نقوس المهدي
كاتب
إن كلمة نقد التي تترجم إلى الفرنسية Critique تعني أيضا فعالية الصيرفي الذي يميز بين جيد النقود ورديئها. إن مؤلفات النقد التي ألفت من أجل الشعراء المبتدئين ممتلئة بالنصائح والتوجيهات. ويخضع تقويم الشعر إجمالا لمعيارين: الأول له علاقة بالروابط التي تربط بين مكونات النص الشعري، والثاني بالنص وبوضعية الخطاب. وقد كان خرق المبادئ الموضوعة من طرف الشعريين صعب التقبل على العموم. قال خلف الأحمر ذات يوم لمحاور له معاند: "ماذا ينفعك الدرهم إذا أخذت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف إنه رديء؟"(1).
إن الحالة المعيارية، على كل حال، غير مفترقة عن حالة وصفية ما. ومن الممكن أن تكون "أسرار البلاغة"، متصنعة ومحللة، ومردودة إلى قواعد عامة. حتى القرآن، النص الإلهي المعجز، يمكن أن يكون موضوع بحث بكشف أسرار جماليته, وكذا موضوع التأثير الخاص الذي يحدثه في السامع. والجرجاني هو المؤلف الذي أكد أكثر على هذه النقطة: "لا يكفي أن تقولوا: إن خصوصية في كيفية النظم، وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض، تصفوا تلك الخصوصية، وتبينوها وتذكروا لها أمثلة […] كما يذكر لك من تستوصفه عمل الديباج المنقش ما تعلم به وجه الصنعة، أو يعمله بين يديك حتى ترى عيانا كيف تذهب تلك الخيوط وتجيء، ومن عجيب تصرف اليد، ما تعلم منه مكان الحذق وموضع الأستاذية"(2).
يبدو لنا هذا النص مهما لسببين: فهو من جهة رد فعل قوي ضد التوجه الكسول أو التوجه الذي يوقر خاطئا(3) النص. ويرفض البحث عن الشيء الذي يرتكز عليه التأثير الجمالي الناتج عن بيت شعري أو آلية قرآنية، ومن جهة أخرى فهو يضع تشابها بين الشعر والنسيج. إن المقارنات التي من هذا الصنف ومن أصناف أخرى تقوم بالتلميح إلى فن صناعة الجواهر التي ترد باستمرار في تحاليل الشعريين وعلماء الكلام(4) (المدافعين عن القرآن). إنها تؤسس على هذا النحو خطابا مجهولا، يحيل إلى مشهد مشترك، وإلى نفس التمثيل للشعر وللعالم.
إن دراسته تسمح لنا بالاقتراب، بطريقة غير مباشرة، من بعض مظاهر الشعرية العربية(5) وسنتوقف عند اللواتي يحمن حول مفهوم الصناعة: معتمدين في ذلك على مؤلفات كتبت بين القرن الثالث والقرن الخامس. إن بعض التوضيحات ذات البعد التاريخي ستعيننا على تحديد السياق الذي تبلورت فيه اللغة الواصفة للشعريين العرب.
الصناعة:
إن مؤلفات الشعرية العربية (كتب النقد) مسيجة بهَمّ معذِّب، لأنها تمثل ضمنا أو صراحة: تبريرا للخطاب الشعري. هذا الهم اتضح بشكل جلي، خلال القرن الثالث للهجرة، وصاحب الصراع بين القدماء والمحدثين، فالشاعر العباسي لا يجهل بأنه لم يعد يلعب نفس الدور الذي كان يؤديه الشاعر الجاهلي، ولا يجهل أيضا بأن إنتاجه الشعري مختلف.
فالشاعر الجاهلي لا يهتم أبدا بمصير أبياته، أو بالأحرى، فإن السؤال يمحي أمام بداهة الجواب. لقد كان الشاعر في القبيلة ضروريا، مثله مثل السيد أو الكاهن، حين أسندت إليه وظيفة محددة، فهو قَيِّمٌ على الكلام، ومبلور للذاكرة الجماعية، ومحامي القبيلة، ومنشد للأحداث الباهرة ومفاخر الأسلاف. هكذا بدا لمدنيي العهود اللاحقة في غموض حنيني. إن مجيء الإسلام لم يقلب بسرعة معطيات الشعر الجاهلي. فالرسول على الرغم من رأيه الصارم المعبر عنه في القرآن(6) ضد الشعراء لم يستطع الاستغناء عن هؤلاء في صراعه ضد المشركين. ولقد كان الكلام وسيلة للصراع، حيث كان يقارن بالسهام القاتلة. وقد قال الرسول يوما لشاعر حديث العهد بالإسلام "اهجهم -يعني قريشا- فوالله لهجاؤك أشد من وقع السهام في غلس الظلام"(7).
لقد تزامن تأسيس الإمبراطورية مع الصراعات السياسية-الدينية المهيجة من طرف الشعراء والخطباء على الساحة العمومية أو في حقل الصراع. لقد كان للكلام وظيفة أساسية تتشكل في التأثير على السامع أو إرباك الخصم.
إن الأشياء تتغير تدريجيا فيما بعد، ولأسباب قوية ومعقدة ستؤدي بالفن الشفوي إلى حصره في نوع الوعظ، أما بالنسبة للشعر فإنه بدأ ينزع إلى أن لا يستعمل أبدا لصالح أسرة معينة أو طامع في السلطة. لقد أصبح التستر بواسطة التقية قاعدة(8) وأصبح الصراع ضد السلطة المركزية يمارس بطريقة ماكرة وحذرة، وذلك بواسطة الكلام المهموس.
كيف سيكون وضع الشعر في ظل هذه الشروط؟ إن المشكل لا يطرح ضمن نفس المصطلحات شعر القدماء والمحدثين. فالأول عرف رد اعتبار مذهل، إذ معرفته قد سوغت فعلا تسهيل الصعوبات اللغوية للقرآن، ويمثل، بالإضافة إلى ذلك، سندا أساسيا في القضية التي تتعلق بإعجاز القرآن، وهذا انطلاقا من اللحظة التي فرضت فيها (بعد تحفظات متعددة) الفكرة القائلة بأن كلام الله أربك الناس ليس فقط بآياته التي تتحدث عن أمور غيبية، وإنما، وبالضبط، باعتباره خطابا ينظم الكلمات بطريقة خاصة(9). إن الشعر الجاهلي وشعر القرن الأول للهجرة سيعتبران المقياس الثاني في مقارنة سيكون فيها القرآن هو المقياس الأول. لن يكون شعر المحدثين سوى شيء عرضي في دعوته إلى حفل المقارنات. إن لغته ليست خالصة بفعل اختلاط الشعوب، زيادة على ذلك "فعلماء الكلام" ينطلقون من مسلمة وهي أن العرب الذين عاصروا الوحي كانوا أكثر فصاحة من غيرهم… لذلك لم يأت أي دليل لاهوتي ليدعم شعر المحدثين، وذلك لأنه لم يستطع أن يدعي أن له دورا مساعدا للعلوم الدينية، وبعد مدة من الزمن سيعامل باحتقار.
في هذا السياق يعتبر صدور كتاب البديع لابن المعتز الحدث الأول من نوعه، لقد أحصى ثمانية عشر محسنا لفظيا في كتابه هذا (إن هذا العدد سيتزايد في الأبحاث اللاحقة)، إنها دعامة غير منتظرة قدمت للمحدثين، وباعتبار المحسنات تزينات للخطاب سينتبه الشعر الجديد لنزعته التي هي بالأساس زخرفية.
إن مسيرة ابن المعتز لا تخلو من بعض الغموض، فهو معارض بلا ريب لرأي شائع، لأنه ينفي عن المحدثين تفردهم لاستعمال الأوجه البلاغية.
إن هذه الأخيرة توجد كما يقول في الشعر الجاهلي وفي القرآن الكريم وأحاديث الرسول. فليس هناك اختلاف جوهري يميز بين خطابات القدماء وخطابات المحدثين، لكن الاختلاف يوجد في درجة استعمال الأساليب البلاغية كالاستعارة والجناس والطباق. ويمكن أن نتساءل مرة أخرى! ألم يكن ابن المعتز في تدرعه بالنماذج الرائعة في الشعر القديم لا يبحث سوى عن إبعاد الاتهام الخطير الذي اتهم به المحدثون، ألا وهو الابتداع. يستطيع هؤلاء المحدثون التقدم دائما مكتفين فقط بإقامة نظرية لم يعمل الأقدمون سوى على التلميح لها. إن اللحظة التي ينفجر فيها الاختلاف هي عندما يضيفون بأنهم يستعملون المحسنات البديعية عمدا، مع معرفى الأسباب، في حين يستعملها القدامى بشكل تلقائي. ستظهر فجأة قطيعة بين نوعين من "الكتابة" قطيعة سيصفها ابن رشيق بقوله: " وإنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين، ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه، فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن، والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن"(10).
يدرك ابن رشيق بأن هناك عتبة قد تجوزت، وأن هناك شعرا جديدا قد ظهر، ألا يوصي الشعراء بالتنقيب في المحسنات؟ من الآن، فصاعدا، لا يمكن الحديث عن الشعر دون الرجوع إلى فنون تصنع أشياء راقية كالزركشة والصياغة، هناك مؤلفات تذكر لفظة الصناعة في عناوينها مثل كتاب الصناعتين الخ… وهناك عناوين ترجع إلى صناعة خاصة مثل العقد الفريد ويتيمة الدهر. وقلائد العقيان. وما دام شعر المحدثين لا يقدم شيئا للدراسات التفسيرية، وما دام في جملته غير مجد، فإنه سيجعل من لاجدواه هذه خاصيته المميزة. ولكي يصل عليه في البداية أن يصفي حسابه مع الدين. سيقال بأن الشعر والدين يكونان مجالين مفترقين ومتباينين، وسيعمل على إبعاد الإنتاج الشعري عن كل اهتمام ذي طبيعة أخلاقية. فليس المهم أن يكون المعنى المعبر عنه وضيعا أو ساميا، وإنما الأساسي هو المحافظة على جودة تقنية البيت الشعري.
