نقوس المهدي
كاتب
مدخل للنص:
عندما تقرا نص (المكان) للأديب معاوية محمد نور تجد نفسك في تلك الأمكنة التي ذكرها الكاتب، وفي تلك الأمكنة المتشابكة تتخيل أخرى عايشتها (أنت) منذ أزمنة سحيقة وهاهي تقفز أمامك فجاءة وكأنما نص (المكان) كان بمثابة المنشط لذاكرتك بان تعيد قراءة تلك الأمكنة. والمكان لا ينفصل عن الزمان والأشخاص والحركة والصوت في لحظة معينة. وكل تلك العناصر تظهر عبقرية المكان الذي يبقى ملتصقا بالذاكرة، وما أن تنشط الذاكرة حتى تشعر بذلك الإحساس الذي يجعلك تسعى لعناق الأمكنة والحوائط والشقوق والخرائب، ويعزف معها سموفينية البقاء الأبدي.
قبل أن يبدأ الكاتب قصته عن المكان، قام بتعريفها لنا في مقدمة اعتبرها (هو) ضرورية وهامة لتعريف القراء بذلك النوع الجديد من الفن القصصي، وفي تلك المقدمة أدركنا أن هذا النوع الجديد من القصص لا يعني بتفاصيل العلاقات الاجتماعية ونوعها ولا حتى بوصف المكان ولا بالعواطف، هو يعني قبل كل شيء بالأحاسيس البشرية الخاصة تجاه الحياة ومسائلها الكبرى، وتجاه تضاد الأفكار في لحظة واحدة عند شخص من الأشخاص.
هذا النوع من الفن القصصي يعبر لنا عن كاتبه بصراحة.
يقول:
((ويغلب في كتاب هذا اللون القصصي أن يستثيروا نفوسهم ويكتبوا من معين حياتهم، فكأنهم يترجمون لأنفسهم مع بعض الزيادة والنقصان وتغيير الأمكنة والأزمان والأسماء))
بهذه المقدمة بدأت القصة التحليلية للمكان ومباشرة وضعنا الكاتب أمام (مجدي) بطل القصة ذلك الشخص الذي سوف نغوص في داخله عندما يحكي لنا عن علاقته بالمكان أو عن علاقة المكان به وتأثيره عليه، وكان الكاتب يريد أن يعلمنا إن هذه القصة تتحدث عن شخص حقيقي انطلاقا من تلك البداية وكما كانت البداية تشعرك بالبطل واقف أو جالس أمامك، كانت النهاية تحمل نفس الإحساس، وهنا تظهر براعة الكاتب في انه وضع فكرته بين حركتين للبطل، وما بين الحركة الأولى والحركة الثانية كان الإحساس بالمكان مسيطرا على كل المساحات السردية للقصة.
الحركة الأولى في بداية القصة يقول:
((فتح مذكرته التي يدون فيها خواطره.... ))
الحركة الثانية في نهاية القصة يقول:
((وبعد أن كتب هذه الأشياء شعر بأنه قد تعب وفتح مذكرته التي يدون فيها خواطره....))
قبل أن نبدأ قراءاتنا لنص المكان، لا بد أن نقول إن الكاتب تحدث عن أحاسيسه صراحة في النص بلسان (مجدي) وعن علاقته بالأشياء والأصوات والحركة، وأخيرا بالمكان.
وذلك الإحساس بالمكان كان يخامر خيال وعقل الكاتب منذ فترة طويلة وتحديدا منذ أن كتب القصتين اللتان وصف فيهما تلك الأمكنة في مدينتين مختلفتين كان لهما الأثر الكبير في حياته.
القصة الأولى:
في الخرطوم ((خواطر وذكريات محزونة))
القصة الثانية:
امدرمان ((مدينة السراب والحنين))
في هاتين القصتين وصف لنا الكاتب المكان في كل من المدينتين وصفا شاعريا فيه شحنة من الحنين الدفاق إلى وطنه والى تلك الأمكنة التي عاش فيها أو زارها أو مر بها مرورا عابرا، فهو يصف النيل بفروعه ويتحدث عن مصبه، وذكر جزيرة توتي وذلك الشارع على النيل الأزرق وتحدث عن الترام والاتومبيل ووصف حي وشارع الموردة بأسواقها وصخبها وحكى لنا عن قبة المهدي. وغيرها من الأمكنة التي علقت بذاكرته وعندما شعر بان الوصف لا يكفيه ليعبر عن علاقته بالمكان، قام بكتابة هذه القصة التحليلية ليتحدث مع المكان ويبثه شجونه وآلامه ويتبادل معه الإحساس بالإحساس.
