نقوس المهدي
كاتب
تعتبر أرض العراق مهداً حضارياً قديماً، بسبب خصبها جراء مرور الرافدين فيها، لذلك كانت محط رحال العديد من الأمم والقبائل التي هاجرت إليها، ويرجح ردُّ أصول أكثرية سكان العراق إلى القبائل العربية التي نزحت من شبه الجزيرة العربية إلى وادي الرافدين والهلال الخصيب في الألف السادسة قبل الميلاد، وقد شكل العرب أكثرية سكانية في منطقة نهر الفرات بشكل خاص، حيث قامت حضارات قديمة.
في سنة 14 للهجرة 635 ميلادية أمر الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببناء مدينة البصرة، وبعث سعد بن أبي وقاص عُتبةَ بن غزوان في خيل إلى البصرة فاختطها وأسس مسجدها، ثم استخلف عُتبةُ المغيرةَ بن شعبة على البصرة، وسار إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمات في الطريق، وأقر عمرُ المغيرةَ والياً على البصرة، ثم عزله عنها واستخلف عليها أبا موسى الأشعري، فافتتح الأهواز وتَسْتُرَ والسّوس ورام هرمز، وبعض نواحي فارس.
وكان عبدالله بن عبّاس والي البصرة في زمن خلافة عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه 36 - 40 هـ/ 656- 661م، فلمّا نشبت الحرب بين أمير المؤمنين وبين معاوية بن أبي سفيان لم يشارك ابن عباس في تلك الحرب.
يقول زكريا القزويني في كتابه "آثار البلاد وأخبار العباد": "مُصِّرَت البصرةُ قبلَ الكوفة بسنة ونصف، وهي مدينة على قرب البحر كثيرة النخيل والأشجار، سبخة التربة، ملحة الماء لأن المدّ يأتي من البحر ويمشي إلى ما فوق البصرة بثلاثة أيام، وماء دجلة والفرات إذا انتهى إلى البصرة خالطه ماءُ البحر فيصير ملحاً، وأما نخيلها فكثير جداً".
قال الأصمعي: "سمعت الرشيد يقول: نظرنا فإذا كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة".
وقال الجاحظ: "من عيوب البصرة: اختلاف هوائها في يوم واحد، فإنهم يلبسون القُمُصَ مرّةً، والمبطنات مرةً لاختلاف جواهر الساعات".
ومن ظريف ما قيل في اختلاف هواء البصرة قول ابن لنكك:
نحن بالبصرة في لونٍ من العيش ظريفْ
نحن ما هبّت شمالٌ بين جنّاتٍ وريفْ
فإذا هبت جنوبٌ فكأنّا في كنيفْ
وينسب إلى البصرة أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري أوحد زمانه، وقد توفي سنة 110 للهجرة وعمره ثمان وثمانون سنة، وينسب إليها الفقيه أبو بكر محمد بن سيرين وهو مولى أنس بن مالك، والقاضي الشافعي أبو بكر بن الطيب الباقلاني، وله تصانيف كثيرة وكان مشهوراً بوفور العلم وحسن الجواب.
وكان في البصرة قوم من الزط والسيابجة فأمر بنقل قسم منهم معاويةُ بن أبي سفيان في سنة تسع وأربعين أو سنة خمسين، فنقلوا إلى السواحل، وأنزل بعضهم في مدينة إنطاكية، فصارت فيها محلة تعرف بالزط، وفي بُوقا قرب إنطاكية قوم من أولادهم يعرفون بالزط أيضاً، ثم نقل منهم قسماً آخر إلى إنطاكية الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك بن مروان.
وبقي في البصرة الكثير من سلالات الزط والسيابجة فساهموا في حرقها بالتعاون مع الزنج الذين سيطروا على البصرة وما حولها سنة 255-261هـ/ 869-875م، وامتد نفوذهم ليشمل الأهواز وعبادان والبحرين وواسط، وجنحوا إلى العنف والإرهاب وإراقة الدماء، وقتلوا أكثر من 300 ألف إنسان بالبصرة وحدها، وأسروا عدداً كبيراً من النساء والأطفال.
ولما تولى الخلافة العباسية المعتمد على الله عَهد إلى أخيه الموفق بمهمة القضاء على هذه الفتنة قبل أن يستفحل خطرها، فخرج من بغداد إلى مدينة واسط في شهر صفر سنة 267هـ/ 881م، وهزم فريقاً كبيراً من الزنج، وتوالت انتصاراته حتى أجلاهم عن الأهواز، وحاصر مدينتهم "المختارة"، وبنى مدينة بإزائها تُسمى الموفقية نسبةً إليه، وجعلها معسكراً دائمًا له ولجيشه، وبعد القضاء على فوض الزنج والزُّطِّ وأنصارهم أصدرَ الموفّقُ بياناً أعلن فيه انتهاء الاضطرابات والفوضى بعد حرب دامت أكثر من 14 سنة 255-270هـ، ودعا سكان هذه المناطق إلى الرجوع إلى مدنهم وقراهم.