إذ من الذي اهتم، في الواقع بالحكم على عمل الصناع انطلاقا من اعتبارات أخلاقية؟ لقد أعلى قدامة بقوة هذا المبدأ: "إن المعاني كلها معروضة للشاعر، وله أن يتكلم منها في ما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه[…] وليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه كما لا يعيب جودة النجارة في الخشب مثلا رداءته في ذاته"(11).
سيعتبر الشعر بمثابة صورة لأشياء نادرة ونفسية تزين صالونات الممدوحين والأغنياء والمتأنقين، ويل "للكلمة العارية"، بدون زخرفة! إن الخاصية التزينية والزخرفية تبدو واضحة عندما نتذكر بأن من يسمون "بالظرفاء" كانوا ينقشون أبياتا على الخواتم والأسورة والوشاحات والأكواب. إن الكلمة تقارب بالدرة، والشعر بالأشياء الرفيعة التي من جانبها تبرز لمعانها مستدعية بذلك عقودها التي تمثلها الأبيات الشعرية.
الكيمياء اللفظية:
يتطلب الشعر -ككل صناعة- مرانا طويلا وشاقا، حيث إن المظهر الأساسي هو حفظ مجوعة كبيرة من الأبيات الشعرية. وينبغي، بعد ذلك، للشاعر المتمرن أن "يتظاهر بنسيان" كل ما حفظه، من خلال هذا فقط يمكن لتركيبة شخصية أن تبزغ يوما ما، تركيبة تشبه "سبيكة مفرغة من جميع الأصناف التي تخرجها المعادن، وكماء قد اغترف من واد قدمته سيول جارية من شعاب مختلفة، وكطيب تركب من أخلاط من الطيب كثيرة، فيستغرب عيانه ويغمض مستبطنه" ابن طباطبا(12).
لقد نظر للإبداع كتحويل. فالشاعر يوجد أمام مادة أخذت شكلا محددا سلفا وعليه تحويل هذه المادة بشكل مساو في الجمال أو أحسن، إنه يشتغل انطلاقا من حطام، ومن شظايا نشأ منها. يشبه إذن وفق ابن طباطبا بالصائغ الذي يذيب الذهب والفضة المصوغين. فيعيد صياغتها بأحسن مما كانا عليه"(13) باحثا على إعطائها شكلا أكثر جاذبية غير ذلك الذي كانت عليه من قبل.
إن أحد العناصر الرئيسية للشعرية العربية نجده متضمنا في كلمة "المعارضة" التي تعني "التقليد الخلاق". فالشاعر لا يبتكر، بل يكتفي بالتنافس مع المتقدمين عليه باحثا عن التساوي معهم أو تجاوزهم. إنه حول هذا العنصر يتركز مبدأ الإعجاز القرآني، فالعرب الذين وجدوا أنفسهم أمام الدين الجديد لم يستطيعوا أبدا، رغم التحدي المتكرر عدة مرات، أن يعارضوا القرآن (إن بعض المحاولات التي تذكر في هذا الإطار حوكمت بسخرية من طرف المدافعين عن القرآن).
وفي المجال الشعري، عندما تنجح المعارضة يندهش الشعري، غير راض بالرجوع إلى الصياغة، ويستدعي الكيمياء. فالشاعر حسب قول الجرجاني " يصنع من المادة الخسيسة بدعا يغلو في القيمة ويعلو، ويفعل من قلب الجواهر. وتبديل الطبائع، ما ترى به الكيمياء وقد صحت، ودعوى الإكسير وقد وضحت "(14).
وما دمنا لا نغادر مجال الأحجار الكريمة، نشير إلى أن الشاعر هو الآخر يقارن بالجواهري المهووس ببيع عقود جواهره، مواجها قانون العرض والطلب، وكذا تقلبات السوق. إن تيمة بيع البضاعة الشعرية بالخسارة كان قد تغنى بها أكثر من شاعر.
الجسد المتعدد:
جواهر، أثواب، ألوان: كثيرة هي الإحالات التي تدور بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حول الجسد، ولنتقدم شيئا ما، وسنجد تشابها بين النص الشعري والجسد الإنساني. بالرغم من الانتماء إلى نفس الجنس فالناس يختلفون مع ذلك: "في صورهم، وأصواتهم، وعقولهم وحظوظهم وشمائلهم، وأخلاقهم، فهم متفاضلون في هذه المعاني، وكذلك الأشعار هي متفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس"(15) (ابن طباطبا).
إن العلاقة بين الداخل والخارج تبرز هنا، وستصبح صريحة كذلك "فالكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه"(16). إن ابن طباطبا لا يهتم بالتماسك، إنه يعتبر في موضع آخر من كتابه بأن المعنى كالجسد، واللفظ كلباس فاخر يغطيه ويملؤه بحلي متلألئ(17).
الانقطاع، الشذوذ، وانعدام التناغم لا تستطيع فسح المجال سوى لجسم قبيح. من هنا جاء تركيز الشعريين على العناية الخاصة التي يجب إعطاؤها إلى تحولات وفصول القصيدة، وينبغي أن تترابط الأجزاء المختلفة للقصيدة بدقة الواحدة تلو الأخرى(18)، وعلى عمودية الشعر أن تكون صورة من صور الجسد.
وكما يقول الحاتمي فالقصيدة مكونة " مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد من الآخر وباينه في صحة التركيب، غادر الجسم عاهة تتخون محاسنه، وتعفي معالم جماله "(19).
صحيح أن الانتقال من موضوع لآخر في الشعر القديم يحدث دائما بطريقة مفاجئة. ولكن هذا لا ينبغي أن يكون ذريعة للشاعر المحدث الذي عكس ذلك، عليه أن يراعي ما تقدمه مقطوعات القصيدة التي تمثل حالة مرنة وسلسلة. والحاصل أنه "يجب أن تكون القصيدة كلها ككلمة واحدة"(20) (ابن طباطبا). من أجل الوصول إلى هذا الهدف، من الضروري أيضا أن يراعي ائتلاف المعجم المستعمل، فالعقد يكون جميلا عندما تكون الجواهر المكون منها من نفس الصنف. يجب تجنب خلط الكلمات البدوية بالحضرية، والكلمات النادرة بالمألوفة. وهذا لا يعني أن إحدى هذه الأقسام من الكلمات يكون في حد ذاته ساقطا من الشعر. أو مصطدما بمنع ما. بكل بساطة، فكل فكرة ترغب في أن تكون مكسوة بكلمة تناسبها. إن الفكرة لا يناسبها أي لباس كيفما كان، فالكلمة بالنسبة للفكرة "كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حسنا في بعض المعارض دون بعض"(21) (ابن طباطبا).
وفي هذا الأثناء، يمكن لطرفي التشبيه أن يتغيرا بما أننا لم نهتم سوى بالنص وعناصره المكونة له. فالشاعر يشبه بالنساج، وبمجرد استحضارنا حالة الخطاب، وخصوصا المرسل إليه، فالشاعر يتحول إلى خياط، فلكل مرسل إليه (ملك، وزير، قائد، قاض…) خطاب معين يليق به. إن الشعريين يسهلون مهمة الشاعر، مفهرسين باستيعاب، الموضوعات المناسبة لكل فئة اجتماعية. فأبو تمام يسدي النصيحة التالية لأحد اتباعه: "كن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام"(22). فوضعية الخطاب هي التي تحدد مقاس النص. إذا كان الإيجاز ممدوحا، فالإطناب يكون قاعدة في بعض الأحيان (مثلا عندما نبحث بواسطة خطاب ما، عن المصالحة بين المتخاصمين).
في هذا النطاق نلاحظ غائبا كبيرا: إنه جسد الشاعر. إذا كان هذا الأخير يخيط على مقدار الممدوح، فإنه لا يستطيع أن يخيط على مقداره. إن أحاسيسه ومعتقداته الخاصة لا تدخل في الحسبان. لقد قالها قدامة صراحة: "الشعر قول"(23). وأضاف أنه لا ينبغي أن نهتم باعتقادات الشاعر.
النظم:
في هذا المشهد المؤسس من طرف الشعريين العرب، يتاح لجسد الشاعر فرصة التجلي، فنحن نجد في بعض الأحيان ضمن كتب النقد أحكاما تبدو ملتبسة. فما معنى إذن قصيدة "ماؤها غذق"؟ إذا أخذنا هذه الصورة معزولة لا يمكن أن تكون إلا محيرة، ويكفي فقط وضعها في سلسلة من الصور المتقاربة لكي تصبح أقل إلغازا. إن الإبداع الشعري يشبه في بعض الأحيان، بالغوص في عمق البحر. فماذا يجني الشاعر من هذا الغوص؟ إنه يلتقط جواهر ليكون منها عقدا…
لا يحب الجرجاني أن يشبه الكلمة بالدرة، فالدرة كما يقول تنال إعجابنا حتى ولو كانت معزولة عن شبيهاتها. أما الكلمة فبخلاف ذلك، لا تملك أية قيمة في حد ذاتها وعلى أقصى تقدير يمكن القول بأنها قديمة أو وحشية، سهلة النطق أو مألوفة الاستعمال، إنه فقط حين تضم الكلمة بالكلمات الأخرى، إذ ذاك تكسب قيمتها.
إن المدافعين عن القرآن (علماء الكلام) واجهوا هذا المشكل في طريقهم. فانطلاقا من أي جزء تركيبي يمكن القول بأن النص المقدس معجز؟ بما أن الوحي نزل "بلسان عربي"، فلا يمكن أبدا أن تؤخذ الكلمة بعين الاعتبار ما دامت ملكا للعرب كلهم. إذن يتضح أننا لا يمكن أن نتحدث عن الخاصية الإعجازية للقرآن إلا انطلاقا من السورة طويلة كانت أو قصيرة.
إن الكلمة في حد ذاتها غير مهمة، وبارتباطها بكلمات أخرى تكشف عن إمكانياتها، وتستطيع أن تمتلك خاصية شعرية. "فالجمال" و"النبل" ناتجان عن نظم الكلمات وفق طريقة خاصة.
فالكلمات لا نصيب لها إذا كانت منعزلة، والحجة في ذلك هي أنه بإمكان الكلمة أن تعجبنا في سياق لغوي معين، ولا تعجبنا في سياق آخر. و"هل تجد أحدا يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يفسر مكانها في النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها"(24).
