نقوس المهدي
كاتب
لم يكن من السهل أن نقف على مناهج البحث عند القدماء فيما كتبوا، لان هذه المناهج غير مفهومة وغير واضحة .
ولذلك كان الوصول إلى الحقائق التي يضمها هذا التراث القديم صعبا وشاقا جدا، وخصوصا في عصرنا هذا الذي تطورت فيه أساليب البحث ومناهج العلم.
وقد كانت رحلة ابن بطوطة من بين هذا التراث الغامض في المنهج والهدف، لقد انتهيت من قراءة أكثر ما كنت عن الرحلة إلى ظاهرتين:
كانت الأولى توضح أن الرحلة تعتبر مصدرا تاريخيا لحياة تلك الشعوب التي مر بها ابن بطوطة، اجتماعيا وسياسيا وفكريا.
وكانت الظاهرة الثانية تعتبر أن الرحلة تخطيط جغرافي لطريق الشعوب التي مر بها ابن بطوطة، وهذا ما دعا الرحالة الشهير(سيتزن) أن يقول:
«أي سائح أوربي يمكنه أن يفتخر بأنه قضى من الزمن ما قضاه ابن بطوطة في البحث لكشف المجهول من أحوال هذا العدد الكثير من البلدان السحيقة، وتحمل من مشاق الأسفار ما تحمله بصبر وثبات وشجاعة؟ بل أي امة أوربية كان يمكنها منذ خمسة قرون أن تجد من أبنائها من يجوب البلاد الأجنبية، وفيه من الاستقلال بالحكم والقدرة على الملاحظة والدقة في الكتابة ما لهذا الرحالة العظيم؟ أن جاء به من المعلومات الصحيحة عن جهات افريقية المجهولة لا يقل في فائدته عن معلومات «لاون» الإفريقي .
أما جغرافية بلاد العرب وبخاري وكابول ومندهار، فقد استفادت من الرحلة كثيرا، وفيما كتبه عن الهند وجزيرة سرنديب من المعلومات المفيدة ما يدعو انجلترا الهند إلى قراءته فإن فيه ما يفيدهم في سياستهم»(1).
ولا يكاد الواقف يستقر على هذا الظاهرة وعلى ما يؤيدها ويجعلها الهدف الخاص لهذه الرحلة حتى يكاد يفاجأ بما يناقضها أو يقترب من مناقضتها. قال احد هؤلاء:
«وابن بطوطة لم يكن جغرافيا فهو لم يهتم بالأقطار إلا قليلا، وحتى المدن إنما وصفها باعتبار ما يقطنها من الناس، فقد كان الناس موضع اهتمام الرحلة ولذلك فقد يفيدنا في التاريخ والاجتماع أكثر مما يفيدنا في الجغرافية».
وقال آخر: «وإذا كان لكتاب رحلة ابن بطوطة ميزة ينفرد بها عن معظم كتب الرحلات فهو أنه ليس كتابا في الجغرافية الوصفية للبلاد والجبال التي رآها الرحالة في أسفاره بل انه في معظمه نسخة نادرة من الصور التي ارتسمت في ذهن ابن بطوطة عن الأشخاص والناس الذين ألقت بهم الصدف في طريقه.
فهو صفحة من التاريخ الاجتماعي الإسلامي في القرن الثامن الهجري والرابع عشر الميلادي، أكثر منه كتابا في تقويم البلدان والجغرافيا مع العلم بأن ابن بطوطة لم بهمل تلك الناحية فيما كتب مما يتضح في المواضع المناسبة مما يلي »(2).
وهكذا نرى هذا التعارض أو ما يشبه التعارض بين آراء الكتاب حول موضوع الرحلة ونقطة الارتكاز فيها والهدف الذي صيغت من أجله.
والواقع أننا لن نستطيع أن نفصل بين الاتجاهين لنجعل أحداهما هدفا مرسوما للرحلة وطابعا خاصا بها وإنما نقول أن الرحلة تجمع بين الاتجاهين.
فالرحلة تكاد تعتبر مصدرا تاريخيا فيما يتصل بأبحاث التاريخ من سياسة واجتماع واقتصاد وثقافة وحروب ونظم للحكم والإدارة والقضاء.
