نقوس المهدي
كاتب
لا يرد ذكر مؤلف الحكاية، أبي المطهر محمد الأزدي، في أي من كتب التراجم القديمة. واستطاع آدم ميتس ان يقرر عبر سلسلة من المقارنات، أنه ينتسب الي النصف الثاني للقرن الخامس الهجري. ويعرف أبوالمطهر نفسه في مقدمة مؤلفه بأنه جامع مختارات من الأدب يهتم علي السواء بالشعر القديم العربي وبنصوص المحدثين. ويقول أنه ألف اشعارا ورسائل ومقامات وليس بالمستطاع معرفة ما اذا كانت هذه الكلمة الأخيرة تحيل علي نموذج الهمداني، أو تدل فقط علي المعني المتداول 'لخطاب في مجلس. ومهما يكن الأمر فإن حكاية أبي القاسم تتضمن شذرات من المقامة الساسانية والمقامة المضيرية. غير ان أبا المطهر نفسه في مقدمة مؤلفه بانه جامع مختارات من الأدب يهتم علي السواء بالشعر القديم العربي وبنصوص المحدثين.
ويقول إنه ألف اشعارا ورسائل ومقامات. وليس بالمستطاع معرفة ما اذا كانت هذه الكلمة الأخيرة تحيل علي نموذج الهمداني، أو تدل فقط علي المعني المتداول لخطاب في مجلس ومهما يكن الأمر فإن حكاية أبي القاسم تتضمن شذرات من المقامة الساسانية والمقامة المضيرية. غير ان أبا المظهر لا يذكر اسم الهمذاني، فكيف يمكن معرفة ما اذا كان يقتطف من مؤلفات هذا الأخير، أو أن المؤلفين يستمدان من مصدر مشترك لم يصلنا.
وتذكر المقدمة أيضا أن أبا المطهر ألف حكاية بدوية تشكل القسم الثاني من مؤلفه، غير أنها لم تصلنا، هذه الاشارة هامة بالقدر الذي تؤشر فيه الي ان الثقافة المدينية، موضوع القسم الأول، لاتنفي الثقافة القديمة، في صورتها البدوية والجاهلية، فمتأدب ذلك العصر مشارك في الزمانين والفضائين الثقافيين.
كلمة 'حكاية' لاتعني 'قصة' أو 'خرافة' كما هو الحال في الاستعمال الراهن وإنما تعني 'المحاكاة' و'الاستنساخ'، ويستشهد أبوالمطهر، في هذا الصدد، بنص من 'البيان والتبين' للجاحظ، يتعلق بالمحاكين، وهو نص سنحلله لاحقا. عند أبي المطهر كما عند الجاحظ، تستهدف الحكاية أنماطا، لا أفرادا: فأقوال بطله أبي القاسم وسيلة لمعرفة 'أخلاق البغداديين'. وبعبارة اخري، يختزل تكاثر التجارب الفردية الي 'صورة واحدة عبر محاكاة شخصية واحدة.
هنا تظهر مشكلة دقيقة. إن المحاكين الذين يتحدث عنهم الجاحظ، والذين يحاكون مخارج كلام الأجانب، وأصوات بعض الحيوانات، والمظهر الخارجي للأعمي، يحاكون كائنات مختلفة عنهم، فالحكاية الذي يحكي نهيق الحمار ليس حمارا. فكيف يمكن لأبي القاسم وهو من بغداد أن يحكي البغداديين؟ ولو تولي المحاكاة واحد من أهل أصفهان (والمؤلف يجعل من أصفهان مكان الحدث في مؤلفه)، وكان هذا الأصفهاني يلهو بتقليد سلوك أهل بغداد وكلامهم، يمكن الحديث عن فعل محاكاة. غير أن الأمر ليس كذلك. لو شئنا التدقيق، فإن أبا القاسم ليس حاكية، حتي ولو كان جزء من سلوكه، الذي سنقوم بتحليله، يمكن أن يندرج في المحاكاة (غير أن الأمر سيتعلق آنذاك باستنساخ أقوال وحركات شخص آخر).