طبعا، لا يتعلق الأمر هنا بتركيب الكلمات كما اتفق، أو تقليد "ذاك الذي يلقي الحصى أو يعد الجوز". يظهر النظم عندما نراعي أصول النحو. إن الجرجاني لا يجهل المعارضة التي يمكن أن توجه إليه. فكل خطاب يحترم "معاني النحو". وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يجعل خطابا ما يمتاز عن خطاب آخر، يجيب الجرجاني بأن هناك طرقا متعددة لتأليف الكلمات.
إن المتكلم، الذي رغم احترامه للنحو، والذي يركب الكلمات بدون مجهود فكري وبدون تأن، يشبه ذلك الشخص الذي "عمد إلى لآلئ فخرطها في سلك لا يبغي من أكثر أن يمنعها التفرق وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضه ذلك أن يجيئ له من هيئة أو صورة بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأى العين(25) هذا ما يحدث عندما نجمع بركاكة أجزاء ملفوظ ما بحروف العطف.
نصل إلى الدرجة العليا للنظم عندما تتشابك العناصر المتعددة للملفوظ وتتعلق بدقة فيما بينها. إن الجرجاني إذن يفكر في "حال الباني يضع بيمينه (الحجر) ههنا في حال ما يضع بيساره هناك. نعم وفي حال ما يبصر مكانا ثالثا ورابعا يضعهما بعد الأولين"(26).
الصورة:
لقد رأينا بأن الشعريين العرب يعتبرون الأفكار كمادة خام وهي في متناول كل شاعر. لكن الصعوبة تكمن في استيفائها "في أبهى كسوة وأرق لفظ" عند ذلك، سيقال إن الفصاحة، وجمال الأبيات، يكمنان في اللفظ، أي في الثوب الذي يكسو المعنى.
إن الجرجاني يرفض هذا التصور ويحاربه في كل مؤلفاته. والحجة التي يحاربها تتلخص: عندما يتناول شاعران نفس الفكرة ويتميز أحدهما عن الآخر بميزة خاصة، هذه الأخيرة لا تنشأ إلا من الكلمة التي تختلف في البيتين معا، وليس من المعنى الذي يبقى هو نفسه. إذا كانت الفصاحة لا تتمثل في اللفظ، فلن يكون هناك أي فرق بين آية قرآنية وتفسيرها، إن المفسر يتابع معنى الآية مستعملا تعبيرا (أقل جمالا) من التعبير القرآني.
إن جزءا كبيرا من الخطأ ينشأ، حسب الجرجاني، من المقارنات التي يستعملها النقاد. ومن المفارقات أن المؤلف الذي يرجع بكثرة إلى الصناعة أكثر من غيره هو نفسه الذي يحاكم هذه المرجعية الخطيرة. يبدو أنه الوحيد الذي تساءل حول التشابه بين الشاعر والصانع. إن جانبا كبيرا من عمله يرتكز على تحليل المقارنات التي تروج في مجال النقد ويحاول إبراز عدم دقتها. فهي ليست علامة على كسل ما (نكتفي بالإشارة إليها عوض الدخول في تفاصيل الظواهر الشعرية)، ولكنها تقابل كذلك بمعرفة صحيحة بالشعر. ومن فرط ما استعملت هذه المقارنات يتناسى بأن لها فقط وظيفة تسهيل إدراك بعض الظواهر اللغوية. وتقريب "ما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا"(27). هكذا حدث انزلاق من التشابه إلى التطابق : فالمشبه قد نظر إليه كنسخة مطابقة للمشبه به.
إن الجرجاني غير مخدوع بالمقارنات. فالاختبار النقدي الذي يخضع له هذه المقارنات هو دائما سابق للحلول التي يأتي بها للمشاكل الشعرية. من أجل تصحيح وجهة نظرنا، لا بد من تصحيح مقارنة ما.
يلاحظ، الجرجاني مثلا، بأن في صناعة الجواهر وكذا في كل صناعة، يمكن إعادة إنتاج نفس الشيء مع مجموع خصائصه. نفس السوار يمكن صياغته من طرف جواهري معين ثم من طرف جواهري آخر. فالاحتذاء يصبح رائعا بحيث أن عديم الخبرة يعتقد أن العمل لرجل واحد، وليس يتصور مثل ذلك في الكلام، لأنه لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشعر، أو فصل من النثر، فتؤديه بعينه وعلى خاصيته وصناعته بعبارة أخرى(28). فأما أن يؤدى المعنى بعينه على الوجه الذي يكون حالهما في نفسك حال الصورتين المشتبهتين عن عينيك كالسوارين والشنفين في غاية الإحالة وظن يفضي بصاحبه إلى جهالة عظيمة"(29).
إن الجرجاني لا يقتصر على دحض هذه الطريقة في النظر، فهو يبين أيضا كيف استطاعت أن تفرض نفسها. فالخدعة لا تأتي من الاستعمال الرديء للتشبيه، ولكن أيضا من الغموض بين ملفوظين لهما أساس مشترك. وبين مترادفين، يمكن لمترادفين أن يكون لهما نفس المعنى كقولنا ليث وأسد التي تعني السبع، لكن ليس لهما نفس المعنى في ملفوظين:
"واعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء الذين زعموا أنه إذا كان المعبر عنه واحدا والعبارة اثنتين، ثم كانت إحدى العبارتين افصح من الأخرى وأحسن فإنه ينبغي أن يكون السبب في كونها أفصح وأحسن من اللفظ نفسه. وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث أقاموا الكلامين على الكلمتين، فلما رأوا أنه إذا قيل في الكلمتين: إن معناهما واحد لم يكن بينهما تفاوت ولم يكن للمعنى في أحدهما حال لا يكون له في الأخرى، ظنوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل. وقد غلطوا فافحشوا لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين مثل صورته في الآخر البتة"(30).
إن منبعا ثالثا للخطأ يوجد في عدم دقة المصطلحات الوصفية. فالجرجاني يغضب عندما يقول الشعريون حول السرقة بأن "من أخذ معنى عاريا فكساه لفظا من عنده كان أحق به". من أين يتصور أن يكون هاهنا معنى عار من لفظ يدل عليه؟ من أين يعقل أن يجيء الواحد من معنى من المعاني بلفظ من عنده إن كان المراد باللفظ نطق اللسان"(31).
إن الوصف لا يمكن أن يكون صحيحا إلا إذا كان "اللفظ […] يعني الصورة التي يحدثها الشاعر وغير الشاعر في المعنى". إن الشعريين "تواضعوا فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى والخاصية التي حدثت فيه"(32).
إن اليقظة تفرض نفسها أيضا عندما يعلن الشعريون مقارنين بين بيتين شعريين "بأن المعنى في البيت الآخر" ولكن "قالوا ذلك على حسب ما يقوله العقلاء في الشيئين يجمعهما جنس واحد، ثمة يفترقان بحواس ومزايا وصفات، كالخاتم والخاتم، والشنف والشنف، والسوار والسوار، وسائر أصناف الحلي التي يجمعها جنس واحد، ثم يكون بينهما الاختلاف الشديد في الصنعة والعمل"(33).
هناك طريقتان لصياغة الجواهر، فالصائغ يمكنه صياغة سوار له فقط اسم السوار، وسوار من درجة عالية. وكذلك الأمر بالنسبة للخطابات:[…] إنه يصح أن تكون ههنا عبارتان أصل المعنى فيهما واحد، ثم يكون لأحدهما تحسين ذلك المعنى وتزيينه وإحداث خصوصية[…] لا تكون للأخرى"(34).
بالنسبة لخطاب "غفل ساذج عامي" يقابله خطاب "فصيح" اخرج "في صورة تروق وتعجب"(35).
الغرض:
متى يسمح لنا بالحديث عن تغيير في الصورة؟ إن الجرجاني يتلهى بتعويض كل الكلمات في البيت بمفرداتها، ويصل إلى النتيجة التالية، بأنه لا ينتج عن هذه العملية أي تغيير للصورة. فكلمة "أسد" و"ليث" تعني "السبع"، وإذا قلت رأيت أسدا، بدل رأيت ليثا، فإني لم أقم بتمرير المعنى من صورة إلى أخرى، هنا يوجد استبدال بسيط لا يعمل على إخراج الكلمات من معناها الاصطلاحي.
بالمقابل إذا قلت "رأيت أسدا" وأنا أريد رجلا شجاعا، لم تعد عملية الدلالة هي نفسها. من هذه الحالة لا نصيب الغرض، يعني ما يراد من الرسالة. "بدلالة اللفظ وحده، ولكن بدلالة اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض"(36).
وبالكيفية نفسها عندما يقول الشاعر "كلبي جبان" فإنه يريد أن يسمعنا معنى ثانيا، فهو يعني أنه مضياف، وللوصول إلى الغرض، من الضروري الأخذ بعين الاعتبار علاقة مزدوجة. أولا وقبل كل شيء "يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانيا"(37). فالعلاقة يمكن رسمها كالتالي:
اللفظ –< المعنى –< المعنى الثاني.
إن العلاقة الأولى تعطي المعنى، والثانية تعطي "معنى المعنى".
يمكن الاعتقاد بأنه تم الابتعاد عن المقارنات المفضلة لدى نقادنا. وبالفعل، فهذه المقارنات ستعود للظهور مرة أخرى، وسيدعوها الجرجاني، مخلصا لعادته، بغية إصلاحها في ضوء تحليلها للمعنى الغير المباشر:
" فالمعاني الأولى المفهومة من نفس الألفاظ هي المعارض والوشي والحلي وأشباه ذلك، والمعاني الثواني التي يومئ إليها بتلك المعاني هي التي تكسي تلك المعارض وتزين بذلك الوشي والحلي"(38).
الصدفة:
ليس في متناول النظرة الأولى الاقتراب من المعنى الثاني، الذي لا يستسلم مباشرة للمعرفة، وحدهم ذوو العقول النيرة واللطيفة يستطيعون الوصول إليه. فمن أجل استخراج الدرة، يجب في البدء، تكسير الصدفة التي تحبسها، وكذلك، من أجل الوصول إلى الملك المخفي عن الأنظار يجب الحصول على الرخصة، يقول الجرجاني: "فما كل أحد يفلح في شق الصدفة […] كما ليس كل من دنا من أبواب الملوك فتحت له"(39).
