نقوس المهدي
كاتب
لقد تنبه العرب من قديم الى نوع من الناس "مجنون عاقل" تصدر منه أعمال جنونية بحتة في بعض تصرفاته، فإذا حدثته فأديب ظريف، او صوفي واصل، او فيلسوف عميق، او لنقل إنه مجنون في ناحية،
عاقل في عدة نواحي، والعرب لم يعنوا بهذا الضرب من الناس إلا ان يكونوا مجانين ممتازين في ناحية من النواحي الفنية، كأن يكونوا شعراء مجيدين، او حكماء بارعين، او فلاسفة، او كانوا ينطقون بالحكمة والنكتة الصريحة اللاذعة. وقد افرد بعض الكتب باباً لهذا الصنف من الأدباء كما فعل ابن عبد ربه الأندلسي في كتابه (العقد الفريد) سماه (أخبار الممرورين والمجانين. والممرور: من غلبت عليه المِرّة، وهي خلط من أخلاط البدن يغلب على المرء حيناً فيهذي، وهو أخف حالاً من الجنون. وقد الف النيسابوري صاحب التفسير المشهور كتابا سمّاه (عقلاء المجانين) ترجم فيه لهذا النوع من الناس وافاض.
* * *
ومن الجدير بالذكر ان هذا الصنف حبيب الى الناس، يحبون أن يسمعوا حديثه، ويتحرون أخباره، ولعل السر في هذا أنه صنف فيه طرافة، لأنه يجمع متناقضات من عقل وجنون، سفه وحكمة، طيش ورزانة، وأنه مثار للشفقة والرحمة مع الأعجاب. والآن أعرض لصورة من صور هؤلاء (عقلاء المجانين) وهي صورة طريفة حقاً وممتعة، وهي صورة بهلول الكوفي الذي كثيراً ما اتصل اسمه بالرشيد وملأ الكوفة وما حولها نوادرا وطرفاً.
أما أسمه "بُهْلُول"(1) فاسم ظريف يطابق مدلوله، فمن معانيه الضَّحّاك وقد كان البهلول ضحّاكاً.
أما منظره وحركاته وسكناته وتصرفاته، فكانت تغري الأطفال بالضحك عليه، والسخرية منه والصياح وراءه، ورميه بالحجارة، ومع هذا فكل ذلك لا يثير حفيظته، ولا يخرجه من طوره، بل بقابله بنظرة الفيلسوف الهادئ، ويثير فيه العطف والشفقة على هؤلاء الأطفال فقد رموه مرة بحجرة فأدموه فقال:
حسبي الله توكلت عليه/ ونواصي الخلق طراً بيديه
ليس للهارب في مهربه/ أبداً من روحهٍ إلا إليه
رب رام لي بأحجار الأذى/ لم أجد بداً من العطف عليه
نجد في البيت الآخير الرفق الذي بلغ الغاية في اللطف ومثل راقٍ من امثال الانسانية.
وقال له العقلاء يوماً: لم لا تشكو هؤلاء الاطفال لابائهم؟ فقال لهم: اسكتوا ايها المجانين –فلعلي إذا مت يذكرون هذا الفرح فيقولون: رحم الله ذلك المجنون.
وقال له عاقل آخر: تناول الحجارة وارمهم كما يرمونك، قال له بهلول: يامجنون اني إن فعلت شيئاً من هذا رجعوا الى آبائهم فقالوا لهم هذا المجنون بدأ يحرك يديه فيجب ان يغل ويقيد، فلا يكفيني ما ألقاه منهم حتى أغل وأقيد:
بهلول الكوفي له ناحية اخرى غاية في الطرافة، هي تستره وراء مظهر جنونه، ونصيحته الخلفاء والأمراء بأقوى لفظ وأصرح بيان؛ فقد زهد في ما لهم وجاههم، ووثق بربه فلم يخف احدا، وله في هذا الباب نوادر رائعة وأقوال غالية.