كل الصعوبة ناجمة عن التباس كلمة حكاية التي قد تعني 'محاكاة' كما قد تعني 'رواية القول' (ورواية القول هي فضلا عن ذلك شكل من أشكال المحاكاة). واذا اعتبرنا عنوان المؤلف (حكاية أبي القاسم) سنلاحظ أن المحاكاة قد تكون من صنيع أبي القاسم و هو يقوم بحماقاته، كما قد تكون من صنيع المؤلف الذي ينقل (يروي) أقوال أبي القاسم. ولعل مقطعا من المقدمة يرفع الشك:
'هذه حكاية عن رجل بغدادي كنت أعاشره برهة من الدهر، فتتفق منه ألفاظ مستحسنة ومستخشنة وعبارات لأهل بلده مستفصحة، مستفضحة، فأثبتها خاطري، لتكون كالتذكرة في معرفة أخلاق البغداديين، علي تباين طبقاتهم، وكالأنموذج المأخوذ عن عاداتهم، وكأنما قد نظمتهم صورة واحدة.
نستطيع القول إذن إن المؤلف ينقل في مؤلفه، أقوال شخصية نمطية، علاقتها بالبغداديين علاقة النموذج بالوقائع المحسوسة. الحاكية الذي يذكره الجاحظ يحاكي عن قصد كائنات إنسية وحيوانية، وتكتسي محاكاته طابعا نمطيا. في علاقة أبي القاسم مع مواطنيه، لا توجد هذه المسافة، أو هذه الغيرية، التي قد تتيح المحاكاة. وإذا كانت هذه الشخصية تذكر بالحاكية، فما ذلك إلا لأن سلوكها يلخص السمات الفردية والخاصة لفئة من الناس.
يحيل أبوالمطهر علي الجاحظ لانارة هذا الجانب من مؤلفه. أما الجانب الموضوعاتي فيجعله تحت سلطة ابن الحجاج ذلك الذي يجاور في أشعاره، كما رأينا، بين تقديس وتدنيس المحرمات. إن نصا من اليتيمة قد يصلح ان يكون في مفتتح حكاية أبي القاسم: وهو وصف لمجالس مجون الوزير المهلبي.. كما يرويها التنوخي: 'ويحكي (التنوخي) انه كان في جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده في الاسبوع ليلتين (....) وما منهم في اعطاف العيش (.....) ووضع في يد كل منهم كأس ذهب من ألف مثقال الي ما دونها مملوءا شرابا (.....) فيغمس لحيته بل ينقعها حتي تتشرب أكثره، ويرش بها بعضهم علي بعض، ويرقصون أجمعهم، وعليهم المصبغات وعليهم مخانق البرم والمنثور، ويقولون كلما يكثر شربهم هرهر (.....) فإذا أصبحوا عادوا لعاداتهم في التزمت والتوقر، والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء'.
نلاحظ الطابع الدوري لمجلس المجون ('في الأسبوع ليلتين'). الزمن مقسم الي قسمين متعارضين، كل منهما متميز بسلوك خاص: التوقر والابهة تتعاقب مع اطراح الحشمة. والمكان مثله مثل الزمان، مقسم كذلك إلي قسمين: فضاء العربدة وفضاء الحياة الخارجية. واللباس يتغير كذلك حسب الظرف، وقيمته الرمزية واضحة: 'وهبوا ثوب الوقار' يعني اطراح كل من المحرم المتعلق باللباس والمحرمات الأخري التي تتحكم في السلوك. واللحية المغموسة في الكأس مثال جيد عن تلازم النقيضين إذ أن للحية البيضاء والخمر ايحاءات متعارضة. وحين يرش بعضهم بعضا، فإن المهلبي واصحابه يرتكبون فعلا صبيانيا، لايوحي به مظهر المشايخ الكبراء. وأخيرا فإن تحرير الجسد، تحرير الدال، يتمظهر في تكرار أصوات عارية عن المعني ('هرهر').
هذه السمات المختلفة نجدها في حكاية أبي القاسم. تفتتح الصورة الشخصية للبطل بصورة لحية بيضاء منقوعة في الخمر: 'كان (....) شيخا بلحية بيضاء، تلمع في حمرة وجه يكاد يقطر منه الخمر الصرف'.