انظر:
((وقد يلج به هذا الإحساس المكاني في ساعات تيقظه إلى ما هو اغرب من ذلك. فإذا مر بالسوق لج به الخاطر إن حياته لا تكمل إذا لم ير كل الدكاكين والشوارع فإذا فرغ من هذه العملية ود لو إن في مكنته أن يدخل كل حوانيت البقالة ويرى من قرب حوائطها الداخلية وزواياها وترابها))
اهتمام الكاتب بالتفاصيل والحركة والأصوات وربطها بالمكان خاصية انفرد بها منذ فترة مبكرة من حياته، ربما كان ذلك لكثرة سفره وتجواله وابتعاده عن أسرته وأهله لفترة أو فترات طويلة وهذا الاغتراب نما فيه الإحساس بالمكان.
إن ما يميز النص (المكان) هو مخاطبة الكاتب لإحساسه تجاه المكان، وعبر هذا الخطاب بينه وبين المكان، كان يصور لنا بصدق كل أحاسيسه نحو مكان بعينه بعد أن يربط ذلك المكان بحركة أو صوت أو لون أو حادثة.
فالعلاقة بينه وبين حوائط المدرسة الابتدائية تصل إلى قمتها في يوم العطلة الكبرى، فهو يشفق على الحوائط عندما يتركها لوحدها بدون التلاميذ والمدرسين وصوت الجرس لطابور الصباح لذلك يقوم بوداع الحوائط والشقوق في مدرسته واحدة بعد الأخرى.
يقول:
((فلا يترك المدرسة يوم العطلة إلا بعد أن ينظر إلى كل حائط وكل شق ويذرع الحوش ثم يودعها ويلبث ينظر إليها وهو في الطريق إلى إن تغيب عن نظره))
هو لم يتعامل مع حوائط المدرسة باعتبارها (جماد) لا يحس بل تعامل معها باعتبارها تمتلك إحساس وتبادله هذا الإحساس وتعيشه معه لحظة بلحظة، ولنا الحق أن نتخيله، فهو كما يودع حوائط المدرسة يوم العطلة، بلا شك هو سوف يلاقيها بفرح غامر عندما تفتح المدرسة أبوابها.
إن الإحساس المتبادل بين (مجدي) وما حوله في مكان ما، أو إحساسه هو بالمكان يوضحه لنا في المقطع التالي من القصة.
انظر:
((وإننا أحياء من أوائل ألازمان إلى أخر الآباد في صور وأشكال ومواد مختلفة كلها لها حظ من الوعي يختلف قوة وضعفا باختلاف الأفراد والأشياء. وعلى هذا الزعم فللحوائط والمادة الصماء والأشجار وعي وإحساس من نوع وعينا وإحساسنا..))
إن الكاتب في هذا النص جعل (مجدي) يتواصل مع الحوائط والمادة الصماء ومع الأشجار، ويتحاور معها ويحس بها، وهي بالتالي بادلته ذلك الإحساس فكأنما الحوائط والمادة الصماء والخرائب تخبر بعضها البعض بان هناك شخص اسمه (مجدي) يملك المقدرة على التواصل معها، لذلك كانت خرائب امدرمان تناديه وكانوا عندما يذكرون له مكان ما لم يسبق له أن زاره كان يتخيله بأدق تفاصيله وعندما تتاح له الفرصة بزيارته يراه كما تخيله تماما. بفضل إحساسه بالمكان وامتلاكه تلك الخاصية في التواصل مع المكان والإحساس به.
انظر:
((وكان إذا قرأ عن مكان أو سمع به تخيله ورسمه في مخيلته، فإذا ساعدته الظروف وذهب إلى ذلك المكان رآه مثل ما تخيله حتى الوضع وأشياء دقيقة لا تلوح في خاطر إنسان))
كان (مجدي) بتواصله مع المكان والإحساس به يعرف الأمكنة من خلال حركة أو صوت يرتبط بشكل ما مع المكان أو بحادثة معينة أثرت في حياته، وحالما يسمع ذلك الصوت أو يتخيل تلك الحركة يذكر المكان بكل تفاصيله.
