نقوس المهدي
كاتب
مدخل:
هناك ممارسات وآراء وخطابات دينية كثيرة فى مصر يقال إنها تمثل المعتقدات الشعبية أو الدين الشعبى. وليس من الواضح إطلاقا مع ذلك ما الذى يجعلها بالفعل "شعبية" وفى مصر يستخدم لفظ "شعبى" لتصنيف ظواهر اجتماعية متنوعة. فهو يدل على ممارسات دينية تختلف عن الممارسة الصحيحة، وعلى الفولكلور، وعلى السكن العشوائى، والطعام التقليدى المصرى، والصحافة الصفراء، والسجائر المحلية الرخيصة وسط أشياء أخرى. وعلى الرغم من أن لفظ "شعبى" ـ عند النظرة الأولى ـ يبدو كأنه يشير إلى مجموعة من الناس هى بالتحديد الطبقات الدنيا؛ فإن نظرة فاحصة تحول فئة الأشياء الشعبية إلى فئة من الصعب جدا الإحاطة بها.
وفى هذه الورقة سأدل على أن الشعبى مقولة بُنيت أساسا على العلاقات الرمزية بين الثقافة "الرفيعة"و"الهامشية" ولا يمكن الاقتصار فى وصفها على مقولات البنية الاقتصادية والاجتماعية وحدها. ولتحليل هذه العلاقات الرمزية سوف أستخدم مفهومات بيير بورديو Pierre Bourdieu عن البنى الرمزية للحيز الاجتماعى، عن الاستعداد الجسمى والتطبع habitus للطبقة، والعلاقة بين الطبقات الاجتماعية والأحكام الجمالية .
إن الطبقة الاجتماعية ـ عند بورديو ـ ليست مجموعة ذات وجود جوهرى، بل هى تصنيف منطقى مشروط مبنى على سمات مميزة متنوعة. ومفهوم التطبع فى هذا السياق مركزى وهو الاستعدادات المميزة، والمخططات السابقة للمفهومات التى هى أساس الحس بالتمايزات الطبقية:
"التطبع هو فى الوقت نفسه المبدأ التوليدى للأحكام القابلة موضوعيا للتصنيف، ونسق تصنيف (principium divisionis) هذه الممارسات. ويتأسس العالم الاجتماعى الممثَّل أى حيز أساليب الحياة فى العلاقة بين القدرتين اللتين تحددان التطبع: القدرة على إنتاج ممارسات وأعمال قابلة للتصنيف، والقدرة على تمييز هذه الممارسات والمنتجات (الذوق) وتقديرها(1)".
وكما أدخل بورديو التطبع والجماليات وأسلوب الحياة فى مفهومه للطبقة، وسع مفهوم رأس المال إلى أبعد من مجال الاقتصاد. فالأفراد يستطيعون توظيف أنواع مختلفة من رأس المال: الاقتصادى والاجتماعى والتعليمى والرمزى. وفى أعمال بورديو كلها لا يوجد اختلاف قاطع بوضوح بين البنى الموضوعية والتمثيلات. فالتصنيفات هى عمليات موضوعة وهى نفسها جزء من الواقع الاجتماعى. وأنا أرى ذلك على الرغم من إصرار بورديو فى بعض المناسبات على البنى الموضوعية فى خاتمة المطاف(2)، لأن إحدى ميزات نموذج بورديو المهمة بوجه خاص تتمثل فى أنه يسمح بتحليل بعيد عن النزعة الاختزالية، يتجاوز"البداهة الذاتية المزيفة للفهم المباشر،"(3) لمقولات الإدراك الحسى التى تشكل بنية المجتمع.
وسأركز فى هذه الورقة على مسألة المعتقدات الشعبية فى السياق الإسلامى لمصر المعاصرة. وستكون مداخل أخرى ممكنة. فمن المستطاع العثور على مفهومات مماثلة للتدين الرسمى والشعبى فى معظم الديانات وفى جــميع الأرجـاء. ويمكن لمدخل تاريخى أن يكشف عن نشوء مفهوم "الشعبى" الذى ـ كما يجب أن نتذكر ـ لم يكن مستعملا فى العالم العربى قبل القرن التاسع عشر.
مداخل إلى الدين الشعبى:
تستخدم مصطلحات المعتقدات الشعبية والدين الشعبى وغيرهما مثل التدين الشعبى، وفى الدراسات الغربية: "الإسلام الشعبى"، كمقولة علمية فى المعتاد(4) تغطى عددا من المعتقدات بما فيها التصوف وتقديس الأولياء والاحتفالات والطقوس الزراعية وشعائر الشفاء والخصوبة والسحر والحركات الكاريزمية بين أشياء أخرى(5). وعلى أى حال لا وجود لإجماع واضح حول ماذا يكون الدين الشعبى على وجه الدقة.
ووفقا لدارس الانثروبولوجيا المصرى محمد حافظ دياب(6) قدمت الدراسات العربية المتخصصة ثلاثة مداخل رئيسة لوصف المعتقدات الشعبية أو الدين الشعبى. أحدها يركز على التراتب الاجتماعى مثل علاقات المركز ـ الهامش، وعلاقات السلطة السياسية وأهم من ذلك كله التمايزات الطبقية. ويبنى المدخل تعارضا بين المعتقدات الشعبية للطبقات الدنيا ودين النخبة الرسمى. ويركز مدخل ثان على الفاعلين الدينيين. ويفرق بين العلماء بوصفهم ممثلين للدين الرسمى من جهة والمتصوفة بوصفهم ممثلين للدين الشعبى من جهة أخرى، والمدخل الثالث يعكف على الخطاب الدينى ويفرق بين التدين النصى والخطاب الشعبى المنقول شفاهيا العملى المفتوح حول الدين، وهذا الخطاب يتميز بطابعه التفويضى عسير الضبط وميله لثنى القواعد التى يضعها الخطاب الدينى النصى وتطويعها(7).
وينقد دياب المداخل الثلاثة جميعا من ناحية ثنائتيها المفرطة التى تعوقها عن الوصف السليم لتعددية الدين الشعبى. وفى الحقيقة تعانى المداخل الثلاثة الملخصة هنا من نواقص فادحة. إن الدين الشعبى فى مصر المعاصرة قطعا له علاقة بالفوارق الطبقية، ولكن أى نوع من الفوارق الطبقية؟ سيكون من الخطأ اختزال الفوارق الطبقية فى البنية الاقتصادية، أو مجموعات معطاة ذات وجود ملموس. كما أن الصورة التى تقدمها عادة وسائط الإعلام ويقدمها المثقفون هى أن المتصوف النموذجى أو المشارك فى مولد، أو الزائر لمقام الولى هو شخص فقير أمى ريفى. ولكن ما أقل نصيب هذه الصورة من الأساس الإمبريقى. فالاشتراك فى الطقوس الدينية التى توصف بالإجماع بكونها "شعبية" لا تنبئ إلا بتضايف هزيل مع الدخل والتعليم ومكان الأصل(8).
أما وصف الدين الشعبى من خلال التعارض بين العلماء والمتصوفة الذى ما يزال يتمتع برواج ملحوظ وسط الدارسين المسلمين والمستشرقين على السواء؛ فتكذبه الشواهد التاريخية. وتشير الدراسات الحديثة فى التاريخ الإسلامى إلى أنه على الرغم من وجود توترات فى أغلب الأحوال، فإن قسمة ثنائية واضحة بين العلماء والمتصوفة نادرا ما حدثت، بل على العكس. كان المتصوفة والعلماء كثيرا ما تربطهما صلات وثيقة وظلوا كذلك حتى اليوم(9).
ويبدو المدخل المتجه إلى الخطاب واعدا بدرجة أكبر. وإن كان يواجه فى الممارسة مشكلة المدخل المتجه إلى الطبقة نفسها. فطبقات "الشعبى" و"الرسمى" معرفة مسبقا، ولا يمكن استنباطها من النموذج نفسه. وعلى الرغم من هذا القصص ففى رأيى أن هذا المدخل جدير بالاهتمام بما يكفى للاحتفاظ به فى الذهن لاستخدام لاحق.
وكبديل لهذه المداخل، يرسم دياب خطوط نموذج للدين الشعبى باعتباره أرضا وسطى بين الدين والعرف: "التنافذ المتبادل بين الدين والمعتقدات الشعبية، هو ما يعين إطار الدين الشعبى ومادته بالنظر إلى أن هذه المعتقدات (..) تقترب من تكوين دينى اعتقادى بوصفه نظامًا لصيقًا للدين"(10). والدين الشعبى ـ عند دياب ـ تكوين مستقل لصيق للدين يرتكز أولا على التقليد النوعى للممارسات التوفيقية، وثانيا على الجماعات (مثل الطرق الصوفية والحركات المهدية) التى تحمل وتنشر هذه الممارسات، وثالثا على رأسمالها الرمزى النوعى. أى الممارسات والاستعدادات والمعرفة الثقافية التى تشكل نسقا لصيقا للدين(11).
وعلى الرغم من أن هذا المدخل قد يثبت أنه جدير بالاهتمام فى دراسة استمرارية ممارسات معطاة؛ فإنه يترك مشكلة مركزية بدون حل، فما الذى يجعل كل ذلك "شعبيا" ولماذا هو متميز عن الدين؟ وفى الواقع يقوم دياب بشئ معهود لدى معظم منظرى الدين الشعبى؛ فهو يأخذ فئة الأشياء الشعبية باعتبار مدلولها مسلما بصحته ويلتزم بفهم الإدراك العام لما يعنيه أن يكون شئ أو ممارسة أو مفهوم، أو شخص "شعبيا".
وتصير التناقضات الناجمة عن الاستعمال العلمى لهذا اللفظ الراجع إلى الإدراك العام(12) واضحة حينما ننظر إلى الممارسة الدينية الفعلية. فالناس لا يفرقون واقعيا بين ممارسة ارتياد الموالد وممارسة صلاة الجمعة باعتبارهما تنتميان إلى نسقين فرعيين مختلفين. فمن وجهة نظرهم أنهم يمارسون شعائر الإسلام. وعلى الرغم من هذه الحالة؛ فالمولد شعبى وصلاة الجمعة ليست كذلك وإن مارسهما معا عدد كبير من الشعب المصرى. وتتميز كل تعريفات "الدين الشعبى" و"المعتقدات الشعبية" .. إلخ بأنها مفصولة عن ممارسات كثيرة محورية بالنسبة للممارسة الدينية من جانب المسلمين العاديين(13). إنهم يتوجهون إلى صلاة الجمعة ويوفرون المال للذهاب إلى مكة للحج ويؤمنون بيوم القيامة والجنة ولكن لسبب ما لا يعد شئ من ذلك شعبيا.
نطاق الأشياء الشعبية:
مشاكل أى محاولة لكشف ما يكونه الدين الشعبى فى الواقع عسيرة، وهى معروفة جيدا فى الوقت نفسه ولا عجب أن المفهوم ذاته تعرض للهجوم(14). وينكر آرماندو سلفاتورى Armando Salvatore على سبيل المثال أن "الإسلام الشعبى" يمكن أن يكون كيانا ثقافيا قائما بذاته، ويدلل على أن دائرة الدين الشعبى معرفة فى المحل الأول من خلال استبعادها أو تهميشها فى المجال العام.
"إذا كان هناك أى شئ يشبه الإسلام الشعبى فى بيئة عاصمة كالقاهرة، فلن يوجد إلا بوصفه إنشاءً افتراضيًّا من جانب الفاعلين فى الإسلام العمومى لكى يتيحوا له أن يمارس وظيفته، أى أن ينشر أطواء طاقته الحضارية، فالإسلام الشعبى هو الوجه الخلفى للإسلام العمومى، يضفى عليه أولا طابعًا رومانسيًّا ثم يرفض ويعاد إنتاجه فى وسائط الاتصال الرسمية من خلال غيابه المرموق أو على سبيل التخيير من خلال حضور متحجر مستأنس والإسلام العمومى هو بعد كل شئ هو الإسلام الوحيد الذى يمكننا النفاذ إليه نتيجة للكم المتزايد من الدين الذى يجرى توصيله علنا. وإذا كانت هناك ممارسات هامشية أو "شعبية" للدين فإن عين عالم الانثروبولوجيا (سواء من أهل البلد أو الأجنبى) هى التى تعزلها وتروجها وتدمجها فى لعبة تعريف ماذا يشبه الإسلام وهى اللعبة العمومية المتبحرة العابرة للثقافات. " (15)
ولا يذهب سالفاتورى أبعد من ذلك فى تحليل هذه العلاقة؛ فهو مهتم بالدين فى المجال العمومى ويكفيه أن يبرهن على سبب اعتباره أن دراسة ما يسميه المستشرقون الإسلام الشعبى بلا فائدة فى هذا السياق. وعلى أية حال ينبغى علينا أن نحاول توسيع تلك النقطة. ومن الواضح أن الإجابة عن سؤال ما الشعبى فى المعتقدات الشعبية، لا تقع فى طبيعة الأشياء بل فى معالجتها من حيث الخطاب.