نصل إذن إلى فكرة "القناع" الملقى على المعنى الثاني، هذا القناع الذي يجب تمزيقه بعشق ولطف. فاللذة ستصبح بمقدار الصعوبة المتغلب عليها أثناء هذا البحث عن المعنى. يتكلم الجرجاني عن هذه الصعوبة كما يتحدث شعراء الغزل عن موضوع الرغبة الذي يجعل الأمل يعقب اليأس، والذي يصبح مرغوبا فيه أكثر برفضه المغلف بالوعود، ولا يعطى إلا بعد اختبار الذي يبحث عنه:
" ومن المركوز في الطبع أن الشي إذا نيل بعد الطلب له والاشتياق من النفس أجل والطف، وكانت به أضن وأشغف"(40). إن المعنى لا يمنح جماله إلا لأولئك الذين يستحقونه ببذل مجهودات جبارة.
وأيضا ينبغي أن تجازى هذه المجهودات وأن تصبح الرغبة مشبعة. إن البحث الذي ينكب عليه المتلقي-العاشق هو منبع الفرح إذا كان المعنى الذي كشفناه يرضي الرغبة، ولكن يمكن أن يحصل أن لا تلتقي الرغبة سوى بالكبت. وهذا يحصل إذا "أودع المعنى لك في قالب […] خشن مضرس، حتى إذا رمت إخراجه عسر عليك وإذا خرج خرج مشوه الصورة ناقص الحس"(41). أية خيبة "إذا كنت معه كالغائص في البحر يحتمل المشقة العظيمة، ويخاطر بالروح ثم يخرج الخرز"(42).
العروس المخنوقة:
لن نتعجب عندما نتأكد من أن الأبيات الشعرية المستشهد بها من طرف الشعريين (النقاد) لتوضيح كبت الرغبة تنتمي للمحدثين إن الارتياب سيتركز حول المحسنات، بمعنى حول شرعية الشعر الجديد. فالصور البلاغية لم تؤخذ بتقدير كبير من طرف المدافعين عن القرآن (المتكلمين)، الذين يرفضون رؤية جواهر البلاغة القرآنية في وسائل تعبير في متناول الجميع.
من جهة أخرى يقف الشعريون ضد الاستعمال المفرط للصور البلاغية التي -بعيدا عن تزيين الخطاب- تحرفه عندما تستلهم من طرف ذوق فاسد.
إنهم سينصحون باختيار التوسط. إن ابن رشيق، الذي يعتبر غياب الزخرف عيبا، كتب بأن الإفراط في استعمال المحسنات يؤدي إلى التكلف. ولنذهب بعيدا: فإذا خشينا أن تشوه الأوجه البلاغية القصيدة، فتجنبها يكون أفضل، بمعنى استعمالها بطريقة عفوية كالقدماء. فهل يعني هذا سوى أن جوهر الشعر كجوهر القرآن يجب البحث عنه في الخارج أكثر مما يجب البحث عنه في الأوجه البلاغية؟
إن ابن طباطبا، الذي يشمئز أمام القصيدة، ذات الشكل المبتذل، يحذر بالمقابل من القصيدة الغنية والمتلألئة التي يتضح أنها خادعة عندما نفتشها. إن التمييز بين الظاهر والباطن يلعب دورا صميميا هنا، فإن إعادة كتابة القصيدة نثرا ستظهر المهارات المحتالة.
"فمن الأشعار[…] إذا نقضت وجعلت نثرا لم تبطل جودة معانيها، ولم تفقد جزالة ألفاظها ومنها أشعار مموهة، مزخرفة عذبة تروق الأسماع والأفهام إذا مرت صفحا، فإذا حصلت وانتقدت بهرجت معانيها وزيفت ألفاظها، ومجت حلاوتها، ولم يصلح نقضها لبناء يستأنف، فبعضها كالقصور المشيدة والأبنية الوثيقة الباقية على مر الدهور، وبعضها كالخيام الموتدة التي تزعزعها الرياح، وتوهيها الأمطار ويسرع إليها البلى ويخشى عليها التقوض"(43).
أما الجرجاني، فمن جهته، يؤكد أن الألفاظ خدم للمعاني(44)، ويؤكد أيضا أن نظم الألفاظ ينبع من "نظم المعنى في النفس"(45). إن خطأ المحدثين يكمن في قلبهم دائما هذا القانون مدفوعين بحاجتهم إلى تزيين أبياتهم ما أمكن، في هذا العالم المقلوب، حيث اللفظ هو المتحكم، يحرف وينحط المعنى. نرى، أيضا، أن القدماء كانوا يستلهمون بساطة فنهم أكثر من المحدثين الذين يستلهمون ذوقهم العالي. ما من شك، في أن الجرجاني كان يفكر في القدماء عند ما قال: "وعلى الجملة، فإنك لا تجد تجنيسا مقبولا، ولا سجعا حسنا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه، […] أحلى تجنيسا تسمعه وأعلاه، وأحقه بالحسن وأولاه: ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلا به، وتأهب لطلبه، أو ما هو لحسن ملاءمته -وإن كان مطلوبا- بهذه المنزلة وفي هذه الصورة"(46).
إن البحث الجامح عن المحسنات لا يؤدي سوى إلى "نوع من التضليل"(47). "وقد تجد في كلام المتأخرين الآن كلاما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع، إلى أن تنسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليبين، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت، فلا ضير أن يقع ما عناه في عماء، وأن يوقع السامع، من طلبه، في خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده كمن ثقل على العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها"(48).
وعلى مشارف شعرية الجرجاني، هناك هذا الطريق الشاق المليء بالمخاطر، والذي يسميه "بالسبيل المجهول". ولقلة الزاد فإنه لا يمكن للجرجاني متابعته. صحيح أن اللاحقين له لم يأنفوا من الاهتمام بالأشكال المختلفة للعب اللغوي، بل مارسوه تحت تأثيرهم الشمول والإحاطة أكثر من ممارسة الفهم العميق. وإلى اليوم، ما زال عديد من المستشرقين، والباحثين العرب يستمرون في قراءة مسارات الانحطاط في إنتاج أولئك الذين يدعون بالمحدثين.
يقول ابن رشيق بأنه في العصر الجاهلي "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس"(49).
إن المحدثين لا يستطيعون ادعاء مزيد من الشرف، فإنهم يقابلون الثروة الفاسدة بنية حسنة، ويحولون الابتهاج إلى داخل القصيدة التي ينبغي أن تكون مرئية في صورة "عروس" بلباس فاخر والتي لا تخلو من الجواهر والأصباغ. إن الأعراس لم يتم إنجازها بالرغم من ذلك: فلقد اتهم المحدثون بأنهم خنقوا العروس، والتي من جراء هذا الفعل تحولت إلى مومياء جامدة.
الهوامش:
- ترجمنا هذا النص عن مجلة Poetique، عدد 38 أبريل 1979.
1 - ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. تحقيق: محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط 4، 1972، ج 1، ص 117.
2 - الجرجاني (عبد القاهر): دلائل الإعجاز، 1969، ص 81-82.
3 - يعتقد الجرجاني بأنه من واجب المسلم معرفة أسباب الإعجاز القرآني.
4 - الفرق الذي نقوم به بين الشعريين (النقاد) والمدافعين عن القرآن (المتكلمين) هو إلى حدما -اعتباطي- لأن هؤلاء وأولئك، يستعملون نفس الرصيد البلاغي.
5 - إنني مدين كثيرا لدراسة تودوروف (Splandeur et misère de la rhétorique) في كتابه: Théorie du symbole، Seuil،1997، ص 59 - 83.
6 - سورة الشعراء آية 224-226 "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون" قرآن كريم.
7 - ابن رشيق: العمدة، ج 1، ص 18.
8 - هذا السلوك لا يمر دون أن يذكر بصورة بلاغية تدعى "التورية" وهي نوع يقوم على إخفاء "معنى بعيد وراء معنى قريب" إن النظريات العربية التي اهتمت بهذه الصورة قد عرضت من طرف "س.أ.بونباكر" بعض التعريفات القديمة للتورية
Some early definition of the tawriya, Monton, 1966.
9 - موقف المدافعين عن القرآن (بعض المتكلمين) فالمظهر الأول يقرب القرآن من الكتب المنزلة الأخرى، أما الثاني فيميزه عنهم: الكتاب الشهير حول المسألة وهو كتاب الباقلاني (ق 4) ولقد ترجم من طرف كرومباوم تحت عنوان:
Ateath - Century document of arabi theory and criticism (chicago. 1950).
10 - ابن رشيق: العمدة: ج 1، ص 74
11 - قدامة بن جعفر: نقد الشعر ، ص 17-19، 1963.
12 - ابن طباطبا العلوي:عيار الشعر، ص 10 ، 1956.
13- ابن طباطبا:عيار الشعر، ص 78
14 - الجرجاني عبد القاهر: أسرار البلاغة، ص 276، 1959.
15 - ابن طباطبا: عيار الشعر، ص 7
16 - نفس المرجع، ص 11
17 - نفس المرجع، ص 4
18 - نفس المرجع، ص 126
18 - راجع العمدة لابن رشيق، ج 2، ص 111-112
20 - ابن طباطبا: عيار الشعر، ص 126
21 - نفس المرجع، ص 21
22 - راجع العمدة لابن رشيق، ص 109
23 - قدامة بن جعفر، نقد الشعر، ص 146
24 - الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 88
25 - نفس المرجع، ص 129
26 - نفس المرجع، ص 17
27 - ابن طباطبا: عيار الشعر، ص 89
28 - الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 445
29 - نفس المرجع، ص 260+261
30 - نفس المرجع، ص 261
31 - نفس المرجع، ص 429
32 - نفس المرجع، ص 426-427
33 - نفس المرجع: ص 426
34 - نفس المرجع: ص 444-445
35 - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 384
36 - نفس المرجع، ص 384 و431
37 - نفس المرجع، ص 262
38 - نفس المرجع، ص 262
39 - نفس المرجع، ص 263-264
40 - عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 111.