وبقيت البصرة ولاية عباسية، ثم صارت ولاية عثمانية، وفي أيام الوالي العثماني مدحت باشا الوالي 1868-1871 تم تقسيم العراق إلى 3 ولايات هي: البصرة وبغداد والموصل، وكان الوالي العثماني يقيم في البصرة حتى بدأ الاحتلال البريطاني للعراق في أواخر سنة 1914، بعد قيام الحرب العالمية الأولى.
وفي 12 حزيران يونيو 1921 استقل الأمير فيصل وحاشيته الباخرة البريطانية "نورث بروك" في طريقه إلى البصرة حيث استقبله محمد الصدر ويوسف السويدي وعلوان الياسري ومحسن أبو طبيخ مُتصرف لواء كربلاء ورابح العطية، وفي 5 تموز يوليو نشر المندوب السامي بياناً رحب فيه بالأمير فيصل، ودعا العراقيين إلى تأييد تنصيبه ملكاً على العراق.
وأهل البصرة كانوا من أهل السنّة والجماعة على المذهب الشافعي، سوى أهل شط العرب فكانوا شيعة، وأهل الزبير كانوا سنة حنابلة، وأول مدرسة خاصة بالمذهب الحنبلي في البصرة، هي مدرسة الأمير باتكين بن عبدالله التي بناها في أيام الخليفة العباسي المستنصر بالله، سنة 640هـ/ 1242م.
مدرسة البصرة
كانت البصرة أقرب إلى البوادي من الكوفة، ولذلك فصُح أعرابُها، وتميّز أهلها بالصحيح، وكانت مثابة الْجُفاة الْخُلّص من أعراب البادية، وكان فيها المربد، وهو عكاظ الإسلام يقوم فيه الخطباء، وينشد فيه الشعراء.
واشتهر من رواة البصرة أبو عمرو بن العلاء، وهو أحد القراء السبعة، وكان أبو عمرو دقيقاً مُتشدِّداً، شديد التعصب للقُدماء، لا يحتج ببيت شعرٍ إسلامي، ومن رواتها خلف الأحمر الذي كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدقهم لساناً، وأعلم الناس بمذاهب الشعراء، ومعانيها وأبصرهم بوجوه الخلاف بين ما يتميز به شاعر وشاعر، فإذا عمد إلى وضع الشعر ونحله حاكى شعرَ الذي يضعُ عليه فأتقن الصنعةَ، وأحكم المحاكاة فلا يتميز هذا الشعر من ذاك إلا عندَ عالم ناقد.
ومن رواة البصرة الأصمعي الذي كان آية في سرعة الحفظ، وكان يحفظ ستة عشرة ألف أرجوزة دون الشعر والأخبار، وكان ثقةً عدلاً، يقول عنه ابن جني: "هو صناجة الرواة والنقلة وإليه محط الأعباء، وكان يحفظ كل الشعر الذي لم يُسمع به"، وله مجموعته التي جمعهاوسماها الأصمعيات، ورُويت عنه دواوين كثيرة أشهرها الدواوين الستة لامرئ القيس، والنابغة، وزهير، وطرفة، وعنترة، وعلقمة بن عبده.
ومن أشهر الرواد الذين حققوا الابتكارات العلمية في البصرة مع بداية العصر العباسي العالم الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي الذي توفي سنة 175هـ/179م، وتلميذه أبو بشر عمرو بن عثمان الملقب بسيبويهِ الذي بنى كتابه على علم النحو الذي تلقاه عن أستاذه الخليل واضع علم العروض لمعرفة أوزان الشعر وأحكامه وبحوره. وأخذ عنه كذلك النضر بن شميل، وأبو فيد مؤرج السدوسي، وعلي بن نصر الجهضمي وغيرهم.
تأسيس
لما اتسعت مساحة البلاد المفتوحة احتاج المسلمون إلى مركز إمدادات ثابت يربط بين مواقع الجيوش الإسلامية والمدينة المنورة دار الهجرة، ومقر الخلافة الراشدة، ويساهم بالمحافظة على صحة الجيش الإسلامي وسلامته، ولا سيما بعدما واجه الجيشُ الإسلامي ظروفَ مناخ قاسية في العراق أدّت إلى انتشار بعض الأمراض، وأخبر القائدُ سعدُ بن أبي وقاص الخليفةَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بما يواجهه الجيش من صعوبات معيشية، فأمر الخليفة باختيار مركز للجيش يكون بعيداً عن مناطق السكان المغلوبين خشية إفساد العسكر، وأن يكون طيب المناخ، وذلك ما عبر عنه بقوله "دار هجرة ومنزل جهاد" وقد أوضح أن الهدف من بناء الكوفة هو حماية البلاد المفتوحة، وإمداد أهل المدن بالجيوش اللازمة لحمايتها، وهذا واضح في قوله "يحرزون ثغورَهم، ويمدون أهلَ الأمصار".