وهكذا تقل جدوى البحث من معايير موضوعية وصفية للمعتقدات الشعبية حيث لا وجود لأى منها. وبدلا من ذلك ينبغى أن تجذب انتباهنا ـ على وجه الدقة ـ فكرة الإدراك العام عن فئة الأشياء الشعبية. أو بعبارة أدق: إن المعالجة الخطابية من جانب الإدراك العام للظواهر والممارسات الاجتماعية هى التى يجب أن تكون موضوع التحليل لأنها على نحو مضمر تعبر عن التمايزات الاجتماعية والدينية والثقافية التى تشكل بنية الحيز الاجتماعى والتى تبرز موقع الاحتفالات الشعبية ـ على سبيل المثال : احتفالات الموالد ـ داخله. وسيكون السؤال إذن هو: ماذا يعنى "الشعبى"؟ وأين تقع "المعتقدات الشعبية" فى المجتمع المصرى؟
إن تصنيف "الشعبى" له بطبيعة الحال صلة بالشعب، ذلك الكيان الجمعى الذى ليس محددا بأى حال دون مواربة. ويرتبط الازدواج المتناقض (الالتباس) لتصنيف "الشعبى" بالازدواج المتناقض الأساسى لتصنيف "الشعب" الذى يعنى ـ فى الوقت نفسه ـ الجسم الجمعى للأمة و"الناس العاديين".
وهكذا تستخدم الصفة "شعبى" فى سياقات متنوعة وفى أغلب الأحوال على نحو ملتبس؛ فهناك معتقدات شعبية، أو دين شعبى. وعلى مستوى العرف يستطيع المرء الكلام عن تقاليد شعبية. وهناك أمثال شعبية، والمجال الكامل للثقافة الشعبية وهو مصطلح غالبا ما يكون مرادفا للفولكلور. وفى هذه الحالات يبدو أن "شعبى" تدل على الثقافة التقليدية السابقة للثقافة الحديثة (الريفية أساسا).
إن التجمعات السكنية العشوائية التى لا تمتلك (فى أفضل الأحوال) إلا مرافق بدائية، وهى ذات كثافة سكانية عالية وأزقة ضيقة ومستوى من المعيشة منخفض عموما تعرف بأنها أحياء شعبية. وهناك مطاعم شعبية رخيصة تبيع أطباقا تقليدية مصرية تعرف باسم الطعام الشعبى. ويمكن استعمال لفظ "شعبى" لوصف عدد من السلع اليومية الأخرى: الصحف المسلية تعرف باسم المجلات الشعبية، والسجائر المحلية الرخيصة تعرف باسم السجائر الشعبية. هنا تدل صفة "شعبى" أيضا على ثقافة معاصرة هابطة الكيف والمستوى (تنتمى فى الأغلب إلى المدينة).
وتخصيص شئ ما بأنه "شعبى" معناه ربطه بنمط خاص من التطبع habitus. ويمتلك الشخص تطبعا شعبيا إذا كان يعيش فى حى شعبى أو فى قرية ويتكلم لهجة ريفية أو لهجة الطبقة الدنيا، ويكشف عن قيم جماعية تقليدية فى حياته ويرتدى ملابس مصرية تقليدية ويشترك فى طقوس مثل احتفالات الموالد.
والازدواج المتناقض للتطبع الشعبى يصبح واضحا إذا قارناه بمقولة تتصل به هى: ابن البلد أو بنت البلد. وابن البلد هو الذى يمارس طريقة حياة تقليدية تنتمى إلى المدينة. وقد اكتسب تصنيف" بلدى" معناه من خلال التضاد عريض الخطوط بين طريقتى الحياة المصرية التقليدية والنخبوية الحديثة (التى يسميها ابن البلد أفرنجية) ويمنح ذلك ابن البلد درجة ثابتة من الأصالة، لا باعتبارها وصفا ذاتيا إيجابيا فقط بل من خلال استعمال المصطلح فى الخطاب الحداثى بمعنى المادة الخام للثقافة القومية الرفيعة(16).
وعلى الرغم من أن المفهومين: شعبى وبلدى مترادفان فى بعض الحالات؛ فإن هناك اختلافات واضحة فى استعمال المصطلحين. وتتميز تسمية أشياء بأنها شعبية بازدواج متناقض قوى وصفى ومعيارى معا. فالأشياء الشعبية قــد تكــون تقــليدية ولكن ذلك ليس ضروريا. ولنأخذ ـ كمثال ـ عشوائيات القاهرة الحديثة، إن مثقفة فى القاهرة ترى" أنها أحياء شعبية، بمعنى شعبى سئ وليس حسنا (كويس) بمعنى أبناء البلد"(17). إن شخصية ابن البلد تمثل هنا النموذج المثالى لابن جماعة الحارة الأصيلة الودود المرحة. وعلى أى حال يتضمن لفظ "شعبى" كلا من هذه الصورة الإيجابية لابن البلد ومن الجوانب السلبية للحياة اليومية فى هوامش المدينة مثل الفقر والتحرش الجنسى والجريمة وافتقاد المرافق الضرورية.
ليس دينا بالتمام:
إن فئة الأشياء الشعبية توضع فى نسق اجتماعى ثقافى مركب من الإحداثيات: فليس لها قوام محدد أو قيمة معيارية ثابتة كما أنها لا تمتلك نظيرا مقابلا مثل الذى يمتلكه لفظ "بلدى". ويدل تصنيف "شعبى" على وضع رمزى معين فى المجال الاجتماعى. وعلى الرغم من أنه مترابط بوضوح مع ثقافة الطبقات الدنيا فإن الأشياء الشعبية تصنيف منطقى قائم بذاته مبنى على مخطط عام لثقافة "رفيعة" سائدة أصولية "قويمة" فى تعارض مع ثقافة مسودة، مغايرة (هرطقية) "هابطة" أو هامشية(18). وبالتالى تكون "المعتقدات الشعبية" هى فئة كل الممارسات والتصورات الدينية التى تدرك باعتبارها فى موضع فرض عليه التهميش وعدم الشرعية فى مواجهة المعايير السائدة لما يكون عليه الدين.
وفى الممارسة تمثل "المعتقدات الشعبية" مقولة مركبة مبنية على عدد من التمييزات التخطيطية. أولا: من المتوقع أن يكون للفقراء معتقدات شعبية ولا ينطبق ذلك على الطبقات الوسطى والأغنياء. وهذا التمييز الذى يبدو بدهيا ليس شرطا كافيا أو ضروريا مع ذلك. فغياب رأس المال الاقتصادى لا يصبح مهما إلا حينما يتصل بسمات مميزة أخرى. (لنفكر على سبيل المثال فى طلبة الجامعة الذين قد يعيشون فى شروط بائسة للغاية ولكن تدينهم لا يكون شعبيا).
ثانيا: إن الناس الذين يمتلكون رأس مال تعليميا ضئيلا تكون لهم معتقدات شعبية. وبسبب افتقارهم (المزعوم) إلى التعليم النظامى والمعرفة بالكتاب فى فهم الدين فإن الأشخاص المشتركين فى احتفالات الموالد على سبيل المثال يوصفون غالبا "بالبسطاء". وهذا لفظ شديد التكرم الاستعلائى يدعى أن هؤلاء البسطاء يتسمون بغياب الحكم العقلانى والتفكير(19). وفى كثير من الخطابات الثقافية يقام تضاد بين معرفة غير المثقفين اللانظامية الشفاهية فى الأغلب، والمعرفة "الحقيقية" النظامية المشروعة وبهذا يحط منها لتستوى مع الجهل البحت(20). إن التقاليد الشفاهية وكذلك التفسيرات المغايرة لنصوص الكتاب تكون فى الأغلب شعبية نتيجة لضآلة رأسمالها الرمزى فى تقابل مع النظام التعليمى الراسخ (العلمانى مثل الدينى) والنماذج المرشدة الشرعية لقراءة الكتاب. وتسترعى النظر هنا الحركات العقلية فى التصوف التى لا تعد شعبية على الرغم من أن الكثير من الممارسة الصوفية يعد كذلك(21).
ثالثا : ليست المعتقدات الشعبية حديثة، وبعبارة أدق، ليست حديثة كما يحب الحداثيون أن تكون. والوسط الاجتماعى النموذجى للمعتقدات الشعبية هو وسط قرية أو مدينة قديمة سابقة للمدنية الحديثة أو تجمع سكنى عشوائى حديث، ولكل منها أسلوب حياة وبنية مكانية.والاستعداد الجسمى للممارسات الشعبية ملتبس وعاطفى ولا يعبر عن الاستعداد الحداثى أو الإصلاحى الذى يحاول أن يقيم حدودا قاطعة الوضوح بين المقدس والدنيوى، بين الحقائق العميقة والكلام العادى، بين عناصر الحياة السامية والوضيعة، وفى مقال صحفى نقدى ـ على سبيل المثال ـ تعقد مقارنة بين فوضى محطة أتوبيس رمسيس فى القاهرة؛ فهى شديدة الازدحام وعدم الانتظام، ومأهولة بالباعة الجائلين والبلطجية،واحتفال مولد انتقل من أعماق ريف مصر العليا إلى قلب القاهرة(22). والمولد فى هذه الحالة ـ وهو نموذج أصلى بحق للدين الشعبى ـ مرتبط بالحوارى الضيقة والقمامة والأصوات الصارخة والزحام الفوضوى لحى شعبى. وتتعارض هذه الصورة مع النموذج المثالى السائد للوسط الحضرى (وإن لم يكن فى الواقع واسع الانتشار) الكولونيالى وما بعد الكولونيالى. ووفقا لهذا النموذج المثالى ينبغى أن تمتلك المدينة الحديثة مبانى ضخمة متميزة وظيفيا على جانبى ميادين واسعة نظيفة. وينبغى أن يقطنها مواطنون مهذبون يسلكون بطريقة عقلانية منضبطة(23).
رابعا : من المحتمل بدرجة أكبر أن تكون الممارسات النسائية للدين شعبية أكثر من ممارسات الرجال. ومصر مجتمع مازال فيه نسبيا تمييز قوى بين الذكور والإناث، وكثير من الممارسات الدينية له طابع ذكورى غالب (الصلاة فى المسجد، تلاوة القرآن) أو طابع نسائى غالب (زيارة الأضرحة، طقوس الشفاء والخصوبة). ولأن العلم الدينى والقيادة الدينية ومن ثم إنتاج الحقيقة الدينية حدث أن كانا مجالين للرجال، فإن الممارسات النسائية النموذجية أصبح الاحتمال الغالب لها أن تكون مغايرة للممارسات "القويمة"(24).
خامسا: وهذا هو التعارض الأكثر جوهرية. إن المعتقدات الشعبية (أو الدين الشعبى) مغايرة هرطقية لا بالنسبة إلى "الدين الرسمى" بل إلى الدين ذاته. ويعنى "الدين الشعبى" دائما (تقريبا) "ما ليس دينا بالتمام". ويتحدث محمد حافظ دياب ـ فى تعريفه الذى سبق الاستشهاد به للدين الشعبى ـ عن التنافذ المتبادل بين الدين والمعتقدات الشعبية(25). وذات مرة شرح لى صحفى مصرى أن الموالد "لا علاقة لها بالدين"(26). وفى الخطابات الثقافية والدينية السائدة فى مصر المعاصرة، يُفهم الدين باعتباره شيئا محددا بوضوح، له حدود ومعانٍ ثابتة. والاعتقاد مهما يكن راسخا والشعائر مهما تكن مقدسة لا يكفيان لتشكيل الدين. فالدين نسق متماسك وعقلانى مبنى على مصادر يقينية ملزمة، يتألف من عبادات محددة وسلوك دينى مبنى على وازع محدد بدقة ومذهب حول الكون والأخلاق، والسياسة (إمكانا). ويتم استبعاد البدع وعدم الاتساق والتوفيقات. ويتطابق هذا المفهوم التفسيرى للدين بدقة تامة مع ما يصفه بورديو بصحيح الاعتقاد (الاعتقاد القويم):
"وفى الحقيقة لا يتشكل نسق المخططات التصنيفية، بوصفه نسقًا متموضعًا مؤسسيا للتصنيف إلا حينما يكف عن العمل كحس بالحدود بحيث يجب على حماة النظام المستقر أن يعلنوا مبادئ إنتاج هذا النظام الواقعية والممثلة ويضفوا عليها نسقا وتقعيدا لكى يدافعوا عنها ضد الهرطقة (الآراء المغايرة) وباختصار يجب عليهم أن يؤسسوا العقيدة السائدة بوصفها التفسير القويم (صحيح الدين)، الأصولية الحقة"(27).