ويطرح المؤلف من الوهلة الأولي تشارك الأضداد: يكون أبوالقاسم دوريا 'مداحا، قداحا، ظريفا، سخيفا، نبيها، سفيها، قريبا، بعيدا، وقورا، حديدا، مصادقا، مماذقا.... لايمكن تعريف سلوكه بكلمة واحدة، وإنما بكلمتين متضادتين، إن له شيئا من الشبه بألفاظ الاضداد المشهورة في العربية، المثبتة لدلالتين متعارضتين.
ولكون أفعاله تروي بزمن المضارع، فلابد لنا من ملاحظة أن القصة المسرودة تبدو تكثيفا لقصة تكرارية. ويعني ذلك أن الليلة التي يحييها أبوالقاسم ليست ليلة بعينها، بل نمط ليلة، مستمدة من تنضيد ليال كثيرة. فالنقاش حول احترام وانتهاك المحرمات، وهو في المركز من المؤلف، لايجد حلا، اذ سيتكرر حرفيا. إن أبا القاسم، مثله في ذلك مثل أصحاب المهلبي المرحين، ينتقل من حال الي حال مضادة، ليعود بعد ذلك الي نقطة البداية. فهو ليس بطل بحث، يفضي الي نقطة ختام بعد مرحلة تحضيرية تتميز بسلسلة من الاختبارات: وعكس أن يتقدم، فهو لايصنع شيئا سوي التكرار بلا ملل لوجهي جدلية لا تفضي إلي أي مكان.
يصف مطلع الكتاب، بصيغة تكرارية ('كان من عاداته أن...') دخول أبي القاسم مجلسا مشهودا باعيان الناس، وعليه طيلسان قد اسبل طرفه علي جبينه، وغطي شطر وجهه (والطيلسان، كما سنري، يرمز للضغوط التي يفرضها الأنا الأعلي علي الفرد). وبعد أن يسلم علي المجلس 'بترخيم ونغمة 'يشرع في تلاوة القرآن، همسا في البداية، ثم جهرا بعد ذلك. ولايزال يتصنع ويتخشع، الي أن يلحظ واحدا من القوم متبسما، فيعاتبه بهذا القول: 'ياقاسي القلب، أكل هذا الطرب، بعد قتل الحسين الذبيح؟ ثم يأخذ في مديح علي، ينشده بصوت شجي، مستعبرا وماسحا عينيه من الدمع.
الإثارة الثانية لن تكون بسمة، بل قولا لأحد الحاضرين: يا أبا القاسم لا بأس، ما في القوم الا من يشرب وينيك. أبوالقاسم، المتصنع لدور المتخشع، مدعو الي الانفصال عن الدور الذي يفرط في تجسيده، وأن يهجر حال الوقار التي لايصنع شيئا سوي محاكاتها، ويتخذ هيئة أكثر تحررا. ولنلاحظ ان الجملة التي تزيل عنه القناع تكشف عن الان ذاته عن الموقف الملتبس للحاضرين.
والآن إذ تحطمت المظاهر الزائفة، يبدأ زمن جديد، متميز بالفحش والتهتك وتأسيس ألفة 'كرنفالية'. يرد أبوالقاسم علي التحدي، فيحل عقد حبوته، وينحي طرف طيلسانه عن جبهته: وهي مرة اخري حركات رمزية، تحرر الجسد من الانحباس والتيبس، وتمهد لسلوك منتهك للمحرمات. ولن يتعلق الأمر، خارج كل قيد، سوي بتشكيل جسد متعدد ووظائفه.
تظهر سلسلة من الصور الشخصية: تخضع كل شخصية، بما فيها صاحب المجلس، لوصف مدحي متبوع بوصف قدحي. هذا 'رجل فاضل أديب، ذاك 'إنسان خطير. وثالث 'إنسان يداخل الكبار' ألخ. وأبو القاسم الذي يقدم اليه الضيوف من زاوية نظر خارجية، مقتصرة علي المظهر والدور الرسمي، يقدم بدوره هؤلاء المدعوين انفسهم من زاوية نظر مغايرة، علي ايقاع الصور الجزئية للجنس والهضم والبراز.
