رشيد الخيون - حول أبي حيان التوحيدي. حكاية أبي قاسم البغدادي لأبي حيان التوحيدي : والأزدي ليس غائبا

عند الكتابة حول أبي حيان التوحيدي يصعب تجاهل ما قاله بحقه ياقوت الحموي، ثم تبعه المؤلفون: "فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة". هكذا كان حضور أبي حيان وما يزال، لكن ذلك لم يُدرك الا بعد وفاته بحين. ففي حياته كان معروفاً بابن بائع التمر من نوع التوحيد، والناسخ في مكتبة الوزير ابن عباد، والكاتب بمستشفى بغدادي، يدوّن أسماء الأدوية والمرضى، ومن نجاحه في المهمة رقي الى مدير، دون أن يكون طبيباً محترفاً، كذلك عمل ساعي بريد بين المدن، ليس بوظيفة المخبر كما يتبادر الى الذهن عند ذكر البريد. ولعلّ سياحته بين البلدان جعلته يدرك بطريقته ما يسمى اليوم بالعولمة، بقوله "الأمكنة في الفلك أشد تضامناً من الخاتم في اصبعك، وليس لها هناك هذا البعد الذي تجده بالمسافة الأرضية من بلد الى بلد بفراسخ تُقطع، وجبال تُعلى، وبحار تُخرق" التوحيدي، الصداقة والصديق.

لم تلق لأبي حيان الوظائف التي يُجيدها كل عارف بالكتابة والقراءة، فقد أراد مركزاً يُناسب طموحه. لكن ملابسه الرثة التي تُليق بالتائهين في طرقات المدينة حجبت موهبته الفذة عن أعين الوزراء من الذين ألف فيهم كتابه "مثالب الوزيرين". ثم راح يؤرخ لتناقضات عصره، ويعرض مشاهداتها بلغة ساخرة متنوعة المضامين. بعد عصره المرّ، بالنسبة له، تنافست على نسبته المدن والأعراق، فالعراقيون يقولون: كان عراقياً من واسط أو بغداد، والإيرانيون يقولون: فارسياً أصله من شيراز، فقد مات فيها وما زالت المدينة تحتفظ بقبة ومزار له. أما هو فلا ينتسب إلا لتجارة أبيه، ففي هذا النسب يكون عراقياً، فتمر العراق ليس مثله تمر بالعالم. ما زال التوحيدي يُثير الجدل، موطناً وعلماً وديناً ومذهباً، فقد سُجل اسمه بقائمة أخطر الزنادقة: ابن الراوندي والمعري وهو ثالث الثلاثة.

قرأت في "الحياة" كلمة للكاتب قصي الحسين وردت بعنوان يُشم منه رائحة التطاول والقساوة بحق المحقق والمؤلف عبود الشالجي. كانت الكلمة بعنوان "استبداد الضعفاء بآثار القدماء: أبو المطهر يصبح أبا حيان التوحيدي". قبل الدخول بالتفاصيل أود التذكير بالشتائم التي لحقت الشالجي رحمه الله من الكاتب المذكور، دون حق. وهي كما وردت في كلمته: الضعيف، المتعنت، الصلف، المفسد، المستبد، المستعجل، رخيص العلم... إلخ. كنت أزور الشالجي بين حين وآخر، وكتبت عنه أكثر من موضوع، أضاف اثنين منها المؤرخ حسن الأمين وهو يستدرك كتاب والده السيد محسن الأمين "أعيان الشيعة".