41 - نفس المرجع، ص 110
42 - نفس المرجع، ص 112
43 - نفس المرجع، ص 112
44 - ابن طباطبا العلوي: عيار الشعر، ص 7
45 - الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 5
46 - الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 93
47 - الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 7
48 - نفس المرجع: ص 5
49 - ابن رشيق: العمدة، ج 1، ص 49.
إن الحالة المعيارية، على كل حال، غير مفترقة عن حالة وصفية ما. ومن الممكن أن تكون "أسرار البلاغة"، متصنعة ومحللة، ومردودة إلى قواعد عامة. حتى القرآن، النص الإلهي المعجز، يمكن أن يكون موضوع بحث بكشف أسرار جماليته, وكذا موضوع التأثير الخاص الذي يحدثه في السامع. والجرجاني هو المؤلف الذي أكد أكثر على هذه النقطة: "لا يكفي أن تقولوا: إن خصوصية في كيفية النظم، وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض، تصفوا تلك الخصوصية، وتبينوها وتذكروا لها أمثلة […] كما يذكر لك من تستوصفه عمل الديباج المنقش ما تعلم به وجه الصنعة، أو يعمله بين يديك حتى ترى عيانا كيف تذهب تلك الخيوط وتجيء، ومن عجيب تصرف اليد، ما تعلم منه مكان الحذق وموضع الأستاذية"(2).
يبدو لنا هذا النص مهما لسببين: فهو من جهة رد فعل قوي ضد التوجه الكسول أو التوجه الذي يوقر خاطئا(3) النص. ويرفض البحث عن الشيء الذي يرتكز عليه التأثير الجمالي الناتج عن بيت شعري أو آلية قرآنية، ومن جهة أخرى فهو يضع تشابها بين الشعر والنسيج. إن المقارنات التي من هذا الصنف ومن أصناف أخرى تقوم بالتلميح إلى فن صناعة الجواهر التي ترد باستمرار في تحاليل الشعريين وعلماء الكلام(4) (المدافعين عن القرآن). إنها تؤسس على هذا النحو خطابا مجهولا، يحيل إلى مشهد مشترك، وإلى نفس التمثيل للشعر وللعالم.
إن دراسته تسمح لنا بالاقتراب، بطريقة غير مباشرة، من بعض مظاهر الشعرية العربية(5) وسنتوقف عند اللواتي يحمن حول مفهوم الصناعة: معتمدين في ذلك على مؤلفات كتبت بين القرن الثالث والقرن الخامس. إن بعض التوضيحات ذات البعد التاريخي ستعيننا على تحديد السياق الذي تبلورت فيه اللغة الواصفة للشعريين العرب.
الصناعة:
إن مؤلفات الشعرية العربية (كتب النقد) مسيجة بهَمّ معذِّب، لأنها تمثل ضمنا أو صراحة: تبريرا للخطاب الشعري. هذا الهم اتضح بشكل جلي، خلال القرن الثالث للهجرة، وصاحب الصراع بين القدماء والمحدثين، فالشاعر العباسي لا يجهل بأنه لم يعد يلعب نفس الدور الذي كان يؤديه الشاعر الجاهلي، ولا يجهل أيضا بأن إنتاجه الشعري مختلف.
فالشاعر الجاهلي لا يهتم أبدا بمصير أبياته، أو بالأحرى، فإن السؤال يمحي أمام بداهة الجواب. لقد كان الشاعر في القبيلة ضروريا، مثله مثل السيد أو الكاهن، حين أسندت إليه وظيفة محددة، فهو قَيِّمٌ على الكلام، ومبلور للذاكرة الجماعية، ومحامي القبيلة، ومنشد للأحداث الباهرة ومفاخر الأسلاف. هكذا بدا لمدنيي العهود اللاحقة في غموض حنيني. إن مجيء الإسلام لم يقلب بسرعة معطيات الشعر الجاهلي. فالرسول على الرغم من رأيه الصارم المعبر عنه في القرآن(6) ضد الشعراء لم يستطع الاستغناء عن هؤلاء في صراعه ضد المشركين. ولقد كان الكلام وسيلة للصراع، حيث كان يقارن بالسهام القاتلة. وقد قال الرسول يوما لشاعر حديث العهد بالإسلام "اهجهم -يعني قريشا- فوالله لهجاؤك أشد من وقع السهام في غلس الظلام"(7).
لقد تزامن تأسيس الإمبراطورية مع الصراعات السياسية-الدينية المهيجة من طرف الشعراء والخطباء على الساحة العمومية أو في حقل الصراع. لقد كان للكلام وظيفة أساسية تتشكل في التأثير على السامع أو إرباك الخصم.
إن الأشياء تتغير تدريجيا فيما بعد، ولأسباب قوية ومعقدة ستؤدي بالفن الشفوي إلى حصره في نوع الوعظ، أما بالنسبة للشعر فإنه بدأ ينزع إلى أن لا يستعمل أبدا لصالح أسرة معينة أو طامع في السلطة. لقد أصبح التستر بواسطة التقية قاعدة(8) وأصبح الصراع ضد السلطة المركزية يمارس بطريقة ماكرة وحذرة، وذلك بواسطة الكلام المهموس.
كيف سيكون وضع الشعر في ظل هذه الشروط؟ إن المشكل لا يطرح ضمن نفس المصطلحات شعر القدماء والمحدثين. فالأول عرف رد اعتبار مذهل، إذ معرفته قد سوغت فعلا تسهيل الصعوبات اللغوية للقرآن، ويمثل، بالإضافة إلى ذلك، سندا أساسيا في القضية التي تتعلق بإعجاز القرآن، وهذا انطلاقا من اللحظة التي فرضت فيها (بعد تحفظات متعددة) الفكرة القائلة بأن كلام الله أربك الناس ليس فقط بآياته التي تتحدث عن أمور غيبية، وإنما، وبالضبط، باعتباره خطابا ينظم الكلمات بطريقة خاصة(9). إن الشعر الجاهلي وشعر القرن الأول للهجرة سيعتبران المقياس الثاني في مقارنة سيكون فيها القرآن هو المقياس الأول. لن يكون شعر المحدثين سوى شيء عرضي في دعوته إلى حفل المقارنات. إن لغته ليست خالصة بفعل اختلاط الشعوب، زيادة على ذلك "فعلماء الكلام" ينطلقون من مسلمة وهي أن العرب الذين عاصروا الوحي كانوا أكثر فصاحة من غيرهم… لذلك لم يأت أي دليل لاهوتي ليدعم شعر المحدثين، وذلك لأنه لم يستطع أن يدعي أن له دورا مساعدا للعلوم الدينية، وبعد مدة من الزمن سيعامل باحتقار.
في هذا السياق يعتبر صدور كتاب البديع لابن المعتز الحدث الأول من نوعه، لقد أحصى ثمانية عشر محسنا لفظيا في كتابه هذا (إن هذا العدد سيتزايد في الأبحاث اللاحقة)، إنها دعامة غير منتظرة قدمت للمحدثين، وباعتبار المحسنات تزينات للخطاب سينتبه الشعر الجديد لنزعته التي هي بالأساس زخرفية.
إن مسيرة ابن المعتز لا تخلو من بعض الغموض، فهو معارض بلا ريب لرأي شائع، لأنه ينفي عن المحدثين تفردهم لاستعمال الأوجه البلاغية.
إن هذه الأخيرة توجد كما يقول في الشعر الجاهلي وفي القرآن الكريم وأحاديث الرسول. فليس هناك اختلاف جوهري يميز بين خطابات القدماء وخطابات المحدثين، لكن الاختلاف يوجد في درجة استعمال الأساليب البلاغية كالاستعارة والجناس والطباق. ويمكن أن نتساءل مرة أخرى! ألم يكن ابن المعتز في تدرعه بالنماذج الرائعة في الشعر القديم لا يبحث سوى عن إبعاد الاتهام الخطير الذي اتهم به المحدثون، ألا وهو الابتداع. يستطيع هؤلاء المحدثون التقدم دائما مكتفين فقط بإقامة نظرية لم يعمل الأقدمون سوى على التلميح لها. إن اللحظة التي ينفجر فيها الاختلاف هي عندما يضيفون بأنهم يستعملون المحسنات البديعية عمدا، مع معرفى الأسباب، في حين يستعملها القدامى بشكل تلقائي. ستظهر فجأة قطيعة بين نوعين من "الكتابة" قطيعة سيصفها ابن رشيق بقوله: " وإنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين، ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه، فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن، والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن"(10).
يدرك ابن رشيق بأن هناك عتبة قد تجوزت، وأن هناك شعرا جديدا قد ظهر، ألا يوصي الشعراء بالتنقيب في المحسنات؟ من الآن، فصاعدا، لا يمكن الحديث عن الشعر دون الرجوع إلى فنون تصنع أشياء راقية كالزركشة والصياغة، هناك مؤلفات تذكر لفظة الصناعة في عناوينها مثل كتاب الصناعتين الخ… وهناك عناوين ترجع إلى صناعة خاصة مثل العقد الفريد ويتيمة الدهر. وقلائد العقيان. وما دام شعر المحدثين لا يقدم شيئا للدراسات التفسيرية، وما دام في جملته غير مجد، فإنه سيجعل من لاجدواه هذه خاصيته المميزة. ولكي يصل عليه في البداية أن يصفي حسابه مع الدين. سيقال بأن الشعر والدين يكونان مجالين مفترقين ومتباينين، وسيعمل على إبعاد الإنتاج الشعري عن كل اهتمام ذي طبيعة أخلاقية. فليس المهم أن يكون المعنى المعبر عنه وضيعا أو ساميا، وإنما الأساسي هو المحافظة على جودة تقنية البيت الشعري.
إذ من الذي اهتم، في الواقع بالحكم على عمل الصناع انطلاقا من اعتبارات أخلاقية؟ لقد أعلى قدامة بقوة هذا المبدأ: "إن المعاني كلها معروضة للشاعر، وله أن يتكلم منها في ما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه[…] وليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه كما لا يعيب جودة النجارة في الخشب مثلا رداءته في ذاته"(11).