وتكاد تعتبر مصدرا جغرافيا أيضا فيما يتصل بالتخطيط العام لعالم الرحلة وبيان موقع المدن والبلدان وذكر المسافات بينهما وبين غيرها وفيما يتصل بالمناخ والجبال والصحراء والثروات المعدنية والمائية والحيوانية وفيما يتصل بالسكان والوصف الجنسي لهؤلاء السكان ونوع عملهم ومقدار كثافتهم.
غير أننا إزاء هذا التوفيق ينبغي أن نلاحظ أن صاحب الرحلة في معالجته لهذين الميدانين: ميدان التاريخ وميدان جغرافيا بالمعنى العلمي الحديث ولا كتابا جغرافيا بالمعنى العلمي لذلك، وإنما كان – صاحب الرحلة يتحدث في الميدانيين حديثا كان مدفوعا إليه بطبيعة السير مع الرحلة أكثر مما يكون مدفوعا اليه بطبيعة البحث العلمي في الميدانين التاريخي والجغرافي.
وهذه الطبيعة هي التي فرضت عليه أن يتفق مع المؤرخين والجغرافيين – في أكثر– المعلومات التاريخية والجغرافية، ويختلف معهم في طريقة البحث والمنهج والعرض.
فأنت إذا قرأت الرحلة لا تستطيع أن تجد نفسك أمام منهج تاريخي أو جغرافي ينتقل بك من ميدان إلى ميدان ومن فصل إلى فصل ومن موضوع إلى موضوع، ولكنك تجد نفسك أمام منهج جديد وطريقة خاصة فرضتها طبيعة الرحلة.
فابن بطوطة إذا دخل إلى مدينة من المدن يتحدث إليك عن أول ما يواجهه من هذه المدينة فيذكر لك موقعها والمسافة التي بينها وبين غيرها من المدن ثم يتحدث لك عن الحالة الطبيعية لهذه المدينة وعن مظاهر الديانة والآثار التي توجد فيها.
ويتحدث ثانيا عن ملك تلك البلاد وعاداته وسياسته وعلاقاته الخارجية وأحواله الداخلية.
وأخيرا يتحدث عن الشعب وطبقاته ورجاله وأنواع هؤلاء الرجال وعاداته وأخلاقه وتقاليده وما يمكن أن يكون منتشرا في تلك البلاد من مذهب فكري أو ديني.
وهكذا نلاحظ أن ابن بطوطة ينتقل بنا من ميدان الجغرافية إلى ميدان التاريخ إلى ميدان الاجتماع إلى ميدان السياسة دون أن تكون له خطة مرسومة في طريقة العرض والمنهج.
ومن هنا كان من الصعب على القارئ لهذه الرحلة أن يخرج بنتائج مهمة تجمع بينهما وحدة الموضوع وتربطها سلسلة من العرض والمنهج ونتيجة لهذه الصعوبة ربما يتوقف كثير من القراء عن متابعة هذه الرحلة وأمثالها.
مع أننا إذا تتبعنا قراءة هذه الرحلة في صبر وأناة على ضوء هدف معين نستطيع أن نخرج من قراءتها بنتائج مهمة تلقى أضواء على عدة ميادين وتساعدنا على أن نفهم أوضاعا وحالات كانت تعيش عليها تلك الشعوب التي مر بها صاحب الرحلة.
وإذا كان البحث العلمي يفرض أن تكون الرحلة في غير هذا الوضع كما يفرض أن تكون الرحلة في غير هذا الوضع كما يفرض أن تكون ذات هدف وخطة – فان الواقع الذي كان يعيش فيه ابن بطوطة والثقافة التي جعلت منه كاتبا لهذه الرحلة والتفكير الذي كان يسير في ظله – كل هذا لم يجعل للرحلة طابعا غير هذا الطابع ولونا غير هذا اللون.
وإذا كان هناك من واجب علينا نحو تراثنا القديم وثقافتنا القديمة فاني أرى أن هذا الواجب يتمثل في كلمتين أساسيتين وعملين ضروريين:
العمل الأول هو: نشر هذا التراث القديم والخروج به إلى عالم النور في ثوب جديد.
والعمل الثاني هو إلقاء أضواء من الدراسة على هذا التراث طبق ما وصل إليه البحث العلمي الحديث.
وبهذا نكون قد حببنا إلى نفوس هذا الجيل قراءة هذا التراث القديم واستفدنا أكثر ما يمكن من الحقائق.