ولو كان الشالجي حياً لما قابل الشاتم بأكثر من ابتسامة، ومن المستبعد أن يرد بحرف واحد. وحتى لا نظلم الكاتب الحسين قول إنه وضع الى جانب الشتائم بعض المديح، فقد ورد في كلمته مبرراً عدم الكتابة عن الشالجي في حياته: "ألا أُسبب للأستاذ عبود الشالجي بأي مكروه، خصوصاً أنني أقدر جهده الذي كان يبذله، وهو يحدب على وضع مصنفاته الموسوعية، التي أشارت لها صحيفة "الحياة" يقصد ما كتبته أثر وفاة الشالجي 23 تموز/ يوليو 1996. لا نعتقد ان الموت كان يُداهم الشالجي مبكراً بسبب كلمة الكاتب الحسين، وثانياً: أنه اعترف به مؤلفاً وألغاه محققاً بينما الأصل فيه التحقيق لا التأليف. فقد حقق "نشوار المحاضرة" بثمانية أجزاء، و"الفرج بعد الشدة" بخمسة أجزاء، ثم "الرسالة البغدادية". وهو صرح في مقدمات مؤلفاته أن ما توفر له من معلومات التحقيق فرض عليه تأليف "موسوعة العذاب"، و"الكنايات البغدادية"، و"الأمثال البغدادية"، والكتب التي ضاعت مسوداتها ببيروت، أو أن الحرب الأهلية. ومن ذلك يبدو لي أن الكاتب الحسين نظر في ما نُشر عن أسماء مؤلفات الشالجي لا في سطورها.

قبل طرح الأدلة التي جعلت الشالجي يقضي برد الكتاب الضال لصاحبه التوحيدي نلقي نظرة سريعة على تاريخ الاهتمام بتركة التوحيدي، وبعدها سيقدر القارىء فضل الشالجي في هذه القضية، وإلى أي مدى كان الكاتب الحسين متسرعاً في رده، رغم أنه صبر ثمانية عشر عاماً، وعذره كما ورد في كلمته: "انني بحثتُ عن الرسالة البغدادية المزيفة والمنحولة التي حققها الشالجي، فلم أعثر عليها" الحياة 11 حزيران/ يونيو 1998. بيد أن الرسالة بتحقيق الشالجي صدرت العام 1980 ببيروت، وما صدر عن دار الجمل 1997 كان مطابقاً للطبعة الأولى، اضافة الى ان الكتاب معروف للجميع، فكيف لا يجده أستاذ جامعي يهمه الموضوع!

عُرفت مؤلفات التوحيدي بعد نشر وترجمة الكتب الموسوعية مثل "معجم الأدباء" للحموي، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان، و"كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون" لحاجي خليفة الجلبي، و"الوافي بالوفيات" للصفدي وغيرها. وكان الحموي أول منْ سجل كشفاً بمؤلفات التوحيدي ومنها "الرسالة البغدادية". في المعاجم الحديثة، ذكر بروكلمان العام 1882 ثلاثة عناوين من كتبه هي: "المقابسات" و"رسالة في علم الكتابة" و"الاشارات الإلهية"، وفي 1883 نشر أحمد فارس شدياق رسالتين من رسائله: "الصداقة والصديق" و"رسالة في العلوم"، 1888 نُشر كتاب "المقابسات" الطبعة الحجرية، 1913 نُشرت رسالته "السقيفة" ضمن كتاب القلقشندي "صبح الأعشى"، 1921 نشر مارغوليوث معلومات عن كتاب "الزلفى"، ثم نشر في 1926 نصوص من كتاب "الإمتاع والمؤانسة" في مجلة "إسلاميات" بلايبزك، 1941 - 1943 نشر الأحمدان الأمين والزين كتاب "الإمتاع والمؤانسة" في ثلاثة أجزاء على مراحل، حالياً في مجلد واحد، 1948 نشر روزنثال "رسالة علم الكتابة" مع ترجمتها للإنكليزية، 1951 نشر الأحمدان الأمين وصقر كتاب "الهوامل والشوامل" للتوحيدي ومسكويه، 1953 نشر أحمد أمين جزءاً من كتاب "الذخائر والبصائر"، استكملت اجزاء الكتاب الأخرى على مراحل بين 1964 - 1969، 1961 نشر ابراهيم الكيلاني كتاب "مثالب الوزيرين"، وفي مكان آخر يذكر بـ"ذم الوزيرين" راجع عبدالامير الأعسم، أبو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات، 25 - 49.