إن صوت (البوري) كان يذكره بأحزانه وبخاله الذي مات وكان يذكره أيضا بالمستعمر الذي جثم على صدر بلاده وعلى صدره هو شخصيا، لان الكاتب كان ملاحق من قبل المستعمر الإنجليزي بسبب سفره إلى مصر وبسبب قلمه الحر النزيه. لذلك كان كلما يسمع صوت (البوري) يتذكر خاله والأحزان ويتذكر وطنه والأشواق، وكل الأمكنة فيه التي أحس بها وبادلته الإحساس.
ومن شدة تأثير صوت (البوري) عليه نجده يكرره في ثلاثة من القصص التي كتبها.
في قصته الخرطوم (خواطر وذكريات محزونة) يذكر صوت (البوري).
انظر:
((وسماعي لذلك البوري الذي يهز كياني هزا، ويلعج نفسي ويذكرها بمن مات من أهلي وأحبابي! ولا ادري أي علاقة لذلك الصوت وتلك الذكريات المحزونة، فلربما لان خالي كان ضابطا وان ذلك البوري كان يضرب لعشاء الضباط، وخالي قد مات))
وفي قصة امدرمان (مدينة السراب والحنين)
يقول:
((ثم سمع صوت البوري يرن حزينا شجيا وسط ذلك السكون الصامت وفي أجواز ذلك الفضاء اللامع وتلك الشمس المحرقة، فيحس بشي من الحنين البعيد والحزن الفاتر المنبسط))
وفي القصة التي نحن بصددها الآن يذكر صوت (البوري) في إشارة إلى تأثره بذلك الصوت وعلاقته بحادثة هامة في حياته ألا وهي موت خاله.
انظر:
((فإذا ذهب لينام في الليل وسمع صوت البوري الذي يضرب عادة لعشاء الضباط الإنجليز ذهب خياله توا إلى من فقد من أهله وقرابته))
ويقول أيضا:
((وكان صوت ذلك البوري دائم الاقتران بصورة خاله الذي مات))
هذا ما كان من أمر الإحساس بالمكان وعلاقته بالصوت، أما الإحساس بالمكان واتصاله بالحركة يقول الكاتب.
انظر:
((وهذه الظاهرة هي الأخرى لا يستطيع لها تفسيرا فانه قل أن يذكر الناس الذين عرفهم من ماتوا من أهله أو من هم بعيدون عنه الا في هيئة الحركة. وفي اغلب الأحيان في حركة بعينها وفي مكان بعينه ويوم وساعة بعينهما))
لذلك يتجسد صوت (البوري) والحركة عند الكاتب بشكل قاطع (تمام) في المكان ويذكره بالحزن على من فقد من أهله وبالتالي بالأمكنة التي تواجدوا وعاشوا فيها وماتوا ودفنوا فيها، وصوت (البوري) يذكره بوطنه والحنين إليه ولأهله.
الكاتب ببراعة الأديب تحدث عن نفسه وأحاسيسه وشعوره بدون تستر ولا (تكلف) فهو ترك الحرية لخياله في التذكر واسترجاع الماضي، وكتب بصدق عن شعوره وإحساسه بالمكان وذلك الرابط (المتين) الذي يجمعه بكل من حوله. أو كما قال ((بشعر الحياة ومسائلها الكبرى))
وأخيرا يقول بلسان (مجدي) متحدثا عن نفسه، معبرا عن الكثير من البشر.
يقول:
((ولمجدي عادة تقلقه ولا تريحه، لكنه يحس في ممارستها والشوق إليها راحة وطمأنينة. فهو إذا لم يضع ملابسه وكتبه وسريره في أمكنة بعينها وفي أوضاع خاصة لا يرتاح باله قط. فإذا وجد اقل تغيير في وضع كتبه وملابسه غيرها إلى نفس الوضع والمكان لأنه يتفاءل بأمكنة بعينها ويتشاءم من أخرى))
وأخيرا لابد أن الكثير منا أو كلنا يحس نفسه في المقطع السابق......