(1) مقدمة تهذيب الرحلة
(2) الدكتور محمد مصطفى زيادة.
* دعوة الحق العدد22
ولذلك كان الوصول إلى الحقائق التي يضمها هذا التراث القديم صعبا وشاقا جدا، وخصوصا في عصرنا هذا الذي تطورت فيه أساليب البحث ومناهج العلم.
وقد كانت رحلة ابن بطوطة من بين هذا التراث الغامض في المنهج والهدف، لقد انتهيت من قراءة أكثر ما كنت عن الرحلة إلى ظاهرتين:
كانت الأولى توضح أن الرحلة تعتبر مصدرا تاريخيا لحياة تلك الشعوب التي مر بها ابن بطوطة، اجتماعيا وسياسيا وفكريا.
وكانت الظاهرة الثانية تعتبر أن الرحلة تخطيط جغرافي لطريق الشعوب التي مر بها ابن بطوطة، وهذا ما دعا الرحالة الشهير(سيتزن) أن يقول:
«أي سائح أوربي يمكنه أن يفتخر بأنه قضى من الزمن ما قضاه ابن بطوطة في البحث لكشف المجهول من أحوال هذا العدد الكثير من البلدان السحيقة، وتحمل من مشاق الأسفار ما تحمله بصبر وثبات وشجاعة؟ بل أي امة أوربية كان يمكنها منذ خمسة قرون أن تجد من أبنائها من يجوب البلاد الأجنبية، وفيه من الاستقلال بالحكم والقدرة على الملاحظة والدقة في الكتابة ما لهذا الرحالة العظيم؟ أن جاء به من المعلومات الصحيحة عن جهات افريقية المجهولة لا يقل في فائدته عن معلومات «لاون» الإفريقي .
أما جغرافية بلاد العرب وبخاري وكابول ومندهار، فقد استفادت من الرحلة كثيرا، وفيما كتبه عن الهند وجزيرة سرنديب من المعلومات المفيدة ما يدعو انجلترا الهند إلى قراءته فإن فيه ما يفيدهم في سياستهم»(1).
ولا يكاد الواقف يستقر على هذا الظاهرة وعلى ما يؤيدها ويجعلها الهدف الخاص لهذه الرحلة حتى يكاد يفاجأ بما يناقضها أو يقترب من مناقضتها. قال احد هؤلاء:
«وابن بطوطة لم يكن جغرافيا فهو لم يهتم بالأقطار إلا قليلا، وحتى المدن إنما وصفها باعتبار ما يقطنها من الناس، فقد كان الناس موضع اهتمام الرحلة ولذلك فقد يفيدنا في التاريخ والاجتماع أكثر مما يفيدنا في الجغرافية».
وقال آخر: «وإذا كان لكتاب رحلة ابن بطوطة ميزة ينفرد بها عن معظم كتب الرحلات فهو أنه ليس كتابا في الجغرافية الوصفية للبلاد والجبال التي رآها الرحالة في أسفاره بل انه في معظمه نسخة نادرة من الصور التي ارتسمت في ذهن ابن بطوطة عن الأشخاص والناس الذين ألقت بهم الصدف في طريقه.
فهو صفحة من التاريخ الاجتماعي الإسلامي في القرن الثامن الهجري والرابع عشر الميلادي، أكثر منه كتابا في تقويم البلدان والجغرافيا مع العلم بأن ابن بطوطة لم بهمل تلك الناحية فيما كتب مما يتضح في المواضع المناسبة مما يلي »(2).
وهكذا نرى هذا التعارض أو ما يشبه التعارض بين آراء الكتاب حول موضوع الرحلة ونقطة الارتكاز فيها والهدف الذي صيغت من أجله.
والواقع أننا لن نستطيع أن نفصل بين الاتجاهين لنجعل أحداهما هدفا مرسوما للرحلة وطابعا خاصا بها وإنما نقول أن الرحلة تجمع بين الاتجاهين.
فالرحلة تكاد تعتبر مصدرا تاريخيا فيما يتصل بأبحاث التاريخ من سياسة واجتماع واقتصاد وثقافة وحروب ونظم للحكم والإدارة والقضاء.
وتكاد تعتبر مصدرا جغرافيا أيضا فيما يتصل بالتخطيط العام لعالم الرحلة وبيان موقع المدن والبلدان وذكر المسافات بينهما وبين غيرها وفيما يتصل بالمناخ والجبال والصحراء والثروات المعدنية والمائية والحيوانية وفيما يتصل بالسكان والوصف الجنسي لهؤلاء السكان ونوع عملهم ومقدار كثافتهم.