وذَكَرَ البلاذري بِسَنَدِهِ في كتاب "فُتُوح البلدان" "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره أن يتخذ للمسلمين دار هِجرةٍ، وأن لا يجعل بينه وبينهم بحراً، فأتى الأنبار وأراد أن يتخذها منزلاً، فكثر على الناس الذباب، فتحول إلى موضع آخر فلم يصلح، وأصابهم البعوض فكتب سعد إلى عمر يعلمه أن الناس قد بعُضُوا وتأذوا بذلك فكتب إليه عمر: إن العرب بمنزلة الإبل لا يُصلحها إلا ما يُصلح الإبل فارْتَدْ لهم موضعاً عَدناً، ولا تجعل بيني وبينهم بحراً".
وبحث سعد بن أبي وقاص عن مكان مناسب فقصد مع أصحابه كُوَيفةَ ابن عمر، فنظروا فإذا الماء محيطٌ بها، ثم أن عبدالمسيح بن بقيلة أتى سعداً وقال له: أدلُّك على أرض انحدرت عن الفلاة، وارتفعت عن الآماق فدله على موضع الكوفة اليوم، وكان يقال لها سورستان.
وقيل: بعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلاً مناسباً يصلح لإقامتهم، فمرا على أرض الكوفة وهي حصباء في رملة حمراء فأعجبتهما، ووجدا هنالك ثلاثة أديرة هي: دَيْرُ حُرَقَة بنت النعمان بن المنذر الذي قتله كِسْرى، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، ثم أخبرا سعد بن أبي وقاص، فأمر باختطاط الكوفة، وسار إليها فكان أول بناء وضع فيها المسجد، وكانت البيوت بعيدة عنه مسافة رمية سهم في الجهات الأربع، وعمَّر قصراً تلقاء محراب المسجد للإمارة، وبيت المال، وكان عَرْضُ الشارع الرئيسي أربعين ذراعاً، وشوارع الدرجة الثانية ثلاثين ذراعاً، والتي بعدها عشرين ذراعاً، والأزقة سبعة أذرع، وأقطع الناسَ المنازل، وأنزل القبائل منازلهم، وخصص لقبيلة نزار الجانب الغربي، ولأهل اليمن الجانب الشرقي، وولى الاختطاط للناس أبا الهياج الأسدي عمرو بن مالك بن جنادة، ثم أن المغيرة بن شعبة وسع المسجد، وبناه زياد بن أبي سفيان بناءً مُحكماً، وبنى دار الإمارة، وكان يقول: أنفقت على كل أسطوانةٍ من أساطين مسجد الكوفة ثماني عشرة مئة.
ثم طوّر عمرو بن حريث المخزومي بناء الكوفة، وكان زياد يستخلفه على الكوفة إذا شَخَصَ إلى البصرة، ثم بنى العمال فيها بيوتهم فضيقوا رحابها وأفنيتها، وبلغ عدد أهل اليمن اثني عشر ألف نسمة، وعدد بني نزار ثمانية آلاف نسمة في أيام الشعبي الذي توفي سنة 103هـ/ 721م.
قال البلاذري: "وبعضهم يقول: كويفة دون الكوفة، وقد قيل: التكوّف الاجتماع، وقيل أيضاً: المواضع المستديرة من الرمل تُسمى كوفاني، وبعضهم يُسمي الأرض التي فيها الحصباء مع الطين والرمل كوفة".
ولكن سعداً تضايق من أهل الكوفة فقال: "اللهم لا تُرْضي عنهم أميراً ولا ترضهم بأمير" وتحقق دعاؤه حتى قيل: حُبُّ أهل الكوفة شرف وبغضهم تلف، ولما كثرت شكاوى أهل الكوفة عزل عمرُ سعدًا، وولى عمار بن ياسر مكانه، ولكنهم شكوه وقالوا: ضعيفٌ لا علم له بالسياسة، فعزله، وكانت ولايته الكوفة سنةً وتسعة أشهر، فقال عمر: "من عذيري من أهل الكوفة! إن استعملت عليهم القوى فجَّروه، وإن وليت عليهم الضعيف حقّروه "ثم ولّى عليها المغيرة بن شعبة فلم يزل عليها حتى استشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم إن عثمان بن عفان رضي الله عنه ولاها سعدًا ثم عزله، وولى الوليد بن عقبة، ثم عزله وولى سعد بن العاص.
وقد تطور العمران في الكوفة في أيام إمارة المغيرة بن شعبة سنة 22هـ/ 643م، حيث استُعمل الآجر في بناء بعض الدور.
عاصمة الخلافة الإسلامية
ولما آلت الخلافة الراشدة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة 35هـ/ 656م نقل العاصمة من المدينة المنورة إلى الكوفة فأحاطها بخندق لحمايتها، وصارت مركزا لأنصار الإمام علي رضي الله عنه، وتحولت إلى مركز حربي، ومدرسة للعلوم والمعارف، وكان أستاذها الخليفة نفسه حيث أمرَ أبا الأسود الدؤلي بوضع قواعد النحو، وأخذ عن أبي الأسود عنبسة الفيل، وميمون الأقرن، ونصر بن عاصم، وعبدالرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر، وكان للكوفيين باع طويل في الفقه، وبرع من أهلها جابر بن حيان في الكيمياء.