عندما تقرا نص (المكان) للأديب معاوية محمد نور تجد نفسك في تلك الأمكنة التي ذكرها الكاتب، وفي تلك الأمكنة المتشابكة تتخيل أخرى عايشتها (أنت) منذ أزمنة سحيقة وهاهي تقفز أمامك فجاءة وكأنما نص (المكان) كان بمثابة المنشط لذاكرتك بان تعيد قراءة تلك الأمكنة. والمكان لا ينفصل عن الزمان والأشخاص والحركة والصوت في لحظة معينة. وكل تلك العناصر تظهر عبقرية المكان الذي يبقى ملتصقا بالذاكرة، وما أن تنشط الذاكرة حتى تشعر بذلك الإحساس الذي يجعلك تسعى لعناق الأمكنة والحوائط والشقوق والخرائب، ويعزف معها سموفينية البقاء الأبدي.
قبل أن يبدأ الكاتب قصته عن المكان، قام بتعريفها لنا في مقدمة اعتبرها (هو) ضرورية وهامة لتعريف القراء بذلك النوع الجديد من الفن القصصي، وفي تلك المقدمة أدركنا أن هذا النوع الجديد من القصص لا يعني بتفاصيل العلاقات الاجتماعية ونوعها ولا حتى بوصف المكان ولا بالعواطف، هو يعني قبل كل شيء بالأحاسيس البشرية الخاصة تجاه الحياة ومسائلها الكبرى، وتجاه تضاد الأفكار في لحظة واحدة عند شخص من الأشخاص.
هذا النوع من الفن القصصي يعبر لنا عن كاتبه بصراحة.
يقول:
((ويغلب في كتاب هذا اللون القصصي أن يستثيروا نفوسهم ويكتبوا من معين حياتهم، فكأنهم يترجمون لأنفسهم مع بعض الزيادة والنقصان وتغيير الأمكنة والأزمان والأسماء))
بهذه المقدمة بدأت القصة التحليلية للمكان ومباشرة وضعنا الكاتب أمام (مجدي) بطل القصة ذلك الشخص الذي سوف نغوص في داخله عندما يحكي لنا عن علاقته بالمكان أو عن علاقة المكان به وتأثيره عليه، وكان الكاتب يريد أن يعلمنا إن هذه القصة تتحدث عن شخص حقيقي انطلاقا من تلك البداية وكما كانت البداية تشعرك بالبطل واقف أو جالس أمامك، كانت النهاية تحمل نفس الإحساس، وهنا تظهر براعة الكاتب في انه وضع فكرته بين حركتين للبطل، وما بين الحركة الأولى والحركة الثانية كان الإحساس بالمكان مسيطرا على كل المساحات السردية للقصة.
الحركة الأولى في بداية القصة يقول:
((فتح مذكرته التي يدون فيها خواطره.... ))
الحركة الثانية في نهاية القصة يقول:
((وبعد أن كتب هذه الأشياء شعر بأنه قد تعب وفتح مذكرته التي يدون فيها خواطره....))
قبل أن نبدأ قراءاتنا لنص المكان، لا بد أن نقول إن الكاتب تحدث عن أحاسيسه صراحة في النص بلسان (مجدي) وعن علاقته بالأشياء والأصوات والحركة، وأخيرا بالمكان.
وذلك الإحساس بالمكان كان يخامر خيال وعقل الكاتب منذ فترة طويلة وتحديدا منذ أن كتب القصتين اللتان وصف فيهما تلك الأمكنة في مدينتين مختلفتين كان لهما الأثر الكبير في حياته.
القصة الأولى:
في الخرطوم ((خواطر وذكريات محزونة))
القصة الثانية:
امدرمان ((مدينة السراب والحنين))
في هاتين القصتين وصف لنا الكاتب المكان في كل من المدينتين وصفا شاعريا فيه شحنة من الحنين الدفاق إلى وطنه والى تلك الأمكنة التي عاش فيها أو زارها أو مر بها مرورا عابرا، فهو يصف النيل بفروعه ويتحدث عن مصبه، وذكر جزيرة توتي وذلك الشارع على النيل الأزرق وتحدث عن الترام والاتومبيل ووصف حي وشارع الموردة بأسواقها وصخبها وحكى لنا عن قبة المهدي. وغيرها من الأمكنة التي علقت بذاكرته وعندما شعر بان الوصف لا يكفيه ليعبر عن علاقته بالمكان، قام بكتابة هذه القصة التحليلية ليتحدث مع المكان ويبثه شجونه وآلامه ويتبادل معه الإحساس بالإحساس.