غير أننا إزاء هذا التوفيق ينبغي أن نلاحظ أن صاحب الرحلة في معالجته لهذين الميدانين: ميدان التاريخ وميدان جغرافيا بالمعنى العلمي الحديث ولا كتابا جغرافيا بالمعنى العلمي لذلك، وإنما كان – صاحب الرحلة يتحدث في الميدانيين حديثا كان مدفوعا إليه بطبيعة السير مع الرحلة أكثر مما يكون مدفوعا اليه بطبيعة البحث العلمي في الميدانين التاريخي والجغرافي.
وهذه الطبيعة هي التي فرضت عليه أن يتفق مع المؤرخين والجغرافيين – في أكثر– المعلومات التاريخية والجغرافية، ويختلف معهم في طريقة البحث والمنهج والعرض.
فأنت إذا قرأت الرحلة لا تستطيع أن تجد نفسك أمام منهج تاريخي أو جغرافي ينتقل بك من ميدان إلى ميدان ومن فصل إلى فصل ومن موضوع إلى موضوع، ولكنك تجد نفسك أمام منهج جديد وطريقة خاصة فرضتها طبيعة الرحلة.
فابن بطوطة إذا دخل إلى مدينة من المدن يتحدث إليك عن أول ما يواجهه من هذه المدينة فيذكر لك موقعها والمسافة التي بينها وبين غيرها من المدن ثم يتحدث لك عن الحالة الطبيعية لهذه المدينة وعن مظاهر الديانة والآثار التي توجد فيها.
ويتحدث ثانيا عن ملك تلك البلاد وعاداته وسياسته وعلاقاته الخارجية وأحواله الداخلية.
وأخيرا يتحدث عن الشعب وطبقاته ورجاله وأنواع هؤلاء الرجال وعاداته وأخلاقه وتقاليده وما يمكن أن يكون منتشرا في تلك البلاد من مذهب فكري أو ديني.
وهكذا نلاحظ أن ابن بطوطة ينتقل بنا من ميدان الجغرافية إلى ميدان التاريخ إلى ميدان الاجتماع إلى ميدان السياسة دون أن تكون له خطة مرسومة في طريقة العرض والمنهج.
ومن هنا كان من الصعب على القارئ لهذه الرحلة أن يخرج بنتائج مهمة تجمع بينهما وحدة الموضوع وتربطها سلسلة من العرض والمنهج ونتيجة لهذه الصعوبة ربما يتوقف كثير من القراء عن متابعة هذه الرحلة وأمثالها.
مع أننا إذا تتبعنا قراءة هذه الرحلة في صبر وأناة على ضوء هدف معين نستطيع أن نخرج من قراءتها بنتائج مهمة تلقى أضواء على عدة ميادين وتساعدنا على أن نفهم أوضاعا وحالات كانت تعيش عليها تلك الشعوب التي مر بها صاحب الرحلة.
وإذا كان البحث العلمي يفرض أن تكون الرحلة في غير هذا الوضع كما يفرض أن تكون الرحلة في غير هذا الوضع كما يفرض أن تكون ذات هدف وخطة – فان الواقع الذي كان يعيش فيه ابن بطوطة والثقافة التي جعلت منه كاتبا لهذه الرحلة والتفكير الذي كان يسير في ظله – كل هذا لم يجعل للرحلة طابعا غير هذا الطابع ولونا غير هذا اللون.
وإذا كان هناك من واجب علينا نحو تراثنا القديم وثقافتنا القديمة فاني أرى أن هذا الواجب يتمثل في كلمتين أساسيتين وعملين ضروريين:
العمل الأول هو: نشر هذا التراث القديم والخروج به إلى عالم النور في ثوب جديد.
والعمل الثاني هو إلقاء أضواء من الدراسة على هذا التراث طبق ما وصل إليه البحث العلمي الحديث.
وبهذا نكون قد حببنا إلى نفوس هذا الجيل قراءة هذا التراث القديم واستفدنا أكثر ما يمكن من الحقائق.
(1) مقدمة تهذيب الرحلة
(2) الدكتور محمد مصطفى زيادة.
* دعوة الحق العدد22