نقوس المهدي
كاتب
-"قال عيسى بن علي : رأيت سعدوناً والصبيان يرمونه بالحجارة، فصرفتهم عنه، فقال لي بعض الصبيان إنه يزعم أنه يرى ربه، فقلت له : أما تسمع مقالة الصبيان؟ فقال : يا أخي مذ عرفت الله ما فقدته. ثمّ قال…"
(غرر الخصائص الواضحة للوطواط، وعقلاء المجانين للنّيسابوريّ).
-"حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الأبلّي قال : رأيت غورك المجنون يوماً خارجاً من الحمام والصبيان قيام يضربونه ويؤذونه وهو يبكي فقلت له : ما خبرك يا أبا محمد؟ قال : قد آذاني هؤلاء الصبيان. أما يكفيني ما أنا فيه من العشق والجنون؟"
(عقلاء المجانين)
"عقلاء المجانين" في بعض كتب التّراجم وفي كتاب النّيسابوريّ (ت 406 هـ) الذي يحمل هذا العنوان هم "مجانين" يقصدهم العقلاء لسماع كلامهم الذي يتبيّن أنّه غير "مجنون"، أو يصل إلينا مليئا بحكمة من نوع ما، مع أنّهم يحملون مظاهر للجنون من حيث السّلوك والحركات، ومن حيث الهامشيّة الاجتماعيّة. فـأغلب "عقلاء المجانين" لا يعملون وليست لهم موارد رزق، ولا سكن لهم أحيانا ومنهم من يكون مصفّدا في دير أو مارستان ومنهم من يأوي إلى الخرائب. والكثير منهم يهيم في القفار والفلوات، كمجنون ليلى، فهو من "عقلاء المجانين" حسب الصّياغة التي أخرجها النّيسابوريّ لقصّته أو بالأحرى خرافته. وما يزيد الأمر تعقّدا، وما سنعود إليه في مبحث آخر أنّ الكثير منهم مصاب بالجنون بالمعاني الطّبّيّة القديمة للكلمة، فمنهم "الممرور"، ومنهم "الموسوس"، ومنهم "المصروع".
عقلاء- مجانين أو مجانين-عقلاء تنطبق عليهم إلى حدّ ما الكلمة المركّبة التي استنبطها جاك لاكان في إحدى ندواته : folisophe "المجنون-الحكيم" أو إن شئنا "حكيم الجنون" أو "مجنون الحكمة".
إنّهم "مجانين" يرميهم الصّبيان بالحجارة، في نصوص كثيرة لا تدخل تحت حصر. لكنّهم "عقلاء" يقولون للعقلاء حقيقة ما، وتصلنا هذه الحقيقة عبر العقلاء، فهم الرّواة والنّقلة والوسطاء.
لن أتوقّف عند الكثير من مدلولات هذا الوجه، وجه "العاقل المجنون"، وعند الإشكاليّات الفكريّة المعاصرة التي أثيرت حول علاقة العقل باللاّعقل وحول إمكانيّة كتابة تاريخ الجنون، بل سأركّز على نحو مجهريّ على هذه التّيمة التي لفتت نظري وأنا أتعقّب آثار هؤلاء المجانين وآثار الذين أخرجوا لنا صورهم ورووا أقوالهم. فالتّفاصيل الصّغيرة الهامشيّة قد تكون أحد الخيوط الكاشفة عن تركيبة النّسيج الخطابيّ، وإن كانت خيطا نافرا أو بقيّة متروكة لأنّها بديهيّة.
فما مدلول الرّمي بالحجارة في مثل هذه الأخبار، أو على وجه الدّقّة في هذا الخطاب عن الجنون؟ من هم الصّبيان، وهل يمثّلون إرادة الكبار سواء كانوا من العامّة أو الخاصّة؟ هل يتدرّبون على التّكفير والتّفسيق حتّى يصبحوا كبارا وحماة للجسد الجماعيّ؟ هل يمثّلون العقل الاجتماعيّ الذي يقصي الخارجين عن نظام الإنتاج والتّبادل الاقتصاديّ؟ ولكن لماذا أوكلت هذه المهمّة إلى الصّبية ولم توكل إلى الكبار؟ وما دور العقلاء الكبار في عبث الصّبيان بالمجانين العقلاء؟
من التّبسيط المخلّ أن نكتفي بإسناد وظيفة اضطهاديّة إقصائيّة لفعل الصّبيان، وأن نكتفي باستخراج بنية قائمة على فاعلين ومفعولين. فالفضاء الذي يتحرّك فيه المجنون العاقل يبدو لنا ركحا مصغّرا يقوم فيه أطراف متعدّدون بأدوار محدّدة ومتناغمة. فلنتبيّن طبيعة هذا المسرح انطلاقا من هذه التّيمة، ولننظر في الأركان الأربعة لنتبيّن العلاقات بينها : الرّامون بالحجارة وفعل الرّمي بها والمرميّون بها والكبار الذين يشهدون الموقف ويتدخّلون أحيانا لكفّ الأذى عنهم.