رووا ان الرشيد خرج الى الحج فمر بالكوفة، فرأى بهلولاً يعدو على قصبة وخلفه صبيان. فقال الرشيد: كنت أشتهي ان أراه، فأدعوه من غير ترويع، فلما حضر بين يديه قال: -يا بهلول، كنت إليك مشتاقاً.
بهلول: لكني لم اشتق اليك.
الرشيد: عظني.
بهلول: وبم أعظك؟ هذه قصورهم، وهذه قبورهم.
الرشيد: زدني
بهلول: كم أعطاه الله مالاً وجمالاً، قعف في جماله، وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار.
الرشيد: قد أمرنا بقضاء ديونك إن كانت.
بهلول: لا.. إنه لا يقضي دين بدين، أردد الحق الى أهله، وأقضِ دين نفسك.
الرشيد: ألك حاجة؟
بهلول: أنا وأنت عيال الله. فمحال ان يذكرك وينساني.
ثم ركب قصبته وجرى.
ووقفه الأمير يوماً في طريق الشريد ليدعو له إذا مر به، فلما حاذاه الرشيد قال: يا أمير المؤمنين أسأل الله أن يرزقك ويوسع عليك.
فضحك الرشيد وقال: آمين. فلما جازه الرشيد صفعه الوالي وقال له: أهكذا تدعو لأمير المؤمنين يا مجنون؟
فقال بهلول: اسكت يا مجنون، فما في الدنيا أحب الى أمير المؤمنين من الدراهم، فبلغ ذلك الرشيد فضحك وقال: والله ما كذب.
* * *
لقد قصَّر العقلاء في نصيحة الخلفاء والأمراء، فقام بهذا الواجب المجانين، وكان بهلول تنتابه لوثة فيلعب في التراب، ويمر عليه الناس فلا يعبأ بهم، لأنه يرى نفسه العاقل وهم المجانين.
*ويجلس بين المقابر فينطق بالموعظة الحسنة والحكمة البالغة، فيقول: "أما ترى هذه الأعين السائلة، والمحاسن البالية، والشعور المتمعطة، والجلود المتمزقة، والجماجم الخاوية، والعظام النخرة، لايتقاربون بالانساب، ولا يتواصلون تواصل الأحباب، لقد صارت الوجوه عابسة بعد نضرتها، والعظام نخرة بعد قوتها، تجر عليهم الرياح ذيولها، وتصب عليهم السماء سيولها".
*وله الفكاهة الحلوة والنادرة الطريفة، والجواب السكت، فقد بلغه عن أمير الكوفة أنه ولدت له بنت فساءه ذلك، فذهب اليه بهلول وقال له: أيسرك ان لك مكانها ابناً مثلي؟ فقال ه:ويحك! فرجت عني.
*وصحبه مجنون آخر مثله، فقابلهما الخليفة الهادي، فقال للبهلول: لم سميت بهلولاً؟ فقال له: ولم سميت انت موسى؟ فسبه الهادي سباً شنيعاً، فنظر الى صاحبه وقال له: كنا اثنين فصرنا ثلاثة.
*ورؤي جالساً بين المقابر وهو يلعب بالتراب فقيل له: ماذا تصنع؟ قال: أجالس قوماً لا يؤذونني.
وهكذا ملأ بهلول عصره فكاهة وموعظة، وكان في الكوفة نظير صاحبه عليان بن أبي مالك في البصرة، وأمثالهما كثير، منهم من عرف بالشعر الظريف، ومنهم من عرف بالنوادر الطريفة ومنهم من كان مجنوناً حقاً، ومنهم من رأى العالم مجنوناً فجن. ومن العلماء والرواة من رأى قول الحكمة اذا صدر من عاقل أمر مألوف لا يسترعي النظر، ولكن إذا صدر عن مجنون كان أوقع في النفس فحمله عقله أن يصدر من مجنون. وقديماً قالوا:الجنون فنون!
[/align]
ــــــــــــــ
(1) وفي أساس البلاغة للزمخشري/ تحقيق الاستاذ عبدالرحيم محمود/ ص32 مادة (ب هـ ل).