القسم المركزي في المؤلف هو موازنة بين فضائل بغداد واصفهان، (ومن المعلوم ان الموازنة بين مدينتين أو مؤلفين كانت من المواضيع المفضلة للكتابة عند القدماء). ولأنه بغدادي صميم، يقدح أبوالقاسم في اصفهان ويمتدح بغداد، غير انه، فجأة يتراجع، ويأخذ بالقدح في بغداد، وامتداح اصفهان... حين يقول نعم لابد أن نتوقع منه أن يقول لا، والعكس بالعكس. وعلي طول الليلة، يمدح ويهجو، علي التوالي، الضيوف لايتكلم هؤلاء إلا نادرا، فهم قبل كل شيء المشاهدون المندهشون من لعبته. انهم يستفزونه ويتلهون بسخافاته، غير انهم في الوقت ذاته يهابونه ولايترددون عن لومه: 'إلي متي هذا السخف أيها الشيخ وقد يبلغ الحرج بأحدهم أن يرشح جبينه حياء ويسعي آخر الي التهرب منه، وثالث يغادر المجلس، ورابع يغضب.... رد الفعل المتناقض للمجلس يظهر أن انتهاك المحرمات مرغوب ومرهوب في آن معا.
سيتخذ عقاب المنتهك في الأخير مظهر قتل رمزي. يقرر المجلس اسكار أبي القاسم لايقاف هذيانه الفاضح، فهو يقوم بتحويل شعوره بالإثم ليسقطه علي أبي القاسم، وبذلك يتحرر من إغراء الفوضي التي يجسدها هذا الأخير. واذ يغرقه في النوم فان المجلس يتبرأ منه ويؤكد من جديد تعلقه بالمحرمات. والخلاصة أن أبا القاسم يبدو كبطل مخلص: يثير شذوذ سلوكه رد فعل مخلص عند المستمعين الذين يكبتون كل شعور بالاثم ويعيدون النظام الذي تقوم عليه حياة الجماعة.
ولأنه بارع في التراجع والتناقض، فإن ابا القاسم يغير سلوكه عند افاقته. وتتم العودة الي الوضع البدثي: يجهر بالدعاء الي الله والرسول من جديد، ويتلو القرآن، ويذر بمقتل الحسين احد الحاضرين الذين كان يبتسم، ويأخذ في امتداح علي وأهله. وأخيرا ينهض، ويسوي طيلسانه ويغادر رفاق البارحة. الخاتمة نسخة طبق الأصل للبداية، القول القرآني يفتح المؤلف ويختمه. ولم يبق للمؤلف الا ان يأتي بالخلاصة، والخلاصة اعادة للمقدمة: يوصف ابوالقاسم مرة اخري بكونه كائنا ملتبسا: 'كان عرة الزمان، وعديل الشيطان، ومجمع المحاسن والمقابح' يعود كل شيء الي مجراه، لكن كل شيء يمكن ان يبدأ من جديد.
* من كتاب 'المقامات' ترجمة عبدالكبير الشرقاوي
دار توبقال¬ المغرب
ويقول إنه ألف اشعارا ورسائل ومقامات. وليس بالمستطاع معرفة ما اذا كانت هذه الكلمة الأخيرة تحيل علي نموذج الهمداني، أو تدل فقط علي المعني المتداول لخطاب في مجلس ومهما يكن الأمر فإن حكاية أبي القاسم تتضمن شذرات من المقامة الساسانية والمقامة المضيرية. غير ان أبا المظهر لا يذكر اسم الهمذاني، فكيف يمكن معرفة ما اذا كان يقتطف من مؤلفات هذا الأخير، أو أن المؤلفين يستمدان من مصدر مشترك لم يصلنا.
وتذكر المقدمة أيضا أن أبا المطهر ألف حكاية بدوية تشكل القسم الثاني من مؤلفه، غير أنها لم تصلنا، هذه الاشارة هامة بالقدر الذي تؤشر فيه الي ان الثقافة المدينية، موضوع القسم الأول، لاتنفي الثقافة القديمة، في صورتها البدوية والجاهلية، فمتأدب ذلك العصر مشارك في الزمانين والفضائين الثقافيين.
كلمة 'حكاية' لاتعني 'قصة' أو 'خرافة' كما هو الحال في الاستعمال الراهن وإنما تعني 'المحاكاة' و'الاستنساخ'، ويستشهد أبوالمطهر، في هذا الصدد، بنص من 'البيان والتبين' للجاحظ، يتعلق بالمحاكين، وهو نص سنحلله لاحقا. عند أبي المطهر كما عند الجاحظ، تستهدف الحكاية أنماطا، لا أفرادا: فأقوال بطله أبي القاسم وسيلة لمعرفة 'أخلاق البغداديين'. وبعبارة اخري، يختزل تكاثر التجارب الفردية الي 'صورة واحدة عبر محاكاة شخصية واحدة.
