نقوس المهدي
كاتب
بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة السلام على اشرف المرسلين سيدنا محمد و على اله وصحبه أجمعين
تقـــديــــــــم:
نود أن نؤكد أن الزاوية الناصرية تعد من أكبر الزوايا التي عرفها تاريخ المغرب الحديث وقد صادف تأسيسها بدء أفول نجم الدولة الزيدانية وبزوغ فجر الدولة العلوية المجيدة، ومن ثم قدر لها أن تنخرط في السياق الجديد لبناء المغرب الحديث على جميع الصعد ولاسيما الاجتماعية والثقافية والعلمية.
استطاع شيوخ الزاوية الناصرية أن يعيدوا التوازن إلى حياة الناس حين تبنوا حركة إصلاحية دعامتها الدفاع عن السنة ومحاربة البدع والانحرافات العقدية والسلوكية، ولم يكن من قبيل الخصوصية أن تنتشر فروع الزاوية الناصرية في كل جهات البلاد حتى أصبحت أم الزوايا، بل المستغرب أن تتحول طريقتها إلى وشيجة قوية عملت على وصل مختلف جهات العالم الإسلامي لما نجح شيوخها في تنظيم ركب للحاج خاص بهم ومن ثم أضحى تلاميذ الناصريين ومقدموهم عناصر أسهمت في تبادل العلوم والأسانيد وانتقلت إلى المغرب عبرهم مفاهيم وكتب وعادات وتقاليد...
في ظل تلك الأوضاع المضطربة تراجعت كذلك الحياة العلمية بشكل ملموس ولاسيما في المدن الكبرى فخلت المدارس والمجالس وضعفت الهمم..
مرحلـــة التأسيــس
ـ تمكروت لفظة امازيغية مشتقة من "امكاورو" أي الأخير مقابل امزاورو أي الأول أو الرئيس وتتواجد قرب تكمدارت مهد السعديين تأسست على يد الشيخ أبي حفص عمرو بن احمد الأنصاري سنة 983/ 1675 م، وهو حفيد الشيخ سيدي ابراهيم بن احمد الأنصاري الخزرجي الذي اشتهر في المنطقة بسيدي الحاج ابراهيم بعد أن قدم من الشرق واستوطن درعة في غضون القرن الثامن الهجري، وإليه يعزى تأسيس زاوية سيد الناس، ولما توفي توارث بنوه زاويته من بعده، لكن زاوية سيد الناس لم تطر شهرتها إلا في النصف الأول من القرن العاشر (16م) بعد ما رجع إليها الشيخ أبو القاسم بن عمر التفنوتي المتوفى سنة 953/1546 م، إلا أن نجم هذه الزاوية سرعان ما
أفل حين أسس سيدي عمر بن احمد الأنصاري تمكروت، وقد نوه العلامة سيدي محمد المكي الناصري به قائلا: (عمرو بن احمد الأنصاري النجار الدرعي النشأة والدار أبو حفص الوالي الصالح الزاهد الناسك) أخذ عن الشيخ سيدي احمد بن علي وعن أبي القاسم الغازي وتصدر لتلقين الأوراد الشاذلية حتى وافته المنية سنة 1010/1602، وخلفه أبناؤه وحفدته طوال ثلاثين سنة حتى آل أمرها إلى الشيخ سيدي عبد الله بن احساين القباب، الذي انتقل إليها بدوره من زاوية سيد الناس وقد ظلت تمكروت في بادئ أمرها مقتصرة على التصوف حتى ترأسها الشيخ سيدي عبد الله بن احساين الرقي نسبة إلى الرقة بلدة عراقية تقع على شاطئ الفرات والملقب بالقباب من أسماء الأسد، استقر به المقام بتمكروت وقصده القاصي والداني وأرسى دعائم طريقته الصوفية التي دعيت حينئذ الطريقة الغازية نسبة إلى شيخه سيدي أبي القاسم الغازي السجلماسي، فسلك طريق الصرامة مع مريديه لينسجوا على منواله الموصل إلى الله، فأصبح الزعيم الروحي لبلدة تمكروت ، فكان نهاره صائم وليله قائم، يأكل من كد يده، عاش هذا الشيخ متجردا ولم يتزوج قط، فسلك سبيل الرياضة الصوفية الصارمة في بادئ أمره حتى اشتهر عنه انه (يمكث سبعة أشهر لم يذق طعاما إلا الحشيش وقليلا من التمر) وحين يتحدث المصدر عن طعامه يقول(وكان قوت يومه لا يتعدى عشرة ثمرات وقدر ثلاث لقم من الطعام وجرعة من الحساء ولا يفطر يوم الجمعة) ويضيف احمد بن خالد الناصري في السياق نفسه( فاشتهر أمره وعرفت ولايته وخصوصيته) ومن ثم اضطلع بمسؤولية الدعوة إلى الله.
انبنت هذه الطريقة على الذكر الذي وضعه الشيخ سيدي عبد الله بن احساين لتحقيق دوام الاتصال بالله تعالى واطمئنان قلب الذاكرـ لان الاطمئنان هو اكبر ثمرات الذكرـ وارتكز ذلك الذكر على ورد وظفه الشيخ على مريديه ومداره على (لا اله إلا الله) بصفة خاصة، فصنف مريديه حسب قدر الورد الموظف عليهم، فكان ورد المتجردين سبعين ألفا (لا اله إلا الله) والمتوسط في السبب اثني عشر ألفا والمتوغل سبعة آلاف والطالب ألف والمرأة كذلك.
كان من قدر الله أن وفد على تمكروت العالم الشاب محمد بن ناصر قادما إليها من أغلان الواقعة شمالا على بعد أربعين كلومتر باحثا بدوره عن شيخ للتربية بعدما حصل على نصيب غير
يسير من العلم ، كان ذلك سنة 1040/1631 حينما كان الشيخان سيدي عبد الله بن احساين القباب والشيخ سيدي احمد بن إبراهيم يعملان جنبا إلى جنب للنهوض بالزاوية، وفي الوقت الذي تلقن فيه الورد عن الأول، ندباه معا إلى الإقامة في تمكروت لبث العلم وتعليم طلبة الزاوية ومريديها، ورغم اعتذار سيدي محمد بن ناصر بأسباب مختلفة لم يكن يسعه إلا أن اقتنع أمام إلحاح الشيخين بقبول ذلك الطلب، فتصدر لتدريس العلم بالزاوية كما ترتب للإمامة والخطابة بمسجدها ،
وبذلك أعطى زحما جديدا للزاوية فطارت شهرتها في الآفاق، إلى أن توفي الشيخ سيدي عبد الله بن احساين يوم الجمعة 12 جمادى الثانية سنة 1045/ 1636.
مشيخة سيدي احمد بن إبراهيم
هو الشيخ سيدي احمد بن إبراهيم الأنصاري، نسبة إلى الأنصار من عرب يثرب، وينتمي حسب مترجميه، إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة الخزرجي، ومعلوم أن سلالة الأنصار قد وفدت إلى الغرب الإسلامي في فترات مختلفة من التاريخ .
ولد هذا الشيخ سنة 1001/1593بتمكروت من والدين صوفيين زاهدين، فأمه ميمونة بنت عمرو الأنصارية التي تذكر المصادر أنها كانت من العابدات ، تلبس خشن الثياب..وما قعدت على حصير إلا قلبتها.. وجلست على الخشن المشوك حتى قورنت برابعة العدوية...
ونظرا لزهدها فقد تولت حيازة أحباس الزاوية في عهد ابنها وتدبير توزيعها على مستحقيها من طلبة العلم وأبناء السبيل والزوار، أما أبوه إبراهيم بن عبد الله الأنصاري فقد عرف هو الآخر بالصلاح فلذلك فلا غور أن يسير على نهج أسلافه، وتكرر عن أصحاب التراجم أنه أخذ الورد عن الشيخ سيدي عبد الله بن احساين القباب، فكان لسانه في تلقين الأوراد وتربية المريدين ووعظ الفقراء مما يدل على المكانة التي تبوأها عند شيخه، وكيف لا وهو الذي وقف نفسه على شيخه حتى أنه لم يتزوج لكي لا تشغله الزوجة عن القيام بخدمته، ومن ثم لم يكن من الغريب أن يولي أمر الزاوية بعد وفاة شيخه، فسلك مسلكه في العبادة ، حيث اجتهد فيها غاية الجهد،فلم يكن ينام من الليل إلا القليل، وكان يصوم يوما ويفطر يوما كما أمره شيخه، ومن زهده أنه اقتصر في الطعام على خمسة عشرة ثمرة ونحو أربع لقم من الطعام بالإضافة إلى حساء العدس.
ومن زهده كذلك انه لم يقبل هدايا الولاة والعمال ولا ممن يتعاطى الشبهات، بنى المسجد الجامع بتمكروت وضريحا على قبر شيخه سيدي عبد الله بن احساين القباب، مما يفضي إلى الظن أن تمكروت في هذا العهد شهدت بعض اليسر فصارت تملك الاحباس كما أن شيخها أصبح يقوم بالتحكيم بين المتنازعين ويتوسط في الخصومات وصارت له وجاهة في المنطقة، ولعل ذلك ما أثار حفيظة أحد أعيان القصور المجاورة لتمكروت، شيخ قصر أكني المدعو يحيى بن عمرو الذي أقدم على اغتياله في ضحى يوم الجمعة حادي عشر جمادى الأولى عام 1052/1642، ودفن إلى جانب أمه السيدة ميمونة رحمه الله ونفعنا ببركات آمين، ليتولى بعده أمر الزاوية سيدي محمد بن ناصر.
مشيخة الشيخ سيدي محمد بن ناصر
ولد الشيخ سيدي محمد بن ناصر سنة 1011/1602 بقصر أغلان الواقع بخمس ترناتة من وادي درعة، ونشا في بيئة متصوفة واشتهرت أسرته بالصلاح ، تتلمذ على والده بزاويتهم باغلان
وانتقل إلى تسركات حيث أخذ عن الشيخ سيدي علي بن يوسف الدرعي الذي كان متضلعا في جملة من العلوم العقلية والنقلية وتتفق المصادر على أن جل استفادته كانت على يد الشيخ المذكور، حيث أخذ عنه العربية واللسان ثم الفقه ولازمه مدة طويلة إلى أن نال منه مراده ، كما أخذ عن محمد بن يدر التسركاتي وعن محمد بن سعيد المرغثي، وبعدما أنهى مرحلة الطلب وحصل ما حصل من العلم رجع إلى أغلان حيث اشتغل برعاية أصول والده وتزوج أولى زوجاته السيد مريم تاحنينت وهو في سن الخامسة والعشرين قبل أن ينتقل إلى دادس قصد " المشارطة " ، وبعد مدة رجع إلى بلدته أغلان حيث صار إماما وخطيبا بمسجدها الجامع وتصدر لتدريس العلم بزاوية أبيه وعرف بالعلم والتقوى الشيء الذي عظم قدره في أعين الناس.
وكعادة كثير من أهل ذلك الزمان تاقت نفس سيدي محمد بن ناصر إلى الدخول في طريق القوم، فانطلق باحثا عن شيخ للتربية إلى أن أخبره صهره محمد بن عبد القادر الحربلي بوجود رجلين صالحين تابعين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك سبب قدومه إلى تمكروت، حيث لقي في البداية الشيخ سيدي احمد بن إبراهيم الأنصاري الذي توسط له في تلقين الورد عن الشيخ سيدي عبد الله بن احساين القباب وكان سنه يومئذ 27 سنة، وقد أبدى المريد الجديد إعجابه بشيخيه وبما هما عليه من الأحوال، ولما اجتمعا به لمسا فيه سيمات العلم فرغبا في استقطابه، فندباه معا إلى الإقامة في تمكروت لبث العلم ونشره بين مريدي الزاوية وطلبتها، إلا انه تذرع برغبة والده في الإقامة معه.
أمام إلحاح الشيخين استجاب سيدي محمد بن ناصر لرغبتهما فانتقل صحبة والديه إلى تمكروت عام 1040/1631 فترتب للإمامة والخطابة بمسجدها الجامع وبذلك صارت تمكروت زاوية صوفية ومدرسة علمية في آن واحد فكما كانت وفود طالبي التربية والتلقين ترد إليها أصبح طلبة العلم يفدون إليها من كل حدب وصوب، وظل على تلك الحال طوال 12 سنة أي حتى سنة 1052/1642 حيث توفي الشيخ سيدي احمد بن إبراهيم الأنصاري فآل أمر زاوية تمكروت إليه (بوصية منه إليه وبتوكيل إياه على زاويته وعلى جميع أمورها) فتزوج أرملة الشيخ سيدي احمد بن إبراهيم بعد صدود دام سنة ورفض من أخيها وعشيرتها الأنصار، وما كان مراد الشيخ بتزوجه إياها إلا للقيام بأمر الزاوية والوقوف على مصالحها ، وبناء على هذا التقارب الذي بنيت جسوره بإحكام تولى الشيخ سيدي محمد بن ناصر مشيخة تمكروت التي أصبحت تدعى منذئذ الزاوية الناصرية، فظل نعت الناصرية رديفا لتمكروت ولا يزال إلى يومنا هذا.
اكتمل تكوينه العلمي والروحي وبلغ الأشد إذ تجاوز الأربعين فذاع صيت الزاوية حتى قال احدهم ( لولا ثلاثة لانقطع العلم بالمغرب في القرن الحادي عشر لكثرة الفتن التي ظهرت فيه وهم:
سيدي محمد بن ناصر في درعة وسيدي محمد بن أبي بكر في الدلاء وسيدي عبد القادر في فاس.
إضافة إلى أنه يتدخل لفض النزاعات ويحد من العنف عن طريق الوساطة التحكيم بين العناصر المتنازعة خاصة وان السلطة في تلك الفترة ضعيفة ، فاقبل عليه الناس أفواجا من اجل التلقين حيث صار للزاوية ورد معلوم يقوم الشيخ بتلقينه مباشرة أو عن طريق المراسلة، وبما انه جمع بين العلم والتصوف، فقد شدت إليه الرحال من مختلف الآفاق وتحولت تمكروت إلى قبلة قصدها الطلبة والعلماء بل إن شهادات المعاصرين العلماء المشهورين أمثال أبي سالم العياشي وعبد المالك التاجموعتي والحسن اليوسي وغيرهم وبذلك اضطلعت تمكروت بترسيخ التعاليم الإسلامية في تلك المنطقة الهامشية من البلاد في ظرف عسير من تاريخ المغرب، فحارب شيخها شرب الدخان وتناول الخمر وغير ذلك من البدع والمحرمات التي كانت مستشرية آنذاك.
يعتبر الشيخ سيدي محمد بن ناصر من كبار علماء ذلك العصر ملما بالفقه والتفسير والحديث والأصول واللغة والسير والكلام والتصرف والحساب والفرائض كما يصفه كتاب المناقب والتراجم بأنه (كان آية باهرة في كل شيء، كريم الطوية متبعا للسنة في جميع أفعاله وأقواله ومأكله ومشربه وملبسه) وكان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر لا يخاف في الله لومة لائم ناصرا للدين ناصحا لعباد الله المؤمنين واقفا على حدود الله عارفا بإحكامها.
إن هذه الصفات والمميزات التي طبعت شخصية بن ناصر كان لها ما يبررها في نظر هؤلاء الكتاب ولعل شهادات المعاصرين اكبر حجة على ذلك.
لاشك أن العلامة الشيخ اليوسي أسهم بدوره في ذيوع صوت الزاوية الناصرية في مختلف جهات بلاد المغرب وكيف لا وقد أغنى شيخها أصحاب الطلب عن التماس العلم في الأقطار البعيدة كما أشار إلى ذلك هذا العالم الجليل والتلميذ النجيب حين قال في داليته:
وطلعت في فلك الهداية والتقى &&& بجلاء محل بالكواكب اسعد
بجدى عميـم غائث بقـع النهى&&& والعلم لا بقع السحى والغرقد
بمغـرب ومشـرق متيمــن &&& متشئـم متكـوف مـتبغـدد
إن الأخذ عن الشيخ ابن ناصر ـ في نظر اليوسي ـ يستغني به وبما أوتي من رسوخ في العلم وعلو كعب منها عن الرحلة إلى اليمن أو الشام أو الكوفة أو بغداد.
وهذا ما ساعد على انتشار الطريقة الناصرية لاسيما وان الشيخ كان يفوض إلى تلاميذه ومقدميه في تلقين الورد، إلا أن انتشار الطريقة الناصرية بين سكان البوادي كان اكبر ووصلت إلى
بعض الأقطار النائية من البلاد كتافيلالت والقنادسة بل تجاوزت حدود المغرب لما اضطلع الشيخ محمد بن ناصر بتنظيم ركب الحاج انطلاقا من تمكروت، فاقبل سكان المراحل التي يمر بها الركب الناصري على الانخراط في سلك الطريقة الناصرية في كل من بسكرة و قفصة وطرابلس وتاجوراء والجبل الأخضر والإسكندرية والقاهرة وغيرها فتأسست زوايا تابعة لتمكروت صارت بدورها مراكز إشعاع للعلم والتصوف وأسهمت في التخفيف من سلبيات المحيط.