انظر:
((وقد يلج به هذا الإحساس المكاني في ساعات تيقظه إلى ما هو اغرب من ذلك. فإذا مر بالسوق لج به الخاطر إن حياته لا تكمل إذا لم ير كل الدكاكين والشوارع فإذا فرغ من هذه العملية ود لو إن في مكنته أن يدخل كل حوانيت البقالة ويرى من قرب حوائطها الداخلية وزواياها وترابها))
اهتمام الكاتب بالتفاصيل والحركة والأصوات وربطها بالمكان خاصية انفرد بها منذ فترة مبكرة من حياته، ربما كان ذلك لكثرة سفره وتجواله وابتعاده عن أسرته وأهله لفترة أو فترات طويلة وهذا الاغتراب نما فيه الإحساس بالمكان.
إن ما يميز النص (المكان) هو مخاطبة الكاتب لإحساسه تجاه المكان، وعبر هذا الخطاب بينه وبين المكان، كان يصور لنا بصدق كل أحاسيسه نحو مكان بعينه بعد أن يربط ذلك المكان بحركة أو صوت أو لون أو حادثة.
فالعلاقة بينه وبين حوائط المدرسة الابتدائية تصل إلى قمتها في يوم العطلة الكبرى، فهو يشفق على الحوائط عندما يتركها لوحدها بدون التلاميذ والمدرسين وصوت الجرس لطابور الصباح لذلك يقوم بوداع الحوائط والشقوق في مدرسته واحدة بعد الأخرى.
يقول:
((فلا يترك المدرسة يوم العطلة إلا بعد أن ينظر إلى كل حائط وكل شق ويذرع الحوش ثم يودعها ويلبث ينظر إليها وهو في الطريق إلى إن تغيب عن نظره))
هو لم يتعامل مع حوائط المدرسة باعتبارها (جماد) لا يحس بل تعامل معها باعتبارها تمتلك إحساس وتبادله هذا الإحساس وتعيشه معه لحظة بلحظة، ولنا الحق أن نتخيله، فهو كما يودع حوائط المدرسة يوم العطلة، بلا شك هو سوف يلاقيها بفرح غامر عندما تفتح المدرسة أبوابها.
إن الإحساس المتبادل بين (مجدي) وما حوله في مكان ما، أو إحساسه هو بالمكان يوضحه لنا في المقطع التالي من القصة.
انظر:
((وإننا أحياء من أوائل ألازمان إلى أخر الآباد في صور وأشكال ومواد مختلفة كلها لها حظ من الوعي يختلف قوة وضعفا باختلاف الأفراد والأشياء. وعلى هذا الزعم فللحوائط والمادة الصماء والأشجار وعي وإحساس من نوع وعينا وإحساسنا..))
إن الكاتب في هذا النص جعل (مجدي) يتواصل مع الحوائط والمادة الصماء ومع الأشجار، ويتحاور معها ويحس بها، وهي بالتالي بادلته ذلك الإحساس فكأنما الحوائط والمادة الصماء والخرائب تخبر بعضها البعض بان هناك شخص اسمه (مجدي) يملك المقدرة على التواصل معها، لذلك كانت خرائب امدرمان تناديه وكانوا عندما يذكرون له مكان ما لم يسبق له أن زاره كان يتخيله بأدق تفاصيله وعندما تتاح له الفرصة بزيارته يراه كما تخيله تماما. بفضل إحساسه بالمكان وامتلاكه تلك الخاصية في التواصل مع المكان والإحساس به.
انظر:
((وكان إذا قرأ عن مكان أو سمع به تخيله ورسمه في مخيلته، فإذا ساعدته الظروف وذهب إلى ذلك المكان رآه مثل ما تخيله حتى الوضع وأشياء دقيقة لا تلوح في خاطر إنسان))
كان (مجدي) بتواصله مع المكان والإحساس به يعرف الأمكنة من خلال حركة أو صوت يرتبط بشكل ما مع المكان أو بحادثة معينة أثرت في حياته، وحالما يسمع ذلك الصوت أو يتخيل تلك الحركة يذكر المكان بكل تفاصيله.
