نقوس المهدي
كاتب
أودّ في البداية أن ألاحظ أنه رغم بعدي تخصّصاً عن موضوع الأدب المغربي القديم ، أو أدب المغرب العربي فقد آثرت الحديث عنه هنا في أكثر فتراته تردداً وغموضاً، لا حبا فقط في ارتياد مجهول أو غامض غارق في الضباب، بل تعاطفاً وإسهاماً في الإنصاف لما لحقه -في هذه الفترة- من حيف، ربما أيضاً لتعاطفي مع كل مظلوم، قضايا ومواقف وأشخاصا.
وهكذا أجدني أدخل في هذه التجربة المتواضعة تحفيزاً للهِمم، وتفتيقاً للرؤى، بل ربما استفزازاً ما أدبياً مهما كانت نتائجه.. يبقى فيها الاجتهاد حسنة. فإن أصبت في بعض من ذلك فلله الحمد بدءاً وختاما على بعض توفيقه ، وإن خذلني التوفيق فأكون قد ظفرت بأجر الاجتهاد.
فلنتفق إذن على أن فترة النشأة هذه لأدب مغربي موطن فترة مظلومة ، يتحاشاها الباحثون، وينأى عنها الدارسون فما هي هذه النشأة وما طبيعتها؟
قبل التطرق إلى ذلك يحسن منهجياً أن ننبه -مجرد تنبيه- إلى بعض الجهود المغربية خاصة والعربية القليلة منها بعامة في الأدب المغربي ، وهي جهود تمثلت في الدراسات المختلفة المتخصصة والعامة ، من بينها أطروحات جامعية وغيرها، لكنّها بقيت مشدودة إلى العصر المرابطي والموحدي ، وبعضها القليل إلى ما قبل ذلك في العهد العبيدي -الصنهاجي والحمادي ، وهي مرحلة التمثيل والتأصيل والتعميم والتمكين ، وبقيت مرحلة النشأة في العصور الثلاثة الأولى الهجرية تعاني غموضاً وريبة وهجرا لعوامل مختلفة ، منها: هيبة المجهول الغامض ، وطبيعة النشأة المضطربة ، وقلة المصادر والمراجع والمادة معا ، وصعوبة الاهتداء ، إلى تلك القلة ويمكننا أن نقسّم مرحلة النشأة هذه نفسها إلى فترتين ، فترة الفتوحات الإسلامية أولاً وما اتسمت به من اضطرابات مختلفة في المغرب ، وفترة الامارات الثلاث ، الإمارة الرستمية (144-296هـ) و الإمارة الإدريسية (172-375هـ) و الإمارة الأغلبية (184-296هـ) الأقوى في المنطقة المغربية و الأقصر أجلا ، في سقوط هذه الإمارات في يد الحكم العبيدي.
ولكل فترة من هاتين طبيعتها من الناحية التاريخية والمادة الأدبية، لكنّهما معا عكسا حسا مغربيا في مجاله الحضاري الجديد (العربي- الإسلامي) تجسدت فيهما البذور الأولى لتوطين الكلمة الأدبية : حدثاً و مناخاً سياسياً و نفسياً و اجتماعياً و أدبياً أولاً و أخيراً. و لتكن أول وقفة لنا عند الفترة الأولى، فترة الفتح مع نهاية القرن الأول الهجري، فتنبغي الإشارة هنا إلى أن الفتح الإسلامي كان توثيقاً لما وهن أو انفصل عبر التاريخ بين أبناء الأمة الواحدة، وكان هذه المرة بواسطة العقيدة الجديدة بعمقها الإنساني والحضاري حين تذوب في الإسلام كلّ النعرات الإقليمية والعرقية ، ويبرز الانتماء الواحد لأمة الإسلام بفضل الدين التوحيدي الذي مقياسه التقوى. وجد هذا دعمه في جانب آخر بالشمال الافريقي هو صلة النسب بين الذين حملوا لواء الإسلام من الفاتحين وبين أبناء المنطقة ومن دون أن ندخل في مناقشات لم تعد تفضي إلى شيء حول عروبة (مازيغ) أو الأصل العربي للإنسان البربري والاتجاه الاستعماري الغربي الذي يرفض هذا الانتماء: يمكن القول: إن الإسلام تكفل بصهر أبناء الوطن الواحد في هم مشترك فصار في النهاية الانتماء حضارياً واحداً، وهو الانتماء الذي لم يلبث معه ابن الشمال الافريقي حتى حمل لواء الفتح لنشر الإسلام، كما غدا بعد ذلك عالماً ضليعاً في آداب اللغة العربية، حجة فيها، مؤلفاً في اللغة والنحو، كما غدا أمامها عالماً في أصول الفقه الإسلامي، ومجتهداً في أمهات المسائل باللغة العربية، وهو موضوع آخر لا يعنينا هنا.