إن ذيوع صيت تمكروت وانتشار نفوذها وقوة شخصية الشيخ سيدي محمد ين ناصر وعمله الدؤوب في ميدان العلم والتصوف كلها عوامل أسهمت في توسع الزاوية في الرزق بعد أن كان شيوخها الأوائل يعيشون على الكفاف ولم تعد تقوم بحق الطلبة والمريدين وعيال الشيخ بل تعدى إحسانها إلى الجيران والأرامل واليتامى فصارت تملك العقارات وقطعان المواشي والعبيد..ولم يتوفى الشيخ سيدي محمد بن ناصر يوم الثلاثاء 16 صفر في عام 1085/1674 إلا بعد أن طبقت شهرة زاويته الآفاق وصار وردها منتشرا شرقا وغربا بل لقد طائفة صوفية لها طريقتها المعلومة وسندها المتصل.
مشيخة سيدي احمد بن محمد بناصر
تولى بعده ابنه الأصغر سيدي احمد بن امحمد بن ناصر الملقب بالخليفة، ولد سنة 1057/1647 في أسرة اشتهرت بالعلم والتصوف فأبوه هو الشيخ سيدي محمد بن ناصر مؤسس الطريقة الناصرية والمدرسة العلمية بتمكروت وأمه هي حفصة بنت عبد الله الأنصاري سليلة مؤسسي الزاوية الأولى، أخذ عن والده التفسير والحديث والعربية والأصول وعن أبي سالم العياشي ومحمد بن حسين الكوراني الذي كان مجاورا بالمدينة المنورة، ومن مصر أمثال العناني وأبي العز بن احمد العجمي، وقد ساهم تعلمه وسفره المبكر إلى المشرق في تكوينه تكوينا مختلف المشارب وكان والده يأذن له في الإشراف على شؤون الزاوية ويكل إليه التصرف في مختلف أمورها.
ولبلورة ذلك فقد أوصى له في عقد مكتوب أمام بعض الأعيان مثل أخيه سيدي احساين بن ناصر وصديقه احمد بن محمد الخصاصي وغيرهما، وفعلا فقد استخلفه على شؤون الزاوية وآثره بذلك على إخوته الأكبر منه سنا.
ولما تولى سيدي احمد الخليفة مهمة الإشراف على الزاوية الناصرية قام بما استخلف عليه أحسن قيام، فاقتفى آثار والده في الحرص على المثابرة على التعليم واستقطاب العلماء ويشهد كل من ترجموه على علو شانه وفشو صيته في المغرب والمشرق ورسوخ قدمه في العلم وحضه على اتباع السنة ومحاربة للبدع الشيء الذي أدى إلى كثرة أتباعه والآخذين عنه، وذهب عبد القادر بن علي الفاسي ـ وهو من هو في ميدان العلم والتصوف ـ إلى القول ( بان الطائفة المذكورة في
الحديث المشهور إن لم تكن الآن بتمكروت فلست أدري منهم لإقامة السنة على الوجه المألوف ) وتتفق بعض المصادر أن شهرة الشيخ سيدي احمد الخليفة قد فاقت شهرة والده ، فهرع الناس إلى الأخذ عنه وشدت إليه الرحال من مختلف الجهات ووقع له القبول لدى الناس ولم يقصر عنه الوصف، لذلك تضاعفت شهرة الزاوية الناصرية واتسع نفوذها ، ففي الداخل شيد بتمكروت ثلاثة مساجد منها مسجد الخلوة وبنى صومعة المسجد الجامع الكبير وبنى مدرسة بلغ عدد طلابها 1400 طالب وخصهم بالسكنى و بنى لهم وللوافدين على الزاوية حماما بجوار المسجد المذكور، ومهد السبل أمام طلبة العلم، فوفر لهم إمكانيات الإقامة بالزاوية ولاسيما حين أسس خزانة الكتب، كما بنى مساجد أخرى بكل من زاوية الفتح وزاوية البركة وزاوية امزرو، ولم يغفل الشيخ متطلبات تلك المؤسسات العلمية من صيانة وما قد تحتاج إليه من مرافق وممرات سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي، فزودها بالدكاكين والحمامات والآبار والمراحيض وميز بين مرافق الرجال والنساء، وكلف من يسهر على تسخين الماء، حتى كان مريدو الطهارة والوضوء يجدون الماء الساخن في كل وقت وحين من ليل أو نهار.
ومن مظاهر التوسع أسس زاوية جديدة سنة 1115/1703 دعاها زاوية الفضل، تقع جنوب تمكروت وزودها بمسجد جامع وانزل بها إحدى زوجاته وهي زينب بنت احمد التنردنية والتي كانت على علم وتقوى، وقد اشتهرت هذه الزاوية بحدائقها الغناء وتنوع أشجارها وجمال محيطها، الشيء الذي جعل بعض الشعراء يطلق العنان لخياله واصفا مغانيها قائلا:
ألمم بدرعة واختر للنزول بــها = زاوية الفضل مأوى الجود والكرم
ذات ابتنـاء وأشجار منوعـــة = تجلو قلائدها للناس في الظلــم
ولتدعيم مكانة تمكروت العلمية، أسس الشيخ سيدي احمد الخليفة سنة 1123/1711 خزانة حوت مصنفات نفيسة عز نظيرها في المدن الكبرى في ذلك الوقت، ولم يدخر جهدا في تزويدها بأحمال من الكتب بواسطة الشراء أو النسخ من المغرب والمشرق، حتى إن المصريين أصبحوا يلقبونه "بباز الكتب " للهفته رضي الله عنه عليها ولحرصه على إيجادها.
ومما زاد في ثراء الزاوية علميا وروحيا تنظيم ركب الحج، حيث كان الناصريون ينظمون منذ عهد الشيخ سيدي محمد بن ناصر ركبا خاصا بهم مستقلا عن الركب الرسمي، وتشير المصادر إلى أن الشيخ سيدي احمد الخليفة ترأس ثلاثة ركاب لأداء فريضة الحج في السنوات 1096و1109و1121 إضافة إلى حجته مع والده سنة 1076/ 1666.
كان الركب الناصري ينطلق من زاوية تمكروت بعد أن تلتحق به وفود الحجاج القادمين من
مختلف نواحي المغرب خاصة من سوس و درعة و تافيلالت وجبال الأطلس و الحوز والشاوية ودكالة و تادلة و جبالة وغيرها، بالإضافة إلى من ينضمون إلى الركب من مختلف المراحل التي يجتازها.
أسهم الشيخ بواسطة هذا الركب في نشر الطريقة الناصرية بمختلف المدن والمنازل الواقعة في الطريق بين تمكروت والحرمين الشريفين، فعمل من جهته على تقويم سلوك أولئك السكان بمحاربته للانحرافات وتدخله للوساطة بينهم في النزاعات، فكان الركب بمثابة مدرسة متنقلة،حيث عقد الحجاج حلقات العلم وعكفوا على التلقين والتلقي في أثناء ظعنهم ونزولهم فتبادلوا الإجازات مع إخوانهم.
وبموازاة مع ازدهار تمكروت العلمي وذيوع صيتها الصوفي في المغرب والمشرق، عرفت بسطة في الرزق وتجاوزت الضيق المادي، حيث أصبحت مؤهلة من تاثيل الثروة بسبب موقعها عند ملتقى الطرق التجارية، وفي هذا السياق ترادفت على أبواب الشيخ سيدي احمد الخليفة الهدايا من كل الجهات فصارت تصل سنويا إلى تمكروت قوافل محملة بالزيت والتمر والصوف والسمن وغير ذلك من مواد....
أما في ملكية الأراضي والمياه فقد أصبحت لها أراضي خصبة مخصصة لرعي المواشي، وهذا ما جعل الشيخ يقدم القروض إلى الناس ويتحف البعض بالهدايا النفيسة، ولقد صدقت شهادة محمد الصلح الشرقاوي حين قال: الدنيا والآخرة ضرتان لا تجتمعان إلا عند كامل مكمل كشيخنا سيدي احمد بن ناصر.
وإذا كانت الطريقة الناصرية على الصعيد الأفقي عمت مختلف أرجاء بلاد المغرب فإنها على الصعيد العمودي شملت كل فئات المجتمع.
فبالنسبة للمخزن، أخذ السلطان المولى إسماعيل الورد الناصري عن سيدي احمد الخليفة بمدينة مكناس سنة 1107/1696 ودعا بطانته وأعوانه إلى الأخذ عنه.
لكن هادم اللذات يعاجل الشيخ سيدي احمد الخليفة في 19 ربيع الأول سنة 1129/1717 بعدما أرسى صرح طائفة قوية يمكن القول أنها أدركت الأوج أثناء مشيخته.
لم يترك الشيخ سيدي احمد الخليفة عقبا لذلك آل أمر الزاوية إلى ابن أخيه سيدي موسى بن محمد الكبير ابن ناصر الذي عمل الشيخ سيدي احمد الخليفة على تهيئته و تأهيله وكفالته، وحرص على إقرائه ودراسته بالزاوية، كما أصحبه في بعض رحلاته إلى الشرق، فأذن له بتلقين الأوراد قيد حياته، فكان بمثابة كاتبه الخاص، وسيدي موسى هو أصغر حفدة الشيخ سيدي محمد بن ناصر، فتولى شؤون الزاوية الناصرية مقتفيا أثر أسلافه في تلقين الأوراد وإطعام الطعام للوافدين على
الزاوية، فكان كثير الرحلة، حيث كان يطوف على البلدان ليتفقد الفروع التابعة لتمكروت، إلا أن بعض المقدمين بسوس استبد بممتلكات الزاوية الأمر الذي جعل الشيخ يرتحل إلى مكانه لاستخلاص العطايا والهبات، إلا انه خرج من عنده مصدوما مما علمه من مصيرها، فقد استأثر بها لنفسه مما أدى إلى وفاته بزاوية الفيض سنة 1142/1730.
مشيخة سيدي عبد الله بن محمد بن ناصر
وهكذا يتسم عهد سيدي موسى ببدئه بالصراع وانتهائه به.
تولى شقيقه الشيخ سيدي عبد الله بن محمد الكبير الذي نشا في تمكروت بين أحضان العلم والتصوف، فاخذ بها عن عدة شيوخ وصحب عمه الشيخ سيدي احمد الخليفة في رحلته إلى الشرق سنة 1699، فاشتهر بعلمه الغزير ولاسيما في القراءات، إذ كان أستاذا عشريا ملما بمختلف الروايات، ولم تمض على مشيخته سوى ثلاثة أشهر حتى تخلى عنها وتوفي بعد ذلك بقليل سنة 1143/ 1731 .
مشيخة سيدي جعفر بن موسى
ولد سيدي جعفر بن موسى بن محمد الكبير بن محمد بن ناصر بتمكروت، و بها نشأ في مناخ يعج بالعلم والتصوف، تذكر المصادر أنه اشتهر بالزهد والوقار والأخلاق الفاضلة والاشتغال
بالعبادة والذكر، لكنها لم تحدثنا عن مبلغه من العلم، زمن ثم يبدو أن التصوف كان هو السمة الغالبة على هذا الشيخ.
ونستجلي ذلك من بعض الأشعار التي قيلت في مدحه على لسان محمد الهاشمي شكلانطو إذ يقول:
من ورث السر المصون = ما نـالـه إلا سـراة الأنـام
إذ هو تريـاق لداء عصرنـا = ومذهب الداء من حليف سقام
رحل سيدي جعفر إلى الشرق لأداء فريضة الحج صحبة عمه سيدي احمد الخليفة أثناء حجته الثالثة، وبعد وفاة عمه عبد الله بن محمد الكبير ولي التصرف في شؤون الزاوية وتصدر لتلقين الورد، فنهض بأعباء ما تحمله مقتفيا في ذلك أثار أسلافه، ومن جملة أعماله ، فهو من جدد مسجد الخلوة بزاوية تمكروت ، ورغم ما يتبادر إلى الذهن من أن ذلك العهد قد طبع بالهدوء والاستقرار في تمكروت بسبب خفوت الضغط المخزني الناجم عما عرفه عهد الفترة من فتن واضطرابات وتفوق الكلمة، فان بعض المصادر تشير إلى أن الشيخ سيدي جعفر قد عانى في تلك المدة من شدة الغلاء وكثرة الفتن...، كان الغلاء بدرعة وما والاها من البلاد أعوام الخمسين..
ولعل هذه الأزمة قد نتجت عن الوباء الذي أصاب كثيرا من سكان المغرب سنة 1147/1734 والقحط الذي عم مختلف البوادي في سنوات 1151و1155ـ1156، فكثر الموتى واستشرى الجوع وانقطعت السبل.
أما من جهة أخرى، فيبدو أن ضغط قبائل ايت عطة على تمكروت قد عرف نوعا من الفتور، لأن هولاء اندفعوا نحو الشمال والشمال الغربي من البلاد، فاكتسحوا السهول مستفيدين من ضعف المخزن الناتج عن تهالك أبناء السلطان المولى إسماعيل عن الحكم، ففي هذه الأثناء كان ايت عطة يوالون عسفهم على سكان الجبل، ولعلى هذه الظروف هي التي أفسحت المجال أمام الطائفة الناصرية للتوسع وكسب المزيد من الإتباع، لذلك حين توفي الشيخ سيدي جعفر بن موسى سنة 1157/1744 كانت تمكروت في طور من التوسع والانتشار.
مشيخة سيدي يوسف بن محمد الكبير
ولد سيدي يوسف بن محمد الكبير بتامسكورت من بلاد زيان عام 1114/1703، ورحل وهو صغير صحبة والده إلى تمكروت ثم رجع إلى تامسكورت حيث مكث حتى وفاة والده سنة1126/1714، الأمر الذي اضطره إلى الانتقال مجددا إلى تمكروت، فكفله عمه الشيخ سيدي احمد الخليفة حتى وفاته، وبعد ذلك تعهد تربيته صنوه الشيخ سيدي موسى الذي زوجه ولقنه الورد في بادئ أمره، كما اخذ عنه العلم وعن بعض شيوخ تمكروت، وعن مبلغه من العلم يقول محمد مخلوف التونسي (وروى الكتب الستة والشفا والواهب وحلية ابن نعيم والترغيب والتهيب وإحياء العلوم وكنز العمال والجامعين والفتوحات المكية...
لم يتولى شؤون الزاوية إلا بعد وفاة ابن أخيه جعفر، فاجتهد في خدمتها والاعتناء بشؤونها، وتنوه المصادر بسلوكه، فيقول ابنه سليمان مثلا: كان لا يخاف في الله لومة لائم، وقافا عند كتاب الله تعالى ، محافظا على الصلوات في أوقاتها جماعة، متبعا للسنة المحمدية، مقتفيا اثر عمه الإمام)
ثم يشيد بما كان يقوم به في سبيل تتبع أحوال طلبة العلم، فيشير إلى انه يزجر من تخلف عن القيام إلى الصلاة، محرضا على الجد والاجتهاد في الطلب، وحين يتفرغ لخدمة الزاوية وأشغالها، يراقب الداخل والخارج لضبط مصالحها، ويختبر المقدمين الواقفين على تلك المصالح، فينبه غافلهم ويحث مجدهم، وكان كثير الحركة لاسيما وقد رزقه الله بسطة في الجسم، إلا انه لم يكن يلقن الورد في بادئ أمره، وإنما كان عمه الشيخ الحسين بن ناصر هو الذي يتولى ذلك نيابة عنه، لأنه لم يكن له الإذن عن طريق أحد الشيوخ الكبار.
ولما سافر إلى شمال المغرب، عرج على فاس فلقي بها الشيخ سيدي محمد بن عبد السلام بناني شارح " لامية الزقاق" وهو احد تلاميذ الشيخ سيدي احمد الخليفة من طريق مباشر، وله الإذن بالتلقين ( فاخذ عنه واستجازه، فأذن له في تلقين الورد)
وفي سنة 1162/1749 ارتحل إلى المشرق لأداء فريضة الحج، اخذ عن بعض العلماء هنالك، ومما يسترعي الاهتمام انه شوهد وهو يلقن ورد الزاوية الناصرية بمكة المكرمة...، يقول الخليفتي عن الشيخ يوسف انه (زاد أصولا بالشراء ووهبها للزاوية) وهذا ما سمح للشيخ بان ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر، فكان كثير العطاء ، ولعل ابلغ من عبر عن هذا الكرم هو العلامة سيدي احمد بن خالد الناصري حين قال(وكان رضي الله عنه شيخا حسن الشيم، أكفه تجري بالإحسان كالديم، كثير الإطعام ، جميل الإكرام)
يتضح مما سبق أن صيت الزاوية الناصرية قد زاد بعد أكثر من أي وقت مضى، وان شهرة الشيخ سيدي يوسف طبقت الآفاق بما أوتي من بسطة في المال والنفوذ الروحي، الأمر الذي أدى إلى الزيادة في انتشار نفوذ الطائفة عن طريق تأسيس زوايا جديدة.
يشير احمد بن خالد الناصري إلى أن الشيخ سيد يوسف خلف عدة اولاد، يقال أن عدد الذكور منهم فقط سوى الإناث خمسة وعشرون كلهم بلغوا مبلغ الرجال، فتفرق جلهم وأسسوا زوايا ناصرية في كثير من جهات المغرب.
وهكذا كان الشيخ سيدي يوسف واسطة عقد الناصريين ومنه انبجست باقي الفروع.
وفي سنة 1171/1557، كان هذا الشيخ من جملة من جاء من أعيان المغرب لمبايعة السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وفي سنة 1180/1767 كان من ضمن وفد السلطان نفسه أثناء حصاره لمدينة البريجة، كما حضر معه بدء تأسيس مدينة الصويرة سنة 1182/1769،وقد أدرك الكتاب الأجانب من خلال هذه العلاقات الصلة التي توثقت عراها بين شيخ الزاوية وبين السلطان ليستنتجوا أنها كانت من بين العوامل التي أسهمت في انتشار نفوذ الناصريين في مختلف أرجاء البلاد.