ولكن الكوفة خسرت أهميتها حينما قام عبدالرحمن بن ملجم الخارجي بطعن الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في 15 رمضان المبارك ثم توفي بعد ذلك بيومين سنة 40 للهجرة، 661 للميلاد، بعدما استمرت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وبويع الحسن بن علي رضي الله عنه، ولما خرج لحرب الأمويين خَذَلَهُ أصحابُه فحاد عن القتال خوفاً على دماء المسلمين، وتخلى عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، بعدما استمرت خلافته ستة أشهر وعدة أيام.
وبعد ذلك انتقلت عاصمة الخلافة الإسلامية الأموية إلى مدينة دمشق في سورية عام الجماعة سنة 41 للهجرة، وآلت الإمارة إلى زياد بن أبي سفيان سنة 50هـ/ 760م، وفي أيامه تطورت الهندسة المعمارية في الكوفة، وصار الآجر مادة أساسية من مواد البناء لرجال الدولة والشعب، وأعاد زياد بناءَ المسجد الكبير وزاد فيه حتى صار يتسع لأربعين ألفاً من المصلين، كما أعاد بناء دار الإمارة، واستمرت توسعات المسجد حتى صار يتسع لستين ألفاً من المصلين.
وبدأت في الكوفة مرحلة صعبة حيث غادرها الحسن بن علي رضي الله عنهما، وخسرت مركزها كعاصمة للخلافة الإسلامية، ولما بدأت الخلافة العباسية أقام بها أبو العباس السفاح، وأسس أبو جعفر المنصور ضاحية الهاشمية لتكون مقرّاً لحكم العباسيين، ولكنه عانى من مؤامرات الكوفيين عليه فأسس بغداد، ونقل العاصمة العباسية إليها، ولما آلت الخلافة العباسية إلى هارون الرشيد شيّد قُبة على ضريح الإمام عليّ رضي الله عنه، وعُرِفَ المكان باسم المشهد، وصار مزارًا منذ ذلك اليوم.
وبقيت من معالم الكوفة القديمة قنطرة الخندق، وبقايا منزل الإمام علي بن أبي طالب، ويقع على مقربه من بقايا دار الإمارة التي تتوسطها البئر، وأضخم معالم الكوفة التراثية جامع الكوفة الكبير، ومن معالمها الحديثة جامعة الكوفة - النجف.
مدينة المدارس
كان أكثر أهل الكوفة من عرب اليمن، وكان يطرأ عليها ضعاف الأعراب علاوة على أنها كانت قريبة من الفُرس لذا لانَتْ جوانبُ ألسنة أهلها واعتراها الشّاذ من الكلام.
وكانت بداية الدراسة في الكوفية دينية، وذلك حينما نزل في الكوفة الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وراح يعلّم الناس ويفقّههم في دينهم، وكان متأثراً بطريقة عمر بن الخطاب في الاستنباط والبحث، والأخذ بالرأي عند افتقاد النص، وبرز من تلاميذه عبيدة بن قيس السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي، وشُريح الكندي الذي ولي قضاء الكوفة في عهد عمر، واستمر على القضاء 62 سنة.
وتتلمذ على تلاميذ ابن مسعود في الكوفة إبراهيم بن يزيد النخعي، فقيه العراق بلا منازع، وتلميذه حمّاد بن سليمان أستاذ الإمام أبي حنيفة النعمان الذي التفّ حوله الراغبون في الفقه، وبرز منهم أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وزُفر، وعملوا معه على تكوين المذهب الحنفي، وعاش أبو حنيفة من سنة 80هـ/ 699م حتى سنة 150هـ/ 723م.
وإضافة إلى المدرسة الفقهية اشتهر عددٌ من رواة الكوفة، ومنهم حماد الراوية الذي كان من أعلم الناس بأيام العرب، وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وكان الناس يتهمونه في علمه ويشككون في روايته، ولا يثقون بما ينقله إليهم من أخبار وأشعار، ويقال إن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال المعلقات.
ومن رواتها المفضل الضبي الذي كان يقوم في الكوفة مقام الأصمعي في البصرة، وقد جمع من أشعار العرب 126 قصيدة أو 128، وهي التي طُبعت تحت اسم المفضليات، ومن رواة الكوفة برزخ العروضي، وكان من أكذب الناس في الرواية، والراوية جناد الذي كان يخلط في الأشعار ويصحف ويلحن.
وكان الكسائي أستاذ المدرسة النحوية البصرية، وسار على منهاجه تلميذه الفراء وغيره.
وكانت بين علماء مدرستي الكوفة والبصرة فروق واختلافات كبيرة، وقد لخصها الإمام أبو البركات الأنباري المتوفى سنة 577هـ/ 1181م، في كتابه "الانصاف في مسائل الخلاف" والذي ذكر فيه 121 مسألة في النحو اختلف فيها البصريون والكوفيون، ومن المسائل المشهورة المسألة الزنبورية، حيث قال الكسائي لسيبويه: كيف تقول: ظننت العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو أياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب، فقال له الكسائي لحَـنـْت. ولكل فريق دليله في هذه المسألة وغيرها من مسائل الخلاف النحوي.