غير أن القرن الأول بشكل خاص يبقى فترة الفتح، كما يبقى فترة صراع مبكر على السلطة، فترة فتح لدحر الوجود البيزنطي أولاً، ثم فترة معارك بين الولاة والأمراء المحليين من (البربر) أمثال (كسيلة) و (الكاهنة) ثانياً، مثلما كان عصر صراع وتنافس على السلطة بين الولاة أنفسهم ، مما كانت له انعكاسات سلبية خطيرة في مسيرة الفتح و على الرجال أنفسهم ، وفي العلاقة بين القائد المسلم والمواطنين ، كما حدث بين (عقبة بن نافع) و (أبي المهاجر دينار) الذي عينه والي مصر (مسلمة بن مخلد) على (افريقيا) سنة خمس وخمسين، فخرب القيروان التي بناها (عقبة) سنة خمسين وأسس أخرى، ومضى في الفتح حتى هزم (كسيلة) الذي أسلم على يده، غير أن (عقبة) الذي عينه (يزيد بن معاوية) بعد توليه الخلافة انتقم من (أبي المهاجر) وأساء لحليفه (كسيله) مما جعل الثمن باهظاً على المستوى الشخصي لـ عقبة وفي حركة الفتح في المنطقة، ثم على مستوى الثقة بين المسؤول والرعية.
هذا زيادة على كون المرحلة لم تخل من تذبذب في الموقف من الدين والسلطة والمناخ الجديد إضافة إلى أن المغرب كان في مرحلة تعرف على الدين والأخذ بتعلم العربية، هذا التعلم الذي لم تكن لتبرز نتائجه إلا في فترة متأخرة، خاصة حين أدرك الإنسان (المغربي) نوعية المناخ الذي بدأت تحدثه العقيدة الجديدة التي بات فيها المواطن إنساناً له كرامته وليس عبداً ذليلاً في خدمة الاحتلال الغربي المندحر أمام المدّ الإسلامي.
وقد برز في هذه الفترة من حركة الفتح الإسلامي أبطال من أبناء المنطقة أنفسهم لنشر كلمة الإسلام، فكان (طارق بن زياد) الرجل الذي جسّد التحوّل من مرحلة الشك والتردد إلى مرحلة أخرى حاسمة من الإيمان واليقين والعمل، صار فيها الإنسان المغربي صاحب القضية لنشر الإسلام واللغة العربية.
هنا يمكن أن نتوقف قليلاً عند هذه الشخصية المغربية لما تمثله من جوانب مختلفة من بينها الجانب التاريخي والأدبي بشكل أخص، فهي مؤشر فاصل في الموقف الذي صار لصالح الإسلام من أبناء المنطقة تشعباً به وحباً فيه، وإخلاصاً في الدفاع عنه، ثم تعبيراً عن ذلك بلغة عربية راقية كما تجلى في خطبته الذائعة الصيت التي ضج بها فؤاده، فتموّجت كلماتها بلغة صافية بليغة على لسانه وهو يعلن في جيشه "البحر وراءكم والعدو أمامكم" فكان الانتصار في المعركة كما هو معروف (92 للهجرة).
يعنينا في الموقف هنا هذه الخطبة الأدبية الرفيعة التي أنتجها قائد من (المغرب) أي من المنطقة التي أطلق على أبنائها اسم (البربر) وقد جاءت بلغة عربية صافية، بل إن مستواها الفكري واللغوي والبلاغي جعلها موضع شك في أن تكون لطارق (البربري) الذي بذر بهذه (الخطبة) ونص آخر أول بذرة لـ نشأة أدب مغربي، في فترة يتكهن البعض بأنها نشأة مشرقية على أيدي رجال فقهاء صحبوا الفاتحين : أئمة و وعاظا، وهو ما لا يصح أن يدرج في الأدب بعامة، ولا في الأدب المغربي ، هذا إن توفرت فعلاً هذه النصوص الدينية الوعظية.