هنا تظهر مشكلة دقيقة. إن المحاكين الذين يتحدث عنهم الجاحظ، والذين يحاكون مخارج كلام الأجانب، وأصوات بعض الحيوانات، والمظهر الخارجي للأعمي، يحاكون كائنات مختلفة عنهم، فالحكاية الذي يحكي نهيق الحمار ليس حمارا. فكيف يمكن لأبي القاسم وهو من بغداد أن يحكي البغداديين؟ ولو تولي المحاكاة واحد من أهل أصفهان (والمؤلف يجعل من أصفهان مكان الحدث في مؤلفه)، وكان هذا الأصفهاني يلهو بتقليد سلوك أهل بغداد وكلامهم، يمكن الحديث عن فعل محاكاة. غير أن الأمر ليس كذلك. لو شئنا التدقيق، فإن أبا القاسم ليس حاكية، حتي ولو كان جزء من سلوكه، الذي سنقوم بتحليله، يمكن أن يندرج في المحاكاة (غير أن الأمر سيتعلق آنذاك باستنساخ أقوال وحركات شخص آخر).
كل الصعوبة ناجمة عن التباس كلمة حكاية التي قد تعني 'محاكاة' كما قد تعني 'رواية القول' (ورواية القول هي فضلا عن ذلك شكل من أشكال المحاكاة). واذا اعتبرنا عنوان المؤلف (حكاية أبي القاسم) سنلاحظ أن المحاكاة قد تكون من صنيع أبي القاسم و هو يقوم بحماقاته، كما قد تكون من صنيع المؤلف الذي ينقل (يروي) أقوال أبي القاسم. ولعل مقطعا من المقدمة يرفع الشك:
'هذه حكاية عن رجل بغدادي كنت أعاشره برهة من الدهر، فتتفق منه ألفاظ مستحسنة ومستخشنة وعبارات لأهل بلده مستفصحة، مستفضحة، فأثبتها خاطري، لتكون كالتذكرة في معرفة أخلاق البغداديين، علي تباين طبقاتهم، وكالأنموذج المأخوذ عن عاداتهم، وكأنما قد نظمتهم صورة واحدة.
نستطيع القول إذن إن المؤلف ينقل في مؤلفه، أقوال شخصية نمطية، علاقتها بالبغداديين علاقة النموذج بالوقائع المحسوسة. الحاكية الذي يذكره الجاحظ يحاكي عن قصد كائنات إنسية وحيوانية، وتكتسي محاكاته طابعا نمطيا. في علاقة أبي القاسم مع مواطنيه، لا توجد هذه المسافة، أو هذه الغيرية، التي قد تتيح المحاكاة. وإذا كانت هذه الشخصية تذكر بالحاكية، فما ذلك إلا لأن سلوكها يلخص السمات الفردية والخاصة لفئة من الناس.
يحيل أبوالمطهر علي الجاحظ لانارة هذا الجانب من مؤلفه. أما الجانب الموضوعاتي فيجعله تحت سلطة ابن الحجاج ذلك الذي يجاور في أشعاره، كما رأينا، بين تقديس وتدنيس المحرمات. إن نصا من اليتيمة قد يصلح ان يكون في مفتتح حكاية أبي القاسم: وهو وصف لمجالس مجون الوزير المهلبي.. كما يرويها التنوخي: 'ويحكي (التنوخي) انه كان في جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده في الاسبوع ليلتين (....) وما منهم في اعطاف العيش (.....) ووضع في يد كل منهم كأس ذهب من ألف مثقال الي ما دونها مملوءا شرابا (.....) فيغمس لحيته بل ينقعها حتي تتشرب أكثره، ويرش بها بعضهم علي بعض، ويرقصون أجمعهم، وعليهم المصبغات وعليهم مخانق البرم والمنثور، ويقولون كلما يكثر شربهم هرهر (.....) فإذا أصبحوا عادوا لعاداتهم في التزمت والتوقر، والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء'.