توفي الشيخ سيدي يوسف سنة1197/1783 في خضم أوج أقوى طائفة صوفية في بلاد المغرب في ذلك العهد، بعد أن دامت مشيخته حوالي 40 سنة (1157ـ1197) رسخت خلالها أقدام الطائفة في مختلف مدن المغرب وبواديه، حتى تلقن وردها سلطان البلاد ورجاله والعلماء والحرفيون ومختلف الشرائح الاجتماعية.
مشيخة سيدي علي بن يوسف
لم يعرف شيء عن حياته قبل ولايته شؤون الزاوية، سوى ولادته التي كانت سنة 1145/1733، والظاهر أن حظه من العلم لم يكن موفورا مثل باقي أسلافه، تولى شؤون الزاوية بعد وفاة والده فمضى على أثر سلفه، سافر إلى مدينة فاس وحل بمدينة مكناس، وهنالك التقى بالسلطان فلقنه الورد الناصري وتلقى عدة ظهائر سلطانية، منها ظهير (يسدل أردية التوقير والاحترام على زوايا الناصريين حيثما كانت وتعينت وعلى أصولها وأملاكها ورباعها، فلا يرسم عليها أدنى وظيف ولا تسام بأقل تكليف، وكذا خدامها ومن انضاف إليها...، من خلال ما سبق نستيقن من أن الناصريين في هذا العهد تبوئوا مكانة مرموقة لدى المخزن.
ورغم الهدوء والاستقرار الذي نعمت به زاوية تمكروت فقد شهد عهده إزالة فرع قوي من فروع الزاوية، وهي زاوية الفضل التي تقع جنوب الزاوية الأم، حيث تعرضت ساكنتها للقتل والسلب والنهب والتهجير وتخريب لممتلكاتها وإتلاف لكتبها وحرق لخزانتها تدمير لمسجدها من طرف قبيلة تدعى "ايت مشكوكض" من قبائل ايت عطة، وأعقب هذا الدمار ريح عاصف طمست كل معالم تلك الزاوية، وبقيت على تلك الحال إلى يومنا هذا، وتفيد الرواية أن ذلك يعد انتقاما لزاوية تمكروت وشيخها، لما أساءوا معه الأدب، وصاروا يتعالون على الزاوية ويدعون تمكروت بالملاح، إلا أن التقارب الوثيق الذي طبع العلاقات بين والطائفة والمخزن كان أحد المؤشرات التي تنبئ بالتراجع الذي اعترى الزاوية بعد ذلك مباشرة.
وقد صادف ذلك العهد بداية التراجع العلمي بصفة خاصة، ذلك التراجع الذي ميز شيوخ هذه المرحلة ومن سيليهم، إذ لم تعد تمكروت تنجب أمثال الشيخ سيدي محمد بن ناصر أو ابنه الشيخ سيدي احمد الخليفة أو العلامة سيدي محمد المكي بن موسى الناصري وغيرهم...
إلا أن الشيخ سيدي علي زاد في توسيع نفوذ الزاوية واحتجاز الممتلكات وتكديس الأموال، واستمر على ذلك الحال حتى وفاته سنة 1235/1819.
مشيخة سيدي أبي بكر بن علي
هو أبو بكر بن يوسف بن محمد الكبير بن محمد بن ناصر ولد سنة 1201/1787، ولي مشيخة تمكروت بعد وفاة والده سيدي علي بن يوسف سنة 1235/1819، أثنى عليه معاصره المؤرخ سيدي احمد بن خالد الناصري فقال: العالم المحدث البركة، كان على سنن آبائه في الخير والصلاح والقيام بوظائف الدين واتباع السنة، وحين تحدث عن عبادته وعلمه أضاف :( وكان معمرا أوقاته بالعبادة من صلاة وأذكار وسرد للحديث النبوي، لا تفارقه دواوينه سفرا وحضرا ويحف به شيوخ العلم وأئمة الدين، لا يخلو مجلسه منهم...
وتأكد الوثائق أن الشيخ سيدي أبي بكر بن علي صار يتردد على القصر السلطاني وانه أصبح يحظى بدعم المخزن أثناء رحلاته عبر مختلف الجهات.
وقد عرف عهده ببداية استفحال الخروج عن الزاوية، كما أن مقدمي الناصريين فقدوا هيبتهم، وتنكر البعض لها واستأثر بمداخيل فروعها.
وقد ظلت العلاقة بين الزاوية والمخزن وثيقة حتى وفاة الشيخ سيدي بوبكر بن على في منتصف جمادى الأولى سنة 1281/1864.
مشيخة سيدي محماد بن بوبكر
كان الشيخ سيدي محماد بن بوبكر ثاني أبناء أبيه الخمسة، ولي شؤون الزاوية بعد وفاة والده، ومن خلال الوثائق، يبدو أن والده كان يستنيبه في بعض المهمات، ولاسيما تفقد أحوال الزوايا ـ الفروع ـ واقتفى نهج أسلافه في تعمير الأوقات بالذكر وسرد الحديث ونحو ذلك، كما عرف عهده بناء ضريح فخم على أنقاض الضريح القديم والذي يعد علامة في المعمار الإسلامي، لما حواه من فسيفساء وزخاريف ونقوش تفنن فيها الصانع الفاسي والمراكشي، إلا أنه لاقى بدوره معارضة شديدة من لدن أقاربه، الأمر الذي جعله يلوذ بالسلطان محمد بن عبد الرحمان ليمنحه ظهير التعيين ، وتفيد المصادر المكتوبة أن هيبة الزاوية قد تضاءلت كثيرا في هذا العهد، حيث عادت قبائل ايت عطة لمهاجمة الدواوير العاجزة عن الدفاع عن نفسها، فجاسوا خلال الديار ونهبوا الأموال واستمر الحال على ذلك المنوال حتى وفاة الشيخ سيدي محماد بن بوبكر مبطونا يوم الأربعاء 18 ربيع الأول سنة 1304/1886 بزاوية أدوار من رأس الواد ببلاد سوس، فنقل جثمانه الى تمكروت حيث دفن رحمه الله تعالى.
مشيخة محمد الحنفي والنزاع عن المشيخة
هو محمد المدعو سيدي الحنفي بن أبي بكر الناصري، ولي مشيخة الزاوية بعد وفاة والده، وقد تدخل السلطان مولاي الحسن الأول " ليشد له العضد" الشيء الذي أكده المؤرخ احمد بن خالد الناصري حين قال: إن محمد الحنفي تولى أمر الزاوية بأمر من السلطان مولاي الحسن الأول...
ويقول الدكتور احمد عمالك أنه عثر على وثيقة تفيد أن الشيخ سيدي احمد بن بوبكر طرد محمد الحنفي واستولى على الزاوية ، في تلك الأثناء فوجئ بمناورة أخيه سيدي عبد الله الذي طمع هو الأخر في مشيخة الزاوية، فتطور الأمر إلى نزاع حقيقي بين الأخوين وابن أخيهما، والظاهر أن احمد بن أبي بكر تغلب على مناوئه، واستولى على الزاوية مدة تناهز السنتين .
يتضح من الوثائق أن الشيخ سيدي الحنفي توجه الى مراكش بعد استيلاء عمه على الزاوية محاولا عقد اتصالات مع رجال المخزن.
وهذا ما نجد صداه في الرواية التي تفيد بأن سيدي احمد وسيدي محمد الحنفي حضرا الحفل الذي أقامه السلطان مولاي الحسن الأول بمناسبة إعذار بعض أنجاله، وزفاف بعضهم الآخر بمدينة مراكش، وعلى إثر شجار بين أنصار الشيخين، قام العاهل باعتقالهم جميعا مدة أسبوعين، فعقد بعد ذلك لقاء بين الشيخين ليحكم فيما شجر بينهما، حيث نزع "العكاز" من يد سيدي احمد وسلمه الى الحنفي، رمزا لتعيينه شيخا للزاوية، ثم منح الشيخ سيدي احمد ظهيرا يخوله التصرف في ثلاث زوايا مشهورة بجهة سوس .
وعلى الرغم من أن التحكيم لم يحسم شأفة النزاع بين الشيخين، فان الشيخ سيدي الحنفي ظل الشيخ الفعلي لزاوية تمكروت، ونال حظوة لدى السلاطين ورجال المخزن، ولاسيما احمد بن موسى الذي اتفق معه على اعتقال عمه .
وأيا ما كان الأمر، فقد بلغت العلاقة بين الشيخ الحنفي والمخزن أوجها في عهد السلطان مولاي عبد العزيز الذي أصدر ظهيرا، تضمن مزيدا من العناية والحظوة به، الشيء الذي جعل مكانته تظل معززة حتى وفاته سنة 1325/1907.
مشيخة سيدي احمد بن بوبكر
ولد الشيخ سيدي احمد بن بوبكر بتمكروت سنة 1272 / 1856، توفي والده الشيخ سيدي بوبكر بن علي وهو في الثامنة من عمره، فقام أخوه الأكبر سيدي محماد بن بوبكر بجعل قيود في رجليه واقسم ألا يطلق سراحه حتى يحفظ القرءان الكريم، وقد تكفل برعايته وتعليمه، إلا انه لم يعهد له بخلافته للزاوية، الشيء الذي أدى إلى نشوب ذلك الصراع بينه وبين ابن أخيه الحنفي.
وبعد وفاة ابن أخيه سيدي الحنفي تولى أمر الزاوية، وقد غلب على طبعه التصوف والهروب من ملذات الدنيا، فكان يكثر من الصيام ويقضي ليله في تلاوة القرءان الكريم، وقد كلف ابنه الأكبر سيدي عبد السلام بالوقوف على متطلبات الزاوية .
وتجدر الإشارة إلى أن صلاته بالسلطان لم تنقطع طوال الفترة التي شغل سيدي الحنفي شيخا للزاوية، حتى توليه لها حيث بقي محافظا عليها وبقيت الرسائل والهدايا تتبادل بينه وبين السلاطين .
إلا أن الأوضاع في هذه الفترة ذهبت إلى منحى خطير، حيث عرف المغرب دخول المستعمر الفرنسي سنة 1912 وفرضت عليه الحماية، وأصبح هذا الأخير يعد العدة للانقضاض على البلاد بكل مكوناتها والاستيلاء على ثرواتها، وشاءت الأقدار أن يقوم أحد كبار قبيلة ايت أونير المتواجدة بمنطقة تافيلالت باغتيال الشيخ سيدي احمد بن بوبكر سنة 1337/1919م.
مشيخة سيدي عبد السلام بن احمد
ولد الشيخ سيدي عبد السلام الناصري سنة 1882م في أسرة متدينة ، تربى في كنف والده، ودرس الفقه والحديث وباقي العلوم الأخرى على يد علماء مرموقين في تلك الآونة، ولكونه اكبر إخوته فقد أدرك الصراع الذي قام بين أبيه وابن عمه الحنفي وقاسى معه الشدائد، فكان قريبا منه، مما اكسبه الخبرة في تدبير شؤون الزاوية والصبر على المحن والتحمل عند وقوع الفتن، تولى أمر الزاوية بعد وفاة والده سيدي احمد، فقام بمهامها أحسن قيام، مسخرا في ذلك كثرة العبيد الذين ورثهم عن أبيه في جمع الهبات والعطايا للزاوية من كل السهول والجبال والمدن والمراسي...، وقد حافظ على نشاط الزاوية ومراسيمها حيث ساهم في نشر العلم والعرفان بإعادة بناء المدرسة العلمية بالزاوية الناصرية على نحو أفضل من السابق.
تتميز مشيخة سيدي عبد السلام بكونها أتت في وقت والبلاد تركن تحت ظل الاستعمار الفرنسي، حيث استطاع أن يوفق بذكائه بين سلطة المخزن وسلطة الاستعمار دون أن يثير الشبهات من حوله، ونجح في ذلك إلى حد جعل كل منهما يكن له احتراما و توقيرا بالغين .
وقد بقيت الزاوية في زمانه محافظة على نفوذها وعلى هيبتها في كل الأوساط ، حيث تدخل شيخها لفض النزاعات بين القبائل من جهة وبين القبائل والمستعمر كما حدث بقصبة ايت بوداود باسكجور، حيث حط الرحال فيلق من جند الاستعمار يرأسه الفسيان " كوتيي" بجانب سور القصبة فتعرض لإطلاق النار من طرف ثوار من دخله، مما أثار غضب الفسيان فأعطى أوامره بالرد عليهم فأصبح أهالي القصبة مهددين من جراء هذا الرد، فتسلل أعيان منهم ولجئوا إلى الشيخ سيدي عبد السلام مستنجدين به، فاستجاب لهم وحضر معهم إلى عين المكان وأوقف هذه المعركة والقي باللوم على "الفسيان" الذي ارتكب خطأ باستقراره جانب سور القصبة، مما يدل على أن له صوتا مسموعا وهيبة عندهم، وقد ظلت الزاوية طول هذه الفترة على الحياد.
ومن الأمور المحمودة التي يستحق عليها الشكر الجزيل والثناء الحفيل هو حفظه لكتب الخزانة الأثرية وإخفاؤها عن الأنظار، خاصة المستعمر الفرنسي الذي حاول بكل ما أوتي من قوة ودهاء ومكر أن يعثر عليها مسخرا في ذلك شتى الوسائل منها إرساله لعلماء ذووا مقام وشهرة أمثال العلامة الأكبر سيدي أبو شعيب الدكالي والعلامة القاضي الحاج محمد الدمناتي وغيرهم ومما زاد هذا الأمر غموضا تواجد كتب مطبوعة بأمر السلطان مولاي عبد الحفيظ ملأت بها طوارم الضريح القبابي، فيقال لمن سأل عن الخزانة أنها اندثرت بسبب الفتن القائمة بين أبناء الشيخ في العصور الأولى.
والحقيقة أن ستة آلاف مجلد مخطوطة أقدمها يبلغ اثني عشر قرنا وأقلها خمسمائة سنة.
قام سيدي عبد السلام ببناء مسجد الزاوية الناصرية بباب تاغزوت بمراكش، وبنى دار كبيرة داخل الزاوية و"دار لبني" بجنبها واتخذها مسكنا له ولأزواجه، وبنى مسجدا بمدينة أكادير تهدم من جراء الزلزال الذي تعرضت له لاحقا هذه المدينة، بنى مسجد بانزكان ومسجدا بادوار وأصلح مسجدا بتطوان وتوفي سنة 1950م مخلفا أكثر من ثلاثين ابنا بين الذكور والإناث،.
مشيخة سيدي احمد الذهبي
ولد سيدي احمد الذهبي سنة 1922 بتمكروت، ترعرع بها وتلقى تعليمه مع إخوته الكبار بها ونقل معهم إلى مدينة الرباط لإكمال دراستهم بإعدادية مولاي يوسف، لنصيحة بل هي حكمة أسداها
الشيخ العلامة الفقيه سيدي أبو شعيب الدكالي إلى أبيهم وكأنه يستقرأ المستقبل وما يحمله، قائلا : "احمل أبناءك ليتعلموا علم زمانهم الذي سوف يعيشونه، فعلم زماننا لن يجدي في زمانهم" فاستجاب له سيدي عبد السلام، إلا أن سيدي الذهبي لم يبلغ مبلغا مرموقا من العلم، تولى مشيخة الزاوية بعد ترضية من طرف إخوته، كما أن والده لم يستخلفه في حياته ، نظرا لرغبته في تولي أمورها ، ولعدم توفره على قدر وافر من التجربة والرزانة فقد أخطأ أكثر مما أصاب، ، حيث ارتكب زلة في حق إخوته بعد نكره لهم في ميراث أبيهم، مما أوقد فتيل النزاع على مشيخة الزاوية من جديد، فلجأ نفر منهم إلى باشا مدينة مراكش التهامي الكلاوي، الذي لقوا منه دعما قويا لقضيتهم، ورد الحقوق إلى أصحابها، مع العلم أن جل إخوته لم يتعد سن العاشرة بعد.
تجدر الإشارة إلى أن مرحلته عرفت صراعا على الزاوية افتعله عبيدها فانقسموا إلى فرقتين، فرقة تنادي بأحمد الذهبي كشيخ للزاوية وفرقة تنادي بالمصطفى شيخا لها كذلك، مما أدى إلى مشادات ومصادمات بين العبيد أسفرت عن جروح وإصابات بين صفوفهم، إلا أن قضية نفي الملك محمد الخامس كان لها الأثر البالغ في عزل سيدي احمد الذهبي عن منصبه ولزومه داره حتى وفاته سنة 1998 م بمراكش، ولم يخلف عقبا.
مشيخة سيدي المصطفى:
ولد سيدي المصطفى سنة 1922م بتمكروت وتلقى تعليمه الأولي بها، وكإخوته الكبار كما سلف الذكر انه تابع دراسته بإعدادية مولاي يوسف بالرباط ، رجع بعدها إلى تمكروت ليكون سندا وعونا لأبيه على مصالح الزاوية، حيث كان بمثابة ترجمان لوالده نظرا لإتقانه اللغة الفرنسية، تولى
أمور الزاوية بعد عزل أخيه احمد الذهبي سنة 1953م ، عرفت الزاوية في مرحلته فتورا في نشاطاتها وذلك راجع ربما إلى مرحلة المخاض الذي تعيشه البلاد، حيث امتدت يد المحتل إلى جلالة الملك محمد الخامس ونفته خارج البلاد، ونتج عن ذلك ثورة اهتزت لها البلاد بكل مكوناتها و ارتفعت روح المقاومة عند الناس، ومع اقتراب الفرج ببزوغ شمس الحرية وأفول عهد الاستعمار، عاد الملك محمد الخامس من منفاه إلى ارض الوطن الذي أصبح ينعم بالاستقلال وتوالت وفود التهاني والتبريكات على القصر الملكي بهذه المناسبة الغالية، و كان من بين هذه الوفود وفد الشرفاء الناصريين، الذي حظي باستقبال خاص من لدن جلالة الملك، لكنه فاجأهم بإعفاء سيدي المصطفى من مشيخة الزاوية، وذلك لعلمه المسبق بحيازته ظهير بن عرفة، واقترح على الوفد اختيار شيخ يرضونه لأداء هذه المهمة، وبعد تقديم لائحة من رشحوهم لهذا المنصب، اهتدوا إلى اختيار سيدي بناصر وبذلك يصبح شيخا للزاوية بعد أخيه سيدي المصطفى، فباركه الملك ورحب بهذا الاختيار.