ووفقا لذلك لا يكون الدين دينا بحق عند بعض الناس فى مصر المعاصرة إلا إذا كان من الممكن له الإفصاح بلغة التفسير القويم (أو التفاسير القويمة بما أن هناك أنساقا متنافسة للتصنيف ذات طابع مؤسسى). ويجب إبطال مفعول التوفيقات والتجديدات (البدع) والتشوشات التى لابد أن تحدث فى كل دين حى. وقد تبقى غير منعكسة فى شكل عقيدة، وقد تبقى محتجبة بواسطة العلم الدينى، وقد تدفع إلى الهامش بتسميتها شعبية أى مغايرة، دينية بعض الشئ ولكنها ليست دينا بالتمام.
ويجرى تعريف الدين الشعبى دائما وفقا لمقياس مركب متعدد الأبعاد. فلكى تصبح ممارسة دينية ما شعبية يجب عليها أن تبدى عدة سمات مميزة مترابطة مثل التغاير المعتقدى ورأس المال التعليمى الضئيل أو الاشتراك النسوى الغالب (على الرغم من أنها تفتقر إمكانا أو فعلا إلى بعض هذه السمات).
وهذا هو السبب فى أن كل المعتقدات المغايرة ليست شعبية. فالإلحاد ليس شعبيا وكذلك العلمانية وكل المذاهب المغايرة التى تركت وراءها بالقطع الأساس العام للإسلام. ويرجع ذلك أولا إلى حقيقة أن للدين الشعبى دائما علاقة حميمة وإن تكن غير شرعية بالدين القويم. إنه ليس بالتمام جزءا منه ولكنه ليس منفصلا متميزا عنه أيضا من خلال وحدة الممارسة الفعلية (ويجب أن نتذكر مرة ثانية أن الأشخاص أنفسهم الذين يحضرون الموالد وحفلات الزار يذهبون إلى صلوات الجمعة ويصومون رمضان).ويرجع ذلك إلى أن المعتقد الشعبى المغاير متميز عن الهرطقة العلمانية العقلانية على سبيل المثال لأن المثقفين العلمانيين قد يكونون مغايرى العقيدة ولكنهم ليسوا بالقطع مثل بنات البلد الأميات فى حى شعبى.
واتباعا للمنطق نفسه لا تكون المعتقدات الشعبية مطابقة لتدين الفلاحين، وفقراء المدن، والنساء، أو الأميين. فإلى المدى الذى تتبع فيه ممارستهم الدينية نظام الاتجاه الشرعى السائد ـ كما هى الحال فى أغلب الأحوال ـ فإنها الدين الصراح وليست دينا شعبيا، واتباعا للمنطق نفسه سنرى أيضا أن شخصا ما إذا كانت لديه معتقدات شعبية وكان يزاول الأمور على نحو شعبى ولديه تطبع شعبى فإن ذلك غالبا ما يكون كافيا لجعله (أو لجعلها) ينتمى إلى الطبقات الشعبية. وهذا هو سبب أن اشتراك أشخاص ذوى رأسمال اقتصادى أو تعليمى عالى القيمة اشتراكا فعليا فى ممارسة شعبية لا يرفع بالضرورة من قيمة رأسمالها الرمزى. فمن خلال الوسط الشعبى للممارسة يستولى المشاركون من الطبقة الوسطى أو العليا بالفعل على تطبع شعبى.
والميزة التصنيفية للقول "بمعتقدات شعبية" أو "دين شعبى" مهمة. فهى حل لمشكلة أساسية جدا فى النظام المنطقى للمجتمع، مشكلة أن "الدين" أى الدين الصحيح، ليس فى الأغلب ما يمارسه المتدينون. ولكن بمجرد أن يقسم المرء ما يمارسه المؤمنون إلى فئتين متميزتين فإنه يستطيع أن يتكلم عنهما على نحو يبدو موضوعيا. وهكذا يستطيع المرء أن يدرس المعتقدات الشعبية دون أن يضطر إلى أن يقلق كثيرا حول وضعها المشكوك فيه بالنسبة إلى الدين كما يستطيع المرء دراسة الدين دون أن يضطر للقلق حول حدوثه فى الواقع. فالدائرتان تمثلان تيارين موضوعين من الحدوث الواقعى للممارسة الدينية.(28)
ومن المهم جدا ملاحظة أن لفظ "شعبى" فى استعمالها الأصلى داخل الإدراك العام تدل فقط على العلاقة النوعية لممارسة ما بالممارسات الاجتماعية السائدة وبالتالى ليست المعتقدات الشعبية فى الأصل مجالا أو نسقا، فهى ليست إلا فئة الأمور التى تشترك فى تطبع مماثل وفى وضع مماثل داخل البنية الرمزية للحيز الاجتماعى. ولكن بمجرد أن ننتقل من الإدراك العام إلى الخطابين العقلى والعلمى نكتشف أن ميلا إلى تشيئ هذا التصنيف ينبثق وهنا يصير الاختلاف بين "المعتقدات الشعبية" و"الدين الشعبى" اللذين يستخدمان فى الأغلب بوصفهما مترادفين ذوىدلالة. فعلى حين لا تعنى "المعتقدات الشعبية" فى الأغلب إلا فئة المعتقدات التى يمكن من خلال موقعها فى الحيز الاجتماعى أن تسمى شعبية، فإن "الدين الشعبى"، نسق، مجال له منطقه الخاص. وعلى الرغم من أن لا أحد يمارس بالفعل الدين الشعبى ممارسة متميزة ذات منطق متميز (منفصل)؛ فإن المصطلح مع ذلك واسع الاستعمال بسبب موضوعيته الظاهرية. فالدين الشعبى هو شئ "واقعى" يمكن الكلام عنه والتعامل معه سواء كان مشكلة تتطلب حلا، أم تقليدا يتطلب توثيقا، أم وجودا بالقوة يتطلب تحقيقا بالفعل .(29) وتلك هى نقطة الانطلاق المضمرة لدراسة الدين الشعبى دراسة علمية(30).
وفى هذا السياق من المهم إبراز أن لفظ "شعبى" عموما وتعبير "معتقدات شعبية/ دين شعبى" خصوصا، على الرغم من أنهما يستعملان لدى كل طبقات المجتمع المصرى، هما تصنيفان أنتجتهما الخطابات السائدة. فالذين يدرسون ويصنفون ويصفون الثقافة الشعبية ليسوا من "الطبقات الشعبية" إنهم صحفيون ومثقفون وانثروبولوجيون وعلماء دين وسياسيون..إلخ. وبالنسبة إليهم يكون الدين الشعبى آخر ثقافيا واجتماعيا. وغالبا ما يتعاملون مع هذا الآخر الثقافى والاجتماعى على نحو منفصل (ولنتذكر على سبيل المثال فئة "الناس البسطاء"). ولا تظهر الثقافة الشعبية كدائرة متميزة إلا من خلال هذه النظرة الجازمة المعتمدة من موقع مسيطر.
والفولكلور هو حالة جديرة بالاهتمام لهذه النظرة الجازمة المعتمدة من أعلى. فالموالد ـ لكى نتوقف عند حالة نموذجية ـ هى مصدر مهم للبحث الفولكلورى. فالأشعار والملاحم المأثورة، وتمثيليات العرائس والأغانى والآلات الموسيقية القديمة يجرى جمعها وإعادة عرضها لجمهور لا يذهب إلى الموالد ولكنه يذهب إلى المسرح وقاعات الموسيقى. ولكن تلك الملاحم والأغانى والتمثيليات فى سياقها الأصلى هى جزء من عرض متكامل: ولا تنفصل قيمتها الجمالية عن مضمونها الدينى والأخلاقى فى الحكايات المروية فى الطقوس المغروسة فيه أو عن حياة المشاركين. وكفولكلور يجرى اختزالها ورفعها إلى مستوى فن (31). وحينما تصير فنا يمكن للمرء تقييمها كمفردات جمالية ( تم إعلاؤها من خلال وعى سياسى معين بها باعتبارها الثقافة الأصيلة للشعب المصرى) دون إلزام بتقييم الطقوس والحيوات والأخلاقيات التى كانت وثيقة الارتباط بها فى الأصل. وهى بوصفها فنًا تفقد أيضا التأثير المزعج المهدد (بالكسر) على نحو ما تحدثه الحياة الواقعية داخل الأحياء الشعبية فى أعضاء الطبقات العليا. وبطريقة ما يمثل الفولكلور استراتيجية لمعالجة اللبس (الازدواج المتناقض) المميز لكل الأمور "الشعبية" فهو فى لحظة أصيل وفاتن وفى اللحظة التالية مبتذل ومهدد (بالكسر).
وهذا الازدواج المتناقض (الالتباس) هو نتيجة مباشرة لمنطق تصنيف أشياء بعينها باعتبارها "شعبية". ويكشف بورديو عن قوة الموضعة التى يمكن للتصنيفات أن تمتلكها: "إن فرض اسم معترف به هو فعل اعتراف بوجود اجتماعى مكتمل يقوم بتحويل طبيعة الشىء المسمى. فهو لم يعد يوجد بمجرد الأمر الواقع كممارسة غير قانونية أو غير مشروعة جرى التسامح معها بل وظيفة اجتماعية أى :رسالة[…] ومهمة [..]" (32).
وهذه النقطة على الرغم من أنها تشير أصلا إلى مهن وألقاب تعليمية.. إلخ ـ مفيدة جدا لفهم إبهام الدين الشعبى (ازدواجه المتناقض)، فعلى الرغم من أن تعريفه فى أول الأمر جاء من خلال علاقته بالدين القويم السائد ثقافيا (صحيح الدين) سرعان ما صار شيئا مستقلا، مكانا فى الحيز الاجتماعى. وهكذا اكتسب الدين الشعبى طاقة كامنة من الأصالة تتحقق بالفعل على سبيل المثال فى أبحاث الدين الشعبى والفولكلور وفى الإنشاء الافتراضى من جانب الخطاب اليسارى والقومى للثقافة الشعبية بوصفها ثقافة مضادة صادرة من الأعماق (مصرية حقا أو بروليتارية حقا أو الاثنين معا وفقا لوجهة النظر السياسية). ويصبح محتوى "الشعبى" نفسه محلا للتنازع، فقسم يحاول أن ينشئه باعتباره مجال الثقافة الأصيلة التقليدية، وقسم آخر يأخذ على عاتقه إعادة تعريفه بوصفه ثقافة الكتلة الجماهيرية على حين يعرف قسم آخر وعيه النخبوى الخاص فى مواجهته(33).
ويفسر الازدواج المتناقض "للدين الشعبى" لماذا لا يستعمل المصطلح فى الخطاب الأكثر معارضة للممارسات الدينية "الشعبية". وكلنا نعرف أن الإسلاميين يناهضون الدين الشعبى (أو الإسلام الشعبى كما يفضل المؤلفون الغربيون تسميته). فالإسلاميون المعاصرون يذهبون على أى حال إلى أنه لا وجود لشئ مثل الدين الشعبى. فهناك بدع ومنكرات وجهل وشرك وحتى كفر. ولكن لا وجود لمعتقدات شعبية أو دين شعبى(34).
ويكمن سبب ذلك فى التصور المحدد لدى الإسلاميين عن التراتبات الدينية، ويجب أن نتذكر أن المعتقدات الشعبية ليست هامشية فحسب، بل يتم التسامح معها وحتى الاعتراف بها طالما تبقى فى الهامش. فالإسلاميون يتبعون مدخلا كليا صارما فى مجال الممارسة الدينية، فهم ينكرون وجود تراتبات طبقية فى الدين ويدعون أن تفسيرهم الصحيح للدين سيكون المبدأ الكلى لتنظيم المجتمع. وفى مثل هذا التصور للدين فى المجتمع لا إمكان لوجود أشكال هامشية للدين ولا لممارسات لا تكون إسلامية بالتمام. فليس من المستطاع وجود أى مجالات دينية داخل المجتمع الإسلامى شبه مستقلة وحتى أصيلة إمكانا(35).