كان عمل عبود الشالجي لا يقل أهمية عن الجهود المذكورة، رغم أنه لم يكن الأول في إثارة مفقود التوحيدي "الرسلة البغدادية" وأنها نفسها "حكاية أبي القاسم البغدادي"، التي نشرها بتوضيحات لغوية بالألمانية آدم متز العام 1902. عن ذلك كتب مصطفى جواد مقالاً بعنوان "حكاية أبي القاسم البغدادي هل هي من تأليف أبي حيان التوحيدي"، نُشر المقال في مجلة "العرفان" اللبنانية 1955، بعد مرور ثلاثة وخمسين عاماً على صدور "حكاية أبي القاسم البغدادي" في جامعة هيدلبرج الألمانية. وبعد اطلاعنا على هذه النسخة المتوفرة بمكتبة جامعة لندن والاستعانة بمن ترجم مقدمة وشروحات آدم متز عن الألمانية وجدنا أنه لم يشر لا من قريب ولا من بعيد الى حياة أبي مطهر الأزدي، او الى أبي حيان التوحيدي، وما ورد كان لا يتعدى تقديم الكتاب الى القارىء الألماني. بجهود أخرى للتفتيش عن "الرسالة البغدادية" "افترض مارغوليوث أن المقصود بالتذكرة التوحيدية رسالة اخرى هي "الرسالة البغدادية" أبو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات، 320. بينما يُذكر ان "التذكرة التوحيدية" رسالة نُسبت الى التوحيدي بدلالة الاسم لا غير، فلعلها تعني التوحي الأيمان لا التمر.

من الواضح أن الشالجي لم يطلع على مقال مصطفى جواد، ودليلنا على ذلك عدم ذكره في مقدمة تحقيق "الرسالة البغدادية"، فأن احتمال تجنبه لعدم أهميته ضعيفاً. كذلك لم يكن الشالجي الأول الذي اقتنع بعائدية الكتاب الى أبي حيان التوحيدي، فمن المصادر من مؤلفات التوحيدي التي اعتمدها عبدالامير الأعسم في كتابه المشار اليه سلفاً "حكاية أبي القاسم البغدادي". ولعلهما توصلا الى ذلك دون سابق معرفة بينهما، فكتاب الأعسم كان سلسلة محاضرات ألقاها باللغة العربية بجامعة السوربون، كأستاذ زائر، بعد أن أنجزها في المؤسسات المكتبية البريطانية والفرنسية في نيسان ابريل 1978. أما عبود الشالجي فقد انتهى من تحقيق "الرسالة" في حزيران 1978 أيضاً، وقد حققها عن النسخة الأصل التي عمل عليها آدم متز وصلته عن طريق المحقق والمؤلف احسان عباس. لكن هذا لا يمنع أن تُسجل على الأعسم هفوة إقراره بعائدية "حكاية أبي القاسم البغدادي" للتوحيدي، حينما ضمها الى مؤلفاته، بينما عدَّ "الرسالة البغدادية" من آثاره المفقودة. جاء ذلك التناقض بقوله: "ورد عنوان الرسالة البغدادية رقم 6 عند ياقوت، رقم 14 في قائمتنا، في الأصل، هكذا، ولا نعرف عنها شيئاً يُزيل الغموض، غير نسبتها الى بغداد واعتزاز التوحيدي، كما يظهر صراحة، بهده النسبة فكأنه ألفها عندما كان مستقر الأحوال ببغداد، وموطنه الرئيسي خلال حياته المديدة" أبو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات، 85.

من غير ما قاله الشالجي ان الذي يقرأ "البصائر والذخائر" أو "الامتاع والمؤانسة"، أو مؤلفات التوحيدي الأخرى، ثم يقرأ "حكاية أبي القاسم البغدادي" لا يتأخر في الشك بأنها أسلوب ومعلومات لمؤلف واحد، وبالتالي هو أبو حيان لا غيره.