مشيخة سيدي بناصر الأولى:
ولد سيدي بناصر بن الحاج عبد السلام بتمكروت سنة 1916 م في وسط متدين ، تلقى تعليمه الأولي بالكتاب، ثم دخل المدرسة بالزاوية الناصرية، وانتقل بعدها مع إخوته إلى إعدادية مولاي يوسف بالرباط ليكمل تعليمه هناك، إلا أنه توقف عن الدراسة ليعود بعد ذلك إلى تمكروت ليكون عونا وسندا لأبيه على مشاغل الزاوية، ونظرا لشراسة طباعه وقوة شخصيته فكان قريبا من أوصاف أبيه، يقف له الند بالند، يعارضه ويناقشه في شتى الأمور، مما لا يجرأ أحد من إخوته على القيام بذلك، ما يؤدي بتصرفه في بعض الأحيان إلى هجره وفراقه، فكان يصعب على أبيه بعده عنه، فيسأل عنه ويسعى في استرجاعه و إرضائه.
جاب سيدي بناصر كل الأغوار والمناطق والتقى بشخصيات بارزة من كل الطبقات، مما أكسبه خبرة وحنكة واطلاعا على المحيط بايجابياته وسلبياته، فكان مدمنا على قراءة الكتب، لا يمل ولا يكل، حتى إن أبوه ينتزع من يديه الكتاب مخافة أن يضر ذلك ببصره، إلا انه كان ملحاحا مصرا على تحصيل العلم والمعرفة بهذه الوسيلة، حيث كان يتمتع بذاكرة قوية وسرعة بديهة.
تولى مشيخة الزاوية بعد أخيه سيدي المصطفى الذي تم إعفاؤه كما سلف الذكر، واختياره من طرف إخوته وبني عمومته ومباركة الملك محمد الخامس، فقد رأوا فيه الشروط الواجب أن تتوفر في شيخ الزاوية لعلمه وخبرته وقدرته على النهوض بهذه المهمة.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المرحلة عرفت تحولا مهما يتمثل في حصول البلد على
الاستقلال، وعودة العلاقة بين شيخ الزاوية والسلطان إلى سابق عهدها، متوجة بالثقة والولاء والوفاء، فجسدت هذه الروابط الزيارة المولوية الشريفة التي قام بها جلالة الملك سيدي محمد الخامس للزاوية الناصرية بتمكروت سنة 1958 م، حيث أطلعه شيخها سيدي بناصر على النظام الذي نهجته في تسيير شؤون مدرستها، وقد أبدى جلالته إعجابا وتقديرا لهذه الجهود وتقسيم الأطوار الدراسية والمواد العلمية التي يتناولها كل قسم، كما أشاد بالرعاية التي يوليها شيخ الزاوية للطلبة والوافدين والزوار، ووقف على المرافق التي تم تجديدها وإصلاحها.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الزيارة لم تأت سدى وإنما كان لها دافع آخر، يتجلى في كون العديد من أبناء العائلة الناصرية يشيعون أن مداخيل الزاوية صارت تتعدى مئات الملايين، وقد وصل هذه الشائعات إلى أسماع الملك مما أثار فضوله فأراد التأكد من صحة هذه الأخبار، فكانت زيارته للزاوية والتي أعقبها صدور ظهيره والذي ينص على حيازة أملاك الزاوية بكل أنحاء المغرب وضمها إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية كي تتولى تدبير شؤونها مقابل وقوف هذه الوزارة على حاجيات وضروريات الزاوية والإشراف على كل المؤسسات التابعة لها، من أجور
الموظفين إلى إصلاح وترميم كل ما تضرر منها، وتزويدها بالماء والكهرباء ...
أود في هي الصدد أن أقف على خلاف ظل محط جدل بين أفراد العائلة الناصرية لعقود، وهو مسألة حيازة أملاك الزاوية من طرف المخزن، فالبعض يلقي باللائمة على شيخها آنذاك سيدي بناصر ويتهمه أنه هو من سلمها إلى المخزن، ولكن بعد تدقيقنا وتمحيصنا في هذا الموضوع، تبين أن حقيقة رسوم هذه الأملاك احتفظت بها السلطة الفرنسية إبان الصراع الذي قام بين أبناء سيدي عبد السلام و أخيهم سيدي احمد الذهبي بعد توليته للزاوية آنذاك، وبقيت حتى عهد الاستقلال لتنقل بعد ذلك إلى وزارة الداخلية التي سلمتها بدورها إلى وزارة الأوقاف بعد صدور الظهير الشريف، وذلك بعد فرز رسوم الأملاك التي ورثها أو اشتراها سيدي عبد السلام، فهي لا تعد من أحباس الزاوية، والظاهر أن نقباء الزاوية الذين تولوا بعد سيدي احمد الذهبي يتصرفون في هذه الأملاك دون توفرهم على هذه رسوم هذه الأملاك، وهذا ما يبرأ ساحة سيدي بناصر منها.
والحقيقة أن هذه الأملاك لو افترضنا أنها بقيت بحوزة الزاوية، لكانت سببا في نشوب صراع دائم، الله وحده العالم متى ستخمد فتنته، ولكن الله سلم، مصداق لقوله تعالى ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) صدق الله العظيم.
تخلى سيدي بناصر عن مشيخة الزاوية سنة 1959م بعد ولاية دامت قرابة خمس سنوات، لتغلق الزاوية مدة سنة في سابقة لم تشهدها الزاوية منذ تأسيسها، وعاد إلى مراكش ليستقر هناك.
مشيخة سيدي علي بن يوسف:
ولد سيدي علي بن يوسف بن احمد بن بوبكر سنة 1924 م بتمكروت، درس بالكتاب ثم بالمدرسة الناصرية، إلا أنه لم يعرف عنه أنه بلغ مبلغا بارزا من العلم، مما سيؤثر سلبا بعد ذلك على توليته للزاوية.
تولى مشيخة الزاوية الناصرية سنة 1960م، بعد رحيل ابن عمه سيدي بناصر عنها إلى مدينة مراكش، إلا أن عدم توفر فيه الشروط الضرورية للقيام بهذا الأمر على الوجه الأمثل، فقد ساء للزاوية أكثر مما أحسن إليها، حيث سلم الأمور إلى غير أهلها ، فترك الحبل على الغارب، ومع انعدام العلم والكرم، وتيه القرطاس عن القلم، ساءت السمعة، وعاصت لها الدمعة، فانفلت العقد، وضاع الجهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومرت سبعة عشر سنة والزاوية على هذه الحال حتى أصبحت تلقب بزاوية اللوز، فقد صار الوافدون عليها لا يقدم لهم سوى صحينا من اللوز وإبريقا من الشاي، فلا الأرواح تغذت ولا النفوس شبعت وتبقى إرادة الله فوق كل شيء.
توفي سيدي علي سنة 1982م بمدينة الجديدة ودفن بها، عفا الله عنه.
مشيخة سيدي بناصر الثانية:
تولى الشيخ سيدي بناصر مشيخة الزاوية للمرة الثانية سنة 1974م بعد تخلي ابن عمه سيدي علي عنها، وحيث أن صيت الزاوية أصبح خافتا، ومجدها صار في الحضيض، فقد تحتم على شيخها الجديد أن يسعى في استرداد ما ضاع، والعمل على تحسين الأوضاع، فبادر بإكرام الوافدين، وتلقين المريدين، وإطعام المساكين، وهو ماض في هذا السبيل، باذلا غاية الجهد في الإصلاح، مسخرا في ذلك أدوات النجاح، حتى ما فتأت الزاوية تسترد عافيتها، وتستشف الوجد من عيون محبيها، حتى ذاع الصيت، وعمر البيت، (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله و المومنون) صدق الله العظيم.
اشتهر الشيخ سيدي بناصر بغزارة علمه، وسعة اطلاعه، وتضلعه في علم التاريخ ، حيث وجد فيه ضالته، فصار ذا رأي سديد، ونظر رشيد، عنده تتفرق الآراء والعقول، وتلقى المصاعب لديها الحلول ، فصار مثلا يحتدى به، فذاع صيته وحصل له القبول، ما حدث من حديث إلا أمتع، وما أجاب في أمر إلا أقنع، مما أثار حفيظة بعض العلماء لسماعهم بعلمه وسمعته، وهما العالمين الجليلين السيدين الفاروق الرحالي ولحسن الحنش، فدفعهم ذلك إلى التأكد من صحة هذه الأخبار، فحضروا إلى تمكروت، فاستقبلهم فجس كل منهما نبض الآخر، فساح بهم الحديث في أعماق المؤلفات، وغاصوا به في متون المصنفات، فكأني به بحر تتلاطم أمواجه، ومصباح يتلألأ سراجه،
فأفحمهم بحجته، وأدركوا قدر مشيخته، فتشرفوا بمنحه إجازة لكل واحد منهما ، بعد اقتناعهما بمؤهلاته العلمية.
ومن هنا يتبين أن الزاوية الناصرية صارت شهرتها تكتسح السهول والجبال، والمدن والقرى، فتزايد عدد زوارها، وهب المحبون للتبرك من أقطابها، حيث وجدوا في موسم الزاوية الناصرية السنوي الذي يقام في عاشر محرم ضالتهم وغذاءهم الروحي، مشفوعا كل ذلك بتلاوة القرآن والأذكار وختم صحيح البخاري، فصار لهذا الموسم صيت وسمعة تجاوزت الآفاق، وتعدت الحدود والأنفاق، فزاد استقطابه للمحبين في الله، وعن إطعام الطعام فحدث عن البحر ولا حرج، وعن الراحة وسعة الخاطر فطب نفسا وابتهج.
يجب أن نشير أنه من الوسائل التي أضفت زخما إلى الزاوية وتكاثر الوافدين عليها، سهولة التنقل التي عرفها العصر الحديث من تعبيد للطرقات، وتوفر وسائل النقل وتطورها، الشيء الذي ساهم بشكل كبير في تزايد إقبال الزوار على زيارتها في سابقة لم تشهدها الزاوية منذ تأسيسها، إضافة إلى سمعتها الطيبة التي لاح صداها في الأفق مدويا.
لقد كانت وفادة الشيخ بناصر على الحضرة المولوية استجابة للرغبة الملكية وترحيب صاحب الجلالة سيدنا محمد السادس نصره الله بسيادته في القصر العامر الخاص بجلالته دام له النصر و التأييد والتمكين والسعد والإقبال في كل وقت وحين، يشكلان عنصرا هاما تحظى بطلعته الزاوية الناصرية في تجديد أواصر الأخوة المتواصلة والمودة المتبادلة بينها وبين الأسرة الملكية عبر العصور وتعاقب الأجيال، من عهد الشيخ سيدي احمد بناصر الخليفة والسلطان المولى إسماعيل رضي الله عنهما، إيذانا باستمرار شرفها الأثيل ومجدها الأصيل وعبقريتها المتوافرة ومكرمتها المتواترة، ومصداقا لقوله تعالى في سورة مريم( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا) قال المفسرون معناه يحبهم ويحببهم إلى خلقه، ولله ذر ابن أخته سيدي القرشي بن محمد بن الحسن الناصري الأغلاني الذي مدح خاله الشيخ بناصر قائلا:
أخليفة الشيخ الإمام بن ناصر = ووارث سره بو علـم شريعة
مطابقة الاسم المسمى كنايـة = كنعت لمنعوت بباء مـن خمسة
سموتم بأخلاق وسدتم فأضحيتم = سـراجا منيرا قائـدا للزاويـة
تمكروت كهف الفضيلة والعلم = والأسرار والقرى وركن الولاية
تشرفتم بالندى الملـكي الحـر = وترحيب مولانـا بقصر الضيافة
يدوم له عـز كأسلافـه الغـر = أحفـاد النبي الخاتـم للنـبوءة
عليه وءاله وصحب و عتـرة = صلاة وتسليـم ختـام رسالتـي
وفي هذا المضمار لايسعنا إلا نقطف وردا من حديقته، ونسوق بعض إجاباته وخواطره فنقول:
ـ في جوابه عن أسئلة بعث بها ابن عمه سيدي سليمان بن بوبكر الناصري يسأله عن التصوف أجاب قائلا: ( أما عن التصوف ، فالتصوف لا يعرفه إلا من انسلخ عن بشريته انسلاخا تاما، وكل العقلاء يحبونه محبة الأحياء لشعاع الشمس، لكنها بعيدة المنال ولا سبيل لنيلها إلا بالرياضة الروحية، وهيهات لان دونها خرط القتاد، وأول جرس طرقته في ذلك الميدان هو كتاب رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، وكتب التصوف بحر لا ساحل له ولا قعر والروح التي هي من أمر الله هي التي تستطيع الجولان بتلكم الأجواء، والله الموفق للصواب.
وفي جوابه عن سؤال عن ذكريات دراسته، أجاب قائلا:
لم يبق بالذاكرة شيء عنها كأني كنت نائما في سبات الشباب، فلما أفقت وجدت نفسي غريقا بين اولاد وبنات. ويدل هذا على الدعابة التي كان يتمتع بها في حديثه وكتابته.
وفي جوابه عن كيفية الدراسة بتمكروت، أجاز قائلا: فهي التماشي مع عبارة المصنف بالمتن الذي يدرس و الإبتعاد كل الإبتعاد عن كثرة النقول في الطور الابتدائي، والتوسط في الطور المتوسط، والتطويل في الطور العالي، وإحضار الحواشي والتعاليق.
مشيخة النقيب رضوان الناصري :
و قد تولى السيد رضوان بن بناصر الناصري مشيخة الزاوية الناصرية التمكَروتية عقبة وفاة والده المغفور له سيدي بناصر الناصري تغمده الله بواسع رحماته يومه ,,,,,, أبريل 2010 الموافق ليومه ..... ربيع الثاني 1431 هـ ، و قد نصبه جلالة الملك محمد السادس سدد الله خطاه و أيده بنصره على من عاداه .
و يسعى سيدي رضوان الناصري إلى إعادة بعث و لو الجزء البسيط من الجانب العلمي للزاوية الناصرية ، إذ توجه إلى إعادة كتابة مجموعة من المخطوطات الخاصة بالزاوية الناصرية و طباعتها طباعة رقمية ليسهل على القراء و الباحثين عن المعلومات حول الزاوية الناصرية التعامل مع هذه الكتب و تكون المعلومة أقرب إليهم ، و ذلك نظرا لعسر قراءة هذه المخطوطات التي قد أثر على خطها الزمن ، و على رأسها كتاب الأنساب كتاب " طلعة المشتري في النسب الجعفري " لصاحبه العلامة الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري ، و الذي يعنى بالسلالة الناصرية الجعفرية الزينبية و يدافع عن انتماء الناصريين إلى آل البيت الكرام و انتسابهم إلى ابن عمومة رسول الله صلى الله عليه و سلم جعفر الطيار شهيد مؤتة من حمل لواء الإسلام و حماه حتى تغمده الله و أكرمه بنيل الشهادة ، و يفند كل قول ينفي ذلك ، كما يسعى إلى إعادة تقديم كل من الأجوبة الناصرية و الرحلة الناصرية و الدرر المرصعة و مخطوطات أخرى في طبعة رقمية .
و في سياق التماشي مع العصر أشرف على عملية إنشاء مواقع إلكترونية خاصة بكل من الزاوية الناصرية و الخزانة الناصرية و ذلك من أجل تقريب المسافة بين الزاوية الناصرية و محبيها في كافة اقطار المملكة و خارجها ، و كذا تشجيعهم على زيارتها .
كما ساهم ماديا و معنويا في إصدار مجموعة من الكتيبات الخاصة بالأوراد الناصرية ، إضافة إلى مجموعة من المقالات و المطويات التي جعلت من تلكم الشخصيات التي مرت من الزاوية الناصرية بتمكَروت موضوعا لها ,
خلاصة: الحقيقة التي لا غبار عليها، أن الزاوية الناصرية وعلى طول هذه القرون التي عاشتها لم تكن إلا كما أراد لها المولى عز وجل أن تكون، وهو المدبر الحكيم، هيأ لها الزمان والمكان، والمناخ والإنسان، فأضحت بفضل جهود أبنائها وفيض علمهم وورعهم وعلو همتهم، السراج المنير في ظلمات الجهل، تضيء الأرجاء، وتطهر الأجواء من كل أدران الخمول والتقاعس، والكبر والترؤس، فحق لها أن تكون دار علم وعمل وعادة وعبادة، فمن مجد إلى مجد، وعلى مر الأجيال، وتفاقم الأهوال، تبقى سيدة المجال، الديني والروحي شامخة شموخ الجبال، عائدة عودة الأبطال، رغم كيد الكائدين وحسد الحاسدين، فعلى بركة الله تسير وبمشيئته تنير، وصدق القائل : ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، فهي والله كذلك.