وإن الازدواج المتناقض المعيارى "للدين الشعبى" هو الذى يجعل ذلك التصنيف غير ملائم لوجهة نظر الإسلاميين إلى المجتمع. فللفظ "شعبى" الكثير جدا من المعانى الضمنية التكميلية الإيجابية إمكانا، والإسلاميون بعد كل شئ يصورون أنفسهم غالبا بوصفهم حركة شعبية من أسفل مناهضة للنخب الفاسدة. وهكذا فبدلا من استعمال مثل هذا التصنيف الملتبس فإن خطاب هذه الجماعات حول الممارسات المغايرة ـ التى تمثل بطبيعة الحال عقبة كبرى أمام تحقيق مجتمع إسلامى كلى متجانس يجب إزالتها ـ يصنفها بوصفها سلبية بوضوح بحيث لا يترك مجالا للشك فى خطئها أو مكانا لثقافة مضادة ممكنة.
نتائج :
ونختتم التحليل بأن فئة المعتقدات الشعبية ليست شيئا موضوعيا تمكن دراسته بوصفه كذلك وإن تكن تصنيفا واقعيا حقيقيا يمتلك قوة للموضعة. لذلك فعلى الرغم من أننى أعتبر الدراسة التى لا تحلل منطلقاتها "للدين الشعبى" أو "الإسلام الشعبى" مشروعا إشكاليا لأقصى مدى، فإننى لا أجد سببا للتخلى بالكامل عن المقولة. إن فئة المعتقدات الشعبية تومئ إلى التوتر الواقعى الموجود بين ممارسات وخطابات دينية مختلفة فى مصر المعاصرة.
وأعود إلى قضية أرماندو سلفاتورى القائلة إن الإسلام "الشعبى" هو "الوجه الآخر" للإسلام العمومى(36). ويبدو لى أن الإسلام العمومى بعد كل شئ ليس الإسلام الوحيد الذى يمكننا النفاذ إليه بالدراسة: فهناك بالفعل خطابات مهمشة أخرى عن الإسلام موجودة وتعبر عن نفسها. وهنا من المفيد الرجوع إلى مدخل عصام فوزى إلى الخطاب الشعبى حول الدين(37). لأن هذه العلاقة المتوترة بين الإسلام العمومى والخطابات والممارسات الإسلامية المتناقضة المتفشية المتنوعة فى المجتمع هى على وجه الدقة التى يمكن تسليط الضوء عليها بواسطة دراسة التصنيفات التى تنتج فئة المعتقدات الشعبية ولكننا يجب أن نتخلى عن أى اتجاهات تقوم بتشيئها وإضفاء طابع الجوهر عليها، ويجب كذلك أن نكف عن اعتبار الخطاب الشعبى حول الدين باعتباره الخطاب المحدد جوهريا لجماعة محددة جوهريا. وبدلا من ذلك ينبغى علينا أن نوجه اهتمامنا نحو العلاقات بين أشكال مختلفة من الخطاب الدينى والممارسة الدينية والتطبع الدينى. وعندئذ قد يصير تحليل الخطابات المتنافسة حول الدين مفيدا تماما فى فهم صراعات وتوترات حول الإسلام فى مصر المعاصرة.
الهوامش:ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) Bourdieu, Pierre, Distinction. A Social Critique of the Judgement of Taste, London etc.: Routledge, 1984, p. 170, cf. also pp. 101 f., 466f.
(2) E.g. Bourdieu, Pierre, Outline of a Theory of Practice, Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1977, pp. 3, 21; Distinction, p. 467.
(3) Bourdieu, Distinction, p. 22.
(4) على الرغم من وجود بعض الاختلافات بين هذه المصطلحات فإن تحليلها هنا يعتبرها مقولة واحدة. وبعد ذلك سأتناول المعانى الضمنية المختلفة "للمعتقدات الشعبية" و"الدين الشعبى".
(5) راجع مثلا محمد الجوهرى: علم الفلكلور ج 2: دراسة المعتقدات الشعبية، القاهرة، دار المعارف 1980.
Waardenburg, Jacques, “Popular and official Islam; Contemporary developments with special reference to Iran”, The Arabist: Budapest Studies in Arabic, vol. 13-14 (1995) pp. 313-341; Gellner, Ernest, Muslim society, Cambridge etc: Cambridge University Press, 1981.
(6) محمد حافظ دياب "الدين الشعبى.. الذاكرة والمعاش"، سطور عدد 30, مايو 1999 ، ص 16 ـ 18.
(7) ما يتمثله دياب من مدخل متجه نحو الخطاب هو فى الأغلب عمل باحث واحد.
عصام فوزى: "آليات الهيمنة والمقاومة فى الخطاب الشعبى"، قضايا المجتمع المدنى العربى فى ضوء أطروحات غرامشى، القاهرة، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، 1992 ، ص 122 ـ 135.
عصام فوزى: "أنماط التدين فى مصر، مدخل لفهم التفكير الشعبى حول الدين"، إشكاليات التكوين الاجتماعى والفكريات الشعبية فى مصر، نيقوسيا، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، 1992 ، ص 214 ـ 248.
(8) من الغريب قلة البحث الكمى فى الموضوع. فالأرقام الوحيدة المتاحة لى تتعلق بأعضاء طريقتين صوفيتين فى القاهرة. راجع: عمار على حسن: الصوفية والسياسة فى مصر، القاهرة: مركز المحروسة، 1997 ، ص54، 157، 233.
(9) Th. Emil Homerin, “Sufis and their detractors in Mameluk Egypt. A survey of protagonists and institutional settings”. de Jong, Frederick/ Radtke, Berndt (eds), Islamic Mysticism Contested. Thirteen Centuries of Controversies and Polemics, Leiden etc.: Brill, 1999, pp. 225-247; Zeghal, Malika, Gardiens de I’islam. Les oulémas d’Al Azhar dans l’Egypte contemporaine, Presses de Sciences Po, Paris 1996, p.320.
(10) محمد حافظ دياب: "الدين الشعبى"، ص 16.
(11) المرجع السابق، ص 18.
(12) Cf. Bourdieu, Distinction, p.169.
(13) Cf. Waardenburgh, “Popular and official Islam”, pp. 317f.; Shoshan , Boaz, Popular Culture in Medieval Cairo, Cambridge. Cambridge Univ. Press, 1993, pp. 67 ff.
محمد حافظ دياب: "الدين الشعبى"، ص 96 ، محمد الجوهرى: علم الفلكلور، ص29. شحاتة صيام: الدين الشعبى فى مصر: نقد العقل المتحايل، الاسكندرية، رامتان، 1995، ص9. على فهمى: دين الحرافيش فى مصر المحروسة، القاهرة: ميريت للنشر والمعلومات، 1999، ص17.
(14) لنقد إمبيريقى راجع :
Abu-Zahra, Nadia, The Pure and Powerful. Studies in Contemporary Muslim Society, Berkshire, Ithaca Press, 1997, pp. 277 ff.
(15) Salvatore, Armando: “Staging Virtue: The Disembodiment of Self-Correctness and the Making of Islam as Public Norm”, in: Stauth, Georg (ed.), Islam – Motor or Challenge of Modernity (Yearbook of the Sociology of Islam, Vol.1) , Hamburg: Lit Verlag, 1998, pp. 87-120, here p. 116.
(16) Armbrust, Walter, Mass Culture and Modernism in Egypt, Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1996, pp. 25 ff.; el Messiri, Sawsan, Ibn al-Balad. A Concept of Egyptian Identity, Leiden: Brill, 1978, pp. 54 f., 104 f.
(17) حوار شخصى مع كاتبة مصرية فى القاهرة، يونيو 1999.
(18) Cf. Bourdieu, Distinction, pp. 168 ff.; Theory of Practice, pp. 15 ff.
(19) على فهمى : دين الحرافيش ص 48.
Wielandt, Rotraud, “Die Bewertung islamischen Volksglaubens in ägyptischer Erzählliteratur des 20 jahrhunderts” Die Welt des Islam, Vol. 23-24 (1984) pp. 244-258.
(20) جمال سالم وموسى حال: "كرامات أم خرافات الأولياء: دروشة.. تقبيل الأعتاب.. البكاء أمام أثر النبى.. وركوب الخيل فى مولد البدوى!!"، عقيدتى 29/6/1999، ص8 ـ9. أنور الجندى: الشبهات والأخطاء الشائعة فى الفكر الاسلامى، القاهرة، دار الاعتصام، 1995، ص214.
(21) راجع مثلا جمال بدوى: "التصوف المصرى من الفلسفة إلى الدروشة"، الوفد 25/7/1996؛ عماد الغزالى: "التصوف جوهر الاسلام ولا علاقة له بالخزعبلات وموالد الأولياء"، الوفد 31/1/1998.
(22) " بعد أن اختلط الحابل بالنابل"، فوضى فى ميدان رمسيس، الأهرام، 20/7/1999.
(23) Armbrust, Mass Culture and modernism, pp. 37 ff., 190 ff;. Mitchell, Timothy, Colonising Egypt, Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1988, pp. 63 ff.
(24) راجع مثل: مجدى السيد إبراهيم: بدع وخرافات النساء، القاهرة ، مكتبة القرآن، 1992.
(25) محمد حافظ دياب: "الدين الشعبى"، ص16.
(26) حوار شخصى مع صحفى مصرى فى القاهرة 29/6/1999.
(27) Bourdieu, Distinction, p.480.
ويعنى بورديو بالعقيدة الاستعدادات والفهم العام للعالم الاجتماعى وهما "غنيان عن القول" يبدوان من الوضوح بحيث لا يحتاجان إلى وضعهما فى مفهومين يتخذان شكل "عقيدة قويمة".
(28) فى هذه النقطة أتجه نحو تحليل فوكو للموضوعات باعتبارها منتجات حدوث واقعى لممارسات خطابية.
Cf. Foucault, Michel, The Archaeology of Knowledge and the Discourse on Language. New York: Pantheon Books, 1972, pp. 40 ff.
(29) Bourdieu, Distinction, pp.47 ff., Foucault, Archaeology of Knowledge, pp. 40 ff.
(30) واستغلاله السياسى ولنأخذ استعمال لفظ "الدين الشعبى" فى خطاب "الوحدة الوطنية" كمثال: فهناك دعوى تقول إن الدين الشعبى يمثل شيئا يشبه شكلا توفيقيا وسطيا بين الإسلام والمسيحية. ومن المؤكد أن النزعة التوفيقية واسعة الانتشار فى ممارسات دينية كثيرة داخل مصر. ولكن من الخطأ الشديد تجاهل حقيقة أن كل الممارسات الدينية داخل مصر تتميز بأنها مسيحية أو إسلامية. والموالد الإسلامية والمسيحية على سبيل المثال تشترك فى عدد من السمات المشتركة، ولكن لا توجد موالد مختلطة. فهى دائما تكريم إما لولى أو قديس ولكنها لا تكون لهما معا فى الوقت نفسه.
(31) وهنا نجد ما يسميه بورديو الاستعداد الجمالى فاعلا
Cf. Bourdieu, Distinction, pp. 28 ff.
(32) المرجع السابق، ص 480.
(33) Cf. Armbust, Mass Culture and Modernism, pp. 184 ff.
(34) راجع مثلا مجدى السيد إبراهيم: بدع وخرافات النساء؛ إبراهيم الجمل: بدع ومنكرات يجب أن تزول ليس من الإسلام، القاهرة: مكتبة العلم، 1993 طلعت زهران: احذر! أقوال وأفعال واعتقادات خاطئة، الإسكندرية: دار العقيدة، التراث 1995.
(35) أنور الجندى: الشبهات والأخطاء، ص 214.
(36) Salvatore, “Staging Virtue”, p. 116.
(37) راجع عصام فوزى: "أنماط التدين فى مصر".
(*) يشكر المؤلف عصام فوزى، وإفيسا لوبن Ivesa Lübben لما قدماه من نقد واقتراحات على الورقة الأصلية.
