العام أوكما هم عليه في المستوى العام، أو دون المستوى العام. من هنا كانت المحاكاة الفنية تتناول إما موضوعا نبيلا وجليلا أو تتناول موضوعا رديئا ومنحطا أو تتناول موضوعا هو من النبالة والدونية في موقع وسط. فموضوع المحاكاة في المأساة هو أفعال الناس الفضلاء أي الإنسان وقد اكتسب خصالا ومميزات فوق المستوى العادي للناس،أما موضوع المحاكاة في الملهاة فهو أفعال الناس الأراذل، أي الإنسان وقد اكتسب صفات دون المستوى العام من الناس.
إن موضوع المحاكاة إذن :
- إما أن يعبر عما ينبغي أن يكون، أي يقدم مجموعة من التصورات المثالية التي يتمثلهاالفنان في ذهنه تجاه ما يحاكيه،
- وإما أن يعبر عما هو كائن، أي يقدم أفعال الناس كما هي موجودة في الواقع دون أن يرفعها إلى مستوى المثال أو ينزلها إلى مستوى الحضيض،
- وإما أن يعبر عن أفعال الناس وهي دون المستوى العام، أي يقدمها في صورة ناقصة ومشوهة تبعث على الضحك والسخرية، وهو ما تفعله الملهاة
إن المحاكاة بهذا المعنى هي ما يجعل عملا ينتمي أو لا ينتمي إلى الفن. وهذا واضح في حديث أرسطو عن مهمة الشاعر وتمييزها عن مهمة المؤرخ، حيث يقول: " واضح كذالك مما قلناه أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأموركما وقعت فعلا، بل رواية ما يمكن أن يقع... ذالك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان في كون الأول يروي الأحداث نثرا في الوقت الذي يرويها الآخر شعرا، وإنما يتمايزان من حيث أن أحدهما يروي الأحداث كما وقعت فعلا، بينما يرويها الآخركما يمكن أن تقع."(3)
إن الشعر أكثر سموا من التاريخ، فهو "يروي الكلي، بينما التاريخ يروي الجزئي".(4) وكل هذا يبعد صفة الحرفية عن المحاكاة، ويجعلها محاكاة لنموذج الشيء كما يتمثله الشاعر و ليس كما هو موجود في الواقع. إن عنصر الخيال يلعب دورا هاما أثناء عملية المحاكاة التي يقوم بها الشاعر. فهو يقدم حقيقة عن واقع جديد أكثر علوا ومرتبة من الواقع الفعلي. ويتم ذالك بطبيعة الحال عن طريق تشكيل مادة المحاكاة والتنسيق بين أجزائها وحذف ما هو غير ضروري فيها حتى تستطيع أن تعبر عن فكرة عالمية وشاملة يتخذها الفنان إزاء الواقع الطبيعي. وهكذا فالعمل الفني الذي يخلقه الفنان المحاكي ليس عملا واقعيا بالمعنى الفعلي أي يمكن أن نعثر له عن شبيه في عالم التجربة الفعلية أو فيما هو موجود في الطبيعة من وقائع ومشاهد. فالشخصيات والوقائع التي وصفها سوفوكليس في مسرحياته أو هوميروس في ملاحمه ليست هي تلك الشخصيات أو الوقائع التي وجدت فعلا في التاريخ، وإنما هي شخصيات ووقائع تعبر عن تمثل صاحبها لما يجري فعلا على مسرح التاريخ.
إن المحاكاة في الفن قد ترتبط إما:
أ- ما هو كائن ( الواقع ).
ب- ما ينبغي أن يكون ( المثال).
ج- ما يحكي الناس عنه ( الظن).
وفي هذا الإطار يتحدث أرسطو عن علاقة الشعر بكل من المستحيل، غير الممكن والمتناقض.
1- المستحيل: يقول أرسطو: "ينبغي أن نستعين في المآسي بالأمور العجيبة (المخالفة للمألوف). أما في الملحمة، فيمكن أن نذهب في هذا إلى حد الأمور غير المعقولة التي يصدر عنها خصوصا العجب".(5) وهكذا فالتعبير عن المستحيل في الشعر يمكن تبريره على أساس أن الشاعر لا يصور الأشخاص كما هم عليه، بل على أساس أن يكونوا أحسن مما هم عليه.
يقول أرسطو: "وبالجملة، فإن الأمر المستحيل ينبغي أن يبرر على اعتبار الشعر أو ما هو أفضل أو الرأي الشائع: أما عن الشعر، فإن المستحيل المقنع أفضل من الممكن الذي لا يقنع.
أجل، قد يكون من المستحيل وجود أناس مثل الذي يصورهم زيوكسيس، لكن إنما يرسمهم خيرا مما هم، لأن من يتخذ قدوة يجب أن يكون أفضل ممن هو بالفعل. والرأي الشائع ينبغي أن يبرر الأمور اللامعقولة. وأحيانا نبين أنه ليس بلامعقول، إذ من المحتمل أن الأشياء تقع أحيانا بخلاف ما هو محتمل"(6)
2 – غير الممكن : أما في معرض تبريره لتصوير الشاعر ل"غير الممكن"، فيذهب أرسطو إلى أن ذلك يمكن رده إما الرأي السائد أي المعتقد العام؛ فيكون ما يعبر عنه الشاعر ممكنا بالنسبة إليه وغير ممكن بالنسبة لعامة الناس، أو يمكن رده إلى أن غير الممكن في فترة زمنية قد يكون ممكنا في زمن آخر سابق أو لاحق.
3- المتناقض: يمكن تبرير ما يبدو متناقضا في الشعر انطلاقا من نفس القواعد المستخدمة في الحجاج الجدلي. فهل ياترى يتكلم الشاعر عن نفس الشيء وبنفس الكيفية؟ لأن التناقض قد يفسر انطلا قا من غموض المعنى واحتمال الكلمة لأكثر من معنى في الشعر.
إن ما يمكن استنتاجه أخيرا هو أن المحاكاة في نظر أرسطو ليست مجرد نسخ آلي
أو تقليد حرفي وإنما هي رؤية إبداعية يستطيع الشاعر من خلالها أن يخلق عملا جديدا من مادة الحياة والواقع طبقا لما كان أو لما هو كائن أو لما يمكن أن يكون أو كما كان يعتقد أنه كان كذلك. وبهذا تكون دلالة المحاكاة ليست إلا إعادة خلق.
وهكذا، فالفن الحقيقي – حسب أرسطو- هو تعبير خلاق و مبدع عن الحقيقة التي لا تتعدى نطاق الممكن، بخلاف الفن المزيف الذي يقدم حقائق مغلوطة تبعده عن مجال الممكن عقليا أي عن الحقيقة.
من هنا جعل أرسطو الفن في خدمة الحقيقة: فالفنان الجدير بهذا الاسم في نظره يجب عليه أن يستخدم كل طاقته الخلاقة وخياله المبدع في التعبير عن حقائق الأشياء. فالفن شأنه شأن الفلسفة يمكنه أيضا الوصول إلى الحقيقة اعتمادا على التخيل والتمثيل مثلما تصل إليه الفلسفة عن طريق التجريد والتعميم المرتبطين بالعقل.
_______________________
1- أرسطو، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت، ص12
2- نفسه ، ص 13
3- نفسه،ص 20
4- نفسه
5- نفسه، ص 69
6- نفسه،ص77