إن صوت (البوري) كان يذكره بأحزانه وبخاله الذي مات وكان يذكره أيضا بالمستعمر الذي جثم على صدر بلاده وعلى صدره هو شخصيا، لان الكاتب كان ملاحق من قبل المستعمر الإنجليزي بسبب سفره إلى مصر وبسبب قلمه الحر النزيه. لذلك كان كلما يسمع صوت (البوري) يتذكر خاله والأحزان ويتذكر وطنه والأشواق، وكل الأمكنة فيه التي أحس بها وبادلته الإحساس.
ومن شدة تأثير صوت (البوري) عليه نجده يكرره في ثلاثة من القصص التي كتبها.
في قصته الخرطوم (خواطر وذكريات محزونة) يذكر صوت (البوري).
انظر:
((وسماعي لذلك البوري الذي يهز كياني هزا، ويلعج نفسي ويذكرها بمن مات من أهلي وأحبابي! ولا ادري أي علاقة لذلك الصوت وتلك الذكريات المحزونة، فلربما لان خالي كان ضابطا وان ذلك البوري كان يضرب لعشاء الضباط، وخالي قد مات))
وفي قصة امدرمان (مدينة السراب والحنين)
يقول:
((ثم سمع صوت البوري يرن حزينا شجيا وسط ذلك السكون الصامت وفي أجواز ذلك الفضاء اللامع وتلك الشمس المحرقة، فيحس بشي من الحنين البعيد والحزن الفاتر المنبسط))
وفي القصة التي نحن بصددها الآن يذكر صوت (البوري) في إشارة إلى تأثره بذلك الصوت وعلاقته بحادثة هامة في حياته ألا وهي موت خاله.
انظر:
((فإذا ذهب لينام في الليل وسمع صوت البوري الذي يضرب عادة لعشاء الضباط الإنجليز ذهب خياله توا إلى من فقد من أهله وقرابته))
ويقول أيضا:
((وكان صوت ذلك البوري دائم الاقتران بصورة خاله الذي مات))
هذا ما كان من أمر الإحساس بالمكان وعلاقته بالصوت، أما الإحساس بالمكان واتصاله بالحركة يقول الكاتب.
انظر:
((وهذه الظاهرة هي الأخرى لا يستطيع لها تفسيرا فانه قل أن يذكر الناس الذين عرفهم من ماتوا من أهله أو من هم بعيدون عنه الا في هيئة الحركة. وفي اغلب الأحيان في حركة بعينها وفي مكان بعينه ويوم وساعة بعينهما))
لذلك يتجسد صوت (البوري) والحركة عند الكاتب بشكل قاطع (تمام) في المكان ويذكره بالحزن على من فقد من أهله وبالتالي بالأمكنة التي تواجدوا وعاشوا فيها وماتوا ودفنوا فيها، وصوت (البوري) يذكره بوطنه والحنين إليه ولأهله.
الكاتب ببراعة الأديب تحدث عن نفسه وأحاسيسه وشعوره بدون تستر ولا (تكلف) فهو ترك الحرية لخياله في التذكر واسترجاع الماضي، وكتب بصدق عن شعوره وإحساسه بالمكان وذلك الرابط (المتين) الذي يجمعه بكل من حوله. أو كما قال ((بشعر الحياة ومسائلها الكبرى))
وأخيرا يقول بلسان (مجدي) متحدثا عن نفسه، معبرا عن الكثير من البشر.
يقول:
((ولمجدي عادة تقلقه ولا تريحه، لكنه يحس في ممارستها والشوق إليها راحة وطمأنينة. فهو إذا لم يضع ملابسه وكتبه وسريره في أمكنة بعينها وفي أوضاع خاصة لا يرتاح باله قط. فإذا وجد اقل تغيير في وضع كتبه وملابسه غيرها إلى نفس الوضع والمكان لأنه يتفاءل بأمكنة بعينها ويتشاءم من أخرى))
وأخيرا لابد أن الكثير منا أو كلنا يحس نفسه في المقطع السابق......