انتهى بعون الله وحسن توفيقه
تقـــديــــــــم:
نود أن نؤكد أن الزاوية الناصرية تعد من أكبر الزوايا التي عرفها تاريخ المغرب الحديث وقد صادف تأسيسها بدء أفول نجم الدولة الزيدانية وبزوغ فجر الدولة العلوية المجيدة، ومن ثم قدر لها أن تنخرط في السياق الجديد لبناء المغرب الحديث على جميع الصعد ولاسيما الاجتماعية والثقافية والعلمية.
استطاع شيوخ الزاوية الناصرية أن يعيدوا التوازن إلى حياة الناس حين تبنوا حركة إصلاحية دعامتها الدفاع عن السنة ومحاربة البدع والانحرافات العقدية والسلوكية، ولم يكن من قبيل الخصوصية أن تنتشر فروع الزاوية الناصرية في كل جهات البلاد حتى أصبحت أم الزوايا، بل المستغرب أن تتحول طريقتها إلى وشيجة قوية عملت على وصل مختلف جهات العالم الإسلامي لما نجح شيوخها في تنظيم ركب للحاج خاص بهم ومن ثم أضحى تلاميذ الناصريين ومقدموهم عناصر أسهمت في تبادل العلوم والأسانيد وانتقلت إلى المغرب عبرهم مفاهيم وكتب وعادات وتقاليد...
في ظل تلك الأوضاع المضطربة تراجعت كذلك الحياة العلمية بشكل ملموس ولاسيما في المدن الكبرى فخلت المدارس والمجالس وضعفت الهمم..
مرحلـــة التأسيــس
ـ تمكروت لفظة امازيغية مشتقة من "امكاورو" أي الأخير مقابل امزاورو أي الأول أو الرئيس وتتواجد قرب تكمدارت مهد السعديين تأسست على يد الشيخ أبي حفص عمرو بن احمد الأنصاري سنة 983/ 1675 م، وهو حفيد الشيخ سيدي ابراهيم بن احمد الأنصاري الخزرجي الذي اشتهر في المنطقة بسيدي الحاج ابراهيم بعد أن قدم من الشرق واستوطن درعة في غضون القرن الثامن الهجري، وإليه يعزى تأسيس زاوية سيد الناس، ولما توفي توارث بنوه زاويته من بعده، لكن زاوية سيد الناس لم تطر شهرتها إلا في النصف الأول من القرن العاشر (16م) بعد ما رجع إليها الشيخ أبو القاسم بن عمر التفنوتي المتوفى سنة 953/1546 م، إلا أن نجم هذه الزاوية سرعان ما
أفل حين أسس سيدي عمر بن احمد الأنصاري تمكروت، وقد نوه العلامة سيدي محمد المكي الناصري به قائلا: (عمرو بن احمد الأنصاري النجار الدرعي النشأة والدار أبو حفص الوالي الصالح الزاهد الناسك) أخذ عن الشيخ سيدي احمد بن علي وعن أبي القاسم الغازي وتصدر لتلقين الأوراد الشاذلية حتى وافته المنية سنة 1010/1602، وخلفه أبناؤه وحفدته طوال ثلاثين سنة حتى آل أمرها إلى الشيخ سيدي عبد الله بن احساين القباب، الذي انتقل إليها بدوره من زاوية سيد الناس وقد ظلت تمكروت في بادئ أمرها مقتصرة على التصوف حتى ترأسها الشيخ سيدي عبد الله بن احساين الرقي نسبة إلى الرقة بلدة عراقية تقع على شاطئ الفرات والملقب بالقباب من أسماء الأسد، استقر به المقام بتمكروت وقصده القاصي والداني وأرسى دعائم طريقته الصوفية التي دعيت حينئذ الطريقة الغازية نسبة إلى شيخه سيدي أبي القاسم الغازي السجلماسي، فسلك طريق الصرامة مع مريديه لينسجوا على منواله الموصل إلى الله، فأصبح الزعيم الروحي لبلدة تمكروت ، فكان نهاره صائم وليله قائم، يأكل من كد يده، عاش هذا الشيخ متجردا ولم يتزوج قط، فسلك سبيل الرياضة الصوفية الصارمة في بادئ أمره حتى اشتهر عنه انه (يمكث سبعة أشهر لم يذق طعاما إلا الحشيش وقليلا من التمر) وحين يتحدث المصدر عن طعامه يقول(وكان قوت يومه لا يتعدى عشرة ثمرات وقدر ثلاث لقم من الطعام وجرعة من الحساء ولا يفطر يوم الجمعة) ويضيف احمد بن خالد الناصري في السياق نفسه( فاشتهر أمره وعرفت ولايته وخصوصيته) ومن ثم اضطلع بمسؤولية الدعوة إلى الله.
انبنت هذه الطريقة على الذكر الذي وضعه الشيخ سيدي عبد الله بن احساين لتحقيق دوام الاتصال بالله تعالى واطمئنان قلب الذاكرـ لان الاطمئنان هو اكبر ثمرات الذكرـ وارتكز ذلك الذكر على ورد وظفه الشيخ على مريديه ومداره على (لا اله إلا الله) بصفة خاصة، فصنف مريديه حسب قدر الورد الموظف عليهم، فكان ورد المتجردين سبعين ألفا (لا اله إلا الله) والمتوسط في السبب اثني عشر ألفا والمتوغل سبعة آلاف والطالب ألف والمرأة كذلك.
كان من قدر الله أن وفد على تمكروت العالم الشاب محمد بن ناصر قادما إليها من أغلان الواقعة شمالا على بعد أربعين كلومتر باحثا بدوره عن شيخ للتربية بعدما حصل على نصيب غير
يسير من العلم ، كان ذلك سنة 1040/1631 حينما كان الشيخان سيدي عبد الله بن احساين القباب والشيخ سيدي احمد بن إبراهيم يعملان جنبا إلى جنب للنهوض بالزاوية، وفي الوقت الذي تلقن فيه الورد عن الأول، ندباه معا إلى الإقامة في تمكروت لبث العلم وتعليم طلبة الزاوية ومريديها، ورغم اعتذار سيدي محمد بن ناصر بأسباب مختلفة لم يكن يسعه إلا أن اقتنع أمام إلحاح الشيخين بقبول ذلك الطلب، فتصدر لتدريس العلم بالزاوية كما ترتب للإمامة والخطابة بمسجدها ،
وبذلك أعطى زحما جديدا للزاوية فطارت شهرتها في الآفاق، إلى أن توفي الشيخ سيدي عبد الله بن احساين يوم الجمعة 12 جمادى الثانية سنة 1045/ 1636.
مشيخة سيدي احمد بن إبراهيم
هو الشيخ سيدي احمد بن إبراهيم الأنصاري، نسبة إلى الأنصار من عرب يثرب، وينتمي حسب مترجميه، إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة الخزرجي، ومعلوم أن سلالة الأنصار قد وفدت إلى الغرب الإسلامي في فترات مختلفة من التاريخ .
ولد هذا الشيخ سنة 1001/1593بتمكروت من والدين صوفيين زاهدين، فأمه ميمونة بنت عمرو الأنصارية التي تذكر المصادر أنها كانت من العابدات ، تلبس خشن الثياب..وما قعدت على حصير إلا قلبتها.. وجلست على الخشن المشوك حتى قورنت برابعة العدوية...
ونظرا لزهدها فقد تولت حيازة أحباس الزاوية في عهد ابنها وتدبير توزيعها على مستحقيها من طلبة العلم وأبناء السبيل والزوار، أما أبوه إبراهيم بن عبد الله الأنصاري فقد عرف هو الآخر بالصلاح فلذلك فلا غور أن يسير على نهج أسلافه، وتكرر عن أصحاب التراجم أنه أخذ الورد عن الشيخ سيدي عبد الله بن احساين القباب، فكان لسانه في تلقين الأوراد وتربية المريدين ووعظ الفقراء مما يدل على المكانة التي تبوأها عند شيخه، وكيف لا وهو الذي وقف نفسه على شيخه حتى أنه لم يتزوج لكي لا تشغله الزوجة عن القيام بخدمته، ومن ثم لم يكن من الغريب أن يولي أمر الزاوية بعد وفاة شيخه، فسلك مسلكه في العبادة ، حيث اجتهد فيها غاية الجهد،فلم يكن ينام من الليل إلا القليل، وكان يصوم يوما ويفطر يوما كما أمره شيخه، ومن زهده أنه اقتصر في الطعام على خمسة عشرة ثمرة ونحو أربع لقم من الطعام بالإضافة إلى حساء العدس.
ومن زهده كذلك انه لم يقبل هدايا الولاة والعمال ولا ممن يتعاطى الشبهات، بنى المسجد الجامع بتمكروت وضريحا على قبر شيخه سيدي عبد الله بن احساين القباب، مما يفضي إلى الظن أن تمكروت في هذا العهد شهدت بعض اليسر فصارت تملك الاحباس كما أن شيخها أصبح يقوم بالتحكيم بين المتنازعين ويتوسط في الخصومات وصارت له وجاهة في المنطقة، ولعل ذلك ما أثار حفيظة أحد أعيان القصور المجاورة لتمكروت، شيخ قصر أكني المدعو يحيى بن عمرو الذي أقدم على اغتياله في ضحى يوم الجمعة حادي عشر جمادى الأولى عام 1052/1642، ودفن إلى جانب أمه السيدة ميمونة رحمه الله ونفعنا ببركات آمين، ليتولى بعده أمر الزاوية سيدي محمد بن ناصر.
مشيخة الشيخ سيدي محمد بن ناصر
ولد الشيخ سيدي محمد بن ناصر سنة 1011/1602 بقصر أغلان الواقع بخمس ترناتة من وادي درعة، ونشا في بيئة متصوفة واشتهرت أسرته بالصلاح ، تتلمذ على والده بزاويتهم باغلان
وانتقل إلى تسركات حيث أخذ عن الشيخ سيدي علي بن يوسف الدرعي الذي كان متضلعا في جملة من العلوم العقلية والنقلية وتتفق المصادر على أن جل استفادته كانت على يد الشيخ المذكور، حيث أخذ عنه العربية واللسان ثم الفقه ولازمه مدة طويلة إلى أن نال منه مراده ، كما أخذ عن محمد بن يدر التسركاتي وعن محمد بن سعيد المرغثي، وبعدما أنهى مرحلة الطلب وحصل ما حصل من العلم رجع إلى أغلان حيث اشتغل برعاية أصول والده وتزوج أولى زوجاته السيد مريم تاحنينت وهو في سن الخامسة والعشرين قبل أن ينتقل إلى دادس قصد " المشارطة " ، وبعد مدة رجع إلى بلدته أغلان حيث صار إماما وخطيبا بمسجدها الجامع وتصدر لتدريس العلم بزاوية أبيه وعرف بالعلم والتقوى الشيء الذي عظم قدره في أعين الناس.
وكعادة كثير من أهل ذلك الزمان تاقت نفس سيدي محمد بن ناصر إلى الدخول في طريق القوم، فانطلق باحثا عن شيخ للتربية إلى أن أخبره صهره محمد بن عبد القادر الحربلي بوجود رجلين صالحين تابعين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك سبب قدومه إلى تمكروت، حيث لقي في البداية الشيخ سيدي احمد بن إبراهيم الأنصاري الذي توسط له في تلقين الورد عن الشيخ سيدي عبد الله بن احساين القباب وكان سنه يومئذ 27 سنة، وقد أبدى المريد الجديد إعجابه بشيخيه وبما هما عليه من الأحوال، ولما اجتمعا به لمسا فيه سيمات العلم فرغبا في استقطابه، فندباه معا إلى الإقامة في تمكروت لبث العلم ونشره بين مريدي الزاوية وطلبتها، إلا انه تذرع برغبة والده في الإقامة معه.
أمام إلحاح الشيخين استجاب سيدي محمد بن ناصر لرغبتهما فانتقل صحبة والديه إلى تمكروت عام 1040/1631 فترتب للإمامة والخطابة بمسجدها الجامع وبذلك صارت تمكروت زاوية صوفية ومدرسة علمية في آن واحد فكما كانت وفود طالبي التربية والتلقين ترد إليها أصبح طلبة العلم يفدون إليها من كل حدب وصوب، وظل على تلك الحال طوال 12 سنة أي حتى سنة 1052/1642 حيث توفي الشيخ سيدي احمد بن إبراهيم الأنصاري فآل أمر زاوية تمكروت إليه (بوصية منه إليه وبتوكيل إياه على زاويته وعلى جميع أمورها) فتزوج أرملة الشيخ سيدي احمد بن إبراهيم بعد صدود دام سنة ورفض من أخيها وعشيرتها الأنصار، وما كان مراد الشيخ بتزوجه إياها إلا للقيام بأمر الزاوية والوقوف على مصالحها ، وبناء على هذا التقارب الذي بنيت جسوره بإحكام تولى الشيخ سيدي محمد بن ناصر مشيخة تمكروت التي أصبحت تدعى منذئذ الزاوية الناصرية، فظل نعت الناصرية رديفا لتمكروت ولا يزال إلى يومنا هذا.
اكتمل تكوينه العلمي والروحي وبلغ الأشد إذ تجاوز الأربعين فذاع صيت الزاوية حتى قال احدهم ( لولا ثلاثة لانقطع العلم بالمغرب في القرن الحادي عشر لكثرة الفتن التي ظهرت فيه وهم:
سيدي محمد بن ناصر في درعة وسيدي محمد بن أبي بكر في الدلاء وسيدي عبد القادر في فاس.
إضافة إلى أنه يتدخل لفض النزاعات ويحد من العنف عن طريق الوساطة التحكيم بين العناصر المتنازعة خاصة وان السلطة في تلك الفترة ضعيفة ، فاقبل عليه الناس أفواجا من اجل التلقين حيث صار للزاوية ورد معلوم يقوم الشيخ بتلقينه مباشرة أو عن طريق المراسلة، وبما انه جمع بين العلم والتصوف، فقد شدت إليه الرحال من مختلف الآفاق وتحولت تمكروت إلى قبلة قصدها الطلبة والعلماء بل إن شهادات المعاصرين العلماء المشهورين أمثال أبي سالم العياشي وعبد المالك التاجموعتي والحسن اليوسي وغيرهم وبذلك اضطلعت تمكروت بترسيخ التعاليم الإسلامية في تلك المنطقة الهامشية من البلاد في ظرف عسير من تاريخ المغرب، فحارب شيخها شرب الدخان وتناول الخمر وغير ذلك من البدع والمحرمات التي كانت مستشرية آنذاك.
يعتبر الشيخ سيدي محمد بن ناصر من كبار علماء ذلك العصر ملما بالفقه والتفسير والحديث والأصول واللغة والسير والكلام والتصرف والحساب والفرائض كما يصفه كتاب المناقب والتراجم بأنه (كان آية باهرة في كل شيء، كريم الطوية متبعا للسنة في جميع أفعاله وأقواله ومأكله ومشربه وملبسه) وكان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر لا يخاف في الله لومة لائم ناصرا للدين ناصحا لعباد الله المؤمنين واقفا على حدود الله عارفا بإحكامها.
إن هذه الصفات والمميزات التي طبعت شخصية بن ناصر كان لها ما يبررها في نظر هؤلاء الكتاب ولعل شهادات المعاصرين اكبر حجة على ذلك.
لاشك أن العلامة الشيخ اليوسي أسهم بدوره في ذيوع صوت الزاوية الناصرية في مختلف جهات بلاد المغرب وكيف لا وقد أغنى شيخها أصحاب الطلب عن التماس العلم في الأقطار البعيدة كما أشار إلى ذلك هذا العالم الجليل والتلميذ النجيب حين قال في داليته:
وطلعت في فلك الهداية والتقى &&& بجلاء محل بالكواكب اسعد
بجدى عميـم غائث بقـع النهى&&& والعلم لا بقع السحى والغرقد
بمغـرب ومشـرق متيمــن &&& متشئـم متكـوف مـتبغـدد
إن الأخذ عن الشيخ ابن ناصر ـ في نظر اليوسي ـ يستغني به وبما أوتي من رسوخ في العلم وعلو كعب منها عن الرحلة إلى اليمن أو الشام أو الكوفة أو بغداد.
وهذا ما ساعد على انتشار الطريقة الناصرية لاسيما وان الشيخ كان يفوض إلى تلاميذه ومقدميه في تلقين الورد، إلا أن انتشار الطريقة الناصرية بين سكان البوادي كان اكبر ووصلت إلى
بعض الأقطار النائية من البلاد كتافيلالت والقنادسة بل تجاوزت حدود المغرب لما اضطلع الشيخ محمد بن ناصر بتنظيم ركب الحاج انطلاقا من تمكروت، فاقبل سكان المراحل التي يمر بها الركب الناصري على الانخراط في سلك الطريقة الناصرية في كل من بسكرة و قفصة وطرابلس وتاجوراء والجبل الأخضر والإسكندرية والقاهرة وغيرها فتأسست زوايا تابعة لتمكروت صارت بدورها مراكز إشعاع للعلم والتصوف وأسهمت في التخفيف من سلبيات المحيط.
إن ذيوع صيت تمكروت وانتشار نفوذها وقوة شخصية الشيخ سيدي محمد ين ناصر وعمله الدؤوب في ميدان العلم والتصوف كلها عوامل أسهمت في توسع الزاوية في الرزق بعد أن كان شيوخها الأوائل يعيشون على الكفاف ولم تعد تقوم بحق الطلبة والمريدين وعيال الشيخ بل تعدى إحسانها إلى الجيران والأرامل واليتامى فصارت تملك العقارات وقطعان المواشي والعبيد..ولم يتوفى الشيخ سيدي محمد بن ناصر يوم الثلاثاء 16 صفر في عام 1085/1674 إلا بعد أن طبقت شهرة زاويته الآفاق وصار وردها منتشرا شرقا وغربا بل لقد طائفة صوفية لها طريقتها المعلومة وسندها المتصل.