سيعتبر الشعر بمثابة صورة لأشياء نادرة ونفسية تزين صالونات الممدوحين والأغنياء والمتأنقين، ويل "للكلمة العارية"، بدون زخرفة! إن الخاصية التزينية والزخرفية تبدو واضحة عندما نتذكر بأن من يسمون "بالظرفاء" كانوا ينقشون أبياتا على الخواتم والأسورة والوشاحات والأكواب. إن الكلمة تقارب بالدرة، والشعر بالأشياء الرفيعة التي من جانبها تبرز لمعانها مستدعية بذلك عقودها التي تمثلها الأبيات الشعرية.
الكيمياء اللفظية:
يتطلب الشعر -ككل صناعة- مرانا طويلا وشاقا، حيث إن المظهر الأساسي هو حفظ مجوعة كبيرة من الأبيات الشعرية. وينبغي، بعد ذلك، للشاعر المتمرن أن "يتظاهر بنسيان" كل ما حفظه، من خلال هذا فقط يمكن لتركيبة شخصية أن تبزغ يوما ما، تركيبة تشبه "سبيكة مفرغة من جميع الأصناف التي تخرجها المعادن، وكماء قد اغترف من واد قدمته سيول جارية من شعاب مختلفة، وكطيب تركب من أخلاط من الطيب كثيرة، فيستغرب عيانه ويغمض مستبطنه" ابن طباطبا(12).
لقد نظر للإبداع كتحويل. فالشاعر يوجد أمام مادة أخذت شكلا محددا سلفا وعليه تحويل هذه المادة بشكل مساو في الجمال أو أحسن، إنه يشتغل انطلاقا من حطام، ومن شظايا نشأ منها. يشبه إذن وفق ابن طباطبا بالصائغ الذي يذيب الذهب والفضة المصوغين. فيعيد صياغتها بأحسن مما كانا عليه"(13) باحثا على إعطائها شكلا أكثر جاذبية غير ذلك الذي كانت عليه من قبل.
إن أحد العناصر الرئيسية للشعرية العربية نجده متضمنا في كلمة "المعارضة" التي تعني "التقليد الخلاق". فالشاعر لا يبتكر، بل يكتفي بالتنافس مع المتقدمين عليه باحثا عن التساوي معهم أو تجاوزهم. إنه حول هذا العنصر يتركز مبدأ الإعجاز القرآني، فالعرب الذين وجدوا أنفسهم أمام الدين الجديد لم يستطيعوا أبدا، رغم التحدي المتكرر عدة مرات، أن يعارضوا القرآن (إن بعض المحاولات التي تذكر في هذا الإطار حوكمت بسخرية من طرف المدافعين عن القرآن).
وفي المجال الشعري، عندما تنجح المعارضة يندهش الشعري، غير راض بالرجوع إلى الصياغة، ويستدعي الكيمياء. فالشاعر حسب قول الجرجاني " يصنع من المادة الخسيسة بدعا يغلو في القيمة ويعلو، ويفعل من قلب الجواهر. وتبديل الطبائع، ما ترى به الكيمياء وقد صحت، ودعوى الإكسير وقد وضحت "(14).
وما دمنا لا نغادر مجال الأحجار الكريمة، نشير إلى أن الشاعر هو الآخر يقارن بالجواهري المهووس ببيع عقود جواهره، مواجها قانون العرض والطلب، وكذا تقلبات السوق. إن تيمة بيع البضاعة الشعرية بالخسارة كان قد تغنى بها أكثر من شاعر.
الجسد المتعدد:
جواهر، أثواب، ألوان: كثيرة هي الإحالات التي تدور بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حول الجسد، ولنتقدم شيئا ما، وسنجد تشابها بين النص الشعري والجسد الإنساني. بالرغم من الانتماء إلى نفس الجنس فالناس يختلفون مع ذلك: "في صورهم، وأصواتهم، وعقولهم وحظوظهم وشمائلهم، وأخلاقهم، فهم متفاضلون في هذه المعاني، وكذلك الأشعار هي متفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس"(15) (ابن طباطبا).
إن العلاقة بين الداخل والخارج تبرز هنا، وستصبح صريحة كذلك "فالكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه"(16). إن ابن طباطبا لا يهتم بالتماسك، إنه يعتبر في موضع آخر من كتابه بأن المعنى كالجسد، واللفظ كلباس فاخر يغطيه ويملؤه بحلي متلألئ(17).
الانقطاع، الشذوذ، وانعدام التناغم لا تستطيع فسح المجال سوى لجسم قبيح. من هنا جاء تركيز الشعريين على العناية الخاصة التي يجب إعطاؤها إلى تحولات وفصول القصيدة، وينبغي أن تترابط الأجزاء المختلفة للقصيدة بدقة الواحدة تلو الأخرى(18)، وعلى عمودية الشعر أن تكون صورة من صور الجسد.
وكما يقول الحاتمي فالقصيدة مكونة " مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد من الآخر وباينه في صحة التركيب، غادر الجسم عاهة تتخون محاسنه، وتعفي معالم جماله "(19).
صحيح أن الانتقال من موضوع لآخر في الشعر القديم يحدث دائما بطريقة مفاجئة. ولكن هذا لا ينبغي أن يكون ذريعة للشاعر المحدث الذي عكس ذلك، عليه أن يراعي ما تقدمه مقطوعات القصيدة التي تمثل حالة مرنة وسلسلة. والحاصل أنه "يجب أن تكون القصيدة كلها ككلمة واحدة"(20) (ابن طباطبا). من أجل الوصول إلى هذا الهدف، من الضروري أيضا أن يراعي ائتلاف المعجم المستعمل، فالعقد يكون جميلا عندما تكون الجواهر المكون منها من نفس الصنف. يجب تجنب خلط الكلمات البدوية بالحضرية، والكلمات النادرة بالمألوفة. وهذا لا يعني أن إحدى هذه الأقسام من الكلمات يكون في حد ذاته ساقطا من الشعر. أو مصطدما بمنع ما. بكل بساطة، فكل فكرة ترغب في أن تكون مكسوة بكلمة تناسبها. إن الفكرة لا يناسبها أي لباس كيفما كان، فالكلمة بالنسبة للفكرة "كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حسنا في بعض المعارض دون بعض"(21) (ابن طباطبا).
وفي هذا الأثناء، يمكن لطرفي التشبيه أن يتغيرا بما أننا لم نهتم سوى بالنص وعناصره المكونة له. فالشاعر يشبه بالنساج، وبمجرد استحضارنا حالة الخطاب، وخصوصا المرسل إليه، فالشاعر يتحول إلى خياط، فلكل مرسل إليه (ملك، وزير، قائد، قاض…) خطاب معين يليق به. إن الشعريين يسهلون مهمة الشاعر، مفهرسين باستيعاب، الموضوعات المناسبة لكل فئة اجتماعية. فأبو تمام يسدي النصيحة التالية لأحد اتباعه: "كن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام"(22). فوضعية الخطاب هي التي تحدد مقاس النص. إذا كان الإيجاز ممدوحا، فالإطناب يكون قاعدة في بعض الأحيان (مثلا عندما نبحث بواسطة خطاب ما، عن المصالحة بين المتخاصمين).
في هذا النطاق نلاحظ غائبا كبيرا: إنه جسد الشاعر. إذا كان هذا الأخير يخيط على مقدار الممدوح، فإنه لا يستطيع أن يخيط على مقداره. إن أحاسيسه ومعتقداته الخاصة لا تدخل في الحسبان. لقد قالها قدامة صراحة: "الشعر قول"(23). وأضاف أنه لا ينبغي أن نهتم باعتقادات الشاعر.
النظم:
في هذا المشهد المؤسس من طرف الشعريين العرب، يتاح لجسد الشاعر فرصة التجلي، فنحن نجد في بعض الأحيان ضمن كتب النقد أحكاما تبدو ملتبسة. فما معنى إذن قصيدة "ماؤها غذق"؟ إذا أخذنا هذه الصورة معزولة لا يمكن أن تكون إلا محيرة، ويكفي فقط وضعها في سلسلة من الصور المتقاربة لكي تصبح أقل إلغازا. إن الإبداع الشعري يشبه في بعض الأحيان، بالغوص في عمق البحر. فماذا يجني الشاعر من هذا الغوص؟ إنه يلتقط جواهر ليكون منها عقدا…
لا يحب الجرجاني أن يشبه الكلمة بالدرة، فالدرة كما يقول تنال إعجابنا حتى ولو كانت معزولة عن شبيهاتها. أما الكلمة فبخلاف ذلك، لا تملك أية قيمة في حد ذاتها وعلى أقصى تقدير يمكن القول بأنها قديمة أو وحشية، سهلة النطق أو مألوفة الاستعمال، إنه فقط حين تضم الكلمة بالكلمات الأخرى، إذ ذاك تكسب قيمتها.
إن المدافعين عن القرآن (علماء الكلام) واجهوا هذا المشكل في طريقهم. فانطلاقا من أي جزء تركيبي يمكن القول بأن النص المقدس معجز؟ بما أن الوحي نزل "بلسان عربي"، فلا يمكن أبدا أن تؤخذ الكلمة بعين الاعتبار ما دامت ملكا للعرب كلهم. إذن يتضح أننا لا يمكن أن نتحدث عن الخاصية الإعجازية للقرآن إلا انطلاقا من السورة طويلة كانت أو قصيرة.
إن الكلمة في حد ذاتها غير مهمة، وبارتباطها بكلمات أخرى تكشف عن إمكانياتها، وتستطيع أن تمتلك خاصية شعرية. "فالجمال" و"النبل" ناتجان عن نظم الكلمات وفق طريقة خاصة.
فالكلمات لا نصيب لها إذا كانت منعزلة، والحجة في ذلك هي أنه بإمكان الكلمة أن تعجبنا في سياق لغوي معين، ولا تعجبنا في سياق آخر. و"هل تجد أحدا يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يفسر مكانها في النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها"(24).
طبعا، لا يتعلق الأمر هنا بتركيب الكلمات كما اتفق، أو تقليد "ذاك الذي يلقي الحصى أو يعد الجوز". يظهر النظم عندما نراعي أصول النحو. إن الجرجاني لا يجهل المعارضة التي يمكن أن توجه إليه. فكل خطاب يحترم "معاني النحو". وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يجعل خطابا ما يمتاز عن خطاب آخر، يجيب الجرجاني بأن هناك طرقا متعددة لتأليف الكلمات.