وهو بُهْلُلٌ وهم بَهَالِيلٌ وهي الحي الكريم قال:
كم فيهم من فارس ذي مصدق/ عند اللقاء سميدع بهلول
وفي المجاز: رجل باهل: متردد بغير عمل.
عاقل في عدة نواحي، والعرب لم يعنوا بهذا الضرب من الناس إلا ان يكونوا مجانين ممتازين في ناحية من النواحي الفنية، كأن يكونوا شعراء مجيدين، او حكماء بارعين، او فلاسفة، او كانوا ينطقون بالحكمة والنكتة الصريحة اللاذعة. وقد افرد بعض الكتب باباً لهذا الصنف من الأدباء كما فعل ابن عبد ربه الأندلسي في كتابه (العقد الفريد) سماه (أخبار الممرورين والمجانين. والممرور: من غلبت عليه المِرّة، وهي خلط من أخلاط البدن يغلب على المرء حيناً فيهذي، وهو أخف حالاً من الجنون. وقد الف النيسابوري صاحب التفسير المشهور كتابا سمّاه (عقلاء المجانين) ترجم فيه لهذا النوع من الناس وافاض.
* * *
ومن الجدير بالذكر ان هذا الصنف حبيب الى الناس، يحبون أن يسمعوا حديثه، ويتحرون أخباره، ولعل السر في هذا أنه صنف فيه طرافة، لأنه يجمع متناقضات من عقل وجنون، سفه وحكمة، طيش ورزانة، وأنه مثار للشفقة والرحمة مع الأعجاب. والآن أعرض لصورة من صور هؤلاء (عقلاء المجانين) وهي صورة طريفة حقاً وممتعة، وهي صورة بهلول الكوفي الذي كثيراً ما اتصل اسمه بالرشيد وملأ الكوفة وما حولها نوادرا وطرفاً.
أما أسمه "بُهْلُول"(1) فاسم ظريف يطابق مدلوله، فمن معانيه الضَّحّاك وقد كان البهلول ضحّاكاً.
أما منظره وحركاته وسكناته وتصرفاته، فكانت تغري الأطفال بالضحك عليه، والسخرية منه والصياح وراءه، ورميه بالحجارة، ومع هذا فكل ذلك لا يثير حفيظته، ولا يخرجه من طوره، بل بقابله بنظرة الفيلسوف الهادئ، ويثير فيه العطف والشفقة على هؤلاء الأطفال فقد رموه مرة بحجرة فأدموه فقال:
حسبي الله توكلت عليه/ ونواصي الخلق طراً بيديه
ليس للهارب في مهربه/ أبداً من روحهٍ إلا إليه
رب رام لي بأحجار الأذى/ لم أجد بداً من العطف عليه
نجد في البيت الآخير الرفق الذي بلغ الغاية في اللطف ومثل راقٍ من امثال الانسانية.
وقال له العقلاء يوماً: لم لا تشكو هؤلاء الاطفال لابائهم؟ فقال لهم: اسكتوا ايها المجانين –فلعلي إذا مت يذكرون هذا الفرح فيقولون: رحم الله ذلك المجنون.
وقال له عاقل آخر: تناول الحجارة وارمهم كما يرمونك، قال له بهلول: يامجنون اني إن فعلت شيئاً من هذا رجعوا الى آبائهم فقالوا لهم هذا المجنون بدأ يحرك يديه فيجب ان يغل ويقيد، فلا يكفيني ما ألقاه منهم حتى أغل وأقيد:
بهلول الكوفي له ناحية اخرى غاية في الطرافة، هي تستره وراء مظهر جنونه، ونصيحته الخلفاء والأمراء بأقوى لفظ وأصرح بيان؛ فقد زهد في ما لهم وجاههم، ووثق بربه فلم يخف احدا، وله في هذا الباب نوادر رائعة وأقوال غالية.
رووا ان الرشيد خرج الى الحج فمر بالكوفة، فرأى بهلولاً يعدو على قصبة وخلفه صبيان. فقال الرشيد: كنت أشتهي ان أراه، فأدعوه من غير ترويع، فلما حضر بين يديه قال: -يا بهلول، كنت إليك مشتاقاً.