* فصول؛ العدد 60 (صيف-خريف 2002)؛ ص 166-176
هناك ممارسات وآراء وخطابات دينية كثيرة فى مصر يقال إنها تمثل المعتقدات الشعبية أو الدين الشعبى. وليس من الواضح إطلاقا مع ذلك ما الذى يجعلها بالفعل "شعبية" وفى مصر يستخدم لفظ "شعبى" لتصنيف ظواهر اجتماعية متنوعة. فهو يدل على ممارسات دينية تختلف عن الممارسة الصحيحة، وعلى الفولكلور، وعلى السكن العشوائى، والطعام التقليدى المصرى، والصحافة الصفراء، والسجائر المحلية الرخيصة وسط أشياء أخرى. وعلى الرغم من أن لفظ "شعبى" ـ عند النظرة الأولى ـ يبدو كأنه يشير إلى مجموعة من الناس هى بالتحديد الطبقات الدنيا؛ فإن نظرة فاحصة تحول فئة الأشياء الشعبية إلى فئة من الصعب جدا الإحاطة بها.
وفى هذه الورقة سأدل على أن الشعبى مقولة بُنيت أساسا على العلاقات الرمزية بين الثقافة "الرفيعة"و"الهامشية" ولا يمكن الاقتصار فى وصفها على مقولات البنية الاقتصادية والاجتماعية وحدها. ولتحليل هذه العلاقات الرمزية سوف أستخدم مفهومات بيير بورديو Pierre Bourdieu عن البنى الرمزية للحيز الاجتماعى، عن الاستعداد الجسمى والتطبع habitus للطبقة، والعلاقة بين الطبقات الاجتماعية والأحكام الجمالية .
إن الطبقة الاجتماعية ـ عند بورديو ـ ليست مجموعة ذات وجود جوهرى، بل هى تصنيف منطقى مشروط مبنى على سمات مميزة متنوعة. ومفهوم التطبع فى هذا السياق مركزى وهو الاستعدادات المميزة، والمخططات السابقة للمفهومات التى هى أساس الحس بالتمايزات الطبقية:
"التطبع هو فى الوقت نفسه المبدأ التوليدى للأحكام القابلة موضوعيا للتصنيف، ونسق تصنيف (principium divisionis) هذه الممارسات. ويتأسس العالم الاجتماعى الممثَّل أى حيز أساليب الحياة فى العلاقة بين القدرتين اللتين تحددان التطبع: القدرة على إنتاج ممارسات وأعمال قابلة للتصنيف، والقدرة على تمييز هذه الممارسات والمنتجات (الذوق) وتقديرها(1)".
وكما أدخل بورديو التطبع والجماليات وأسلوب الحياة فى مفهومه للطبقة، وسع مفهوم رأس المال إلى أبعد من مجال الاقتصاد. فالأفراد يستطيعون توظيف أنواع مختلفة من رأس المال: الاقتصادى والاجتماعى والتعليمى والرمزى. وفى أعمال بورديو كلها لا يوجد اختلاف قاطع بوضوح بين البنى الموضوعية والتمثيلات. فالتصنيفات هى عمليات موضوعة وهى نفسها جزء من الواقع الاجتماعى. وأنا أرى ذلك على الرغم من إصرار بورديو فى بعض المناسبات على البنى الموضوعية فى خاتمة المطاف(2)، لأن إحدى ميزات نموذج بورديو المهمة بوجه خاص تتمثل فى أنه يسمح بتحليل بعيد عن النزعة الاختزالية، يتجاوز"البداهة الذاتية المزيفة للفهم المباشر،"(3) لمقولات الإدراك الحسى التى تشكل بنية المجتمع.
وسأركز فى هذه الورقة على مسألة المعتقدات الشعبية فى السياق الإسلامى لمصر المعاصرة. وستكون مداخل أخرى ممكنة. فمن المستطاع العثور على مفهومات مماثلة للتدين الرسمى والشعبى فى معظم الديانات وفى جــميع الأرجـاء. ويمكن لمدخل تاريخى أن يكشف عن نشوء مفهوم "الشعبى" الذى ـ كما يجب أن نتذكر ـ لم يكن مستعملا فى العالم العربى قبل القرن التاسع عشر.
مداخل إلى الدين الشعبى:
تستخدم مصطلحات المعتقدات الشعبية والدين الشعبى وغيرهما مثل التدين الشعبى، وفى الدراسات الغربية: "الإسلام الشعبى"، كمقولة علمية فى المعتاد(4) تغطى عددا من المعتقدات بما فيها التصوف وتقديس الأولياء والاحتفالات والطقوس الزراعية وشعائر الشفاء والخصوبة والسحر والحركات الكاريزمية بين أشياء أخرى(5). وعلى أى حال لا وجود لإجماع واضح حول ماذا يكون الدين الشعبى على وجه الدقة.
ووفقا لدارس الانثروبولوجيا المصرى محمد حافظ دياب(6) قدمت الدراسات العربية المتخصصة ثلاثة مداخل رئيسة لوصف المعتقدات الشعبية أو الدين الشعبى. أحدها يركز على التراتب الاجتماعى مثل علاقات المركز ـ الهامش، وعلاقات السلطة السياسية وأهم من ذلك كله التمايزات الطبقية. ويبنى المدخل تعارضا بين المعتقدات الشعبية للطبقات الدنيا ودين النخبة الرسمى. ويركز مدخل ثان على الفاعلين الدينيين. ويفرق بين العلماء بوصفهم ممثلين للدين الرسمى من جهة والمتصوفة بوصفهم ممثلين للدين الشعبى من جهة أخرى، والمدخل الثالث يعكف على الخطاب الدينى ويفرق بين التدين النصى والخطاب الشعبى المنقول شفاهيا العملى المفتوح حول الدين، وهذا الخطاب يتميز بطابعه التفويضى عسير الضبط وميله لثنى القواعد التى يضعها الخطاب الدينى النصى وتطويعها(7).
وينقد دياب المداخل الثلاثة جميعا من ناحية ثنائتيها المفرطة التى تعوقها عن الوصف السليم لتعددية الدين الشعبى. وفى الحقيقة تعانى المداخل الثلاثة الملخصة هنا من نواقص فادحة. إن الدين الشعبى فى مصر المعاصرة قطعا له علاقة بالفوارق الطبقية، ولكن أى نوع من الفوارق الطبقية؟ سيكون من الخطأ اختزال الفوارق الطبقية فى البنية الاقتصادية، أو مجموعات معطاة ذات وجود ملموس. كما أن الصورة التى تقدمها عادة وسائط الإعلام ويقدمها المثقفون هى أن المتصوف النموذجى أو المشارك فى مولد، أو الزائر لمقام الولى هو شخص فقير أمى ريفى. ولكن ما أقل نصيب هذه الصورة من الأساس الإمبريقى. فالاشتراك فى الطقوس الدينية التى توصف بالإجماع بكونها "شعبية" لا تنبئ إلا بتضايف هزيل مع الدخل والتعليم ومكان الأصل(8).
أما وصف الدين الشعبى من خلال التعارض بين العلماء والمتصوفة الذى ما يزال يتمتع برواج ملحوظ وسط الدارسين المسلمين والمستشرقين على السواء؛ فتكذبه الشواهد التاريخية. وتشير الدراسات الحديثة فى التاريخ الإسلامى إلى أنه على الرغم من وجود توترات فى أغلب الأحوال، فإن قسمة ثنائية واضحة بين العلماء والمتصوفة نادرا ما حدثت، بل على العكس. كان المتصوفة والعلماء كثيرا ما تربطهما صلات وثيقة وظلوا كذلك حتى اليوم(9).
ويبدو المدخل المتجه إلى الخطاب واعدا بدرجة أكبر. وإن كان يواجه فى الممارسة مشكلة المدخل المتجه إلى الطبقة نفسها. فطبقات "الشعبى" و"الرسمى" معرفة مسبقا، ولا يمكن استنباطها من النموذج نفسه. وعلى الرغم من هذا القصص ففى رأيى أن هذا المدخل جدير بالاهتمام بما يكفى للاحتفاظ به فى الذهن لاستخدام لاحق.
وكبديل لهذه المداخل، يرسم دياب خطوط نموذج للدين الشعبى باعتباره أرضا وسطى بين الدين والعرف: "التنافذ المتبادل بين الدين والمعتقدات الشعبية، هو ما يعين إطار الدين الشعبى ومادته بالنظر إلى أن هذه المعتقدات (..) تقترب من تكوين دينى اعتقادى بوصفه نظامًا لصيقًا للدين"(10). والدين الشعبى ـ عند دياب ـ تكوين مستقل لصيق للدين يرتكز أولا على التقليد النوعى للممارسات التوفيقية، وثانيا على الجماعات (مثل الطرق الصوفية والحركات المهدية) التى تحمل وتنشر هذه الممارسات، وثالثا على رأسمالها الرمزى النوعى. أى الممارسات والاستعدادات والمعرفة الثقافية التى تشكل نسقا لصيقا للدين(11).
وعلى الرغم من أن هذا المدخل قد يثبت أنه جدير بالاهتمام فى دراسة استمرارية ممارسات معطاة؛ فإنه يترك مشكلة مركزية بدون حل، فما الذى يجعل كل ذلك "شعبيا" ولماذا هو متميز عن الدين؟ وفى الواقع يقوم دياب بشئ معهود لدى معظم منظرى الدين الشعبى؛ فهو يأخذ فئة الأشياء الشعبية باعتبار مدلولها مسلما بصحته ويلتزم بفهم الإدراك العام لما يعنيه أن يكون شئ أو ممارسة أو مفهوم، أو شخص "شعبيا".
وتصير التناقضات الناجمة عن الاستعمال العلمى لهذا اللفظ الراجع إلى الإدراك العام(12) واضحة حينما ننظر إلى الممارسة الدينية الفعلية. فالناس لا يفرقون واقعيا بين ممارسة ارتياد الموالد وممارسة صلاة الجمعة باعتبارهما تنتميان إلى نسقين فرعيين مختلفين. فمن وجهة نظرهم أنهم يمارسون شعائر الإسلام. وعلى الرغم من هذه الحالة؛ فالمولد شعبى وصلاة الجمعة ليست كذلك وإن مارسهما معا عدد كبير من الشعب المصرى. وتتميز كل تعريفات "الدين الشعبى" و"المعتقدات الشعبية" .. إلخ بأنها مفصولة عن ممارسات كثيرة محورية بالنسبة للممارسة الدينية من جانب المسلمين العاديين(13). إنهم يتوجهون إلى صلاة الجمعة ويوفرون المال للذهاب إلى مكة للحج ويؤمنون بيوم القيامة والجنة ولكن لسبب ما لا يعد شئ من ذلك شعبيا.
نطاق الأشياء الشعبية:
مشاكل أى محاولة لكشف ما يكونه الدين الشعبى فى الواقع عسيرة، وهى معروفة جيدا فى الوقت نفسه ولا عجب أن المفهوم ذاته تعرض للهجوم(14). وينكر آرماندو سلفاتورى Armando Salvatore على سبيل المثال أن "الإسلام الشعبى" يمكن أن يكون كيانا ثقافيا قائما بذاته، ويدلل على أن دائرة الدين الشعبى معرفة فى المحل الأول من خلال استبعادها أو تهميشها فى المجال العام.
"إذا كان هناك أى شئ يشبه الإسلام الشعبى فى بيئة عاصمة كالقاهرة، فلن يوجد إلا بوصفه إنشاءً افتراضيًّا من جانب الفاعلين فى الإسلام العمومى لكى يتيحوا له أن يمارس وظيفته، أى أن ينشر أطواء طاقته الحضارية، فالإسلام الشعبى هو الوجه الخلفى للإسلام العمومى، يضفى عليه أولا طابعًا رومانسيًّا ثم يرفض ويعاد إنتاجه فى وسائط الاتصال الرسمية من خلال غيابه المرموق أو على سبيل التخيير من خلال حضور متحجر مستأنس والإسلام العمومى هو بعد كل شئ هو الإسلام الوحيد الذى يمكننا النفاذ إليه نتيجة للكم المتزايد من الدين الذى يجرى توصيله علنا. وإذا كانت هناك ممارسات هامشية أو "شعبية" للدين فإن عين عالم الانثروبولوجيا (سواء من أهل البلد أو الأجنبى) هى التى تعزلها وتروجها وتدمجها فى لعبة تعريف ماذا يشبه الإسلام وهى اللعبة العمومية المتبحرة العابرة للثقافات. " (15)
ولا يذهب سالفاتورى أبعد من ذلك فى تحليل هذه العلاقة؛ فهو مهتم بالدين فى المجال العمومى ويكفيه أن يبرهن على سبب اعتباره أن دراسة ما يسميه المستشرقون الإسلام الشعبى بلا فائدة فى هذا السياق. وعلى أية حال ينبغى علينا أن نحاول توسيع تلك النقطة. ومن الواضح أن الإجابة عن سؤال ما الشعبى فى المعتقدات الشعبية، لا تقع فى طبيعة الأشياء بل فى معالجتها من حيث الخطاب.