إن جولات الجدل والمناظرة بين علماء البصرة والكوفة أنتجت مدرستين نحويتين، ثم ورثت مدرسة بغداد النحوية تُراثَ المدرستين وغيرهما، ومازلنا نستفيد من ذلك التراث الذي استمرَّ، وتطوّرَ على رغم تتابُع النكبات والحروب الداخلية والخارجية التي تجتاح المنطقة>
.
في سنة 14 للهجرة 635 ميلادية أمر الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببناء مدينة البصرة، وبعث سعد بن أبي وقاص عُتبةَ بن غزوان في خيل إلى البصرة فاختطها وأسس مسجدها، ثم استخلف عُتبةُ المغيرةَ بن شعبة على البصرة، وسار إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمات في الطريق، وأقر عمرُ المغيرةَ والياً على البصرة، ثم عزله عنها واستخلف عليها أبا موسى الأشعري، فافتتح الأهواز وتَسْتُرَ والسّوس ورام هرمز، وبعض نواحي فارس.
وكان عبدالله بن عبّاس والي البصرة في زمن خلافة عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه 36 - 40 هـ/ 656- 661م، فلمّا نشبت الحرب بين أمير المؤمنين وبين معاوية بن أبي سفيان لم يشارك ابن عباس في تلك الحرب.
يقول زكريا القزويني في كتابه "آثار البلاد وأخبار العباد": "مُصِّرَت البصرةُ قبلَ الكوفة بسنة ونصف، وهي مدينة على قرب البحر كثيرة النخيل والأشجار، سبخة التربة، ملحة الماء لأن المدّ يأتي من البحر ويمشي إلى ما فوق البصرة بثلاثة أيام، وماء دجلة والفرات إذا انتهى إلى البصرة خالطه ماءُ البحر فيصير ملحاً، وأما نخيلها فكثير جداً".
قال الأصمعي: "سمعت الرشيد يقول: نظرنا فإذا كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة".
وقال الجاحظ: "من عيوب البصرة: اختلاف هوائها في يوم واحد، فإنهم يلبسون القُمُصَ مرّةً، والمبطنات مرةً لاختلاف جواهر الساعات".
ومن ظريف ما قيل في اختلاف هواء البصرة قول ابن لنكك:
نحن بالبصرة في لونٍ من العيش ظريفْ
نحن ما هبّت شمالٌ بين جنّاتٍ وريفْ
فإذا هبت جنوبٌ فكأنّا في كنيفْ
وينسب إلى البصرة أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري أوحد زمانه، وقد توفي سنة 110 للهجرة وعمره ثمان وثمانون سنة، وينسب إليها الفقيه أبو بكر محمد بن سيرين وهو مولى أنس بن مالك، والقاضي الشافعي أبو بكر بن الطيب الباقلاني، وله تصانيف كثيرة وكان مشهوراً بوفور العلم وحسن الجواب.
وكان في البصرة قوم من الزط والسيابجة فأمر بنقل قسم منهم معاويةُ بن أبي سفيان في سنة تسع وأربعين أو سنة خمسين، فنقلوا إلى السواحل، وأنزل بعضهم في مدينة إنطاكية، فصارت فيها محلة تعرف بالزط، وفي بُوقا قرب إنطاكية قوم من أولادهم يعرفون بالزط أيضاً، ثم نقل منهم قسماً آخر إلى إنطاكية الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك بن مروان.
وبقي في البصرة الكثير من سلالات الزط والسيابجة فساهموا في حرقها بالتعاون مع الزنج الذين سيطروا على البصرة وما حولها سنة 255-261هـ/ 869-875م، وامتد نفوذهم ليشمل الأهواز وعبادان والبحرين وواسط، وجنحوا إلى العنف والإرهاب وإراقة الدماء، وقتلوا أكثر من 300 ألف إنسان بالبصرة وحدها، وأسروا عدداً كبيراً من النساء والأطفال.
ولما تولى الخلافة العباسية المعتمد على الله عَهد إلى أخيه الموفق بمهمة القضاء على هذه الفتنة قبل أن يستفحل خطرها، فخرج من بغداد إلى مدينة واسط في شهر صفر سنة 267هـ/ 881م، وهزم فريقاً كبيراً من الزنج، وتوالت انتصاراته حتى أجلاهم عن الأهواز، وحاصر مدينتهم "المختارة"، وبنى مدينة بإزائها تُسمى الموفقية نسبةً إليه، وجعلها معسكراً دائمًا له ولجيشه، وبعد القضاء على فوض الزنج والزُّطِّ وأنصارهم أصدرَ الموفّقُ بياناً أعلن فيه انتهاء الاضطرابات والفوضى بعد حرب دامت أكثر من 14 سنة 255-270هـ، ودعا سكان هذه المناطق إلى الرجوع إلى مدنهم وقراهم.
وبقيت البصرة ولاية عباسية، ثم صارت ولاية عثمانية، وفي أيام الوالي العثماني مدحت باشا الوالي 1868-1871 تم تقسيم العراق إلى 3 ولايات هي: البصرة وبغداد والموصل، وكان الوالي العثماني يقيم في البصرة حتى بدأ الاحتلال البريطاني للعراق في أواخر سنة 1914، بعد قيام الحرب العالمية الأولى.
