نقوس المهدي
كاتب
بلور التراث العربي - الاسلامي في العصر الوسيط صورة متخيلة عن العالم والحضارات والأمم الأخرى، رسم فيـها للآخر صفات وملامح، وأصدر في حقه أحكاماً، حملت مزيجاً من الأفكار والمشاعر والمواقف والدلالات الرمزية والمعايير، وانعكست على صعيد الممارسة على شكل تداخلات واحتكاكات وتنافس واقتبـاس أثــرت بدورها في تكوين تلك الصورة، التي نتجت أساساً من تخيل الجماعة لنفسها وللغير، وامتزج فـيها الموقـف الديني، بحدود معرفتها آنئذ بمصالحها التـاريـخيـة، وبمدى انفتاح ثقافـتـها على الغيـر في الداخل والخارج، وبمجال العلاقات حرباً وسلماً التي ربطتها بالجوار الأقربين والأبعدين.
وقد لعب الإسلام كدين، دوراً حاسماً في تغذية المخيلة العربية - الاسلامية بصورة معينة عن الآخر - وبمعايير للحكم عليه ترتكز أساساً على التقوى، الا ان هذه المخيلة لم تقتصر على هذا العامل وحده، فإلى جانب المعيار الديني، حكمت الثقافة العربية الوسيطة على الآخر على قاعدة المعيار الحضاري، وهو ما يقاس بمدى مساهمة هذا الآخر الحضارية في مجال العمران، فضلاً عن ذلك فقد نظرت هذه الثقافة الى الآخر بمعيار بيئي - جغرافي، يتعلق بموقع هذا الآخر في أقاليم الكرة الأرضية السبعة، وتأثرها بمدارات النجوم والأفلاك، كما تأثرت بحدود معرفة العرب للعالم آنئذ، ومجال العلاقات -السياسية الفعلية القائمة بين مملكة الإسلام وأطراف العالم القديم.
لقد أدخل الاسلام العرب، ومن اعتنقه في التاريخ، كما شكلت فكرة الجماعة ووحدتها على تنوعها قاعدة مركزية في هذه التجربة، وحمل الاسلام نظرية شاملة غدا الكون تبعاً لها، مسرحاً لمغامرة الانسان، الذي سخر الله له السموات والأرض لينتفع بهما، وحدد له نمطاً ينطلق من الاعتراف بالآخر المختلف عنه لساناً ولوناً ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم"الروم 22"، والمختلف دينياً هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن"التغابن 2"، وإقوامياً أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم"الحجرات 13"، فتبدو واقعة الاختلاف هنا قانوناً للخلق الإلهي، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة..."النحل 93"، على رغم أن هذا التنوع صادر عن نفس واحدة، تفرعت فيها بعد الى شعوب وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة.
وبموازاة ذلك اعتبر الاسلام الأديان السماوية جميعها تصدر عن وحي نبوي واحد، اتى الاسلام ليتمها ويختمها، فهي جميعاً تجليات لجوهر واحد هو الاسلام قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم واسماعيل ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون"البقرة 136"فاعترف الاسلام بأديان أهل الكتاب، ونظم العلاقة معهم، فصار الاجتماع الاسلامي نوعاً من اجتماع حضاري.
ولم يكن المعيار الديني هو المعيار الوحيد الذي حكمت به الثقافة العربية على الآخر، ولعل هذا التنوع في الاجتماع الاسلامي القائم على التسامح والاعتراف بالآخر، قد فتح الطريق لاعتماد معايير أخرى للحكم على الجماعات المختلفة خارج الاسلام، فقد اعتمدوا على معيار الحضارة والعمران، ونظروا الى كل أمة وجماعة بمدى مساهمتها في العمران، وما تختص به في احد أبوابه، وهو ما أفضى الى نوع من النسبية الثقافية، تجلت في شكل واضح عند الجاحظ والتوحيدي وابن خلدون، اذ خصوا كل أمة وحضارة بدور مميز في مجال العمران، فالصين بحسب الجاحظ برزت في الصناعات، واليونان في الحكم والآداب، والعرب في البلاغة والشعر والمروءة، والفرس في الملك، والأتراك في الحرب، ويذكر التوحيدي في"الامتاع والمؤانسة":"فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللروم العلوم والحكمة، وللهند الفكر والروية والخفة والسحر، وللترك الشجاعة والإقدام، وللزنج الصبر والكد والفرح، وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء، والجود والذمام والخطابة والبيان".