الرّامون بالحجارة يرمون بالحجارة عقلاء المجانين باعتبارهم مجانين لا عقلاء. إنّهم ليسوا الكبار الرّشّد بل الصّغار الذين يعدّون من النّاحية القانونيّة الفقهيّة محجورا عليهم لانعدام أهليّتهم، وهم في ذلك يتساوون مع المجانين. فالصّراع بين الصّبيان وعقلاء المجانين هو صراع داخل فئة ناقصي العقل والأهليّة. وصفة نقصان العقل الظّرفيّ والحادث تستتبع أحوالا مشتركة أساسها اللّعب والعبث. يقول أحد الرّواة : "أصابتنا سنة جدبة، فخرجنا نستسقي وفيما بيننا مجنون يلعب ويهذي ويشغل النّاس عن الاستسقاء" (عقلاء المجانين). وقد كان مجنون ليلى كثيرا ما يلعب بالحصى (الأغاني). وحتّى إذا امتهن المجانين حرفة، فإنّها قد تكون متّصلة بالصّبيان ولعبهم. فقد ذكر النّيسابوريّ شيخا موسوسا في حمّام حرفته بيع "الكعاب والدّوامات" للصّبيان. (عقلاء)
وبما أنّ التّشابه في منزلة نقصان العقل يجمع بين الصّبيان والمجانين، فإنّ علاقة الصّراع المرآتيّ بينهم قد تتحوّل إلى تعاطف وتآلف، وقد تلتحق بهم فئة دنيا من النّاحية الفقهيّة، هي فئة النّساء، فهنّ لسن محجورا عليهنّ بحكم أنوثتهنّ لكنّهنّ ناقصات عقل ودين، وليس من شأنهنّ أمور الولايات، وتعدّ شهادتهنّ نصف شهادة رجل. يقول أحد الرّواة : "مررنا بغورك يوما والنّساء والصّبيان حوله يبكون رحمة له، فأومأ إلينا فقربنا منه، فقال : اسمعوا، وانشأ يقول :
هلمّوا إلى جسد برى الشّوقُ عظمَه وأوهن بعد العـزّ والجاه صاحبَه…" (عقلاء)
ويمكن أن نقول إنّ رماة الحجارة يقومون بفعل مزدوج متناظر مع ازدواج وضعيّة العاقل المجنون. فهم قصّر ينقصهم العقل أوّلا، وهم صبيان في طور النّموّ والتّحوّل إلى راشدين عقلاء ثانيا. وتبعا لذلك، فإنّهم لا يفقهون بعد عقل عقلاء المجانين، وفي الوقت نفسه يتدرّبون على أن يكون عقلاء، ولذلك يرمون بالحجارة المجانين، أو يضربون من عقلاء المجانين أجسادهم المجنونة.
ويبقى الرّجال العقلاء خارج الدّائرة الضّيّقة التي تجمع بين الصّبيان والعقلاء المجانين، لأنّهم لا يشاركون الصّبيان فعلهم، ولا يهتمّون بالجزء المجنون من عقلاء المجانين، بل يستدرجون المجانين من حيث هم عقلاء، لينقلوا إلينا أقوالهم وأشعارهم. إنّهم يغوصون على الدّرّ في بحر الجنون، ويعودون بعد غوصهم إلى برّ العقل.
أمّا فعل الرّمي بالحجارة فهو لا يمثّل الاضطهاد الأقصى، أو "العنف الفكريّ المادّيّ الأقصى". ففي النّصوص القديمة تستعمل عبارة الرّجم لترجمة الاضطهاد الإراديّ الذي يقوم به الكبار خارج مقرّرات السّلطة القضائيّة. فالرّمي إذاية لا محالة، إلاّ أنّها تبقى في الغالب الأعمّ قريبة من اللّعب والعبث، بما أنّ رماتها صبيان، وبما أنّ الحجارة الصّغيرة والحصى من الأدوات التي يلعبون بها عادة. والرّجم خلافا لمجرّد الرّمي بالحجارة لا يستعمل لعقلاء المجانين بل للمارقين الذين يتعرّضون إلى التّأديب بسبب خروجهم على العقيدة أو شبهة خروجهم عليها. ولا شكّ أنّ للكلمات إحالات وإيحاءات دلاليّة تجعل الرّجم بالحجارة قريبا من الرّجم باعتباره الصّيغة المقرّرة لإقامة الحدّ على الزّاني والزّانية، لا سيّما أنّ الرّجم كثيرا ما يصحبه فعل لغويّ هو "التّزنية"، أي نسبة المرجوم إلى الزّنا.