مشيخة سيدي احمد بن محمد بناصر
تولى بعده ابنه الأصغر سيدي احمد بن امحمد بن ناصر الملقب بالخليفة، ولد سنة 1057/1647 في أسرة اشتهرت بالعلم والتصوف فأبوه هو الشيخ سيدي محمد بن ناصر مؤسس الطريقة الناصرية والمدرسة العلمية بتمكروت وأمه هي حفصة بنت عبد الله الأنصاري سليلة مؤسسي الزاوية الأولى، أخذ عن والده التفسير والحديث والعربية والأصول وعن أبي سالم العياشي ومحمد بن حسين الكوراني الذي كان مجاورا بالمدينة المنورة، ومن مصر أمثال العناني وأبي العز بن احمد العجمي، وقد ساهم تعلمه وسفره المبكر إلى المشرق في تكوينه تكوينا مختلف المشارب وكان والده يأذن له في الإشراف على شؤون الزاوية ويكل إليه التصرف في مختلف أمورها.
ولبلورة ذلك فقد أوصى له في عقد مكتوب أمام بعض الأعيان مثل أخيه سيدي احساين بن ناصر وصديقه احمد بن محمد الخصاصي وغيرهما، وفعلا فقد استخلفه على شؤون الزاوية وآثره بذلك على إخوته الأكبر منه سنا.
ولما تولى سيدي احمد الخليفة مهمة الإشراف على الزاوية الناصرية قام بما استخلف عليه أحسن قيام، فاقتفى آثار والده في الحرص على المثابرة على التعليم واستقطاب العلماء ويشهد كل من ترجموه على علو شانه وفشو صيته في المغرب والمشرق ورسوخ قدمه في العلم وحضه على اتباع السنة ومحاربة للبدع الشيء الذي أدى إلى كثرة أتباعه والآخذين عنه، وذهب عبد القادر بن علي الفاسي ـ وهو من هو في ميدان العلم والتصوف ـ إلى القول ( بان الطائفة المذكورة في
الحديث المشهور إن لم تكن الآن بتمكروت فلست أدري منهم لإقامة السنة على الوجه المألوف ) وتتفق بعض المصادر أن شهرة الشيخ سيدي احمد الخليفة قد فاقت شهرة والده ، فهرع الناس إلى الأخذ عنه وشدت إليه الرحال من مختلف الجهات ووقع له القبول لدى الناس ولم يقصر عنه الوصف، لذلك تضاعفت شهرة الزاوية الناصرية واتسع نفوذها ، ففي الداخل شيد بتمكروت ثلاثة مساجد منها مسجد الخلوة وبنى صومعة المسجد الجامع الكبير وبنى مدرسة بلغ عدد طلابها 1400 طالب وخصهم بالسكنى و بنى لهم وللوافدين على الزاوية حماما بجوار المسجد المذكور، ومهد السبل أمام طلبة العلم، فوفر لهم إمكانيات الإقامة بالزاوية ولاسيما حين أسس خزانة الكتب، كما بنى مساجد أخرى بكل من زاوية الفتح وزاوية البركة وزاوية امزرو، ولم يغفل الشيخ متطلبات تلك المؤسسات العلمية من صيانة وما قد تحتاج إليه من مرافق وممرات سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي، فزودها بالدكاكين والحمامات والآبار والمراحيض وميز بين مرافق الرجال والنساء، وكلف من يسهر على تسخين الماء، حتى كان مريدو الطهارة والوضوء يجدون الماء الساخن في كل وقت وحين من ليل أو نهار.
ومن مظاهر التوسع أسس زاوية جديدة سنة 1115/1703 دعاها زاوية الفضل، تقع جنوب تمكروت وزودها بمسجد جامع وانزل بها إحدى زوجاته وهي زينب بنت احمد التنردنية والتي كانت على علم وتقوى، وقد اشتهرت هذه الزاوية بحدائقها الغناء وتنوع أشجارها وجمال محيطها، الشيء الذي جعل بعض الشعراء يطلق العنان لخياله واصفا مغانيها قائلا:
ألمم بدرعة واختر للنزول بــها = زاوية الفضل مأوى الجود والكرم
ذات ابتنـاء وأشجار منوعـــة = تجلو قلائدها للناس في الظلــم
ولتدعيم مكانة تمكروت العلمية، أسس الشيخ سيدي احمد الخليفة سنة 1123/1711 خزانة حوت مصنفات نفيسة عز نظيرها في المدن الكبرى في ذلك الوقت، ولم يدخر جهدا في تزويدها بأحمال من الكتب بواسطة الشراء أو النسخ من المغرب والمشرق، حتى إن المصريين أصبحوا يلقبونه "بباز الكتب " للهفته رضي الله عنه عليها ولحرصه على إيجادها.
ومما زاد في ثراء الزاوية علميا وروحيا تنظيم ركب الحج، حيث كان الناصريون ينظمون منذ عهد الشيخ سيدي محمد بن ناصر ركبا خاصا بهم مستقلا عن الركب الرسمي، وتشير المصادر إلى أن الشيخ سيدي احمد الخليفة ترأس ثلاثة ركاب لأداء فريضة الحج في السنوات 1096و1109و1121 إضافة إلى حجته مع والده سنة 1076/ 1666.
كان الركب الناصري ينطلق من زاوية تمكروت بعد أن تلتحق به وفود الحجاج القادمين من
مختلف نواحي المغرب خاصة من سوس و درعة و تافيلالت وجبال الأطلس و الحوز والشاوية ودكالة و تادلة و جبالة وغيرها، بالإضافة إلى من ينضمون إلى الركب من مختلف المراحل التي يجتازها.
أسهم الشيخ بواسطة هذا الركب في نشر الطريقة الناصرية بمختلف المدن والمنازل الواقعة في الطريق بين تمكروت والحرمين الشريفين، فعمل من جهته على تقويم سلوك أولئك السكان بمحاربته للانحرافات وتدخله للوساطة بينهم في النزاعات، فكان الركب بمثابة مدرسة متنقلة،حيث عقد الحجاج حلقات العلم وعكفوا على التلقين والتلقي في أثناء ظعنهم ونزولهم فتبادلوا الإجازات مع إخوانهم.
وبموازاة مع ازدهار تمكروت العلمي وذيوع صيتها الصوفي في المغرب والمشرق، عرفت بسطة في الرزق وتجاوزت الضيق المادي، حيث أصبحت مؤهلة من تاثيل الثروة بسبب موقعها عند ملتقى الطرق التجارية، وفي هذا السياق ترادفت على أبواب الشيخ سيدي احمد الخليفة الهدايا من كل الجهات فصارت تصل سنويا إلى تمكروت قوافل محملة بالزيت والتمر والصوف والسمن وغير ذلك من مواد....
أما في ملكية الأراضي والمياه فقد أصبحت لها أراضي خصبة مخصصة لرعي المواشي، وهذا ما جعل الشيخ يقدم القروض إلى الناس ويتحف البعض بالهدايا النفيسة، ولقد صدقت شهادة محمد الصلح الشرقاوي حين قال: الدنيا والآخرة ضرتان لا تجتمعان إلا عند كامل مكمل كشيخنا سيدي احمد بن ناصر.
وإذا كانت الطريقة الناصرية على الصعيد الأفقي عمت مختلف أرجاء بلاد المغرب فإنها على الصعيد العمودي شملت كل فئات المجتمع.
فبالنسبة للمخزن، أخذ السلطان المولى إسماعيل الورد الناصري عن سيدي احمد الخليفة بمدينة مكناس سنة 1107/1696 ودعا بطانته وأعوانه إلى الأخذ عنه.
لكن هادم اللذات يعاجل الشيخ سيدي احمد الخليفة في 19 ربيع الأول سنة 1129/1717 بعدما أرسى صرح طائفة قوية يمكن القول أنها أدركت الأوج أثناء مشيخته.
لم يترك الشيخ سيدي احمد الخليفة عقبا لذلك آل أمر الزاوية إلى ابن أخيه سيدي موسى بن محمد الكبير ابن ناصر الذي عمل الشيخ سيدي احمد الخليفة على تهيئته و تأهيله وكفالته، وحرص على إقرائه ودراسته بالزاوية، كما أصحبه في بعض رحلاته إلى الشرق، فأذن له بتلقين الأوراد قيد حياته، فكان بمثابة كاتبه الخاص، وسيدي موسى هو أصغر حفدة الشيخ سيدي محمد بن ناصر، فتولى شؤون الزاوية الناصرية مقتفيا أثر أسلافه في تلقين الأوراد وإطعام الطعام للوافدين على
الزاوية، فكان كثير الرحلة، حيث كان يطوف على البلدان ليتفقد الفروع التابعة لتمكروت، إلا أن بعض المقدمين بسوس استبد بممتلكات الزاوية الأمر الذي جعل الشيخ يرتحل إلى مكانه لاستخلاص العطايا والهبات، إلا انه خرج من عنده مصدوما مما علمه من مصيرها، فقد استأثر بها لنفسه مما أدى إلى وفاته بزاوية الفيض سنة 1142/1730.
مشيخة سيدي عبد الله بن محمد بن ناصر
وهكذا يتسم عهد سيدي موسى ببدئه بالصراع وانتهائه به.
تولى شقيقه الشيخ سيدي عبد الله بن محمد الكبير الذي نشا في تمكروت بين أحضان العلم والتصوف، فاخذ بها عن عدة شيوخ وصحب عمه الشيخ سيدي احمد الخليفة في رحلته إلى الشرق سنة 1699، فاشتهر بعلمه الغزير ولاسيما في القراءات، إذ كان أستاذا عشريا ملما بمختلف الروايات، ولم تمض على مشيخته سوى ثلاثة أشهر حتى تخلى عنها وتوفي بعد ذلك بقليل سنة 1143/ 1731 .
مشيخة سيدي جعفر بن موسى
ولد سيدي جعفر بن موسى بن محمد الكبير بن محمد بن ناصر بتمكروت، و بها نشأ في مناخ يعج بالعلم والتصوف، تذكر المصادر أنه اشتهر بالزهد والوقار والأخلاق الفاضلة والاشتغال
بالعبادة والذكر، لكنها لم تحدثنا عن مبلغه من العلم، زمن ثم يبدو أن التصوف كان هو السمة الغالبة على هذا الشيخ.
ونستجلي ذلك من بعض الأشعار التي قيلت في مدحه على لسان محمد الهاشمي شكلانطو إذ يقول:
من ورث السر المصون = ما نـالـه إلا سـراة الأنـام
إذ هو تريـاق لداء عصرنـا = ومذهب الداء من حليف سقام
رحل سيدي جعفر إلى الشرق لأداء فريضة الحج صحبة عمه سيدي احمد الخليفة أثناء حجته الثالثة، وبعد وفاة عمه عبد الله بن محمد الكبير ولي التصرف في شؤون الزاوية وتصدر لتلقين الورد، فنهض بأعباء ما تحمله مقتفيا في ذلك أثار أسلافه، ومن جملة أعماله ، فهو من جدد مسجد الخلوة بزاوية تمكروت ، ورغم ما يتبادر إلى الذهن من أن ذلك العهد قد طبع بالهدوء والاستقرار في تمكروت بسبب خفوت الضغط المخزني الناجم عما عرفه عهد الفترة من فتن واضطرابات وتفوق الكلمة، فان بعض المصادر تشير إلى أن الشيخ سيدي جعفر قد عانى في تلك المدة من شدة الغلاء وكثرة الفتن...، كان الغلاء بدرعة وما والاها من البلاد أعوام الخمسين..
ولعل هذه الأزمة قد نتجت عن الوباء الذي أصاب كثيرا من سكان المغرب سنة 1147/1734 والقحط الذي عم مختلف البوادي في سنوات 1151و1155ـ1156، فكثر الموتى واستشرى الجوع وانقطعت السبل.
أما من جهة أخرى، فيبدو أن ضغط قبائل ايت عطة على تمكروت قد عرف نوعا من الفتور، لأن هولاء اندفعوا نحو الشمال والشمال الغربي من البلاد، فاكتسحوا السهول مستفيدين من ضعف المخزن الناتج عن تهالك أبناء السلطان المولى إسماعيل عن الحكم، ففي هذه الأثناء كان ايت عطة يوالون عسفهم على سكان الجبل، ولعلى هذه الظروف هي التي أفسحت المجال أمام الطائفة الناصرية للتوسع وكسب المزيد من الإتباع، لذلك حين توفي الشيخ سيدي جعفر بن موسى سنة 1157/1744 كانت تمكروت في طور من التوسع والانتشار.
مشيخة سيدي يوسف بن محمد الكبير
ولد سيدي يوسف بن محمد الكبير بتامسكورت من بلاد زيان عام 1114/1703، ورحل وهو صغير صحبة والده إلى تمكروت ثم رجع إلى تامسكورت حيث مكث حتى وفاة والده سنة1126/1714، الأمر الذي اضطره إلى الانتقال مجددا إلى تمكروت، فكفله عمه الشيخ سيدي احمد الخليفة حتى وفاته، وبعد ذلك تعهد تربيته صنوه الشيخ سيدي موسى الذي زوجه ولقنه الورد في بادئ أمره، كما اخذ عنه العلم وعن بعض شيوخ تمكروت، وعن مبلغه من العلم يقول محمد مخلوف التونسي (وروى الكتب الستة والشفا والواهب وحلية ابن نعيم والترغيب والتهيب وإحياء العلوم وكنز العمال والجامعين والفتوحات المكية...
لم يتولى شؤون الزاوية إلا بعد وفاة ابن أخيه جعفر، فاجتهد في خدمتها والاعتناء بشؤونها، وتنوه المصادر بسلوكه، فيقول ابنه سليمان مثلا: كان لا يخاف في الله لومة لائم، وقافا عند كتاب الله تعالى ، محافظا على الصلوات في أوقاتها جماعة، متبعا للسنة المحمدية، مقتفيا اثر عمه الإمام)
ثم يشيد بما كان يقوم به في سبيل تتبع أحوال طلبة العلم، فيشير إلى انه يزجر من تخلف عن القيام إلى الصلاة، محرضا على الجد والاجتهاد في الطلب، وحين يتفرغ لخدمة الزاوية وأشغالها، يراقب الداخل والخارج لضبط مصالحها، ويختبر المقدمين الواقفين على تلك المصالح، فينبه غافلهم ويحث مجدهم، وكان كثير الحركة لاسيما وقد رزقه الله بسطة في الجسم، إلا انه لم يكن يلقن الورد في بادئ أمره، وإنما كان عمه الشيخ الحسين بن ناصر هو الذي يتولى ذلك نيابة عنه، لأنه لم يكن له الإذن عن طريق أحد الشيوخ الكبار.
ولما سافر إلى شمال المغرب، عرج على فاس فلقي بها الشيخ سيدي محمد بن عبد السلام بناني شارح " لامية الزقاق" وهو احد تلاميذ الشيخ سيدي احمد الخليفة من طريق مباشر، وله الإذن بالتلقين ( فاخذ عنه واستجازه، فأذن له في تلقين الورد)
وفي سنة 1162/1749 ارتحل إلى المشرق لأداء فريضة الحج، اخذ عن بعض العلماء هنالك، ومما يسترعي الاهتمام انه شوهد وهو يلقن ورد الزاوية الناصرية بمكة المكرمة...، يقول الخليفتي عن الشيخ يوسف انه (زاد أصولا بالشراء ووهبها للزاوية) وهذا ما سمح للشيخ بان ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر، فكان كثير العطاء ، ولعل ابلغ من عبر عن هذا الكرم هو العلامة سيدي احمد بن خالد الناصري حين قال(وكان رضي الله عنه شيخا حسن الشيم، أكفه تجري بالإحسان كالديم، كثير الإطعام ، جميل الإكرام)
يتضح مما سبق أن صيت الزاوية الناصرية قد زاد بعد أكثر من أي وقت مضى، وان شهرة الشيخ سيدي يوسف طبقت الآفاق بما أوتي من بسطة في المال والنفوذ الروحي، الأمر الذي أدى إلى الزيادة في انتشار نفوذ الطائفة عن طريق تأسيس زوايا جديدة.
يشير احمد بن خالد الناصري إلى أن الشيخ سيد يوسف خلف عدة اولاد، يقال أن عدد الذكور منهم فقط سوى الإناث خمسة وعشرون كلهم بلغوا مبلغ الرجال، فتفرق جلهم وأسسوا زوايا ناصرية في كثير من جهات المغرب.
وهكذا كان الشيخ سيدي يوسف واسطة عقد الناصريين ومنه انبجست باقي الفروع.
وفي سنة 1171/1557، كان هذا الشيخ من جملة من جاء من أعيان المغرب لمبايعة السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وفي سنة 1180/1767 كان من ضمن وفد السلطان نفسه أثناء حصاره لمدينة البريجة، كما حضر معه بدء تأسيس مدينة الصويرة سنة 1182/1769،وقد أدرك الكتاب الأجانب من خلال هذه العلاقات الصلة التي توثقت عراها بين شيخ الزاوية وبين السلطان ليستنتجوا أنها كانت من بين العوامل التي أسهمت في انتشار نفوذ الناصريين في مختلف أرجاء البلاد.