ووصلوا الى نتيجة تضع الأمم في مستوى واحد تتعادل فيه بفضائلها ورذائلها، وهو ما عبّر عنه التوحيدي بقوله:"ان الأمم كلها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة واختيار الفكر، ولم يكن يعد ذلك الا ما يتنازعه الناس بينهم بالنسبة الترابية والعادة، والنزاع الهائج من القوة الشهوانية".
كما تأثرت أحكام العرب على الغير وعلى أنفسهم، بإعطائهم دوراً مهماً للعامل البيئي - الجغرافي، ولدورة النجوم والفلك على طبائع البشر، وذلك نتيجة لما وصلت اليه معرفتهم وعلمهم بالعالم آنئذ، فكان لكل أمة وحضارة موقعها البيئي - الجغرافي، في أحد الأقاليم السبعــة التي قسموا بها القـسم المعمور من الأرض، من الجنوب خط الاستواء الى الشمال قرب القــطب، واعتنقوا الرأي القائل باستحالة الحياة في البلاد الشديدة الحرارة جنوب خط الاستواء، أو قارسة البرودة في أقصى الشمال.
لعل هذه المعايير مجتمعة هي التي قامت عليها نظرة العرب - المسلمين الى الآخر، فلم تقتصر على المعيار الديني، أو معيار العمران، أو على التحديدات الجغرافية - البيئية، أو تأثيرات الفلك وحده، فمزج العرب بين تلك المعايير مجتمعة عند تفحصهم لما للغير، من مميزات وخصائص، ومثالب وفضائل، من دون أن يخفوا ثقتهم بأنفسهم وبقيمهم، ومن دون أن ننسى نحن تأثير علاقاتهم السياسية بهذا الغير في صوغ بعض أحكامهم.
وفي كل الأحوال، فإن امساكهم بهذه المعايير لم يقدهم الى أن يرسموا حدوداً ثقافية وحضارية صارمة بينهم وبين غيرهم، كالتي رسمها الاغريق والرومان عن الأغيار، الذين أطلقوا عليهم اسم البرابرة، بل تركوا الباب مفتوحاً لتداخل التأثيرات والمميزات والخصائص وحتى عندما أطلقوا صفة الوحشية على بعض الجماعات، فكانوا بذلك يرجعون الى تأثير البيئة، واتخذوا هذه الصفة الوحشية، كمفهوم يقابل العمران و"الحضارة"كما يظهر جلياً عند ابن خلدون، ولم يقابلوها بكيانات ثقافية لا يمكن تجاوزها، اذ ان التوحش نفسه كما يشير ابن خلدون موجود في البادية العربية ذاتها، وعند العرب أنفسهم.
* كاتب سوري.
المصدر: الحياة
وقد لعب الإسلام كدين، دوراً حاسماً في تغذية المخيلة العربية - الاسلامية بصورة معينة عن الآخر - وبمعايير للحكم عليه ترتكز أساساً على التقوى، الا ان هذه المخيلة لم تقتصر على هذا العامل وحده، فإلى جانب المعيار الديني، حكمت الثقافة العربية الوسيطة على الآخر على قاعدة المعيار الحضاري، وهو ما يقاس بمدى مساهمة هذا الآخر الحضارية في مجال العمران، فضلاً عن ذلك فقد نظرت هذه الثقافة الى الآخر بمعيار بيئي - جغرافي، يتعلق بموقع هذا الآخر في أقاليم الكرة الأرضية السبعة، وتأثرها بمدارات النجوم والأفلاك، كما تأثرت بحدود معرفة العرب للعالم آنئذ، ومجال العلاقات -السياسية الفعلية القائمة بين مملكة الإسلام وأطراف العالم القديم.
لقد أدخل الاسلام العرب، ومن اعتنقه في التاريخ، كما شكلت فكرة الجماعة ووحدتها على تنوعها قاعدة مركزية في هذه التجربة، وحمل الاسلام نظرية شاملة غدا الكون تبعاً لها، مسرحاً لمغامرة الانسان، الذي سخر الله له السموات والأرض لينتفع بهما، وحدد له نمطاً ينطلق من الاعتراف بالآخر المختلف عنه لساناً ولوناً ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم"الروم 22"، والمختلف دينياً هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن"التغابن 2"، وإقوامياً أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم"الحجرات 13"، فتبدو واقعة الاختلاف هنا قانوناً للخلق الإلهي، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة..."النحل 93"، على رغم أن هذا التنوع صادر عن نفس واحدة، تفرعت فيها بعد الى شعوب وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة.