إن المتكلم، الذي رغم احترامه للنحو، والذي يركب الكلمات بدون مجهود فكري وبدون تأن، يشبه ذلك الشخص الذي "عمد إلى لآلئ فخرطها في سلك لا يبغي من أكثر أن يمنعها التفرق وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضه ذلك أن يجيئ له من هيئة أو صورة بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأى العين(25) هذا ما يحدث عندما نجمع بركاكة أجزاء ملفوظ ما بحروف العطف.
نصل إلى الدرجة العليا للنظم عندما تتشابك العناصر المتعددة للملفوظ وتتعلق بدقة فيما بينها. إن الجرجاني إذن يفكر في "حال الباني يضع بيمينه (الحجر) ههنا في حال ما يضع بيساره هناك. نعم وفي حال ما يبصر مكانا ثالثا ورابعا يضعهما بعد الأولين"(26).
الصورة:
لقد رأينا بأن الشعريين العرب يعتبرون الأفكار كمادة خام وهي في متناول كل شاعر. لكن الصعوبة تكمن في استيفائها "في أبهى كسوة وأرق لفظ" عند ذلك، سيقال إن الفصاحة، وجمال الأبيات، يكمنان في اللفظ، أي في الثوب الذي يكسو المعنى.
إن الجرجاني يرفض هذا التصور ويحاربه في كل مؤلفاته. والحجة التي يحاربها تتلخص: عندما يتناول شاعران نفس الفكرة ويتميز أحدهما عن الآخر بميزة خاصة، هذه الأخيرة لا تنشأ إلا من الكلمة التي تختلف في البيتين معا، وليس من المعنى الذي يبقى هو نفسه. إذا كانت الفصاحة لا تتمثل في اللفظ، فلن يكون هناك أي فرق بين آية قرآنية وتفسيرها، إن المفسر يتابع معنى الآية مستعملا تعبيرا (أقل جمالا) من التعبير القرآني.
إن جزءا كبيرا من الخطأ ينشأ، حسب الجرجاني، من المقارنات التي يستعملها النقاد. ومن المفارقات أن المؤلف الذي يرجع بكثرة إلى الصناعة أكثر من غيره هو نفسه الذي يحاكم هذه المرجعية الخطيرة. يبدو أنه الوحيد الذي تساءل حول التشابه بين الشاعر والصانع. إن جانبا كبيرا من عمله يرتكز على تحليل المقارنات التي تروج في مجال النقد ويحاول إبراز عدم دقتها. فهي ليست علامة على كسل ما (نكتفي بالإشارة إليها عوض الدخول في تفاصيل الظواهر الشعرية)، ولكنها تقابل كذلك بمعرفة صحيحة بالشعر. ومن فرط ما استعملت هذه المقارنات يتناسى بأن لها فقط وظيفة تسهيل إدراك بعض الظواهر اللغوية. وتقريب "ما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا"(27). هكذا حدث انزلاق من التشابه إلى التطابق : فالمشبه قد نظر إليه كنسخة مطابقة للمشبه به.
إن الجرجاني غير مخدوع بالمقارنات. فالاختبار النقدي الذي يخضع له هذه المقارنات هو دائما سابق للحلول التي يأتي بها للمشاكل الشعرية. من أجل تصحيح وجهة نظرنا، لا بد من تصحيح مقارنة ما.
يلاحظ، الجرجاني مثلا، بأن في صناعة الجواهر وكذا في كل صناعة، يمكن إعادة إنتاج نفس الشيء مع مجموع خصائصه. نفس السوار يمكن صياغته من طرف جواهري معين ثم من طرف جواهري آخر. فالاحتذاء يصبح رائعا بحيث أن عديم الخبرة يعتقد أن العمل لرجل واحد، وليس يتصور مثل ذلك في الكلام، لأنه لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشعر، أو فصل من النثر، فتؤديه بعينه وعلى خاصيته وصناعته بعبارة أخرى(28). فأما أن يؤدى المعنى بعينه على الوجه الذي يكون حالهما في نفسك حال الصورتين المشتبهتين عن عينيك كالسوارين والشنفين في غاية الإحالة وظن يفضي بصاحبه إلى جهالة عظيمة"(29).
إن الجرجاني لا يقتصر على دحض هذه الطريقة في النظر، فهو يبين أيضا كيف استطاعت أن تفرض نفسها. فالخدعة لا تأتي من الاستعمال الرديء للتشبيه، ولكن أيضا من الغموض بين ملفوظين لهما أساس مشترك. وبين مترادفين، يمكن لمترادفين أن يكون لهما نفس المعنى كقولنا ليث وأسد التي تعني السبع، لكن ليس لهما نفس المعنى في ملفوظين:
"واعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء الذين زعموا أنه إذا كان المعبر عنه واحدا والعبارة اثنتين، ثم كانت إحدى العبارتين افصح من الأخرى وأحسن فإنه ينبغي أن يكون السبب في كونها أفصح وأحسن من اللفظ نفسه. وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث أقاموا الكلامين على الكلمتين، فلما رأوا أنه إذا قيل في الكلمتين: إن معناهما واحد لم يكن بينهما تفاوت ولم يكن للمعنى في أحدهما حال لا يكون له في الأخرى، ظنوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل. وقد غلطوا فافحشوا لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين مثل صورته في الآخر البتة"(30).
إن منبعا ثالثا للخطأ يوجد في عدم دقة المصطلحات الوصفية. فالجرجاني يغضب عندما يقول الشعريون حول السرقة بأن "من أخذ معنى عاريا فكساه لفظا من عنده كان أحق به". من أين يتصور أن يكون هاهنا معنى عار من لفظ يدل عليه؟ من أين يعقل أن يجيء الواحد من معنى من المعاني بلفظ من عنده إن كان المراد باللفظ نطق اللسان"(31).
إن الوصف لا يمكن أن يكون صحيحا إلا إذا كان "اللفظ […] يعني الصورة التي يحدثها الشاعر وغير الشاعر في المعنى". إن الشعريين "تواضعوا فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى والخاصية التي حدثت فيه"(32).
إن اليقظة تفرض نفسها أيضا عندما يعلن الشعريون مقارنين بين بيتين شعريين "بأن المعنى في البيت الآخر" ولكن "قالوا ذلك على حسب ما يقوله العقلاء في الشيئين يجمعهما جنس واحد، ثمة يفترقان بحواس ومزايا وصفات، كالخاتم والخاتم، والشنف والشنف، والسوار والسوار، وسائر أصناف الحلي التي يجمعها جنس واحد، ثم يكون بينهما الاختلاف الشديد في الصنعة والعمل"(33).
هناك طريقتان لصياغة الجواهر، فالصائغ يمكنه صياغة سوار له فقط اسم السوار، وسوار من درجة عالية. وكذلك الأمر بالنسبة للخطابات:[…] إنه يصح أن تكون ههنا عبارتان أصل المعنى فيهما واحد، ثم يكون لأحدهما تحسين ذلك المعنى وتزيينه وإحداث خصوصية[…] لا تكون للأخرى"(34).
بالنسبة لخطاب "غفل ساذج عامي" يقابله خطاب "فصيح" اخرج "في صورة تروق وتعجب"(35).
الغرض:
متى يسمح لنا بالحديث عن تغيير في الصورة؟ إن الجرجاني يتلهى بتعويض كل الكلمات في البيت بمفرداتها، ويصل إلى النتيجة التالية، بأنه لا ينتج عن هذه العملية أي تغيير للصورة. فكلمة "أسد" و"ليث" تعني "السبع"، وإذا قلت رأيت أسدا، بدل رأيت ليثا، فإني لم أقم بتمرير المعنى من صورة إلى أخرى، هنا يوجد استبدال بسيط لا يعمل على إخراج الكلمات من معناها الاصطلاحي.
بالمقابل إذا قلت "رأيت أسدا" وأنا أريد رجلا شجاعا، لم تعد عملية الدلالة هي نفسها. من هذه الحالة لا نصيب الغرض، يعني ما يراد من الرسالة. "بدلالة اللفظ وحده، ولكن بدلالة اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض"(36).
وبالكيفية نفسها عندما يقول الشاعر "كلبي جبان" فإنه يريد أن يسمعنا معنى ثانيا، فهو يعني أنه مضياف، وللوصول إلى الغرض، من الضروري الأخذ بعين الاعتبار علاقة مزدوجة. أولا وقبل كل شيء "يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانيا"(37). فالعلاقة يمكن رسمها كالتالي:
اللفظ –< المعنى –< المعنى الثاني.
إن العلاقة الأولى تعطي المعنى، والثانية تعطي "معنى المعنى".
يمكن الاعتقاد بأنه تم الابتعاد عن المقارنات المفضلة لدى نقادنا. وبالفعل، فهذه المقارنات ستعود للظهور مرة أخرى، وسيدعوها الجرجاني، مخلصا لعادته، بغية إصلاحها في ضوء تحليلها للمعنى الغير المباشر:
" فالمعاني الأولى المفهومة من نفس الألفاظ هي المعارض والوشي والحلي وأشباه ذلك، والمعاني الثواني التي يومئ إليها بتلك المعاني هي التي تكسي تلك المعارض وتزين بذلك الوشي والحلي"(38).
الصدفة:
ليس في متناول النظرة الأولى الاقتراب من المعنى الثاني، الذي لا يستسلم مباشرة للمعرفة، وحدهم ذوو العقول النيرة واللطيفة يستطيعون الوصول إليه. فمن أجل استخراج الدرة، يجب في البدء، تكسير الصدفة التي تحبسها، وكذلك، من أجل الوصول إلى الملك المخفي عن الأنظار يجب الحصول على الرخصة، يقول الجرجاني: "فما كل أحد يفلح في شق الصدفة […] كما ليس كل من دنا من أبواب الملوك فتحت له"(39).