وفي 12 حزيران يونيو 1921 استقل الأمير فيصل وحاشيته الباخرة البريطانية "نورث بروك" في طريقه إلى البصرة حيث استقبله محمد الصدر ويوسف السويدي وعلوان الياسري ومحسن أبو طبيخ مُتصرف لواء كربلاء ورابح العطية، وفي 5 تموز يوليو نشر المندوب السامي بياناً رحب فيه بالأمير فيصل، ودعا العراقيين إلى تأييد تنصيبه ملكاً على العراق.
وأهل البصرة كانوا من أهل السنّة والجماعة على المذهب الشافعي، سوى أهل شط العرب فكانوا شيعة، وأهل الزبير كانوا سنة حنابلة، وأول مدرسة خاصة بالمذهب الحنبلي في البصرة، هي مدرسة الأمير باتكين بن عبدالله التي بناها في أيام الخليفة العباسي المستنصر بالله، سنة 640هـ/ 1242م.
مدرسة البصرة
كانت البصرة أقرب إلى البوادي من الكوفة، ولذلك فصُح أعرابُها، وتميّز أهلها بالصحيح، وكانت مثابة الْجُفاة الْخُلّص من أعراب البادية، وكان فيها المربد، وهو عكاظ الإسلام يقوم فيه الخطباء، وينشد فيه الشعراء.
واشتهر من رواة البصرة أبو عمرو بن العلاء، وهو أحد القراء السبعة، وكان أبو عمرو دقيقاً مُتشدِّداً، شديد التعصب للقُدماء، لا يحتج ببيت شعرٍ إسلامي، ومن رواتها خلف الأحمر الذي كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدقهم لساناً، وأعلم الناس بمذاهب الشعراء، ومعانيها وأبصرهم بوجوه الخلاف بين ما يتميز به شاعر وشاعر، فإذا عمد إلى وضع الشعر ونحله حاكى شعرَ الذي يضعُ عليه فأتقن الصنعةَ، وأحكم المحاكاة فلا يتميز هذا الشعر من ذاك إلا عندَ عالم ناقد.
ومن رواة البصرة الأصمعي الذي كان آية في سرعة الحفظ، وكان يحفظ ستة عشرة ألف أرجوزة دون الشعر والأخبار، وكان ثقةً عدلاً، يقول عنه ابن جني: "هو صناجة الرواة والنقلة وإليه محط الأعباء، وكان يحفظ كل الشعر الذي لم يُسمع به"، وله مجموعته التي جمعهاوسماها الأصمعيات، ورُويت عنه دواوين كثيرة أشهرها الدواوين الستة لامرئ القيس، والنابغة، وزهير، وطرفة، وعنترة، وعلقمة بن عبده.
ومن أشهر الرواد الذين حققوا الابتكارات العلمية في البصرة مع بداية العصر العباسي العالم الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي الذي توفي سنة 175هـ/179م، وتلميذه أبو بشر عمرو بن عثمان الملقب بسيبويهِ الذي بنى كتابه على علم النحو الذي تلقاه عن أستاذه الخليل واضع علم العروض لمعرفة أوزان الشعر وأحكامه وبحوره. وأخذ عنه كذلك النضر بن شميل، وأبو فيد مؤرج السدوسي، وعلي بن نصر الجهضمي وغيرهم.
تأسيس
لما اتسعت مساحة البلاد المفتوحة احتاج المسلمون إلى مركز إمدادات ثابت يربط بين مواقع الجيوش الإسلامية والمدينة المنورة دار الهجرة، ومقر الخلافة الراشدة، ويساهم بالمحافظة على صحة الجيش الإسلامي وسلامته، ولا سيما بعدما واجه الجيشُ الإسلامي ظروفَ مناخ قاسية في العراق أدّت إلى انتشار بعض الأمراض، وأخبر القائدُ سعدُ بن أبي وقاص الخليفةَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بما يواجهه الجيش من صعوبات معيشية، فأمر الخليفة باختيار مركز للجيش يكون بعيداً عن مناطق السكان المغلوبين خشية إفساد العسكر، وأن يكون طيب المناخ، وذلك ما عبر عنه بقوله "دار هجرة ومنزل جهاد" وقد أوضح أن الهدف من بناء الكوفة هو حماية البلاد المفتوحة، وإمداد أهل المدن بالجيوش اللازمة لحمايتها، وهذا واضح في قوله "يحرزون ثغورَهم، ويمدون أهلَ الأمصار".
وذَكَرَ البلاذري بِسَنَدِهِ في كتاب "فُتُوح البلدان" "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره أن يتخذ للمسلمين دار هِجرةٍ، وأن لا يجعل بينه وبينهم بحراً، فأتى الأنبار وأراد أن يتخذها منزلاً، فكثر على الناس الذباب، فتحول إلى موضع آخر فلم يصلح، وأصابهم البعوض فكتب سعد إلى عمر يعلمه أن الناس قد بعُضُوا وتأذوا بذلك فكتب إليه عمر: إن العرب بمنزلة الإبل لا يُصلحها إلا ما يُصلح الإبل فارْتَدْ لهم موضعاً عَدناً، ولا تجعل بيني وبينهم بحراً".