ويرى المتشككون في نسبة هذه الخطبة لـ طارق: أنه لم يكن في مقدوره وهو (البربري) أن يلقي خطبة بهذا المستوى لعامل اللغة بالدرجة الأولى من دون شك، وهو الرأي الذي يسهو عن كثير من الحقائق في العلاقة بنسب (طارق) وبيئته التي نشأ فيها، رغم التضارب بين الآراء في نسبه الذي يعود به البعض حتى إلى (فارس) فيعتبرونه (همذانياً) ويكتفي (ابن خلدون) بأنه (ليثي) من موالي قبيلة (ليث) بينما الواضح أنه مغربي (بربري) من قبيلة (زناتة) كما يذكر ذلك (الشريف الادريسي) نفسه، وهي من القبائل الكبرى في افريقيا أو شمال افريقيا.. ولم يكن (طارق) -المتوفي سنة 101 هـ- 719م- حديث عهد بالإسلام والعربية، حتى يكون ذلك مصدر شك في نسبة الخطبة إليه، فقد أسلم أبوه قبله، بل يذكر البعض جدّه، وهذا واضح حتى من خلال الاسم واللقب.
لذا فإن أباه على الأقل اعتنق الإسلام، واتخذ له اسماً عربياً وصار مجاهداً في صفوف المسلمين، في ذلك الجو نشأ (طارق) وشب مع الإسلام مؤمناً مجاهداً، حتى تولى منطقة (برقة) كما تشير بعض المصادر كـ ابن الحكم في (فتوح مصر)(1) وهي التي فتحها قبل (عمرو بن العاص) سنة (22 هجرية) بعد الفتح في (مصر) بنحو عامين(2) كما يؤكد (عبد الله عنان).
في مسيرة الفتح هذه كان (طارق) من دون شك يتنفس مناخ الإسلام ويتعلم اللغة العربية ذات الصلة الحميمة بلغته الأولى (البربرية) ثم قبل هذا وبعده حتى على فرض الاختلاف العرقي فإن الإسلام وحّد المشاعر والآمال بين أبناء المغرب العربي من الذين حملوا لواءه فاتحين والذين اعتنقوه من أبناء المنطقة ونهضوا ينشرونه، فعبر العلاقات في وجوه الحياة المختلفة في المناخ الإسلامي، بما فيها من زواج وعادات وتقاليد نهض مجتمع متجدد متطور أمه (الجزائر) أو المغرب عموماً وأبوه الإسلام، كما يقول ابن باديس (فتبربر العرب وتعرب البربر) كما يقول كاتب جزائري في التاريخ أيضاً(3).
هذا الواقع الجديد يعتبر في وجهة نظر البعض من غير الغربيين طبعاً تتويجاً لموجات من العلاقات المتباعدة التي شهدتها المنطقة منذ العصور القديمة في الهجرات المتلاحقة، مما ينبه إلى الأصل العربي لسكان الشمال الافريقي القدماء زيادة على حقائق أخرى في اللغة والعادات والتقاليد، وهو -ربما- مما جعل المرحوم (شكيب أرسلان) يقول: "البربر في المواقف العامة هم أقرب إلى العرب من العرب بعضهم إلى بعض"(4).
زيادة على كل ذلك وغيره فقد فصل الإسلام في الأمر بمبادئه وقيمه الإنسانية في مثل قوله تعالى: "إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَة" وفي مثل قول رسول الله (ص): "لا فضل لعربي على عجمي.. إلا بالتقوى" ثم قوله في الأخير "ليس منا من دعا إلى عصبية".
في هذا الواقع الإسلامي الجديد انطلق (طارق بنزياد) مجاهدا،وقد عينه (موسى بن نصير) واليا على مدينة (طنجة) بعدما تولى هذا الأخير مهامه في (شمال افريقيا) في نهاية الثمانينات من القرن الأول للهجرة، فأسهم (طارق) في التمكين للإسلام ونشر العربية بعدما نشأ في أحضانهما.
لم يكن استثناء ولا عجبا في هذا الجو أن يجيد (طارق) العربية ويبدع بها، وهو أمر لا يتطلب سوى بضع سنوات لن يكون في حاجة إلى أن تبلغ العشرين أو الثلاثين، تساعد على ذلك عوامل مختلفة، وهي كثيرة ومتنوعة، منها: حب الدين الجديد الذي يشحذ العزيمة فتكبر الهمة ويهون الصعب، إضافة إلى الذكاء الفطري في الإنسان الريفي وحدة ذهنه وقدرته الفائقة على الحفظ التي تمكن من حفظ المنظوم والمنثور خصوصاً القرآن الكريم قمة الإعجاز البياني، وما فيه من نماذج مثالية لفن القول الرفيع.