توفي الشيخ سيدي يوسف سنة1197/1783 في خضم أوج أقوى طائفة صوفية في بلاد المغرب في ذلك العهد، بعد أن دامت مشيخته حوالي 40 سنة (1157ـ1197) رسخت خلالها أقدام الطائفة في مختلف مدن المغرب وبواديه، حتى تلقن وردها سلطان البلاد ورجاله والعلماء والحرفيون ومختلف الشرائح الاجتماعية.
مشيخة سيدي علي بن يوسف
لم يعرف شيء عن حياته قبل ولايته شؤون الزاوية، سوى ولادته التي كانت سنة 1145/1733، والظاهر أن حظه من العلم لم يكن موفورا مثل باقي أسلافه، تولى شؤون الزاوية بعد وفاة والده فمضى على أثر سلفه، سافر إلى مدينة فاس وحل بمدينة مكناس، وهنالك التقى بالسلطان فلقنه الورد الناصري وتلقى عدة ظهائر سلطانية، منها ظهير (يسدل أردية التوقير والاحترام على زوايا الناصريين حيثما كانت وتعينت وعلى أصولها وأملاكها ورباعها، فلا يرسم عليها أدنى وظيف ولا تسام بأقل تكليف، وكذا خدامها ومن انضاف إليها...، من خلال ما سبق نستيقن من أن الناصريين في هذا العهد تبوئوا مكانة مرموقة لدى المخزن.
ورغم الهدوء والاستقرار الذي نعمت به زاوية تمكروت فقد شهد عهده إزالة فرع قوي من فروع الزاوية، وهي زاوية الفضل التي تقع جنوب الزاوية الأم، حيث تعرضت ساكنتها للقتل والسلب والنهب والتهجير وتخريب لممتلكاتها وإتلاف لكتبها وحرق لخزانتها تدمير لمسجدها من طرف قبيلة تدعى "ايت مشكوكض" من قبائل ايت عطة، وأعقب هذا الدمار ريح عاصف طمست كل معالم تلك الزاوية، وبقيت على تلك الحال إلى يومنا هذا، وتفيد الرواية أن ذلك يعد انتقاما لزاوية تمكروت وشيخها، لما أساءوا معه الأدب، وصاروا يتعالون على الزاوية ويدعون تمكروت بالملاح، إلا أن التقارب الوثيق الذي طبع العلاقات بين والطائفة والمخزن كان أحد المؤشرات التي تنبئ بالتراجع الذي اعترى الزاوية بعد ذلك مباشرة.
وقد صادف ذلك العهد بداية التراجع العلمي بصفة خاصة، ذلك التراجع الذي ميز شيوخ هذه المرحلة ومن سيليهم، إذ لم تعد تمكروت تنجب أمثال الشيخ سيدي محمد بن ناصر أو ابنه الشيخ سيدي احمد الخليفة أو العلامة سيدي محمد المكي بن موسى الناصري وغيرهم...
إلا أن الشيخ سيدي علي زاد في توسيع نفوذ الزاوية واحتجاز الممتلكات وتكديس الأموال، واستمر على ذلك الحال حتى وفاته سنة 1235/1819.
مشيخة سيدي أبي بكر بن علي
هو أبو بكر بن يوسف بن محمد الكبير بن محمد بن ناصر ولد سنة 1201/1787، ولي مشيخة تمكروت بعد وفاة والده سيدي علي بن يوسف سنة 1235/1819، أثنى عليه معاصره المؤرخ سيدي احمد بن خالد الناصري فقال: العالم المحدث البركة، كان على سنن آبائه في الخير والصلاح والقيام بوظائف الدين واتباع السنة، وحين تحدث عن عبادته وعلمه أضاف :( وكان معمرا أوقاته بالعبادة من صلاة وأذكار وسرد للحديث النبوي، لا تفارقه دواوينه سفرا وحضرا ويحف به شيوخ العلم وأئمة الدين، لا يخلو مجلسه منهم...
وتأكد الوثائق أن الشيخ سيدي أبي بكر بن علي صار يتردد على القصر السلطاني وانه أصبح يحظى بدعم المخزن أثناء رحلاته عبر مختلف الجهات.
وقد عرف عهده ببداية استفحال الخروج عن الزاوية، كما أن مقدمي الناصريين فقدوا هيبتهم، وتنكر البعض لها واستأثر بمداخيل فروعها.
وقد ظلت العلاقة بين الزاوية والمخزن وثيقة حتى وفاة الشيخ سيدي بوبكر بن على في منتصف جمادى الأولى سنة 1281/1864.
مشيخة سيدي محماد بن بوبكر
كان الشيخ سيدي محماد بن بوبكر ثاني أبناء أبيه الخمسة، ولي شؤون الزاوية بعد وفاة والده، ومن خلال الوثائق، يبدو أن والده كان يستنيبه في بعض المهمات، ولاسيما تفقد أحوال الزوايا ـ الفروع ـ واقتفى نهج أسلافه في تعمير الأوقات بالذكر وسرد الحديث ونحو ذلك، كما عرف عهده بناء ضريح فخم على أنقاض الضريح القديم والذي يعد علامة في المعمار الإسلامي، لما حواه من فسيفساء وزخاريف ونقوش تفنن فيها الصانع الفاسي والمراكشي، إلا أنه لاقى بدوره معارضة شديدة من لدن أقاربه، الأمر الذي جعله يلوذ بالسلطان محمد بن عبد الرحمان ليمنحه ظهير التعيين ، وتفيد المصادر المكتوبة أن هيبة الزاوية قد تضاءلت كثيرا في هذا العهد، حيث عادت قبائل ايت عطة لمهاجمة الدواوير العاجزة عن الدفاع عن نفسها، فجاسوا خلال الديار ونهبوا الأموال واستمر الحال على ذلك المنوال حتى وفاة الشيخ سيدي محماد بن بوبكر مبطونا يوم الأربعاء 18 ربيع الأول سنة 1304/1886 بزاوية أدوار من رأس الواد ببلاد سوس، فنقل جثمانه الى تمكروت حيث دفن رحمه الله تعالى.
مشيخة محمد الحنفي والنزاع عن المشيخة
هو محمد المدعو سيدي الحنفي بن أبي بكر الناصري، ولي مشيخة الزاوية بعد وفاة والده، وقد تدخل السلطان مولاي الحسن الأول " ليشد له العضد" الشيء الذي أكده المؤرخ احمد بن خالد الناصري حين قال: إن محمد الحنفي تولى أمر الزاوية بأمر من السلطان مولاي الحسن الأول...
ويقول الدكتور احمد عمالك أنه عثر على وثيقة تفيد أن الشيخ سيدي احمد بن بوبكر طرد محمد الحنفي واستولى على الزاوية ، في تلك الأثناء فوجئ بمناورة أخيه سيدي عبد الله الذي طمع هو الأخر في مشيخة الزاوية، فتطور الأمر إلى نزاع حقيقي بين الأخوين وابن أخيهما، والظاهر أن احمد بن أبي بكر تغلب على مناوئه، واستولى على الزاوية مدة تناهز السنتين .
يتضح من الوثائق أن الشيخ سيدي الحنفي توجه الى مراكش بعد استيلاء عمه على الزاوية محاولا عقد اتصالات مع رجال المخزن.
وهذا ما نجد صداه في الرواية التي تفيد بأن سيدي احمد وسيدي محمد الحنفي حضرا الحفل الذي أقامه السلطان مولاي الحسن الأول بمناسبة إعذار بعض أنجاله، وزفاف بعضهم الآخر بمدينة مراكش، وعلى إثر شجار بين أنصار الشيخين، قام العاهل باعتقالهم جميعا مدة أسبوعين، فعقد بعد ذلك لقاء بين الشيخين ليحكم فيما شجر بينهما، حيث نزع "العكاز" من يد سيدي احمد وسلمه الى الحنفي، رمزا لتعيينه شيخا للزاوية، ثم منح الشيخ سيدي احمد ظهيرا يخوله التصرف في ثلاث زوايا مشهورة بجهة سوس .
وعلى الرغم من أن التحكيم لم يحسم شأفة النزاع بين الشيخين، فان الشيخ سيدي الحنفي ظل الشيخ الفعلي لزاوية تمكروت، ونال حظوة لدى السلاطين ورجال المخزن، ولاسيما احمد بن موسى الذي اتفق معه على اعتقال عمه .
وأيا ما كان الأمر، فقد بلغت العلاقة بين الشيخ الحنفي والمخزن أوجها في عهد السلطان مولاي عبد العزيز الذي أصدر ظهيرا، تضمن مزيدا من العناية والحظوة به، الشيء الذي جعل مكانته تظل معززة حتى وفاته سنة 1325/1907.
مشيخة سيدي احمد بن بوبكر
ولد الشيخ سيدي احمد بن بوبكر بتمكروت سنة 1272 / 1856، توفي والده الشيخ سيدي بوبكر بن علي وهو في الثامنة من عمره، فقام أخوه الأكبر سيدي محماد بن بوبكر بجعل قيود في رجليه واقسم ألا يطلق سراحه حتى يحفظ القرءان الكريم، وقد تكفل برعايته وتعليمه، إلا انه لم يعهد له بخلافته للزاوية، الشيء الذي أدى إلى نشوب ذلك الصراع بينه وبين ابن أخيه الحنفي.
وبعد وفاة ابن أخيه سيدي الحنفي تولى أمر الزاوية، وقد غلب على طبعه التصوف والهروب من ملذات الدنيا، فكان يكثر من الصيام ويقضي ليله في تلاوة القرءان الكريم، وقد كلف ابنه الأكبر سيدي عبد السلام بالوقوف على متطلبات الزاوية .
وتجدر الإشارة إلى أن صلاته بالسلطان لم تنقطع طوال الفترة التي شغل سيدي الحنفي شيخا للزاوية، حتى توليه لها حيث بقي محافظا عليها وبقيت الرسائل والهدايا تتبادل بينه وبين السلاطين .
إلا أن الأوضاع في هذه الفترة ذهبت إلى منحى خطير، حيث عرف المغرب دخول المستعمر الفرنسي سنة 1912 وفرضت عليه الحماية، وأصبح هذا الأخير يعد العدة للانقضاض على البلاد بكل مكوناتها والاستيلاء على ثرواتها، وشاءت الأقدار أن يقوم أحد كبار قبيلة ايت أونير المتواجدة بمنطقة تافيلالت باغتيال الشيخ سيدي احمد بن بوبكر سنة 1337/1919م.
مشيخة سيدي عبد السلام بن احمد
ولد الشيخ سيدي عبد السلام الناصري سنة 1882م في أسرة متدينة ، تربى في كنف والده، ودرس الفقه والحديث وباقي العلوم الأخرى على يد علماء مرموقين في تلك الآونة، ولكونه اكبر إخوته فقد أدرك الصراع الذي قام بين أبيه وابن عمه الحنفي وقاسى معه الشدائد، فكان قريبا منه، مما اكسبه الخبرة في تدبير شؤون الزاوية والصبر على المحن والتحمل عند وقوع الفتن، تولى أمر الزاوية بعد وفاة والده سيدي احمد، فقام بمهامها أحسن قيام، مسخرا في ذلك كثرة العبيد الذين ورثهم عن أبيه في جمع الهبات والعطايا للزاوية من كل السهول والجبال والمدن والمراسي...، وقد حافظ على نشاط الزاوية ومراسيمها حيث ساهم في نشر العلم والعرفان بإعادة بناء المدرسة العلمية بالزاوية الناصرية على نحو أفضل من السابق.
تتميز مشيخة سيدي عبد السلام بكونها أتت في وقت والبلاد تركن تحت ظل الاستعمار الفرنسي، حيث استطاع أن يوفق بذكائه بين سلطة المخزن وسلطة الاستعمار دون أن يثير الشبهات من حوله، ونجح في ذلك إلى حد جعل كل منهما يكن له احتراما و توقيرا بالغين .
وقد بقيت الزاوية في زمانه محافظة على نفوذها وعلى هيبتها في كل الأوساط ، حيث تدخل شيخها لفض النزاعات بين القبائل من جهة وبين القبائل والمستعمر كما حدث بقصبة ايت بوداود باسكجور، حيث حط الرحال فيلق من جند الاستعمار يرأسه الفسيان " كوتيي" بجانب سور القصبة فتعرض لإطلاق النار من طرف ثوار من دخله، مما أثار غضب الفسيان فأعطى أوامره بالرد عليهم فأصبح أهالي القصبة مهددين من جراء هذا الرد، فتسلل أعيان منهم ولجئوا إلى الشيخ سيدي عبد السلام مستنجدين به، فاستجاب لهم وحضر معهم إلى عين المكان وأوقف هذه المعركة والقي باللوم على "الفسيان" الذي ارتكب خطأ باستقراره جانب سور القصبة، مما يدل على أن له صوتا مسموعا وهيبة عندهم، وقد ظلت الزاوية طول هذه الفترة على الحياد.
ومن الأمور المحمودة التي يستحق عليها الشكر الجزيل والثناء الحفيل هو حفظه لكتب الخزانة الأثرية وإخفاؤها عن الأنظار، خاصة المستعمر الفرنسي الذي حاول بكل ما أوتي من قوة ودهاء ومكر أن يعثر عليها مسخرا في ذلك شتى الوسائل منها إرساله لعلماء ذووا مقام وشهرة أمثال العلامة الأكبر سيدي أبو شعيب الدكالي والعلامة القاضي الحاج محمد الدمناتي وغيرهم ومما زاد هذا الأمر غموضا تواجد كتب مطبوعة بأمر السلطان مولاي عبد الحفيظ ملأت بها طوارم الضريح القبابي، فيقال لمن سأل عن الخزانة أنها اندثرت بسبب الفتن القائمة بين أبناء الشيخ في العصور الأولى.
والحقيقة أن ستة آلاف مجلد مخطوطة أقدمها يبلغ اثني عشر قرنا وأقلها خمسمائة سنة.
قام سيدي عبد السلام ببناء مسجد الزاوية الناصرية بباب تاغزوت بمراكش، وبنى دار كبيرة داخل الزاوية و"دار لبني" بجنبها واتخذها مسكنا له ولأزواجه، وبنى مسجدا بمدينة أكادير تهدم من جراء الزلزال الذي تعرضت له لاحقا هذه المدينة، بنى مسجد بانزكان ومسجدا بادوار وأصلح مسجدا بتطوان وتوفي سنة 1950م مخلفا أكثر من ثلاثين ابنا بين الذكور والإناث،.
مشيخة سيدي احمد الذهبي
ولد سيدي احمد الذهبي سنة 1922 بتمكروت، ترعرع بها وتلقى تعليمه مع إخوته الكبار بها ونقل معهم إلى مدينة الرباط لإكمال دراستهم بإعدادية مولاي يوسف، لنصيحة بل هي حكمة أسداها
الشيخ العلامة الفقيه سيدي أبو شعيب الدكالي إلى أبيهم وكأنه يستقرأ المستقبل وما يحمله، قائلا : "احمل أبناءك ليتعلموا علم زمانهم الذي سوف يعيشونه، فعلم زماننا لن يجدي في زمانهم" فاستجاب له سيدي عبد السلام، إلا أن سيدي الذهبي لم يبلغ مبلغا مرموقا من العلم، تولى مشيخة الزاوية بعد ترضية من طرف إخوته، كما أن والده لم يستخلفه في حياته ، نظرا لرغبته في تولي أمورها ، ولعدم توفره على قدر وافر من التجربة والرزانة فقد أخطأ أكثر مما أصاب، ، حيث ارتكب زلة في حق إخوته بعد نكره لهم في ميراث أبيهم، مما أوقد فتيل النزاع على مشيخة الزاوية من جديد، فلجأ نفر منهم إلى باشا مدينة مراكش التهامي الكلاوي، الذي لقوا منه دعما قويا لقضيتهم، ورد الحقوق إلى أصحابها، مع العلم أن جل إخوته لم يتعد سن العاشرة بعد.
تجدر الإشارة إلى أن مرحلته عرفت صراعا على الزاوية افتعله عبيدها فانقسموا إلى فرقتين، فرقة تنادي بأحمد الذهبي كشيخ للزاوية وفرقة تنادي بالمصطفى شيخا لها كذلك، مما أدى إلى مشادات ومصادمات بين العبيد أسفرت عن جروح وإصابات بين صفوفهم، إلا أن قضية نفي الملك محمد الخامس كان لها الأثر البالغ في عزل سيدي احمد الذهبي عن منصبه ولزومه داره حتى وفاته سنة 1998 م بمراكش، ولم يخلف عقبا.
مشيخة سيدي المصطفى:
ولد سيدي المصطفى سنة 1922م بتمكروت وتلقى تعليمه الأولي بها، وكإخوته الكبار كما سلف الذكر انه تابع دراسته بإعدادية مولاي يوسف بالرباط ، رجع بعدها إلى تمكروت ليكون سندا وعونا لأبيه على مصالح الزاوية، حيث كان بمثابة ترجمان لوالده نظرا لإتقانه اللغة الفرنسية، تولى
أمور الزاوية بعد عزل أخيه احمد الذهبي سنة 1953م ، عرفت الزاوية في مرحلته فتورا في نشاطاتها وذلك راجع ربما إلى مرحلة المخاض الذي تعيشه البلاد، حيث امتدت يد المحتل إلى جلالة الملك محمد الخامس ونفته خارج البلاد، ونتج عن ذلك ثورة اهتزت لها البلاد بكل مكوناتها و ارتفعت روح المقاومة عند الناس، ومع اقتراب الفرج ببزوغ شمس الحرية وأفول عهد الاستعمار، عاد الملك محمد الخامس من منفاه إلى ارض الوطن الذي أصبح ينعم بالاستقلال وتوالت وفود التهاني والتبريكات على القصر الملكي بهذه المناسبة الغالية، و كان من بين هذه الوفود وفد الشرفاء الناصريين، الذي حظي باستقبال خاص من لدن جلالة الملك، لكنه فاجأهم بإعفاء سيدي المصطفى من مشيخة الزاوية، وذلك لعلمه المسبق بحيازته ظهير بن عرفة، واقترح على الوفد اختيار شيخ يرضونه لأداء هذه المهمة، وبعد تقديم لائحة من رشحوهم لهذا المنصب، اهتدوا إلى اختيار سيدي بناصر وبذلك يصبح شيخا للزاوية بعد أخيه سيدي المصطفى، فباركه الملك ورحب بهذا الاختيار.