وبموازاة ذلك اعتبر الاسلام الأديان السماوية جميعها تصدر عن وحي نبوي واحد، اتى الاسلام ليتمها ويختمها، فهي جميعاً تجليات لجوهر واحد هو الاسلام قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم واسماعيل ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون"البقرة 136"فاعترف الاسلام بأديان أهل الكتاب، ونظم العلاقة معهم، فصار الاجتماع الاسلامي نوعاً من اجتماع حضاري.
ولم يكن المعيار الديني هو المعيار الوحيد الذي حكمت به الثقافة العربية على الآخر، ولعل هذا التنوع في الاجتماع الاسلامي القائم على التسامح والاعتراف بالآخر، قد فتح الطريق لاعتماد معايير أخرى للحكم على الجماعات المختلفة خارج الاسلام، فقد اعتمدوا على معيار الحضارة والعمران، ونظروا الى كل أمة وجماعة بمدى مساهمتها في العمران، وما تختص به في احد أبوابه، وهو ما أفضى الى نوع من النسبية الثقافية، تجلت في شكل واضح عند الجاحظ والتوحيدي وابن خلدون، اذ خصوا كل أمة وحضارة بدور مميز في مجال العمران، فالصين بحسب الجاحظ برزت في الصناعات، واليونان في الحكم والآداب، والعرب في البلاغة والشعر والمروءة، والفرس في الملك، والأتراك في الحرب، ويذكر التوحيدي في"الامتاع والمؤانسة":"فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللروم العلوم والحكمة، وللهند الفكر والروية والخفة والسحر، وللترك الشجاعة والإقدام، وللزنج الصبر والكد والفرح، وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء، والجود والذمام والخطابة والبيان".
ووصلوا الى نتيجة تضع الأمم في مستوى واحد تتعادل فيه بفضائلها ورذائلها، وهو ما عبّر عنه التوحيدي بقوله:"ان الأمم كلها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة واختيار الفكر، ولم يكن يعد ذلك الا ما يتنازعه الناس بينهم بالنسبة الترابية والعادة، والنزاع الهائج من القوة الشهوانية".
كما تأثرت أحكام العرب على الغير وعلى أنفسهم، بإعطائهم دوراً مهماً للعامل البيئي - الجغرافي، ولدورة النجوم والفلك على طبائع البشر، وذلك نتيجة لما وصلت اليه معرفتهم وعلمهم بالعالم آنئذ، فكان لكل أمة وحضارة موقعها البيئي - الجغرافي، في أحد الأقاليم السبعــة التي قسموا بها القـسم المعمور من الأرض، من الجنوب خط الاستواء الى الشمال قرب القــطب، واعتنقوا الرأي القائل باستحالة الحياة في البلاد الشديدة الحرارة جنوب خط الاستواء، أو قارسة البرودة في أقصى الشمال.
لعل هذه المعايير مجتمعة هي التي قامت عليها نظرة العرب - المسلمين الى الآخر، فلم تقتصر على المعيار الديني، أو معيار العمران، أو على التحديدات الجغرافية - البيئية، أو تأثيرات الفلك وحده، فمزج العرب بين تلك المعايير مجتمعة عند تفحصهم لما للغير، من مميزات وخصائص، ومثالب وفضائل، من دون أن يخفوا ثقتهم بأنفسهم وبقيمهم، ومن دون أن ننسى نحن تأثير علاقاتهم السياسية بهذا الغير في صوغ بعض أحكامهم.
وفي كل الأحوال، فإن امساكهم بهذه المعايير لم يقدهم الى أن يرسموا حدوداً ثقافية وحضارية صارمة بينهم وبين غيرهم، كالتي رسمها الاغريق والرومان عن الأغيار، الذين أطلقوا عليهم اسم البرابرة، بل تركوا الباب مفتوحاً لتداخل التأثيرات والمميزات والخصائص وحتى عندما أطلقوا صفة الوحشية على بعض الجماعات، فكانوا بذلك يرجعون الى تأثير البيئة، واتخذوا هذه الصفة الوحشية، كمفهوم يقابل العمران و"الحضارة"كما يظهر جلياً عند ابن خلدون، ولم يقابلوها بكيانات ثقافية لا يمكن تجاوزها، اذ ان التوحش نفسه كما يشير ابن خلدون موجود في البادية العربية ذاتها، وعند العرب أنفسهم.
* كاتب سوري.
المصدر: الحياة