هذه الثقافة اللغوية التي لم تزاحمها معارف أخرى غير المعارف الدينية إضافة إلى الخبرة بالحياة والتجارب الإنسانية هي التي أسهمت في صياغة خطبة (طارق) في جيشه في لحظات مشحونة بالتحفز والقلق، وهو يجد نفسه في مواجهة عدوّ ذي إمكانات كبيرة بعدما تلقى أمراً من (موسى بن نصير) سنة (92هـ) بالتوجه لفتح (إسبانيا) فجهّز جيشاً قوامه عشرة آلاف ممن يسمون (بربرا) مسلمين وبضع مئات من عرب المشرق، لمواجهة الملك الإسباني (لذريق) الذي لقي مصرعه في المعركة على يد (طارق) سنة (94هـ).
وهي المناسبة التي أبدع جوّها هذه الخطبة من عيون أدب الحرب، بكل ظلالها وأجوائها وثورتها وقيمها الطبيعية والشخصية والإنسانية المختلفة، والحضارية أخيراً.
لقد كانت خطبة (طارق) طفرة متقدمة في نشوء الأدب المغربي، ليس في مستواها الفكري ولغتها فحسب، بل حتى في نوعها ونوعيتها، فهي ليست من الخطابة الدينية التقليدية الباهتة، ولا هي مما تأسر فيه الزخارف اللفظية الجوفاء، بل تفجرت فيها المشاعر الجياشة متدفقة حارة نابضة بالصدق والإيمان، مشاعر الجهاد والاستشهاد، مشاعر الإيمان بالقضية والفناء في حبّها، فدخل بها عالم الأدب من باب الحرب، وهي إن عبرت عن ملامح شخصية عسكرية حازمة فقد وشت أيضاً بروح أديب فنان، لم يصلنا منه غيرها سوى ثلاث أبيات شعرية ذكرها له (المقّري) في (نفح الطيب) وهي قوله:
ركبنا سفينا بالمجاز مقيرا (*) *** عسى أن يكون الله منا قد اشترى
نفوسا وأموالا وأهلا بجنة *** إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسرا
ولسنا نُبالي كيف سالت نفوسنا *** إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا
وقد أتبع (المقّري) هذه الأبيات بتعليق أورده بعدها مباشرة "قال ابن سعيد(**) وهذه الأبيات مما يكتب لمراعاة قائلها ومكانته، لا لعلو طبقتها"(5) أي لضعفها، دون مكانة الرجل ومستواه الذي عرف بخطبته، لكن هذه الأبيات تؤكد حقيقة الرجل في كونه تمكن من العربية، حتى أجاد التعبير الرفيع بها، فأبدع في ذلك شعراً ونثراً، والملاحظ أن هذه الأبيات تستمد الظروف نفسها التي قيلت فيها الخطبة السابقة، غير أن الأبيات تبدو أسبق في القول عن الخطبة. الأبيات تصف عبور البحر من المغرب إلى اسبانيا، والخطبة تصور جوّ الاستعداد للمعركة للالتحام بالعدوّ، في الأرض الاسبانية.
وقد انعكست في هذه الأبيات نفس القيم والملامح الدينية حتى استمد النص الصريح من القرآن الكريم، فقوله في الشطر الثاني من أول بيت وما تبعه: "عسى أن يكون الله منا قد اشترى" هو صدى لقوله تعالى: "إنَّ الله اشتَرى مِنَ المؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأمْوالَهُمْ بأنَّ لهمُ الجَنَّةَ، يُقَاتلُونَ في سبيلِ اللهِ فيَقْتُلون ويُقْتَلون وعْدًا عليه حَقًّا في التَّوراةِ و الإنجيلِ و القُرْآنِ..." إلى آخر الآية [111 من سورة التوبة]
مهما يكن من شيء فإن القرائن المختلفة ما ذكر منها وما لم يذكر تدلّ على أن الخطبة لطارق المغربي، خاطب الحسَّ الديني في جنوده، والنوازع النفسية، وما لحق هذه الخطبة من تغيير واختلاف بين رواية وأخرى راجع إلى فعل الرواة وتصرفهم في ذلك.