وبحث سعد بن أبي وقاص عن مكان مناسب فقصد مع أصحابه كُوَيفةَ ابن عمر، فنظروا فإذا الماء محيطٌ بها، ثم أن عبدالمسيح بن بقيلة أتى سعداً وقال له: أدلُّك على أرض انحدرت عن الفلاة، وارتفعت عن الآماق فدله على موضع الكوفة اليوم، وكان يقال لها سورستان.
وقيل: بعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلاً مناسباً يصلح لإقامتهم، فمرا على أرض الكوفة وهي حصباء في رملة حمراء فأعجبتهما، ووجدا هنالك ثلاثة أديرة هي: دَيْرُ حُرَقَة بنت النعمان بن المنذر الذي قتله كِسْرى، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، ثم أخبرا سعد بن أبي وقاص، فأمر باختطاط الكوفة، وسار إليها فكان أول بناء وضع فيها المسجد، وكانت البيوت بعيدة عنه مسافة رمية سهم في الجهات الأربع، وعمَّر قصراً تلقاء محراب المسجد للإمارة، وبيت المال، وكان عَرْضُ الشارع الرئيسي أربعين ذراعاً، وشوارع الدرجة الثانية ثلاثين ذراعاً، والتي بعدها عشرين ذراعاً، والأزقة سبعة أذرع، وأقطع الناسَ المنازل، وأنزل القبائل منازلهم، وخصص لقبيلة نزار الجانب الغربي، ولأهل اليمن الجانب الشرقي، وولى الاختطاط للناس أبا الهياج الأسدي عمرو بن مالك بن جنادة، ثم أن المغيرة بن شعبة وسع المسجد، وبناه زياد بن أبي سفيان بناءً مُحكماً، وبنى دار الإمارة، وكان يقول: أنفقت على كل أسطوانةٍ من أساطين مسجد الكوفة ثماني عشرة مئة.
ثم طوّر عمرو بن حريث المخزومي بناء الكوفة، وكان زياد يستخلفه على الكوفة إذا شَخَصَ إلى البصرة، ثم بنى العمال فيها بيوتهم فضيقوا رحابها وأفنيتها، وبلغ عدد أهل اليمن اثني عشر ألف نسمة، وعدد بني نزار ثمانية آلاف نسمة في أيام الشعبي الذي توفي سنة 103هـ/ 721م.
قال البلاذري: "وبعضهم يقول: كويفة دون الكوفة، وقد قيل: التكوّف الاجتماع، وقيل أيضاً: المواضع المستديرة من الرمل تُسمى كوفاني، وبعضهم يُسمي الأرض التي فيها الحصباء مع الطين والرمل كوفة".
ولكن سعداً تضايق من أهل الكوفة فقال: "اللهم لا تُرْضي عنهم أميراً ولا ترضهم بأمير" وتحقق دعاؤه حتى قيل: حُبُّ أهل الكوفة شرف وبغضهم تلف، ولما كثرت شكاوى أهل الكوفة عزل عمرُ سعدًا، وولى عمار بن ياسر مكانه، ولكنهم شكوه وقالوا: ضعيفٌ لا علم له بالسياسة، فعزله، وكانت ولايته الكوفة سنةً وتسعة أشهر، فقال عمر: "من عذيري من أهل الكوفة! إن استعملت عليهم القوى فجَّروه، وإن وليت عليهم الضعيف حقّروه "ثم ولّى عليها المغيرة بن شعبة فلم يزل عليها حتى استشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم إن عثمان بن عفان رضي الله عنه ولاها سعدًا ثم عزله، وولى الوليد بن عقبة، ثم عزله وولى سعد بن العاص.
وقد تطور العمران في الكوفة في أيام إمارة المغيرة بن شعبة سنة 22هـ/ 643م، حيث استُعمل الآجر في بناء بعض الدور.
عاصمة الخلافة الإسلامية
ولما آلت الخلافة الراشدة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة 35هـ/ 656م نقل العاصمة من المدينة المنورة إلى الكوفة فأحاطها بخندق لحمايتها، وصارت مركزا لأنصار الإمام علي رضي الله عنه، وتحولت إلى مركز حربي، ومدرسة للعلوم والمعارف، وكان أستاذها الخليفة نفسه حيث أمرَ أبا الأسود الدؤلي بوضع قواعد النحو، وأخذ عن أبي الأسود عنبسة الفيل، وميمون الأقرن، ونصر بن عاصم، وعبدالرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر، وكان للكوفيين باع طويل في الفقه، وبرع من أهلها جابر بن حيان في الكيمياء.
ولكن الكوفة خسرت أهميتها حينما قام عبدالرحمن بن ملجم الخارجي بطعن الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في 15 رمضان المبارك ثم توفي بعد ذلك بيومين سنة 40 للهجرة، 661 للميلاد، بعدما استمرت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وبويع الحسن بن علي رضي الله عنه، ولما خرج لحرب الأمويين خَذَلَهُ أصحابُه فحاد عن القتال خوفاً على دماء المسلمين، وتخلى عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، بعدما استمرت خلافته ستة أشهر وعدة أيام.