مشيخة سيدي بناصر الأولى:
ولد سيدي بناصر بن الحاج عبد السلام بتمكروت سنة 1916 م في وسط متدين ، تلقى تعليمه الأولي بالكتاب، ثم دخل المدرسة بالزاوية الناصرية، وانتقل بعدها مع إخوته إلى إعدادية مولاي يوسف بالرباط ليكمل تعليمه هناك، إلا أنه توقف عن الدراسة ليعود بعد ذلك إلى تمكروت ليكون عونا وسندا لأبيه على مشاغل الزاوية، ونظرا لشراسة طباعه وقوة شخصيته فكان قريبا من أوصاف أبيه، يقف له الند بالند، يعارضه ويناقشه في شتى الأمور، مما لا يجرأ أحد من إخوته على القيام بذلك، ما يؤدي بتصرفه في بعض الأحيان إلى هجره وفراقه، فكان يصعب على أبيه بعده عنه، فيسأل عنه ويسعى في استرجاعه و إرضائه.
جاب سيدي بناصر كل الأغوار والمناطق والتقى بشخصيات بارزة من كل الطبقات، مما أكسبه خبرة وحنكة واطلاعا على المحيط بايجابياته وسلبياته، فكان مدمنا على قراءة الكتب، لا يمل ولا يكل، حتى إن أبوه ينتزع من يديه الكتاب مخافة أن يضر ذلك ببصره، إلا انه كان ملحاحا مصرا على تحصيل العلم والمعرفة بهذه الوسيلة، حيث كان يتمتع بذاكرة قوية وسرعة بديهة.
تولى مشيخة الزاوية بعد أخيه سيدي المصطفى الذي تم إعفاؤه كما سلف الذكر، واختياره من طرف إخوته وبني عمومته ومباركة الملك محمد الخامس، فقد رأوا فيه الشروط الواجب أن تتوفر في شيخ الزاوية لعلمه وخبرته وقدرته على النهوض بهذه المهمة.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المرحلة عرفت تحولا مهما يتمثل في حصول البلد على
الاستقلال، وعودة العلاقة بين شيخ الزاوية والسلطان إلى سابق عهدها، متوجة بالثقة والولاء والوفاء، فجسدت هذه الروابط الزيارة المولوية الشريفة التي قام بها جلالة الملك سيدي محمد الخامس للزاوية الناصرية بتمكروت سنة 1958 م، حيث أطلعه شيخها سيدي بناصر على النظام الذي نهجته في تسيير شؤون مدرستها، وقد أبدى جلالته إعجابا وتقديرا لهذه الجهود وتقسيم الأطوار الدراسية والمواد العلمية التي يتناولها كل قسم، كما أشاد بالرعاية التي يوليها شيخ الزاوية للطلبة والوافدين والزوار، ووقف على المرافق التي تم تجديدها وإصلاحها.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الزيارة لم تأت سدى وإنما كان لها دافع آخر، يتجلى في كون العديد من أبناء العائلة الناصرية يشيعون أن مداخيل الزاوية صارت تتعدى مئات الملايين، وقد وصل هذه الشائعات إلى أسماع الملك مما أثار فضوله فأراد التأكد من صحة هذه الأخبار، فكانت زيارته للزاوية والتي أعقبها صدور ظهيره والذي ينص على حيازة أملاك الزاوية بكل أنحاء المغرب وضمها إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية كي تتولى تدبير شؤونها مقابل وقوف هذه الوزارة على حاجيات وضروريات الزاوية والإشراف على كل المؤسسات التابعة لها، من أجور
الموظفين إلى إصلاح وترميم كل ما تضرر منها، وتزويدها بالماء والكهرباء ...
أود في هي الصدد أن أقف على خلاف ظل محط جدل بين أفراد العائلة الناصرية لعقود، وهو مسألة حيازة أملاك الزاوية من طرف المخزن، فالبعض يلقي باللائمة على شيخها آنذاك سيدي بناصر ويتهمه أنه هو من سلمها إلى المخزن، ولكن بعد تدقيقنا وتمحيصنا في هذا الموضوع، تبين أن حقيقة رسوم هذه الأملاك احتفظت بها السلطة الفرنسية إبان الصراع الذي قام بين أبناء سيدي عبد السلام و أخيهم سيدي احمد الذهبي بعد توليته للزاوية آنذاك، وبقيت حتى عهد الاستقلال لتنقل بعد ذلك إلى وزارة الداخلية التي سلمتها بدورها إلى وزارة الأوقاف بعد صدور الظهير الشريف، وذلك بعد فرز رسوم الأملاك التي ورثها أو اشتراها سيدي عبد السلام، فهي لا تعد من أحباس الزاوية، والظاهر أن نقباء الزاوية الذين تولوا بعد سيدي احمد الذهبي يتصرفون في هذه الأملاك دون توفرهم على هذه رسوم هذه الأملاك، وهذا ما يبرأ ساحة سيدي بناصر منها.
والحقيقة أن هذه الأملاك لو افترضنا أنها بقيت بحوزة الزاوية، لكانت سببا في نشوب صراع دائم، الله وحده العالم متى ستخمد فتنته، ولكن الله سلم، مصداق لقوله تعالى ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) صدق الله العظيم.
تخلى سيدي بناصر عن مشيخة الزاوية سنة 1959م بعد ولاية دامت قرابة خمس سنوات، لتغلق الزاوية مدة سنة في سابقة لم تشهدها الزاوية منذ تأسيسها، وعاد إلى مراكش ليستقر هناك.
مشيخة سيدي علي بن يوسف:
ولد سيدي علي بن يوسف بن احمد بن بوبكر سنة 1924 م بتمكروت، درس بالكتاب ثم بالمدرسة الناصرية، إلا أنه لم يعرف عنه أنه بلغ مبلغا بارزا من العلم، مما سيؤثر سلبا بعد ذلك على توليته للزاوية.
تولى مشيخة الزاوية الناصرية سنة 1960م، بعد رحيل ابن عمه سيدي بناصر عنها إلى مدينة مراكش، إلا أن عدم توفر فيه الشروط الضرورية للقيام بهذا الأمر على الوجه الأمثل، فقد ساء للزاوية أكثر مما أحسن إليها، حيث سلم الأمور إلى غير أهلها ، فترك الحبل على الغارب، ومع انعدام العلم والكرم، وتيه القرطاس عن القلم، ساءت السمعة، وعاصت لها الدمعة، فانفلت العقد، وضاع الجهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومرت سبعة عشر سنة والزاوية على هذه الحال حتى أصبحت تلقب بزاوية اللوز، فقد صار الوافدون عليها لا يقدم لهم سوى صحينا من اللوز وإبريقا من الشاي، فلا الأرواح تغذت ولا النفوس شبعت وتبقى إرادة الله فوق كل شيء.
توفي سيدي علي سنة 1982م بمدينة الجديدة ودفن بها، عفا الله عنه.
مشيخة سيدي بناصر الثانية:
تولى الشيخ سيدي بناصر مشيخة الزاوية للمرة الثانية سنة 1974م بعد تخلي ابن عمه سيدي علي عنها، وحيث أن صيت الزاوية أصبح خافتا، ومجدها صار في الحضيض، فقد تحتم على شيخها الجديد أن يسعى في استرداد ما ضاع، والعمل على تحسين الأوضاع، فبادر بإكرام الوافدين، وتلقين المريدين، وإطعام المساكين، وهو ماض في هذا السبيل، باذلا غاية الجهد في الإصلاح، مسخرا في ذلك أدوات النجاح، حتى ما فتأت الزاوية تسترد عافيتها، وتستشف الوجد من عيون محبيها، حتى ذاع الصيت، وعمر البيت، (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله و المومنون) صدق الله العظيم.
اشتهر الشيخ سيدي بناصر بغزارة علمه، وسعة اطلاعه، وتضلعه في علم التاريخ ، حيث وجد فيه ضالته، فصار ذا رأي سديد، ونظر رشيد، عنده تتفرق الآراء والعقول، وتلقى المصاعب لديها الحلول ، فصار مثلا يحتدى به، فذاع صيته وحصل له القبول، ما حدث من حديث إلا أمتع، وما أجاب في أمر إلا أقنع، مما أثار حفيظة بعض العلماء لسماعهم بعلمه وسمعته، وهما العالمين الجليلين السيدين الفاروق الرحالي ولحسن الحنش، فدفعهم ذلك إلى التأكد من صحة هذه الأخبار، فحضروا إلى تمكروت، فاستقبلهم فجس كل منهما نبض الآخر، فساح بهم الحديث في أعماق المؤلفات، وغاصوا به في متون المصنفات، فكأني به بحر تتلاطم أمواجه، ومصباح يتلألأ سراجه،
فأفحمهم بحجته، وأدركوا قدر مشيخته، فتشرفوا بمنحه إجازة لكل واحد منهما ، بعد اقتناعهما بمؤهلاته العلمية.
ومن هنا يتبين أن الزاوية الناصرية صارت شهرتها تكتسح السهول والجبال، والمدن والقرى، فتزايد عدد زوارها، وهب المحبون للتبرك من أقطابها، حيث وجدوا في موسم الزاوية الناصرية السنوي الذي يقام في عاشر محرم ضالتهم وغذاءهم الروحي، مشفوعا كل ذلك بتلاوة القرآن والأذكار وختم صحيح البخاري، فصار لهذا الموسم صيت وسمعة تجاوزت الآفاق، وتعدت الحدود والأنفاق، فزاد استقطابه للمحبين في الله، وعن إطعام الطعام فحدث عن البحر ولا حرج، وعن الراحة وسعة الخاطر فطب نفسا وابتهج.
يجب أن نشير أنه من الوسائل التي أضفت زخما إلى الزاوية وتكاثر الوافدين عليها، سهولة التنقل التي عرفها العصر الحديث من تعبيد للطرقات، وتوفر وسائل النقل وتطورها، الشيء الذي ساهم بشكل كبير في تزايد إقبال الزوار على زيارتها في سابقة لم تشهدها الزاوية منذ تأسيسها، إضافة إلى سمعتها الطيبة التي لاح صداها في الأفق مدويا.
لقد كانت وفادة الشيخ بناصر على الحضرة المولوية استجابة للرغبة الملكية وترحيب صاحب الجلالة سيدنا محمد السادس نصره الله بسيادته في القصر العامر الخاص بجلالته دام له النصر و التأييد والتمكين والسعد والإقبال في كل وقت وحين، يشكلان عنصرا هاما تحظى بطلعته الزاوية الناصرية في تجديد أواصر الأخوة المتواصلة والمودة المتبادلة بينها وبين الأسرة الملكية عبر العصور وتعاقب الأجيال، من عهد الشيخ سيدي احمد بناصر الخليفة والسلطان المولى إسماعيل رضي الله عنهما، إيذانا باستمرار شرفها الأثيل ومجدها الأصيل وعبقريتها المتوافرة ومكرمتها المتواترة، ومصداقا لقوله تعالى في سورة مريم( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا) قال المفسرون معناه يحبهم ويحببهم إلى خلقه، ولله ذر ابن أخته سيدي القرشي بن محمد بن الحسن الناصري الأغلاني الذي مدح خاله الشيخ بناصر قائلا:
أخليفة الشيخ الإمام بن ناصر = ووارث سره بو علـم شريعة
مطابقة الاسم المسمى كنايـة = كنعت لمنعوت بباء مـن خمسة
سموتم بأخلاق وسدتم فأضحيتم = سـراجا منيرا قائـدا للزاويـة
تمكروت كهف الفضيلة والعلم = والأسرار والقرى وركن الولاية
تشرفتم بالندى الملـكي الحـر = وترحيب مولانـا بقصر الضيافة
يدوم له عـز كأسلافـه الغـر = أحفـاد النبي الخاتـم للنـبوءة
عليه وءاله وصحب و عتـرة = صلاة وتسليـم ختـام رسالتـي
وفي هذا المضمار لايسعنا إلا نقطف وردا من حديقته، ونسوق بعض إجاباته وخواطره فنقول:
ـ في جوابه عن أسئلة بعث بها ابن عمه سيدي سليمان بن بوبكر الناصري يسأله عن التصوف أجاب قائلا: ( أما عن التصوف ، فالتصوف لا يعرفه إلا من انسلخ عن بشريته انسلاخا تاما، وكل العقلاء يحبونه محبة الأحياء لشعاع الشمس، لكنها بعيدة المنال ولا سبيل لنيلها إلا بالرياضة الروحية، وهيهات لان دونها خرط القتاد، وأول جرس طرقته في ذلك الميدان هو كتاب رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، وكتب التصوف بحر لا ساحل له ولا قعر والروح التي هي من أمر الله هي التي تستطيع الجولان بتلكم الأجواء، والله الموفق للصواب.
وفي جوابه عن سؤال عن ذكريات دراسته، أجاب قائلا:
لم يبق بالذاكرة شيء عنها كأني كنت نائما في سبات الشباب، فلما أفقت وجدت نفسي غريقا بين اولاد وبنات. ويدل هذا على الدعابة التي كان يتمتع بها في حديثه وكتابته.
وفي جوابه عن كيفية الدراسة بتمكروت، أجاز قائلا: فهي التماشي مع عبارة المصنف بالمتن الذي يدرس و الإبتعاد كل الإبتعاد عن كثرة النقول في الطور الابتدائي، والتوسط في الطور المتوسط، والتطويل في الطور العالي، وإحضار الحواشي والتعاليق.
مشيخة النقيب رضوان الناصري :
و قد تولى السيد رضوان بن بناصر الناصري مشيخة الزاوية الناصرية التمكَروتية عقبة وفاة والده المغفور له سيدي بناصر الناصري تغمده الله بواسع رحماته يومه ,,,,,, أبريل 2010 الموافق ليومه ..... ربيع الثاني 1431 هـ ، و قد نصبه جلالة الملك محمد السادس سدد الله خطاه و أيده بنصره على من عاداه .
و يسعى سيدي رضوان الناصري إلى إعادة بعث و لو الجزء البسيط من الجانب العلمي للزاوية الناصرية ، إذ توجه إلى إعادة كتابة مجموعة من المخطوطات الخاصة بالزاوية الناصرية و طباعتها طباعة رقمية ليسهل على القراء و الباحثين عن المعلومات حول الزاوية الناصرية التعامل مع هذه الكتب و تكون المعلومة أقرب إليهم ، و ذلك نظرا لعسر قراءة هذه المخطوطات التي قد أثر على خطها الزمن ، و على رأسها كتاب الأنساب كتاب " طلعة المشتري في النسب الجعفري " لصاحبه العلامة الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري ، و الذي يعنى بالسلالة الناصرية الجعفرية الزينبية و يدافع عن انتماء الناصريين إلى آل البيت الكرام و انتسابهم إلى ابن عمومة رسول الله صلى الله عليه و سلم جعفر الطيار شهيد مؤتة من حمل لواء الإسلام و حماه حتى تغمده الله و أكرمه بنيل الشهادة ، و يفند كل قول ينفي ذلك ، كما يسعى إلى إعادة تقديم كل من الأجوبة الناصرية و الرحلة الناصرية و الدرر المرصعة و مخطوطات أخرى في طبعة رقمية .
و في سياق التماشي مع العصر أشرف على عملية إنشاء مواقع إلكترونية خاصة بكل من الزاوية الناصرية و الخزانة الناصرية و ذلك من أجل تقريب المسافة بين الزاوية الناصرية و محبيها في كافة اقطار المملكة و خارجها ، و كذا تشجيعهم على زيارتها .
كما ساهم ماديا و معنويا في إصدار مجموعة من الكتيبات الخاصة بالأوراد الناصرية ، إضافة إلى مجموعة من المقالات و المطويات التي جعلت من تلكم الشخصيات التي مرت من الزاوية الناصرية بتمكَروت موضوعا لها ,
خلاصة: الحقيقة التي لا غبار عليها، أن الزاوية الناصرية وعلى طول هذه القرون التي عاشتها لم تكن إلا كما أراد لها المولى عز وجل أن تكون، وهو المدبر الحكيم، هيأ لها الزمان والمكان، والمناخ والإنسان، فأضحت بفضل جهود أبنائها وفيض علمهم وورعهم وعلو همتهم، السراج المنير في ظلمات الجهل، تضيء الأرجاء، وتطهر الأجواء من كل أدران الخمول والتقاعس، والكبر والترؤس، فحق لها أن تكون دار علم وعمل وعادة وعبادة، فمن مجد إلى مجد، وعلى مر الأجيال، وتفاقم الأهوال، تبقى سيدة المجال، الديني والروحي شامخة شموخ الجبال، عائدة عودة الأبطال، رغم كيد الكائدين وحسد الحاسدين، فعلى بركة الله تسير وبمشيئته تنير، وصدق القائل : ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، فهي والله كذلك.
انتهى بعون الله وحسن توفيقه