وهكذا نسجل هنا الظاهرة الأولى في أول فترة لنشوء أدب مغربي موطّن، بصاحبه وبيئته وظرفه ومناسبته، ثم نتطلع حولنا لاستمرارية هذه النشأة وامتداداتها على الأقل في القرن الثاني للهجرة، فلا نعثر على شيء معتبر إلا في أواخره.
د. عمر بن قينة
وهكذا أجدني أدخل في هذه التجربة المتواضعة تحفيزاً للهِمم، وتفتيقاً للرؤى، بل ربما استفزازاً ما أدبياً مهما كانت نتائجه.. يبقى فيها الاجتهاد حسنة. فإن أصبت في بعض من ذلك فلله الحمد بدءاً وختاما على بعض توفيقه ، وإن خذلني التوفيق فأكون قد ظفرت بأجر الاجتهاد.
فلنتفق إذن على أن فترة النشأة هذه لأدب مغربي موطن فترة مظلومة ، يتحاشاها الباحثون، وينأى عنها الدارسون فما هي هذه النشأة وما طبيعتها؟
قبل التطرق إلى ذلك يحسن منهجياً أن ننبه -مجرد تنبيه- إلى بعض الجهود المغربية خاصة والعربية القليلة منها بعامة في الأدب المغربي ، وهي جهود تمثلت في الدراسات المختلفة المتخصصة والعامة ، من بينها أطروحات جامعية وغيرها، لكنّها بقيت مشدودة إلى العصر المرابطي والموحدي ، وبعضها القليل إلى ما قبل ذلك في العهد العبيدي -الصنهاجي والحمادي ، وهي مرحلة التمثيل والتأصيل والتعميم والتمكين ، وبقيت مرحلة النشأة في العصور الثلاثة الأولى الهجرية تعاني غموضاً وريبة وهجرا لعوامل مختلفة ، منها: هيبة المجهول الغامض ، وطبيعة النشأة المضطربة ، وقلة المصادر والمراجع والمادة معا ، وصعوبة الاهتداء ، إلى تلك القلة ويمكننا أن نقسّم مرحلة النشأة هذه نفسها إلى فترتين ، فترة الفتوحات الإسلامية أولاً وما اتسمت به من اضطرابات مختلفة في المغرب ، وفترة الامارات الثلاث ، الإمارة الرستمية (144-296هـ) و الإمارة الإدريسية (172-375هـ) و الإمارة الأغلبية (184-296هـ) الأقوى في المنطقة المغربية و الأقصر أجلا ، في سقوط هذه الإمارات في يد الحكم العبيدي.
ولكل فترة من هاتين طبيعتها من الناحية التاريخية والمادة الأدبية، لكنّهما معا عكسا حسا مغربيا في مجاله الحضاري الجديد (العربي- الإسلامي) تجسدت فيهما البذور الأولى لتوطين الكلمة الأدبية : حدثاً و مناخاً سياسياً و نفسياً و اجتماعياً و أدبياً أولاً و أخيراً. و لتكن أول وقفة لنا عند الفترة الأولى، فترة الفتح مع نهاية القرن الأول الهجري، فتنبغي الإشارة هنا إلى أن الفتح الإسلامي كان توثيقاً لما وهن أو انفصل عبر التاريخ بين أبناء الأمة الواحدة، وكان هذه المرة بواسطة العقيدة الجديدة بعمقها الإنساني والحضاري حين تذوب في الإسلام كلّ النعرات الإقليمية والعرقية ، ويبرز الانتماء الواحد لأمة الإسلام بفضل الدين التوحيدي الذي مقياسه التقوى. وجد هذا دعمه في جانب آخر بالشمال الافريقي هو صلة النسب بين الذين حملوا لواء الإسلام من الفاتحين وبين أبناء المنطقة ومن دون أن ندخل في مناقشات لم تعد تفضي إلى شيء حول عروبة (مازيغ) أو الأصل العربي للإنسان البربري والاتجاه الاستعماري الغربي الذي يرفض هذا الانتماء: يمكن القول: إن الإسلام تكفل بصهر أبناء الوطن الواحد في هم مشترك فصار في النهاية الانتماء حضارياً واحداً، وهو الانتماء الذي لم يلبث معه ابن الشمال الافريقي حتى حمل لواء الفتح لنشر الإسلام، كما غدا بعد ذلك عالماً ضليعاً في آداب اللغة العربية، حجة فيها، مؤلفاً في اللغة والنحو، كما غدا أمامها عالماً في أصول الفقه الإسلامي، ومجتهداً في أمهات المسائل باللغة العربية، وهو موضوع آخر لا يعنينا هنا.