نلاحظ الطابع الدوري لمجلس المجون ('في الأسبوع ليلتين'). الزمن مقسم الي قسمين متعارضين، كل منهما متميز بسلوك خاص: التوقر والابهة تتعاقب مع اطراح الحشمة. والمكان مثله مثل الزمان، مقسم كذلك إلي قسمين: فضاء العربدة وفضاء الحياة الخارجية. واللباس يتغير كذلك حسب الظرف، وقيمته الرمزية واضحة: 'وهبوا ثوب الوقار' يعني اطراح كل من المحرم المتعلق باللباس والمحرمات الأخري التي تتحكم في السلوك. واللحية المغموسة في الكأس مثال جيد عن تلازم النقيضين إذ أن للحية البيضاء والخمر ايحاءات متعارضة. وحين يرش بعضهم بعضا، فإن المهلبي واصحابه يرتكبون فعلا صبيانيا، لايوحي به مظهر المشايخ الكبراء. وأخيرا فإن تحرير الجسد، تحرير الدال، يتمظهر في تكرار أصوات عارية عن المعني ('هرهر').
هذه السمات المختلفة نجدها في حكاية أبي القاسم. تفتتح الصورة الشخصية للبطل بصورة لحية بيضاء منقوعة في الخمر: 'كان (....) شيخا بلحية بيضاء، تلمع في حمرة وجه يكاد يقطر منه الخمر الصرف'.
ويطرح المؤلف من الوهلة الأولي تشارك الأضداد: يكون أبوالقاسم دوريا 'مداحا، قداحا، ظريفا، سخيفا، نبيها، سفيها، قريبا، بعيدا، وقورا، حديدا، مصادقا، مماذقا.... لايمكن تعريف سلوكه بكلمة واحدة، وإنما بكلمتين متضادتين، إن له شيئا من الشبه بألفاظ الاضداد المشهورة في العربية، المثبتة لدلالتين متعارضتين.
ولكون أفعاله تروي بزمن المضارع، فلابد لنا من ملاحظة أن القصة المسرودة تبدو تكثيفا لقصة تكرارية. ويعني ذلك أن الليلة التي يحييها أبوالقاسم ليست ليلة بعينها، بل نمط ليلة، مستمدة من تنضيد ليال كثيرة. فالنقاش حول احترام وانتهاك المحرمات، وهو في المركز من المؤلف، لايجد حلا، اذ سيتكرر حرفيا. إن أبا القاسم، مثله في ذلك مثل أصحاب المهلبي المرحين، ينتقل من حال الي حال مضادة، ليعود بعد ذلك الي نقطة البداية. فهو ليس بطل بحث، يفضي الي نقطة ختام بعد مرحلة تحضيرية تتميز بسلسلة من الاختبارات: وعكس أن يتقدم، فهو لايصنع شيئا سوي التكرار بلا ملل لوجهي جدلية لا تفضي إلي أي مكان.
يصف مطلع الكتاب، بصيغة تكرارية ('كان من عاداته أن...') دخول أبي القاسم مجلسا مشهودا باعيان الناس، وعليه طيلسان قد اسبل طرفه علي جبينه، وغطي شطر وجهه (والطيلسان، كما سنري، يرمز للضغوط التي يفرضها الأنا الأعلي علي الفرد). وبعد أن يسلم علي المجلس 'بترخيم ونغمة 'يشرع في تلاوة القرآن، همسا في البداية، ثم جهرا بعد ذلك. ولايزال يتصنع ويتخشع، الي أن يلحظ واحدا من القوم متبسما، فيعاتبه بهذا القول: 'ياقاسي القلب، أكل هذا الطرب، بعد قتل الحسين الذبيح؟ ثم يأخذ في مديح علي، ينشده بصوت شجي، مستعبرا وماسحا عينيه من الدمع.
الإثارة الثانية لن تكون بسمة، بل قولا لأحد الحاضرين: يا أبا القاسم لا بأس، ما في القوم الا من يشرب وينيك. أبوالقاسم، المتصنع لدور المتخشع، مدعو الي الانفصال عن الدور الذي يفرط في تجسيده، وأن يهجر حال الوقار التي لايصنع شيئا سوي محاكاتها، ويتخذ هيئة أكثر تحررا. ولنلاحظ ان الجملة التي تزيل عنه القناع تكشف عن الان ذاته عن الموقف الملتبس للحاضرين.