وهكذا تقل جدوى البحث من معايير موضوعية وصفية للمعتقدات الشعبية حيث لا وجود لأى منها. وبدلا من ذلك ينبغى أن تجذب انتباهنا ـ على وجه الدقة ـ فكرة الإدراك العام عن فئة الأشياء الشعبية. أو بعبارة أدق: إن المعالجة الخطابية من جانب الإدراك العام للظواهر والممارسات الاجتماعية هى التى يجب أن تكون موضوع التحليل لأنها على نحو مضمر تعبر عن التمايزات الاجتماعية والدينية والثقافية التى تشكل بنية الحيز الاجتماعى والتى تبرز موقع الاحتفالات الشعبية ـ على سبيل المثال : احتفالات الموالد ـ داخله. وسيكون السؤال إذن هو: ماذا يعنى "الشعبى"؟ وأين تقع "المعتقدات الشعبية" فى المجتمع المصرى؟
إن تصنيف "الشعبى" له بطبيعة الحال صلة بالشعب، ذلك الكيان الجمعى الذى ليس محددا بأى حال دون مواربة. ويرتبط الازدواج المتناقض (الالتباس) لتصنيف "الشعبى" بالازدواج المتناقض الأساسى لتصنيف "الشعب" الذى يعنى ـ فى الوقت نفسه ـ الجسم الجمعى للأمة و"الناس العاديين".
وهكذا تستخدم الصفة "شعبى" فى سياقات متنوعة وفى أغلب الأحوال على نحو ملتبس؛ فهناك معتقدات شعبية، أو دين شعبى. وعلى مستوى العرف يستطيع المرء الكلام عن تقاليد شعبية. وهناك أمثال شعبية، والمجال الكامل للثقافة الشعبية وهو مصطلح غالبا ما يكون مرادفا للفولكلور. وفى هذه الحالات يبدو أن "شعبى" تدل على الثقافة التقليدية السابقة للثقافة الحديثة (الريفية أساسا).
إن التجمعات السكنية العشوائية التى لا تمتلك (فى أفضل الأحوال) إلا مرافق بدائية، وهى ذات كثافة سكانية عالية وأزقة ضيقة ومستوى من المعيشة منخفض عموما تعرف بأنها أحياء شعبية. وهناك مطاعم شعبية رخيصة تبيع أطباقا تقليدية مصرية تعرف باسم الطعام الشعبى. ويمكن استعمال لفظ "شعبى" لوصف عدد من السلع اليومية الأخرى: الصحف المسلية تعرف باسم المجلات الشعبية، والسجائر المحلية الرخيصة تعرف باسم السجائر الشعبية. هنا تدل صفة "شعبى" أيضا على ثقافة معاصرة هابطة الكيف والمستوى (تنتمى فى الأغلب إلى المدينة).
وتخصيص شئ ما بأنه "شعبى" معناه ربطه بنمط خاص من التطبع habitus. ويمتلك الشخص تطبعا شعبيا إذا كان يعيش فى حى شعبى أو فى قرية ويتكلم لهجة ريفية أو لهجة الطبقة الدنيا، ويكشف عن قيم جماعية تقليدية فى حياته ويرتدى ملابس مصرية تقليدية ويشترك فى طقوس مثل احتفالات الموالد.
والازدواج المتناقض للتطبع الشعبى يصبح واضحا إذا قارناه بمقولة تتصل به هى: ابن البلد أو بنت البلد. وابن البلد هو الذى يمارس طريقة حياة تقليدية تنتمى إلى المدينة. وقد اكتسب تصنيف" بلدى" معناه من خلال التضاد عريض الخطوط بين طريقتى الحياة المصرية التقليدية والنخبوية الحديثة (التى يسميها ابن البلد أفرنجية) ويمنح ذلك ابن البلد درجة ثابتة من الأصالة، لا باعتبارها وصفا ذاتيا إيجابيا فقط بل من خلال استعمال المصطلح فى الخطاب الحداثى بمعنى المادة الخام للثقافة القومية الرفيعة(16).
وعلى الرغم من أن المفهومين: شعبى وبلدى مترادفان فى بعض الحالات؛ فإن هناك اختلافات واضحة فى استعمال المصطلحين. وتتميز تسمية أشياء بأنها شعبية بازدواج متناقض قوى وصفى ومعيارى معا. فالأشياء الشعبية قــد تكــون تقــليدية ولكن ذلك ليس ضروريا. ولنأخذ ـ كمثال ـ عشوائيات القاهرة الحديثة، إن مثقفة فى القاهرة ترى" أنها أحياء شعبية، بمعنى شعبى سئ وليس حسنا (كويس) بمعنى أبناء البلد"(17). إن شخصية ابن البلد تمثل هنا النموذج المثالى لابن جماعة الحارة الأصيلة الودود المرحة. وعلى أى حال يتضمن لفظ "شعبى" كلا من هذه الصورة الإيجابية لابن البلد ومن الجوانب السلبية للحياة اليومية فى هوامش المدينة مثل الفقر والتحرش الجنسى والجريمة وافتقاد المرافق الضرورية.
ليس دينا بالتمام:
إن فئة الأشياء الشعبية توضع فى نسق اجتماعى ثقافى مركب من الإحداثيات: فليس لها قوام محدد أو قيمة معيارية ثابتة كما أنها لا تمتلك نظيرا مقابلا مثل الذى يمتلكه لفظ "بلدى". ويدل تصنيف "شعبى" على وضع رمزى معين فى المجال الاجتماعى. وعلى الرغم من أنه مترابط بوضوح مع ثقافة الطبقات الدنيا فإن الأشياء الشعبية تصنيف منطقى قائم بذاته مبنى على مخطط عام لثقافة "رفيعة" سائدة أصولية "قويمة" فى تعارض مع ثقافة مسودة، مغايرة (هرطقية) "هابطة" أو هامشية(18). وبالتالى تكون "المعتقدات الشعبية" هى فئة كل الممارسات والتصورات الدينية التى تدرك باعتبارها فى موضع فرض عليه التهميش وعدم الشرعية فى مواجهة المعايير السائدة لما يكون عليه الدين.
وفى الممارسة تمثل "المعتقدات الشعبية" مقولة مركبة مبنية على عدد من التمييزات التخطيطية. أولا: من المتوقع أن يكون للفقراء معتقدات شعبية ولا ينطبق ذلك على الطبقات الوسطى والأغنياء. وهذا التمييز الذى يبدو بدهيا ليس شرطا كافيا أو ضروريا مع ذلك. فغياب رأس المال الاقتصادى لا يصبح مهما إلا حينما يتصل بسمات مميزة أخرى. (لنفكر على سبيل المثال فى طلبة الجامعة الذين قد يعيشون فى شروط بائسة للغاية ولكن تدينهم لا يكون شعبيا).
ثانيا: إن الناس الذين يمتلكون رأس مال تعليميا ضئيلا تكون لهم معتقدات شعبية. وبسبب افتقارهم (المزعوم) إلى التعليم النظامى والمعرفة بالكتاب فى فهم الدين فإن الأشخاص المشتركين فى احتفالات الموالد على سبيل المثال يوصفون غالبا "بالبسطاء". وهذا لفظ شديد التكرم الاستعلائى يدعى أن هؤلاء البسطاء يتسمون بغياب الحكم العقلانى والتفكير(19). وفى كثير من الخطابات الثقافية يقام تضاد بين معرفة غير المثقفين اللانظامية الشفاهية فى الأغلب، والمعرفة "الحقيقية" النظامية المشروعة وبهذا يحط منها لتستوى مع الجهل البحت(20). إن التقاليد الشفاهية وكذلك التفسيرات المغايرة لنصوص الكتاب تكون فى الأغلب شعبية نتيجة لضآلة رأسمالها الرمزى فى تقابل مع النظام التعليمى الراسخ (العلمانى مثل الدينى) والنماذج المرشدة الشرعية لقراءة الكتاب. وتسترعى النظر هنا الحركات العقلية فى التصوف التى لا تعد شعبية على الرغم من أن الكثير من الممارسة الصوفية يعد كذلك(21).
ثالثا : ليست المعتقدات الشعبية حديثة، وبعبارة أدق، ليست حديثة كما يحب الحداثيون أن تكون. والوسط الاجتماعى النموذجى للمعتقدات الشعبية هو وسط قرية أو مدينة قديمة سابقة للمدنية الحديثة أو تجمع سكنى عشوائى حديث، ولكل منها أسلوب حياة وبنية مكانية.والاستعداد الجسمى للممارسات الشعبية ملتبس وعاطفى ولا يعبر عن الاستعداد الحداثى أو الإصلاحى الذى يحاول أن يقيم حدودا قاطعة الوضوح بين المقدس والدنيوى، بين الحقائق العميقة والكلام العادى، بين عناصر الحياة السامية والوضيعة، وفى مقال صحفى نقدى ـ على سبيل المثال ـ تعقد مقارنة بين فوضى محطة أتوبيس رمسيس فى القاهرة؛ فهى شديدة الازدحام وعدم الانتظام، ومأهولة بالباعة الجائلين والبلطجية،واحتفال مولد انتقل من أعماق ريف مصر العليا إلى قلب القاهرة(22). والمولد فى هذه الحالة ـ وهو نموذج أصلى بحق للدين الشعبى ـ مرتبط بالحوارى الضيقة والقمامة والأصوات الصارخة والزحام الفوضوى لحى شعبى. وتتعارض هذه الصورة مع النموذج المثالى السائد للوسط الحضرى (وإن لم يكن فى الواقع واسع الانتشار) الكولونيالى وما بعد الكولونيالى. ووفقا لهذا النموذج المثالى ينبغى أن تمتلك المدينة الحديثة مبانى ضخمة متميزة وظيفيا على جانبى ميادين واسعة نظيفة. وينبغى أن يقطنها مواطنون مهذبون يسلكون بطريقة عقلانية منضبطة(23).
رابعا : من المحتمل بدرجة أكبر أن تكون الممارسات النسائية للدين شعبية أكثر من ممارسات الرجال. ومصر مجتمع مازال فيه نسبيا تمييز قوى بين الذكور والإناث، وكثير من الممارسات الدينية له طابع ذكورى غالب (الصلاة فى المسجد، تلاوة القرآن) أو طابع نسائى غالب (زيارة الأضرحة، طقوس الشفاء والخصوبة). ولأن العلم الدينى والقيادة الدينية ومن ثم إنتاج الحقيقة الدينية حدث أن كانا مجالين للرجال، فإن الممارسات النسائية النموذجية أصبح الاحتمال الغالب لها أن تكون مغايرة للممارسات "القويمة"(24).
خامسا: وهذا هو التعارض الأكثر جوهرية. إن المعتقدات الشعبية (أو الدين الشعبى) مغايرة هرطقية لا بالنسبة إلى "الدين الرسمى" بل إلى الدين ذاته. ويعنى "الدين الشعبى" دائما (تقريبا) "ما ليس دينا بالتمام". ويتحدث محمد حافظ دياب ـ فى تعريفه الذى سبق الاستشهاد به للدين الشعبى ـ عن التنافذ المتبادل بين الدين والمعتقدات الشعبية(25). وذات مرة شرح لى صحفى مصرى أن الموالد "لا علاقة لها بالدين"(26). وفى الخطابات الثقافية والدينية السائدة فى مصر المعاصرة، يُفهم الدين باعتباره شيئا محددا بوضوح، له حدود ومعانٍ ثابتة. والاعتقاد مهما يكن راسخا والشعائر مهما تكن مقدسة لا يكفيان لتشكيل الدين. فالدين نسق متماسك وعقلانى مبنى على مصادر يقينية ملزمة، يتألف من عبادات محددة وسلوك دينى مبنى على وازع محدد بدقة ومذهب حول الكون والأخلاق، والسياسة (إمكانا). ويتم استبعاد البدع وعدم الاتساق والتوفيقات. ويتطابق هذا المفهوم التفسيرى للدين بدقة تامة مع ما يصفه بورديو بصحيح الاعتقاد (الاعتقاد القويم):
"وفى الحقيقة لا يتشكل نسق المخططات التصنيفية، بوصفه نسقًا متموضعًا مؤسسيا للتصنيف إلا حينما يكف عن العمل كحس بالحدود بحيث يجب على حماة النظام المستقر أن يعلنوا مبادئ إنتاج هذا النظام الواقعية والممثلة ويضفوا عليها نسقا وتقعيدا لكى يدافعوا عنها ضد الهرطقة (الآراء المغايرة) وباختصار يجب عليهم أن يؤسسوا العقيدة السائدة بوصفها التفسير القويم (صحيح الدين)، الأصولية الحقة"(27).