غير أن القرن الأول بشكل خاص يبقى فترة الفتح، كما يبقى فترة صراع مبكر على السلطة، فترة فتح لدحر الوجود البيزنطي أولاً، ثم فترة معارك بين الولاة والأمراء المحليين من (البربر) أمثال (كسيلة) و (الكاهنة) ثانياً، مثلما كان عصر صراع وتنافس على السلطة بين الولاة أنفسهم ، مما كانت له انعكاسات سلبية خطيرة في مسيرة الفتح و على الرجال أنفسهم ، وفي العلاقة بين القائد المسلم والمواطنين ، كما حدث بين (عقبة بن نافع) و (أبي المهاجر دينار) الذي عينه والي مصر (مسلمة بن مخلد) على (افريقيا) سنة خمس وخمسين، فخرب القيروان التي بناها (عقبة) سنة خمسين وأسس أخرى، ومضى في الفتح حتى هزم (كسيلة) الذي أسلم على يده، غير أن (عقبة) الذي عينه (يزيد بن معاوية) بعد توليه الخلافة انتقم من (أبي المهاجر) وأساء لحليفه (كسيله) مما جعل الثمن باهظاً على المستوى الشخصي لـ عقبة وفي حركة الفتح في المنطقة، ثم على مستوى الثقة بين المسؤول والرعية.
هذا زيادة على كون المرحلة لم تخل من تذبذب في الموقف من الدين والسلطة والمناخ الجديد إضافة إلى أن المغرب كان في مرحلة تعرف على الدين والأخذ بتعلم العربية، هذا التعلم الذي لم تكن لتبرز نتائجه إلا في فترة متأخرة، خاصة حين أدرك الإنسان (المغربي) نوعية المناخ الذي بدأت تحدثه العقيدة الجديدة التي بات فيها المواطن إنساناً له كرامته وليس عبداً ذليلاً في خدمة الاحتلال الغربي المندحر أمام المدّ الإسلامي.
وقد برز في هذه الفترة من حركة الفتح الإسلامي أبطال من أبناء المنطقة أنفسهم لنشر كلمة الإسلام، فكان (طارق بن زياد) الرجل الذي جسّد التحوّل من مرحلة الشك والتردد إلى مرحلة أخرى حاسمة من الإيمان واليقين والعمل، صار فيها الإنسان المغربي صاحب القضية لنشر الإسلام واللغة العربية.
هنا يمكن أن نتوقف قليلاً عند هذه الشخصية المغربية لما تمثله من جوانب مختلفة من بينها الجانب التاريخي والأدبي بشكل أخص، فهي مؤشر فاصل في الموقف الذي صار لصالح الإسلام من أبناء المنطقة تشعباً به وحباً فيه، وإخلاصاً في الدفاع عنه، ثم تعبيراً عن ذلك بلغة عربية راقية كما تجلى في خطبته الذائعة الصيت التي ضج بها فؤاده، فتموّجت كلماتها بلغة صافية بليغة على لسانه وهو يعلن في جيشه "البحر وراءكم والعدو أمامكم" فكان الانتصار في المعركة كما هو معروف (92 للهجرة).
يعنينا في الموقف هنا هذه الخطبة الأدبية الرفيعة التي أنتجها قائد من (المغرب) أي من المنطقة التي أطلق على أبنائها اسم (البربر) وقد جاءت بلغة عربية صافية، بل إن مستواها الفكري واللغوي والبلاغي جعلها موضع شك في أن تكون لطارق (البربري) الذي بذر بهذه (الخطبة) ونص آخر أول بذرة لـ نشأة أدب مغربي، في فترة يتكهن البعض بأنها نشأة مشرقية على أيدي رجال فقهاء صحبوا الفاتحين : أئمة و وعاظا، وهو ما لا يصح أن يدرج في الأدب بعامة، ولا في الأدب المغربي ، هذا إن توفرت فعلاً هذه النصوص الدينية الوعظية.