والآن إذ تحطمت المظاهر الزائفة، يبدأ زمن جديد، متميز بالفحش والتهتك وتأسيس ألفة 'كرنفالية'. يرد أبوالقاسم علي التحدي، فيحل عقد حبوته، وينحي طرف طيلسانه عن جبهته: وهي مرة اخري حركات رمزية، تحرر الجسد من الانحباس والتيبس، وتمهد لسلوك منتهك للمحرمات. ولن يتعلق الأمر، خارج كل قيد، سوي بتشكيل جسد متعدد ووظائفه.
تظهر سلسلة من الصور الشخصية: تخضع كل شخصية، بما فيها صاحب المجلس، لوصف مدحي متبوع بوصف قدحي. هذا 'رجل فاضل أديب، ذاك 'إنسان خطير. وثالث 'إنسان يداخل الكبار' ألخ. وأبو القاسم الذي يقدم اليه الضيوف من زاوية نظر خارجية، مقتصرة علي المظهر والدور الرسمي، يقدم بدوره هؤلاء المدعوين انفسهم من زاوية نظر مغايرة، علي ايقاع الصور الجزئية للجنس والهضم والبراز.
القسم المركزي في المؤلف هو موازنة بين فضائل بغداد واصفهان، (ومن المعلوم ان الموازنة بين مدينتين أو مؤلفين كانت من المواضيع المفضلة للكتابة عند القدماء). ولأنه بغدادي صميم، يقدح أبوالقاسم في اصفهان ويمتدح بغداد، غير انه، فجأة يتراجع، ويأخذ بالقدح في بغداد، وامتداح اصفهان... حين يقول نعم لابد أن نتوقع منه أن يقول لا، والعكس بالعكس. وعلي طول الليلة، يمدح ويهجو، علي التوالي، الضيوف لايتكلم هؤلاء إلا نادرا، فهم قبل كل شيء المشاهدون المندهشون من لعبته. انهم يستفزونه ويتلهون بسخافاته، غير انهم في الوقت ذاته يهابونه ولايترددون عن لومه: 'إلي متي هذا السخف أيها الشيخ وقد يبلغ الحرج بأحدهم أن يرشح جبينه حياء ويسعي آخر الي التهرب منه، وثالث يغادر المجلس، ورابع يغضب.... رد الفعل المتناقض للمجلس يظهر أن انتهاك المحرمات مرغوب ومرهوب في آن معا.
سيتخذ عقاب المنتهك في الأخير مظهر قتل رمزي. يقرر المجلس اسكار أبي القاسم لايقاف هذيانه الفاضح، فهو يقوم بتحويل شعوره بالإثم ليسقطه علي أبي القاسم، وبذلك يتحرر من إغراء الفوضي التي يجسدها هذا الأخير. واذ يغرقه في النوم فان المجلس يتبرأ منه ويؤكد من جديد تعلقه بالمحرمات. والخلاصة أن أبا القاسم يبدو كبطل مخلص: يثير شذوذ سلوكه رد فعل مخلص عند المستمعين الذين يكبتون كل شعور بالاثم ويعيدون النظام الذي تقوم عليه حياة الجماعة.
ولأنه بارع في التراجع والتناقض، فإن ابا القاسم يغير سلوكه عند افاقته. وتتم العودة الي الوضع البدثي: يجهر بالدعاء الي الله والرسول من جديد، ويتلو القرآن، ويذر بمقتل الحسين احد الحاضرين الذين كان يبتسم، ويأخذ في امتداح علي وأهله. وأخيرا ينهض، ويسوي طيلسانه ويغادر رفاق البارحة. الخاتمة نسخة طبق الأصل للبداية، القول القرآني يفتح المؤلف ويختمه. ولم يبق للمؤلف الا ان يأتي بالخلاصة، والخلاصة اعادة للمقدمة: يوصف ابوالقاسم مرة اخري بكونه كائنا ملتبسا: 'كان عرة الزمان، وعديل الشيطان، ومجمع المحاسن والمقابح' يعود كل شيء الي مجراه، لكن كل شيء يمكن ان يبدأ من جديد.
* من كتاب 'المقامات' ترجمة عبدالكبير الشرقاوي
دار توبقال¬ المغرب