ووفقا لذلك لا يكون الدين دينا بحق عند بعض الناس فى مصر المعاصرة إلا إذا كان من الممكن له الإفصاح بلغة التفسير القويم (أو التفاسير القويمة بما أن هناك أنساقا متنافسة للتصنيف ذات طابع مؤسسى). ويجب إبطال مفعول التوفيقات والتجديدات (البدع) والتشوشات التى لابد أن تحدث فى كل دين حى. وقد تبقى غير منعكسة فى شكل عقيدة، وقد تبقى محتجبة بواسطة العلم الدينى، وقد تدفع إلى الهامش بتسميتها شعبية أى مغايرة، دينية بعض الشئ ولكنها ليست دينا بالتمام.
ويجرى تعريف الدين الشعبى دائما وفقا لمقياس مركب متعدد الأبعاد. فلكى تصبح ممارسة دينية ما شعبية يجب عليها أن تبدى عدة سمات مميزة مترابطة مثل التغاير المعتقدى ورأس المال التعليمى الضئيل أو الاشتراك النسوى الغالب (على الرغم من أنها تفتقر إمكانا أو فعلا إلى بعض هذه السمات).
وهذا هو السبب فى أن كل المعتقدات المغايرة ليست شعبية. فالإلحاد ليس شعبيا وكذلك العلمانية وكل المذاهب المغايرة التى تركت وراءها بالقطع الأساس العام للإسلام. ويرجع ذلك أولا إلى حقيقة أن للدين الشعبى دائما علاقة حميمة وإن تكن غير شرعية بالدين القويم. إنه ليس بالتمام جزءا منه ولكنه ليس منفصلا متميزا عنه أيضا من خلال وحدة الممارسة الفعلية (ويجب أن نتذكر مرة ثانية أن الأشخاص أنفسهم الذين يحضرون الموالد وحفلات الزار يذهبون إلى صلوات الجمعة ويصومون رمضان).ويرجع ذلك إلى أن المعتقد الشعبى المغاير متميز عن الهرطقة العلمانية العقلانية على سبيل المثال لأن المثقفين العلمانيين قد يكونون مغايرى العقيدة ولكنهم ليسوا بالقطع مثل بنات البلد الأميات فى حى شعبى.
واتباعا للمنطق نفسه لا تكون المعتقدات الشعبية مطابقة لتدين الفلاحين، وفقراء المدن، والنساء، أو الأميين. فإلى المدى الذى تتبع فيه ممارستهم الدينية نظام الاتجاه الشرعى السائد ـ كما هى الحال فى أغلب الأحوال ـ فإنها الدين الصراح وليست دينا شعبيا، واتباعا للمنطق نفسه سنرى أيضا أن شخصا ما إذا كانت لديه معتقدات شعبية وكان يزاول الأمور على نحو شعبى ولديه تطبع شعبى فإن ذلك غالبا ما يكون كافيا لجعله (أو لجعلها) ينتمى إلى الطبقات الشعبية. وهذا هو سبب أن اشتراك أشخاص ذوى رأسمال اقتصادى أو تعليمى عالى القيمة اشتراكا فعليا فى ممارسة شعبية لا يرفع بالضرورة من قيمة رأسمالها الرمزى. فمن خلال الوسط الشعبى للممارسة يستولى المشاركون من الطبقة الوسطى أو العليا بالفعل على تطبع شعبى.
والميزة التصنيفية للقول "بمعتقدات شعبية" أو "دين شعبى" مهمة. فهى حل لمشكلة أساسية جدا فى النظام المنطقى للمجتمع، مشكلة أن "الدين" أى الدين الصحيح، ليس فى الأغلب ما يمارسه المتدينون. ولكن بمجرد أن يقسم المرء ما يمارسه المؤمنون إلى فئتين متميزتين فإنه يستطيع أن يتكلم عنهما على نحو يبدو موضوعيا. وهكذا يستطيع المرء أن يدرس المعتقدات الشعبية دون أن يضطر إلى أن يقلق كثيرا حول وضعها المشكوك فيه بالنسبة إلى الدين كما يستطيع المرء دراسة الدين دون أن يضطر للقلق حول حدوثه فى الواقع. فالدائرتان تمثلان تيارين موضوعين من الحدوث الواقعى للممارسة الدينية.(28)
ومن المهم جدا ملاحظة أن لفظ "شعبى" فى استعمالها الأصلى داخل الإدراك العام تدل فقط على العلاقة النوعية لممارسة ما بالممارسات الاجتماعية السائدة وبالتالى ليست المعتقدات الشعبية فى الأصل مجالا أو نسقا، فهى ليست إلا فئة الأمور التى تشترك فى تطبع مماثل وفى وضع مماثل داخل البنية الرمزية للحيز الاجتماعى. ولكن بمجرد أن ننتقل من الإدراك العام إلى الخطابين العقلى والعلمى نكتشف أن ميلا إلى تشيئ هذا التصنيف ينبثق وهنا يصير الاختلاف بين "المعتقدات الشعبية" و"الدين الشعبى" اللذين يستخدمان فى الأغلب بوصفهما مترادفين ذوىدلالة. فعلى حين لا تعنى "المعتقدات الشعبية" فى الأغلب إلا فئة المعتقدات التى يمكن من خلال موقعها فى الحيز الاجتماعى أن تسمى شعبية، فإن "الدين الشعبى"، نسق، مجال له منطقه الخاص. وعلى الرغم من أن لا أحد يمارس بالفعل الدين الشعبى ممارسة متميزة ذات منطق متميز (منفصل)؛ فإن المصطلح مع ذلك واسع الاستعمال بسبب موضوعيته الظاهرية. فالدين الشعبى هو شئ "واقعى" يمكن الكلام عنه والتعامل معه سواء كان مشكلة تتطلب حلا، أم تقليدا يتطلب توثيقا، أم وجودا بالقوة يتطلب تحقيقا بالفعل .(29) وتلك هى نقطة الانطلاق المضمرة لدراسة الدين الشعبى دراسة علمية(30).
وفى هذا السياق من المهم إبراز أن لفظ "شعبى" عموما وتعبير "معتقدات شعبية/ دين شعبى" خصوصا، على الرغم من أنهما يستعملان لدى كل طبقات المجتمع المصرى، هما تصنيفان أنتجتهما الخطابات السائدة. فالذين يدرسون ويصنفون ويصفون الثقافة الشعبية ليسوا من "الطبقات الشعبية" إنهم صحفيون ومثقفون وانثروبولوجيون وعلماء دين وسياسيون..إلخ. وبالنسبة إليهم يكون الدين الشعبى آخر ثقافيا واجتماعيا. وغالبا ما يتعاملون مع هذا الآخر الثقافى والاجتماعى على نحو منفصل (ولنتذكر على سبيل المثال فئة "الناس البسطاء"). ولا تظهر الثقافة الشعبية كدائرة متميزة إلا من خلال هذه النظرة الجازمة المعتمدة من موقع مسيطر.
والفولكلور هو حالة جديرة بالاهتمام لهذه النظرة الجازمة المعتمدة من أعلى. فالموالد ـ لكى نتوقف عند حالة نموذجية ـ هى مصدر مهم للبحث الفولكلورى. فالأشعار والملاحم المأثورة، وتمثيليات العرائس والأغانى والآلات الموسيقية القديمة يجرى جمعها وإعادة عرضها لجمهور لا يذهب إلى الموالد ولكنه يذهب إلى المسرح وقاعات الموسيقى. ولكن تلك الملاحم والأغانى والتمثيليات فى سياقها الأصلى هى جزء من عرض متكامل: ولا تنفصل قيمتها الجمالية عن مضمونها الدينى والأخلاقى فى الحكايات المروية فى الطقوس المغروسة فيه أو عن حياة المشاركين. وكفولكلور يجرى اختزالها ورفعها إلى مستوى فن (31). وحينما تصير فنا يمكن للمرء تقييمها كمفردات جمالية ( تم إعلاؤها من خلال وعى سياسى معين بها باعتبارها الثقافة الأصيلة للشعب المصرى) دون إلزام بتقييم الطقوس والحيوات والأخلاقيات التى كانت وثيقة الارتباط بها فى الأصل. وهى بوصفها فنًا تفقد أيضا التأثير المزعج المهدد (بالكسر) على نحو ما تحدثه الحياة الواقعية داخل الأحياء الشعبية فى أعضاء الطبقات العليا. وبطريقة ما يمثل الفولكلور استراتيجية لمعالجة اللبس (الازدواج المتناقض) المميز لكل الأمور "الشعبية" فهو فى لحظة أصيل وفاتن وفى اللحظة التالية مبتذل ومهدد (بالكسر).
وهذا الازدواج المتناقض (الالتباس) هو نتيجة مباشرة لمنطق تصنيف أشياء بعينها باعتبارها "شعبية". ويكشف بورديو عن قوة الموضعة التى يمكن للتصنيفات أن تمتلكها: "إن فرض اسم معترف به هو فعل اعتراف بوجود اجتماعى مكتمل يقوم بتحويل طبيعة الشىء المسمى. فهو لم يعد يوجد بمجرد الأمر الواقع كممارسة غير قانونية أو غير مشروعة جرى التسامح معها بل وظيفة اجتماعية أى :رسالة[…] ومهمة [..]" (32).
وهذه النقطة على الرغم من أنها تشير أصلا إلى مهن وألقاب تعليمية.. إلخ ـ مفيدة جدا لفهم إبهام الدين الشعبى (ازدواجه المتناقض)، فعلى الرغم من أن تعريفه فى أول الأمر جاء من خلال علاقته بالدين القويم السائد ثقافيا (صحيح الدين) سرعان ما صار شيئا مستقلا، مكانا فى الحيز الاجتماعى. وهكذا اكتسب الدين الشعبى طاقة كامنة من الأصالة تتحقق بالفعل على سبيل المثال فى أبحاث الدين الشعبى والفولكلور وفى الإنشاء الافتراضى من جانب الخطاب اليسارى والقومى للثقافة الشعبية بوصفها ثقافة مضادة صادرة من الأعماق (مصرية حقا أو بروليتارية حقا أو الاثنين معا وفقا لوجهة النظر السياسية). ويصبح محتوى "الشعبى" نفسه محلا للتنازع، فقسم يحاول أن ينشئه باعتباره مجال الثقافة الأصيلة التقليدية، وقسم آخر يأخذ على عاتقه إعادة تعريفه بوصفه ثقافة الكتلة الجماهيرية على حين يعرف قسم آخر وعيه النخبوى الخاص فى مواجهته(33).
ويفسر الازدواج المتناقض "للدين الشعبى" لماذا لا يستعمل المصطلح فى الخطاب الأكثر معارضة للممارسات الدينية "الشعبية". وكلنا نعرف أن الإسلاميين يناهضون الدين الشعبى (أو الإسلام الشعبى كما يفضل المؤلفون الغربيون تسميته). فالإسلاميون المعاصرون يذهبون على أى حال إلى أنه لا وجود لشئ مثل الدين الشعبى. فهناك بدع ومنكرات وجهل وشرك وحتى كفر. ولكن لا وجود لمعتقدات شعبية أو دين شعبى(34).
ويكمن سبب ذلك فى التصور المحدد لدى الإسلاميين عن التراتبات الدينية، ويجب أن نتذكر أن المعتقدات الشعبية ليست هامشية فحسب، بل يتم التسامح معها وحتى الاعتراف بها طالما تبقى فى الهامش. فالإسلاميون يتبعون مدخلا كليا صارما فى مجال الممارسة الدينية، فهم ينكرون وجود تراتبات طبقية فى الدين ويدعون أن تفسيرهم الصحيح للدين سيكون المبدأ الكلى لتنظيم المجتمع. وفى مثل هذا التصور للدين فى المجتمع لا إمكان لوجود أشكال هامشية للدين ولا لممارسات لا تكون إسلامية بالتمام. فليس من المستطاع وجود أى مجالات دينية داخل المجتمع الإسلامى شبه مستقلة وحتى أصيلة إمكانا(35).