في سبيل قطع الشك باليقين، نلجأ الى البحث عن التماثل التام بين ما ورد من نصوص في الكتابين المذكورين وبين ما ورد في "الرسالة البغدادية". ورد في "البصائر والذخائر" تحقيق ابراهيم كيلاني ج1/224: "دخل الجماز على صاحب قيان، وعنده عشيقته، فقال له الرجل: أتأكل شيئاً؟ قال: أكلت، فسقاه نبيذ عسل، المحقق فلما كظّه جعل يأكل الورد، كأنه يتنقَّل به، ففطنت الجارية فقالت لمولاها: يا مولاي اطعم هذا الرجل شيئاً، وإلا خرج خراه جلنتين معسل، المحقق". ورد النص في "الرسالة البغدادية" تحقيق الشالجي، 231: "ودخل يوماً فتى من مشاقيع بغداد، في الشتاء، بغير جبّة، بغلاله، فأحتبسه على غنائها، وكانوا قد أكلوا، فعرض عليه عرضاً سابرياً الطعام، وامتنع من الأكل تظرفاً، وهو في الموت من الجوع، وتعمل رياء للجارية، وجعل يشرب من نبيذ حلو، فأسرع السُكر اليه، وأظلمت الدنيا بضيائها في عينيه، فأقبل على ورد في المجلس، يأكل ويمعن فيه، فلحظته الجارية، وفطنت لما به، فقالت لصاحبها، من جانب دفّها: بالله عليك استدع لهذا بشيء يأكله، وإلا صار خراه جلنتين معسل". وفي نص آخر ورد في "البصائر والذخائر" 1/378: "قال أحمد بن يوسف: كنتُ أعزل عن جارية، فقالت لي يوماً: يا مولاي ما أقل حاجة الدرد الى السواك". ورد النص في "الرسالة البغدادية" 231: "وكان إذا تعاطاها يعزل عنها، فضجرت ليلة، ورمت به عن نفسها، وقالت: ما أقلّ حاجة الدرداء الى السواك".

كذلك ورد في "الإمتاع والمؤانسة" تحقيق أمين والزين، 2/170: "ولا طرب ابن نباتة الشاعر على صوت الخاطف إذا غنت:

تلتهبُ الكأس من تلهّبها / وتحسر العين إن تقصاها

ورد النص المذكور في "الرسالة البغدادية" 249: "أو طرب ابن نباتة الشاعر على صوت خاطف إذا غنت:

تلتهبُ الكأس من تلهّبها / وتحسر العين إن تقصاها

كذلك ورد في "الإمتاع والمؤانسة 1/173: "ولا طرب الحجاج الشاعر على غناء قنوة البصرية، وهي جارته وعشيقته، وله معها أحاديث، ومع زوجها أعاجيب، وهناك مكايدات، ورميُ ومعايرات، وإفشاء نكات، إذا أنشدت:

يا ليتني أحيا بقربهمو
هكذا وردت
فإذا فقدتُهم انقضى عمري

ورد النص في "الرسالة البغدادية" 249: "أو طرب ابن الحجاج الشاعر على غناء فتوة القيصرية، وهي جارته وعشيقته، وله معها احاديث ومشابكات، ومع زوجها اعاجيب وهتار، ومكاتبات ومعايرات، إذا أنشدت:

يا ليتني أحيى بقربهم/ فإذا فقدتهم أنقضى نحبي

هناك نصوص متماثلة بين الكتب الثلاثة كثيرة، وما ذكرناه مجرد نماذج تشير الى نصوص ادبية لا روايات، حتى يتناقلها المؤلفون، ولا يمكن ان تتطابق الى هذا الحد مخيلة كاتبين. ما نلاحظه ان التماثل لم يكن بالمعلومات فقط، مع تغيرها الطفيف من كتاب الى آخر، بل يبدو التماثل الكلي واضحاً بالاسلوب ايضاً، علماً ان هذا التأليف المتنوع جداً لا يُجيده بهذه الطريقة غير الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، والاخير يتميز باستخدام الالفاظ الشائعة في الطرقات. اضافة الى ما ذكرناه من تماثل المعلومات والاسلوب نذكر نصاً آخر لعلّه الحاسم في قطع الشك باليقين، يشير الى حدث معين لا يقبل توزيعه على اكثر من واحد. ورد ذلك في "الامتاع والمؤانسة" 2/183 ما قاله التوحيدي في احصائه للقيان: "وقد احصينا ونحن جماعة في الكرخ اربعمائة وستين جارية في الجانبين كرخ ورصافة، ومئة وعشرين حرّة، وخمسة وتسعين من الصبيان البدور، يجمعون بين الحِذْق والحُسن والظرف والعشرة، هذا سوى ما كنا لا نظفر به، ولا نصل اليه لعزته وحرسه ورقبائه...". ورد ذلك في "الرسالة البغدادية" 266 - 267: "وقد احصيت انا وجماعة في الكرخ، اربعمائة وستين جارية في الجانبين، ومائة وعشرين حُرّة، وخمسة وسبعين من الصبيان البدور، يجمعون من الحُسن والحِذق والظرف ما يفوق حدود الوصف، هذا سوى من كنا لا نظفر بهم، ولا نصلُ إليهم، لعزتهم وحرسهم ورقبائهم...". ونزيد على ذلك، ان النصين كانا مسبوقين بالآتي: "أو طرب غلام بابا على جارية طلحة الشاهد، في سوق العطش محلة ببغداد، إذا غنت:

ليت شعري هل / تعلمـ ت بأني منك عان
فقد أسرته منـ ك / وأطلقت الأماني
وتوهمتك في نفـ / سي فناجاك لساني
فاجتمعنا وافترقنا / بالأماني في مكان

يشير أبو حيان التوحيدي في الكتابين "الامتاع" و"الرسالة" الى عام 360 من الهجرة، لا 306 كما اشار آدم متز في "حكاية ابي القاسم البغدادي" صفحة 87، ثم تبعه من دون تمحيص الكاتب قصي الحسين في مقال سابق "الحياة" 29 كانون الثاني / يناير 1992. والنص الذي ورد فيه التاريخ المذكور ورد موحداً في الكتابين لفظاً او معنى، ما عدا تصحيحاً طفيفاً عبارة وزاحمت وردت في الرسالة: وكنتُ كالمزاحم، وكلمة الاغاني في الرسلة: الغناء: "ولو ذكرت هذا الاطراب من المستمعين، والاغاني من الرجال والصبيان، والجواري والحرائر، لطال وملّ، وزاحمتُ كل من صنّف كتاباً في الاغاني والالحان، وعهدي بهذا الحديث سنة ستين وثلاثمائة" الامتاع والمؤانسة، 2/183 والرسالة البغدادية، 266.