وبعد ذلك انتقلت عاصمة الخلافة الإسلامية الأموية إلى مدينة دمشق في سورية عام الجماعة سنة 41 للهجرة، وآلت الإمارة إلى زياد بن أبي سفيان سنة 50هـ/ 760م، وفي أيامه تطورت الهندسة المعمارية في الكوفة، وصار الآجر مادة أساسية من مواد البناء لرجال الدولة والشعب، وأعاد زياد بناءَ المسجد الكبير وزاد فيه حتى صار يتسع لأربعين ألفاً من المصلين، كما أعاد بناء دار الإمارة، واستمرت توسعات المسجد حتى صار يتسع لستين ألفاً من المصلين.
وبدأت في الكوفة مرحلة صعبة حيث غادرها الحسن بن علي رضي الله عنهما، وخسرت مركزها كعاصمة للخلافة الإسلامية، ولما بدأت الخلافة العباسية أقام بها أبو العباس السفاح، وأسس أبو جعفر المنصور ضاحية الهاشمية لتكون مقرّاً لحكم العباسيين، ولكنه عانى من مؤامرات الكوفيين عليه فأسس بغداد، ونقل العاصمة العباسية إليها، ولما آلت الخلافة العباسية إلى هارون الرشيد شيّد قُبة على ضريح الإمام عليّ رضي الله عنه، وعُرِفَ المكان باسم المشهد، وصار مزارًا منذ ذلك اليوم.
وبقيت من معالم الكوفة القديمة قنطرة الخندق، وبقايا منزل الإمام علي بن أبي طالب، ويقع على مقربه من بقايا دار الإمارة التي تتوسطها البئر، وأضخم معالم الكوفة التراثية جامع الكوفة الكبير، ومن معالمها الحديثة جامعة الكوفة - النجف.
مدينة المدارس
كان أكثر أهل الكوفة من عرب اليمن، وكان يطرأ عليها ضعاف الأعراب علاوة على أنها كانت قريبة من الفُرس لذا لانَتْ جوانبُ ألسنة أهلها واعتراها الشّاذ من الكلام.
وكانت بداية الدراسة في الكوفية دينية، وذلك حينما نزل في الكوفة الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وراح يعلّم الناس ويفقّههم في دينهم، وكان متأثراً بطريقة عمر بن الخطاب في الاستنباط والبحث، والأخذ بالرأي عند افتقاد النص، وبرز من تلاميذه عبيدة بن قيس السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي، وشُريح الكندي الذي ولي قضاء الكوفة في عهد عمر، واستمر على القضاء 62 سنة.
وتتلمذ على تلاميذ ابن مسعود في الكوفة إبراهيم بن يزيد النخعي، فقيه العراق بلا منازع، وتلميذه حمّاد بن سليمان أستاذ الإمام أبي حنيفة النعمان الذي التفّ حوله الراغبون في الفقه، وبرز منهم أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وزُفر، وعملوا معه على تكوين المذهب الحنفي، وعاش أبو حنيفة من سنة 80هـ/ 699م حتى سنة 150هـ/ 723م.
وإضافة إلى المدرسة الفقهية اشتهر عددٌ من رواة الكوفة، ومنهم حماد الراوية الذي كان من أعلم الناس بأيام العرب، وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وكان الناس يتهمونه في علمه ويشككون في روايته، ولا يثقون بما ينقله إليهم من أخبار وأشعار، ويقال إن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال المعلقات.
ومن رواتها المفضل الضبي الذي كان يقوم في الكوفة مقام الأصمعي في البصرة، وقد جمع من أشعار العرب 126 قصيدة أو 128، وهي التي طُبعت تحت اسم المفضليات، ومن رواة الكوفة برزخ العروضي، وكان من أكذب الناس في الرواية، والراوية جناد الذي كان يخلط في الأشعار ويصحف ويلحن.
وكان الكسائي أستاذ المدرسة النحوية البصرية، وسار على منهاجه تلميذه الفراء وغيره.
وكانت بين علماء مدرستي الكوفة والبصرة فروق واختلافات كبيرة، وقد لخصها الإمام أبو البركات الأنباري المتوفى سنة 577هـ/ 1181م، في كتابه "الانصاف في مسائل الخلاف" والذي ذكر فيه 121 مسألة في النحو اختلف فيها البصريون والكوفيون، ومن المسائل المشهورة المسألة الزنبورية، حيث قال الكسائي لسيبويه: كيف تقول: ظننت العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو أياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب، فقال له الكسائي لحَـنـْت. ولكل فريق دليله في هذه المسألة وغيرها من مسائل الخلاف النحوي.
إن جولات الجدل والمناظرة بين علماء البصرة والكوفة أنتجت مدرستين نحويتين، ثم ورثت مدرسة بغداد النحوية تُراثَ المدرستين وغيرهما، ومازلنا نستفيد من ذلك التراث الذي استمرَّ، وتطوّرَ على رغم تتابُع النكبات والحروب الداخلية والخارجية التي تجتاح المنطقة>
.