ويرى المتشككون في نسبة هذه الخطبة لـ طارق: أنه لم يكن في مقدوره وهو (البربري) أن يلقي خطبة بهذا المستوى لعامل اللغة بالدرجة الأولى من دون شك، وهو الرأي الذي يسهو عن كثير من الحقائق في العلاقة بنسب (طارق) وبيئته التي نشأ فيها، رغم التضارب بين الآراء في نسبه الذي يعود به البعض حتى إلى (فارس) فيعتبرونه (همذانياً) ويكتفي (ابن خلدون) بأنه (ليثي) من موالي قبيلة (ليث) بينما الواضح أنه مغربي (بربري) من قبيلة (زناتة) كما يذكر ذلك (الشريف الادريسي) نفسه، وهي من القبائل الكبرى في افريقيا أو شمال افريقيا.. ولم يكن (طارق) -المتوفي سنة 101 هـ- 719م- حديث عهد بالإسلام والعربية، حتى يكون ذلك مصدر شك في نسبة الخطبة إليه، فقد أسلم أبوه قبله، بل يذكر البعض جدّه، وهذا واضح حتى من خلال الاسم واللقب.
لذا فإن أباه على الأقل اعتنق الإسلام، واتخذ له اسماً عربياً وصار مجاهداً في صفوف المسلمين، في ذلك الجو نشأ (طارق) وشب مع الإسلام مؤمناً مجاهداً، حتى تولى منطقة (برقة) كما تشير بعض المصادر كـ ابن الحكم في (فتوح مصر)(1) وهي التي فتحها قبل (عمرو بن العاص) سنة (22 هجرية) بعد الفتح في (مصر) بنحو عامين(2) كما يؤكد (عبد الله عنان).
في مسيرة الفتح هذه كان (طارق) من دون شك يتنفس مناخ الإسلام ويتعلم اللغة العربية ذات الصلة الحميمة بلغته الأولى (البربرية) ثم قبل هذا وبعده حتى على فرض الاختلاف العرقي فإن الإسلام وحّد المشاعر والآمال بين أبناء المغرب العربي من الذين حملوا لواءه فاتحين والذين اعتنقوه من أبناء المنطقة ونهضوا ينشرونه، فعبر العلاقات في وجوه الحياة المختلفة في المناخ الإسلامي، بما فيها من زواج وعادات وتقاليد نهض مجتمع متجدد متطور أمه (الجزائر) أو المغرب عموماً وأبوه الإسلام، كما يقول ابن باديس (فتبربر العرب وتعرب البربر) كما يقول كاتب جزائري في التاريخ أيضاً(3).
هذا الواقع الجديد يعتبر في وجهة نظر البعض من غير الغربيين طبعاً تتويجاً لموجات من العلاقات المتباعدة التي شهدتها المنطقة منذ العصور القديمة في الهجرات المتلاحقة، مما ينبه إلى الأصل العربي لسكان الشمال الافريقي القدماء زيادة على حقائق أخرى في اللغة والعادات والتقاليد، وهو -ربما- مما جعل المرحوم (شكيب أرسلان) يقول: "البربر في المواقف العامة هم أقرب إلى العرب من العرب بعضهم إلى بعض"(4).
زيادة على كل ذلك وغيره فقد فصل الإسلام في الأمر بمبادئه وقيمه الإنسانية في مثل قوله تعالى: "إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَة" وفي مثل قول رسول الله (ص): "لا فضل لعربي على عجمي.. إلا بالتقوى" ثم قوله في الأخير "ليس منا من دعا إلى عصبية".
في هذا الواقع الإسلامي الجديد انطلق (طارق بنزياد) مجاهدا،وقد عينه (موسى بن نصير) واليا على مدينة (طنجة) بعدما تولى هذا الأخير مهامه في (شمال افريقيا) في نهاية الثمانينات من القرن الأول للهجرة، فأسهم (طارق) في التمكين للإسلام ونشر العربية بعدما نشأ في أحضانهما.
لم يكن استثناء ولا عجبا في هذا الجو أن يجيد (طارق) العربية ويبدع بها، وهو أمر لا يتطلب سوى بضع سنوات لن يكون في حاجة إلى أن تبلغ العشرين أو الثلاثين، تساعد على ذلك عوامل مختلفة، وهي كثيرة ومتنوعة، منها: حب الدين الجديد الذي يشحذ العزيمة فتكبر الهمة ويهون الصعب، إضافة إلى الذكاء الفطري في الإنسان الريفي وحدة ذهنه وقدرته الفائقة على الحفظ التي تمكن من حفظ المنظوم والمنثور خصوصاً القرآن الكريم قمة الإعجاز البياني، وما فيه من نماذج مثالية لفن القول الرفيع.