بهلول: لكني لم اشتق اليك.
الرشيد: عظني.
بهلول: وبم أعظك؟ هذه قصورهم، وهذه قبورهم.
الرشيد: زدني
بهلول: كم أعطاه الله مالاً وجمالاً، قعف في جماله، وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار.
الرشيد: قد أمرنا بقضاء ديونك إن كانت.
بهلول: لا.. إنه لا يقضي دين بدين، أردد الحق الى أهله، وأقضِ دين نفسك.
الرشيد: ألك حاجة؟
بهلول: أنا وأنت عيال الله. فمحال ان يذكرك وينساني.
ثم ركب قصبته وجرى.
ووقفه الأمير يوماً في طريق الشريد ليدعو له إذا مر به، فلما حاذاه الرشيد قال: يا أمير المؤمنين أسأل الله أن يرزقك ويوسع عليك.
فضحك الرشيد وقال: آمين. فلما جازه الرشيد صفعه الوالي وقال له: أهكذا تدعو لأمير المؤمنين يا مجنون؟
فقال بهلول: اسكت يا مجنون، فما في الدنيا أحب الى أمير المؤمنين من الدراهم، فبلغ ذلك الرشيد فضحك وقال: والله ما كذب.
* * *
لقد قصَّر العقلاء في نصيحة الخلفاء والأمراء، فقام بهذا الواجب المجانين، وكان بهلول تنتابه لوثة فيلعب في التراب، ويمر عليه الناس فلا يعبأ بهم، لأنه يرى نفسه العاقل وهم المجانين.
*ويجلس بين المقابر فينطق بالموعظة الحسنة والحكمة البالغة، فيقول: "أما ترى هذه الأعين السائلة، والمحاسن البالية، والشعور المتمعطة، والجلود المتمزقة، والجماجم الخاوية، والعظام النخرة، لايتقاربون بالانساب، ولا يتواصلون تواصل الأحباب، لقد صارت الوجوه عابسة بعد نضرتها، والعظام نخرة بعد قوتها، تجر عليهم الرياح ذيولها، وتصب عليهم السماء سيولها".
*وله الفكاهة الحلوة والنادرة الطريفة، والجواب السكت، فقد بلغه عن أمير الكوفة أنه ولدت له بنت فساءه ذلك، فذهب اليه بهلول وقال له: أيسرك ان لك مكانها ابناً مثلي؟ فقال ه:ويحك! فرجت عني.
*وصحبه مجنون آخر مثله، فقابلهما الخليفة الهادي، فقال للبهلول: لم سميت بهلولاً؟ فقال له: ولم سميت انت موسى؟ فسبه الهادي سباً شنيعاً، فنظر الى صاحبه وقال له: كنا اثنين فصرنا ثلاثة.
*ورؤي جالساً بين المقابر وهو يلعب بالتراب فقيل له: ماذا تصنع؟ قال: أجالس قوماً لا يؤذونني.
وهكذا ملأ بهلول عصره فكاهة وموعظة، وكان في الكوفة نظير صاحبه عليان بن أبي مالك في البصرة، وأمثالهما كثير، منهم من عرف بالشعر الظريف، ومنهم من عرف بالنوادر الطريفة ومنهم من كان مجنوناً حقاً، ومنهم من رأى العالم مجنوناً فجن. ومن العلماء والرواة من رأى قول الحكمة اذا صدر من عاقل أمر مألوف لا يسترعي النظر، ولكن إذا صدر عن مجنون كان أوقع في النفس فحمله عقله أن يصدر من مجنون. وقديماً قالوا:الجنون فنون!
[/align]
ــــــــــــــ
(1) وفي أساس البلاغة للزمخشري/ تحقيق الاستاذ عبدالرحيم محمود/ ص32 مادة (ب هـ ل).
وهو بُهْلُلٌ وهم بَهَالِيلٌ وهي الحي الكريم قال:
كم فيهم من فارس ذي مصدق/ عند اللقاء سميدع بهلول
وفي المجاز: رجل باهل: متردد بغير عمل.