كان أبو حيان متأثراً بالجاحظ الى حد كبير، حتى سمي بجاحظ زمانه، فمن غير تنوعه في الموضوعات سلك مسلك الجاحظ في مراعاة القارئ، بالتخفيف من ثقل المعلومات، في ادخال الهزل بالجد، فهو يقول: "وإنما أقلبك من فن الى فن، لئلا تملّ الادب، فإنه ثقيل على من لم تكن داعيته من نفسه" البصائر والذخائر، 1/100. كم يقترب ذلك من مخاطبة الجاحظ للقارئ: "وكنا املناك بالجد وبالاحتجاجات الصحيحة والمروحة، لتكثر الخواطر وتحن العقول، فإنك تنشط ببعض البطلات، وبذكر العلل الظرفية، فإني رأيت الاسماع تملّ الاصوات المطربة، والاغاني الحسنة، والاوتار الفصيحة، اذا طال عليها" الحيوان، 3/5. اذا اقرينا بتأثر التوحيدي، على ضوء ما تقدم، بالجاحظ، فما المانع من تأثره به حين ينسب الاخير كتبه ورسائله الى آخرين لا وجود لهم، او ينسب ما يريد الافصاح عنه من روايات وأقوال الى شخص مجهول. ظل هذا الاسلوب متبعاً من قبل ادباء ولغويين وفقهاء معاصرين، اذكر منهم الشيخ عبدالله العلايلي، الذي كتب باسم اخيه حتى يرى صدق ما يقال فيه من مدح وذم، فالمجاملة كثيراً ما تعرف عن الصواب. اما التوحيدي فعنده اكثر من سبب في عدم وضع اسمه على كتبه كما فعل في كتاب "المقابسات"، منها قلقه النفسي، وتقلبه من حال الى اخرى، وخوفه الدفين من المحيطين به. ورد في رسلة بعثها اليه الشيخ أبو الوفاء المهندس: "كأني بك وقد اصبحت حران حيران يا أبا حيان، تأكل اصبعك اسفاً، وتزدرد ريقك لهفاً، على ما فاتك من الحوطة لنفسك، والنظر في يومك لغدك..." الامتاع والمؤانسة، 1/7. ويصرح أبو حيان بكآبته وحزنه العميقين عند تأليف كتابه "المقابسات" بقوله: "إني نقلت هذا الكتاب والدنيا في عيني مسودة، وأبواب الخير دوني منسدة، لثقل المؤونة، ولقلة المعونة، وفقد المؤنس، وعثار القدم بعد القدم، وانتشار الحال بعد الحال". ويعبر في مكان آخر بعمق عن مأساته قائلاً: "لقد امسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النِّحلة". كذلك كان التوحيدي يخشى على نفسه من أهل السلطة، والعائبين على استعماله الالفاظ الشائنة، فقد كتب راجياً الشيخ المهندس ان يظل كتابه "الامتاع والمؤانسة" سراً لا يعرفه احد، ورد ذلك بقوله: "وأنا اسألك ثانية على طريق التوكيد، كم سألتك اولاً على طريق الاقتراح، ان تكون هذه الرسالة مصونة عن عيون الحاسدين العيابين، بعيدة عن تناول ايدي المفسدين المنافسين، فليس كل قائم سلم، ولا كل سامع يُنصف، ولا كل متوسط يُصلح، ولا كل قادم يفسح له في المجلس عند القوم، والبلية مضاعفة من جهة النظراء في الصناعة، وللحسد ثوران في نفوس هذه الجماعة، وقل من يجهد جهده في التقرب الى رئيس او وزير..." الامتاع والمؤانسة، ج 2/1. ان توسل التوحيدي هذا لضمان سرية ما ورد في كتابه "الامتاع والمؤانسة" بالتأكيد ينسحب على "الرسالة البغدادية"، فقد رصد فيها اسماء قضاة ووزراء ووجهاء متلبسين بالطرب والسُكر بمجالس القيان، لذا اختلق لها مؤلف أبو المطهر الأزدي وراوية أبو القاسم البغدادي لا وجود لهما الا في ذهن أبي حيان التوحيدي، والاكثر من ذلك قاده اليأس والقلق الى احراق كتبه، بعد شيوعها بين الناس، حرقها غير نادم، فقد رد على لوم القاضي أبي سهل بقوله: "إن هذه الكتب حوت من اصناف العلم، سره وعلانيته، فأما ما كان سراً فلم اجد له من يتحلى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانيته فلم اصب من يحرص عليه طالباً... وبعد، فلي في احراق كتبي اسوة بأئمة يُقتدى بهم، ويؤخذ بهديهم، ويُعشى الى نارهم، منهم: أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر، وورع معروف، دفن كتبه في بطن الارض" رسائل أبو حيان التوحيدي، تحقيق ابراهيم الكيلاني، 163 - 165.

قدمت هذه المعطيات ذوداً عن كرامة محقق ومؤلف غير مطعون بنزاهته واخلاصه في البحث العلمي، وهذه كانت سجيته كقاض ومحام، وبدافع كثف التجاوز على جهود الآخرين، ومحاولة الغائها بسطحية مفضوحة. وأخيراً اكتفي بما قاله الكاتب صقر أبو فخر معقباً على الكاتب قصي الحسين قبل ستة اعوام: "وعجبتُ أيما عجب لهذا القول يصدر عن استاذ جامعي، اذ كان عليه ان يتحقق مما زعم ويتبصر فيما جزم"


"الحياة" 24 شباط / فبراير 1992.


.
 

المرفقات

  • رشيد الخيون.jpg
    رشيد الخيون.jpg
    18.8 KB · المشاهدات: 360
أعلى