نصل إذن إلى فكرة "القناع" الملقى على المعنى الثاني، هذا القناع الذي يجب تمزيقه بعشق ولطف. فاللذة ستصبح بمقدار الصعوبة المتغلب عليها أثناء هذا البحث عن المعنى. يتكلم الجرجاني عن هذه الصعوبة كما يتحدث شعراء الغزل عن موضوع الرغبة الذي يجعل الأمل يعقب اليأس، والذي يصبح مرغوبا فيه أكثر برفضه المغلف بالوعود، ولا يعطى إلا بعد اختبار الذي يبحث عنه:
" ومن المركوز في الطبع أن الشي إذا نيل بعد الطلب له والاشتياق من النفس أجل والطف، وكانت به أضن وأشغف"(40). إن المعنى لا يمنح جماله إلا لأولئك الذين يستحقونه ببذل مجهودات جبارة.
وأيضا ينبغي أن تجازى هذه المجهودات وأن تصبح الرغبة مشبعة. إن البحث الذي ينكب عليه المتلقي-العاشق هو منبع الفرح إذا كان المعنى الذي كشفناه يرضي الرغبة، ولكن يمكن أن يحصل أن لا تلتقي الرغبة سوى بالكبت. وهذا يحصل إذا "أودع المعنى لك في قالب […] خشن مضرس، حتى إذا رمت إخراجه عسر عليك وإذا خرج خرج مشوه الصورة ناقص الحس"(41). أية خيبة "إذا كنت معه كالغائص في البحر يحتمل المشقة العظيمة، ويخاطر بالروح ثم يخرج الخرز"(42).
العروس المخنوقة:
لن نتعجب عندما نتأكد من أن الأبيات الشعرية المستشهد بها من طرف الشعريين (النقاد) لتوضيح كبت الرغبة تنتمي للمحدثين إن الارتياب سيتركز حول المحسنات، بمعنى حول شرعية الشعر الجديد. فالصور البلاغية لم تؤخذ بتقدير كبير من طرف المدافعين عن القرآن (المتكلمين)، الذين يرفضون رؤية جواهر البلاغة القرآنية في وسائل تعبير في متناول الجميع.
من جهة أخرى يقف الشعريون ضد الاستعمال المفرط للصور البلاغية التي -بعيدا عن تزيين الخطاب- تحرفه عندما تستلهم من طرف ذوق فاسد.
إنهم سينصحون باختيار التوسط. إن ابن رشيق، الذي يعتبر غياب الزخرف عيبا، كتب بأن الإفراط في استعمال المحسنات يؤدي إلى التكلف. ولنذهب بعيدا: فإذا خشينا أن تشوه الأوجه البلاغية القصيدة، فتجنبها يكون أفضل، بمعنى استعمالها بطريقة عفوية كالقدماء. فهل يعني هذا سوى أن جوهر الشعر كجوهر القرآن يجب البحث عنه في الخارج أكثر مما يجب البحث عنه في الأوجه البلاغية؟
إن ابن طباطبا، الذي يشمئز أمام القصيدة، ذات الشكل المبتذل، يحذر بالمقابل من القصيدة الغنية والمتلألئة التي يتضح أنها خادعة عندما نفتشها. إن التمييز بين الظاهر والباطن يلعب دورا صميميا هنا، فإن إعادة كتابة القصيدة نثرا ستظهر المهارات المحتالة.
"فمن الأشعار[…] إذا نقضت وجعلت نثرا لم تبطل جودة معانيها، ولم تفقد جزالة ألفاظها ومنها أشعار مموهة، مزخرفة عذبة تروق الأسماع والأفهام إذا مرت صفحا، فإذا حصلت وانتقدت بهرجت معانيها وزيفت ألفاظها، ومجت حلاوتها، ولم يصلح نقضها لبناء يستأنف، فبعضها كالقصور المشيدة والأبنية الوثيقة الباقية على مر الدهور، وبعضها كالخيام الموتدة التي تزعزعها الرياح، وتوهيها الأمطار ويسرع إليها البلى ويخشى عليها التقوض"(43).
أما الجرجاني، فمن جهته، يؤكد أن الألفاظ خدم للمعاني(44)، ويؤكد أيضا أن نظم الألفاظ ينبع من "نظم المعنى في النفس"(45). إن خطأ المحدثين يكمن في قلبهم دائما هذا القانون مدفوعين بحاجتهم إلى تزيين أبياتهم ما أمكن، في هذا العالم المقلوب، حيث اللفظ هو المتحكم، يحرف وينحط المعنى. نرى، أيضا، أن القدماء كانوا يستلهمون بساطة فنهم أكثر من المحدثين الذين يستلهمون ذوقهم العالي. ما من شك، في أن الجرجاني كان يفكر في القدماء عند ما قال: "وعلى الجملة، فإنك لا تجد تجنيسا مقبولا، ولا سجعا حسنا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه، […] أحلى تجنيسا تسمعه وأعلاه، وأحقه بالحسن وأولاه: ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلا به، وتأهب لطلبه، أو ما هو لحسن ملاءمته -وإن كان مطلوبا- بهذه المنزلة وفي هذه الصورة"(46).
إن البحث الجامح عن المحسنات لا يؤدي سوى إلى "نوع من التضليل"(47). "وقد تجد في كلام المتأخرين الآن كلاما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع، إلى أن تنسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليبين، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت، فلا ضير أن يقع ما عناه في عماء، وأن يوقع السامع، من طلبه، في خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده كمن ثقل على العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها"(48).
وعلى مشارف شعرية الجرجاني، هناك هذا الطريق الشاق المليء بالمخاطر، والذي يسميه "بالسبيل المجهول". ولقلة الزاد فإنه لا يمكن للجرجاني متابعته. صحيح أن اللاحقين له لم يأنفوا من الاهتمام بالأشكال المختلفة للعب اللغوي، بل مارسوه تحت تأثيرهم الشمول والإحاطة أكثر من ممارسة الفهم العميق. وإلى اليوم، ما زال عديد من المستشرقين، والباحثين العرب يستمرون في قراءة مسارات الانحطاط في إنتاج أولئك الذين يدعون بالمحدثين.
يقول ابن رشيق بأنه في العصر الجاهلي "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس"(49).
إن المحدثين لا يستطيعون ادعاء مزيد من الشرف، فإنهم يقابلون الثروة الفاسدة بنية حسنة، ويحولون الابتهاج إلى داخل القصيدة التي ينبغي أن تكون مرئية في صورة "عروس" بلباس فاخر والتي لا تخلو من الجواهر والأصباغ. إن الأعراس لم يتم إنجازها بالرغم من ذلك: فلقد اتهم المحدثون بأنهم خنقوا العروس، والتي من جراء هذا الفعل تحولت إلى مومياء جامدة.
الهوامش:
- ترجمنا هذا النص عن مجلة Poetique، عدد 38 أبريل 1979.
1 - ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. تحقيق: محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط 4، 1972، ج 1، ص 117.
2 - الجرجاني (عبد القاهر): دلائل الإعجاز، 1969، ص 81-82.
3 - يعتقد الجرجاني بأنه من واجب المسلم معرفة أسباب الإعجاز القرآني.
4 - الفرق الذي نقوم به بين الشعريين (النقاد) والمدافعين عن القرآن (المتكلمين) هو إلى حدما -اعتباطي- لأن هؤلاء وأولئك، يستعملون نفس الرصيد البلاغي.
5 - إنني مدين كثيرا لدراسة تودوروف (Splandeur et misère de la rhétorique) في كتابه: Théorie du symbole، Seuil،1997، ص 59 - 83.
6 - سورة الشعراء آية 224-226 "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون" قرآن كريم.
7 - ابن رشيق: العمدة، ج 1، ص 18.
8 - هذا السلوك لا يمر دون أن يذكر بصورة بلاغية تدعى "التورية" وهي نوع يقوم على إخفاء "معنى بعيد وراء معنى قريب" إن النظريات العربية التي اهتمت بهذه الصورة قد عرضت من طرف "س.أ.بونباكر" بعض التعريفات القديمة للتورية
Some early definition of the tawriya, Monton, 1966.
9 - موقف المدافعين عن القرآن (بعض المتكلمين) فالمظهر الأول يقرب القرآن من الكتب المنزلة الأخرى، أما الثاني فيميزه عنهم: الكتاب الشهير حول المسألة وهو كتاب الباقلاني (ق 4) ولقد ترجم من طرف كرومباوم تحت عنوان:
Ateath - Century document of arabi theory and criticism (chicago. 1950).
10 - ابن رشيق: العمدة: ج 1، ص 74
11 - قدامة بن جعفر: نقد الشعر ، ص 17-19، 1963.
12 - ابن طباطبا العلوي:عيار الشعر، ص 10 ، 1956.
13- ابن طباطبا:عيار الشعر، ص 78
14 - الجرجاني عبد القاهر: أسرار البلاغة، ص 276، 1959.
15 - ابن طباطبا: عيار الشعر، ص 7
16 - نفس المرجع، ص 11
17 - نفس المرجع، ص 4
18 - نفس المرجع، ص 126
18 - راجع العمدة لابن رشيق، ج 2، ص 111-112
20 - ابن طباطبا: عيار الشعر، ص 126
21 - نفس المرجع، ص 21
22 - راجع العمدة لابن رشيق، ص 109
23 - قدامة بن جعفر، نقد الشعر، ص 146
24 - الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 88
25 - نفس المرجع، ص 129
26 - نفس المرجع، ص 17
27 - ابن طباطبا: عيار الشعر، ص 89
28 - الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 445
29 - نفس المرجع، ص 260+261
30 - نفس المرجع، ص 261
31 - نفس المرجع، ص 429
32 - نفس المرجع، ص 426-427
33 - نفس المرجع: ص 426
34 - نفس المرجع: ص 444-445
35 - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 384
36 - نفس المرجع، ص 384 و431
37 - نفس المرجع، ص 262
38 - نفس المرجع، ص 262
39 - نفس المرجع، ص 263-264
40 - عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 111.
41 - نفس المرجع، ص 110
42 - نفس المرجع، ص 112
43 - نفس المرجع، ص 112
44 - ابن طباطبا العلوي: عيار الشعر، ص 7
45 - الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 5
46 - الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 93
47 - الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 7
48 - نفس المرجع: ص 5
49 - ابن رشيق: العمدة، ج 1، ص 49.