هذه الثقافة اللغوية التي لم تزاحمها معارف أخرى غير المعارف الدينية إضافة إلى الخبرة بالحياة والتجارب الإنسانية هي التي أسهمت في صياغة خطبة (طارق) في جيشه في لحظات مشحونة بالتحفز والقلق، وهو يجد نفسه في مواجهة عدوّ ذي إمكانات كبيرة بعدما تلقى أمراً من (موسى بن نصير) سنة (92هـ) بالتوجه لفتح (إسبانيا) فجهّز جيشاً قوامه عشرة آلاف ممن يسمون (بربرا) مسلمين وبضع مئات من عرب المشرق، لمواجهة الملك الإسباني (لذريق) الذي لقي مصرعه في المعركة على يد (طارق) سنة (94هـ).
وهي المناسبة التي أبدع جوّها هذه الخطبة من عيون أدب الحرب، بكل ظلالها وأجوائها وثورتها وقيمها الطبيعية والشخصية والإنسانية المختلفة، والحضارية أخيراً.
لقد كانت خطبة (طارق) طفرة متقدمة في نشوء الأدب المغربي، ليس في مستواها الفكري ولغتها فحسب، بل حتى في نوعها ونوعيتها، فهي ليست من الخطابة الدينية التقليدية الباهتة، ولا هي مما تأسر فيه الزخارف اللفظية الجوفاء، بل تفجرت فيها المشاعر الجياشة متدفقة حارة نابضة بالصدق والإيمان، مشاعر الجهاد والاستشهاد، مشاعر الإيمان بالقضية والفناء في حبّها، فدخل بها عالم الأدب من باب الحرب، وهي إن عبرت عن ملامح شخصية عسكرية حازمة فقد وشت أيضاً بروح أديب فنان، لم يصلنا منه غيرها سوى ثلاث أبيات شعرية ذكرها له (المقّري) في (نفح الطيب) وهي قوله:
ركبنا سفينا بالمجاز مقيرا (*) *** عسى أن يكون الله منا قد اشترى
نفوسا وأموالا وأهلا بجنة *** إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسرا
ولسنا نُبالي كيف سالت نفوسنا *** إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا
وقد أتبع (المقّري) هذه الأبيات بتعليق أورده بعدها مباشرة "قال ابن سعيد(**) وهذه الأبيات مما يكتب لمراعاة قائلها ومكانته، لا لعلو طبقتها"(5) أي لضعفها، دون مكانة الرجل ومستواه الذي عرف بخطبته، لكن هذه الأبيات تؤكد حقيقة الرجل في كونه تمكن من العربية، حتى أجاد التعبير الرفيع بها، فأبدع في ذلك شعراً ونثراً، والملاحظ أن هذه الأبيات تستمد الظروف نفسها التي قيلت فيها الخطبة السابقة، غير أن الأبيات تبدو أسبق في القول عن الخطبة. الأبيات تصف عبور البحر من المغرب إلى اسبانيا، والخطبة تصور جوّ الاستعداد للمعركة للالتحام بالعدوّ، في الأرض الاسبانية.
وقد انعكست في هذه الأبيات نفس القيم والملامح الدينية حتى استمد النص الصريح من القرآن الكريم، فقوله في الشطر الثاني من أول بيت وما تبعه: "عسى أن يكون الله منا قد اشترى" هو صدى لقوله تعالى: "إنَّ الله اشتَرى مِنَ المؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأمْوالَهُمْ بأنَّ لهمُ الجَنَّةَ، يُقَاتلُونَ في سبيلِ اللهِ فيَقْتُلون ويُقْتَلون وعْدًا عليه حَقًّا في التَّوراةِ و الإنجيلِ و القُرْآنِ..." إلى آخر الآية [111 من سورة التوبة]
مهما يكن من شيء فإن القرائن المختلفة ما ذكر منها وما لم يذكر تدلّ على أن الخطبة لطارق المغربي، خاطب الحسَّ الديني في جنوده، والنوازع النفسية، وما لحق هذه الخطبة من تغيير واختلاف بين رواية وأخرى راجع إلى فعل الرواة وتصرفهم في ذلك.
وهكذا نسجل هنا الظاهرة الأولى في أول فترة لنشوء أدب مغربي موطّن، بصاحبه وبيئته وظرفه ومناسبته، ثم نتطلع حولنا لاستمرارية هذه النشأة وامتداداتها على الأقل في القرن الثاني للهجرة، فلا نعثر على شيء معتبر إلا في أواخره.
د. عمر بن قينة