وإن الازدواج المتناقض المعيارى "للدين الشعبى" هو الذى يجعل ذلك التصنيف غير ملائم لوجهة نظر الإسلاميين إلى المجتمع. فللفظ "شعبى" الكثير جدا من المعانى الضمنية التكميلية الإيجابية إمكانا، والإسلاميون بعد كل شئ يصورون أنفسهم غالبا بوصفهم حركة شعبية من أسفل مناهضة للنخب الفاسدة. وهكذا فبدلا من استعمال مثل هذا التصنيف الملتبس فإن خطاب هذه الجماعات حول الممارسات المغايرة ـ التى تمثل بطبيعة الحال عقبة كبرى أمام تحقيق مجتمع إسلامى كلى متجانس يجب إزالتها ـ يصنفها بوصفها سلبية بوضوح بحيث لا يترك مجالا للشك فى خطئها أو مكانا لثقافة مضادة ممكنة.
نتائج :
ونختتم التحليل بأن فئة المعتقدات الشعبية ليست شيئا موضوعيا تمكن دراسته بوصفه كذلك وإن تكن تصنيفا واقعيا حقيقيا يمتلك قوة للموضعة. لذلك فعلى الرغم من أننى أعتبر الدراسة التى لا تحلل منطلقاتها "للدين الشعبى" أو "الإسلام الشعبى" مشروعا إشكاليا لأقصى مدى، فإننى لا أجد سببا للتخلى بالكامل عن المقولة. إن فئة المعتقدات الشعبية تومئ إلى التوتر الواقعى الموجود بين ممارسات وخطابات دينية مختلفة فى مصر المعاصرة.
وأعود إلى قضية أرماندو سلفاتورى القائلة إن الإسلام "الشعبى" هو "الوجه الآخر" للإسلام العمومى(36). ويبدو لى أن الإسلام العمومى بعد كل شئ ليس الإسلام الوحيد الذى يمكننا النفاذ إليه بالدراسة: فهناك بالفعل خطابات مهمشة أخرى عن الإسلام موجودة وتعبر عن نفسها. وهنا من المفيد الرجوع إلى مدخل عصام فوزى إلى الخطاب الشعبى حول الدين(37). لأن هذه العلاقة المتوترة بين الإسلام العمومى والخطابات والممارسات الإسلامية المتناقضة المتفشية المتنوعة فى المجتمع هى على وجه الدقة التى يمكن تسليط الضوء عليها بواسطة دراسة التصنيفات التى تنتج فئة المعتقدات الشعبية ولكننا يجب أن نتخلى عن أى اتجاهات تقوم بتشيئها وإضفاء طابع الجوهر عليها، ويجب كذلك أن نكف عن اعتبار الخطاب الشعبى حول الدين باعتباره الخطاب المحدد جوهريا لجماعة محددة جوهريا. وبدلا من ذلك ينبغى علينا أن نوجه اهتمامنا نحو العلاقات بين أشكال مختلفة من الخطاب الدينى والممارسة الدينية والتطبع الدينى. وعندئذ قد يصير تحليل الخطابات المتنافسة حول الدين مفيدا تماما فى فهم صراعات وتوترات حول الإسلام فى مصر المعاصرة.
الهوامش:ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) Bourdieu, Pierre, Distinction. A Social Critique of the Judgement of Taste, London etc.: Routledge, 1984, p. 170, cf. also pp. 101 f., 466f.
(2) E.g. Bourdieu, Pierre, Outline of a Theory of Practice, Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1977, pp. 3, 21; Distinction, p. 467.
(3) Bourdieu, Distinction, p. 22.
(4) على الرغم من وجود بعض الاختلافات بين هذه المصطلحات فإن تحليلها هنا يعتبرها مقولة واحدة. وبعد ذلك سأتناول المعانى الضمنية المختلفة "للمعتقدات الشعبية" و"الدين الشعبى".
(5) راجع مثلا محمد الجوهرى: علم الفلكلور ج 2: دراسة المعتقدات الشعبية، القاهرة، دار المعارف 1980.
Waardenburg, Jacques, “Popular and official Islam; Contemporary developments with special reference to Iran”, The Arabist: Budapest Studies in Arabic, vol. 13-14 (1995) pp. 313-341; Gellner, Ernest, Muslim society, Cambridge etc: Cambridge University Press, 1981.
(6) محمد حافظ دياب "الدين الشعبى.. الذاكرة والمعاش"، سطور عدد 30, مايو 1999 ، ص 16 ـ 18.
(7) ما يتمثله دياب من مدخل متجه نحو الخطاب هو فى الأغلب عمل باحث واحد.
عصام فوزى: "آليات الهيمنة والمقاومة فى الخطاب الشعبى"، قضايا المجتمع المدنى العربى فى ضوء أطروحات غرامشى، القاهرة، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، 1992 ، ص 122 ـ 135.
عصام فوزى: "أنماط التدين فى مصر، مدخل لفهم التفكير الشعبى حول الدين"، إشكاليات التكوين الاجتماعى والفكريات الشعبية فى مصر، نيقوسيا، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، 1992 ، ص 214 ـ 248.
(8) من الغريب قلة البحث الكمى فى الموضوع. فالأرقام الوحيدة المتاحة لى تتعلق بأعضاء طريقتين صوفيتين فى القاهرة. راجع: عمار على حسن: الصوفية والسياسة فى مصر، القاهرة: مركز المحروسة، 1997 ، ص54، 157، 233.
(9) Th. Emil Homerin, “Sufis and their detractors in Mameluk Egypt. A survey of protagonists and institutional settings”. de Jong, Frederick/ Radtke, Berndt (eds), Islamic Mysticism Contested. Thirteen Centuries of Controversies and Polemics, Leiden etc.: Brill, 1999, pp. 225-247; Zeghal, Malika, Gardiens de I’islam. Les oulémas d’Al Azhar dans l’Egypte contemporaine, Presses de Sciences Po, Paris 1996, p.320.
(10) محمد حافظ دياب: "الدين الشعبى"، ص 16.
(11) المرجع السابق، ص 18.
(12) Cf. Bourdieu, Distinction, p.169.
(13) Cf. Waardenburgh, “Popular and official Islam”, pp. 317f.; Shoshan , Boaz, Popular Culture in Medieval Cairo, Cambridge. Cambridge Univ. Press, 1993, pp. 67 ff.
محمد حافظ دياب: "الدين الشعبى"، ص 96 ، محمد الجوهرى: علم الفلكلور، ص29. شحاتة صيام: الدين الشعبى فى مصر: نقد العقل المتحايل، الاسكندرية، رامتان، 1995، ص9. على فهمى: دين الحرافيش فى مصر المحروسة، القاهرة: ميريت للنشر والمعلومات، 1999، ص17.
(14) لنقد إمبيريقى راجع :
Abu-Zahra, Nadia, The Pure and Powerful. Studies in Contemporary Muslim Society, Berkshire, Ithaca Press, 1997, pp. 277 ff.
(15) Salvatore, Armando: “Staging Virtue: The Disembodiment of Self-Correctness and the Making of Islam as Public Norm”, in: Stauth, Georg (ed.), Islam – Motor or Challenge of Modernity (Yearbook of the Sociology of Islam, Vol.1) , Hamburg: Lit Verlag, 1998, pp. 87-120, here p. 116.
(16) Armbrust, Walter, Mass Culture and Modernism in Egypt, Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1996, pp. 25 ff.; el Messiri, Sawsan, Ibn al-Balad. A Concept of Egyptian Identity, Leiden: Brill, 1978, pp. 54 f., 104 f.
(17) حوار شخصى مع كاتبة مصرية فى القاهرة، يونيو 1999.
(18) Cf. Bourdieu, Distinction, pp. 168 ff.; Theory of Practice, pp. 15 ff.
(19) على فهمى : دين الحرافيش ص 48.
Wielandt, Rotraud, “Die Bewertung islamischen Volksglaubens in ägyptischer Erzählliteratur des 20 jahrhunderts” Die Welt des Islam, Vol. 23-24 (1984) pp. 244-258.
(20) جمال سالم وموسى حال: "كرامات أم خرافات الأولياء: دروشة.. تقبيل الأعتاب.. البكاء أمام أثر النبى.. وركوب الخيل فى مولد البدوى!!"، عقيدتى 29/6/1999، ص8 ـ9. أنور الجندى: الشبهات والأخطاء الشائعة فى الفكر الاسلامى، القاهرة، دار الاعتصام، 1995، ص214.
(21) راجع مثلا جمال بدوى: "التصوف المصرى من الفلسفة إلى الدروشة"، الوفد 25/7/1996؛ عماد الغزالى: "التصوف جوهر الاسلام ولا علاقة له بالخزعبلات وموالد الأولياء"، الوفد 31/1/1998.
(22) " بعد أن اختلط الحابل بالنابل"، فوضى فى ميدان رمسيس، الأهرام، 20/7/1999.
(23) Armbrust, Mass Culture and modernism, pp. 37 ff., 190 ff;. Mitchell, Timothy, Colonising Egypt, Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1988, pp. 63 ff.
(24) راجع مثل: مجدى السيد إبراهيم: بدع وخرافات النساء، القاهرة ، مكتبة القرآن، 1992.
(25) محمد حافظ دياب: "الدين الشعبى"، ص16.
(26) حوار شخصى مع صحفى مصرى فى القاهرة 29/6/1999.
(27) Bourdieu, Distinction, p.480.
ويعنى بورديو بالعقيدة الاستعدادات والفهم العام للعالم الاجتماعى وهما "غنيان عن القول" يبدوان من الوضوح بحيث لا يحتاجان إلى وضعهما فى مفهومين يتخذان شكل "عقيدة قويمة".
(28) فى هذه النقطة أتجه نحو تحليل فوكو للموضوعات باعتبارها منتجات حدوث واقعى لممارسات خطابية.
Cf. Foucault, Michel, The Archaeology of Knowledge and the Discourse on Language. New York: Pantheon Books, 1972, pp. 40 ff.
(29) Bourdieu, Distinction, pp.47 ff., Foucault, Archaeology of Knowledge, pp. 40 ff.
(30) واستغلاله السياسى ولنأخذ استعمال لفظ "الدين الشعبى" فى خطاب "الوحدة الوطنية" كمثال: فهناك دعوى تقول إن الدين الشعبى يمثل شيئا يشبه شكلا توفيقيا وسطيا بين الإسلام والمسيحية. ومن المؤكد أن النزعة التوفيقية واسعة الانتشار فى ممارسات دينية كثيرة داخل مصر. ولكن من الخطأ الشديد تجاهل حقيقة أن كل الممارسات الدينية داخل مصر تتميز بأنها مسيحية أو إسلامية. والموالد الإسلامية والمسيحية على سبيل المثال تشترك فى عدد من السمات المشتركة، ولكن لا توجد موالد مختلطة. فهى دائما تكريم إما لولى أو قديس ولكنها لا تكون لهما معا فى الوقت نفسه.
(31) وهنا نجد ما يسميه بورديو الاستعداد الجمالى فاعلا
Cf. Bourdieu, Distinction, pp. 28 ff.
(32) المرجع السابق، ص 480.
(33) Cf. Armbust, Mass Culture and Modernism, pp. 184 ff.
(34) راجع مثلا مجدى السيد إبراهيم: بدع وخرافات النساء؛ إبراهيم الجمل: بدع ومنكرات يجب أن تزول ليس من الإسلام، القاهرة: مكتبة العلم، 1993 طلعت زهران: احذر! أقوال وأفعال واعتقادات خاطئة، الإسكندرية: دار العقيدة، التراث 1995.
(35) أنور الجندى: الشبهات والأخطاء، ص 214.
(36) Salvatore, “Staging Virtue”, p. 116.
(37) راجع عصام فوزى: "أنماط التدين فى مصر".
(*) يشكر المؤلف عصام فوزى، وإفيسا لوبن Ivesa Lübben لما قدماه من نقد واقتراحات على الورقة الأصلية.
* فصول؛ العدد 60 (صيف-خريف 2002)؛ ص 166-176