فقد أورد بعض المؤرّخين حادثة رجل استهان بالذّات الإلهيّة فأقيم عليه الحدّ وتطوّع النّاس لرجمه : "وفيها (أي في سنة 572 هـ) قال رجل لطحان : أعطني كارة دقيق. فقال : لا. فقال : والله ما أبرح حتى آخذ. فقال الطحان : وحق علي ما هو خير من الله ما أعطيك. فشهد عليه جماعة، فسجن أياماً. ثم ضرب مائة سوط، وسوّد وجهه وصفع والناس يرجمونه، وأعيد إلى الحبس".(تاريخ الإسلام للذّهبيّ)
وقد كان الرّجم مثلا مصير أبي الأسود الدّؤليّ، فهو لم يكن من عقلاء المجانين، بل كان من "عقلاء" المعتزلة، أو من مجانين المسلمين، إذا اعتبرنا موقف من يعتبرون الاعتزال شبهة : "كان أبو الأسود على مذهب الاعتزال، وكان جيرانه يؤذونه على ذلك، وربما يرجمونه ليلا بالحجارة، فإذا أصبحوا وأتى المسجد، قالوا يا أبا الأسود : الله رماك. فيقول : كذبتم. لو رماني لما أخطأني، وأنتم تخطئون." (الكشكول للبهاء العامليّ)
أمّا المرميّون بالحجارة، فموقفهم مزدوج منها. فهم أحيانا يعبّرون عن تأذّيهم منها، ولكنّهم كثيرا ما يقرنون هذا التّأذّي بالصّبر : يقول أحد الرّواة : "رأيت فليتا والصّبيان حوله يؤذونه ويرمونه بالحجارة وهو يقول : "ولمن صبر وغفر إنّ ذلك لمن عزم الأمور." (عقلاء). بل إنّهم يقبلونها أحيانا ويرون فيها منفعة للصّبيان في الدّنيا ومنفعة لهم في الآخرة : "قال عمرو بن جابر الكوفيّ : مرّ بهلول بصبيان الكتّاب فجعلوا يضربونه، فدنوت منه وقلت : ألا تشكوهم إلى آبائهم؟ فقال لي : اسكت فلعلّي إذا متّ يذكرون هذا الفرح فيقولون : رحم الله ذلك المجنون." (عقلاء)
وبما أنّ أغلب المرميّين بالحجارة من عقلاء المجانين هم عبّاد وزهّاد ومتصوّفة، فيمكن أن نذهب إلى أنّ هذا الرّمي بالحجارة عنصر من عناصر مجموعة من الأحوال التي يطلق عليها في أدبيّات الزّهد والتّصوّف بـ"إسقاط الجاه". فحبّ الجاه كحبّ المال "من المهلكات" (إحياء علوم الدّين للغزالي). والتّصوّف حسب بعضهم هو "إسقاط الجاهِ، وسواد الوجه في الدنيا والآخرة." (الرسالة القشيريّة). وقد ذكر الغزالي إسقاط الجاه في كتاب "الإحياء" محترزا من وجوه الإفراط فيه : "وأما من حيث العمل : فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق، وتفارقه لذة القبول، ويأنس بالخمول، ويرد الخلق، ويقنع بالقبول من الخالق. وهذا هو مذهب الملامتية، إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس فيسلموا من آفة الجاه. وهذا غير جائز لمن يقتدي به، فإنه يوهن الدين في قلوب المسلمين، وأما الذي لا يقتدي به فلا يجوز له أن يقدم على محظور لأجل ذلك، بل له أن يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس… "
ولكنّ إسقاط الجاه على نحو إفراطيّ يبقى أهمّ من الضّوابط التي أراد وضعها الغزالي وغيره، لأنّه يتغذّى من المتعة المازوشيّة، المتعة بجعل الجسد عرضة إلى متعة الآخر. ولعلّنا نجد في الرسالة القشيريّة ما يدلّ على هذه المتعة، وما يدلّ على أنّ تعرّض عقلاء المجانين إلى ضرب الصّبيان أحد تجلّياتها : "قيل لإبراهيم بن أدهم : هل فرحت في الدنيا قط؟ فقال: نعم، مرتين. إحداهما : كنت قاعداً ذات يوم فجاء إنسان وبال عليَّ. والثانية : كنت قاعداً فجاء إنسان وصفعني. قيل : كان أويْس القرني إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة، فيقول : إن كان ولا بد فارموني بالصغار : كيلا تدقّوا ساقي فتمنعوني عن الصلاة."
والخلاصة التي نخرج بها بعد تعقّب الأدوار المختلفة لرمي الصّبيان عقلاء المجانين بالحجارة هي أنّ هذه اللّعبة ليست لعبة الصّبيان بقدر ما هي لعبة الكبار، وأنّها لعبة محكمة القواعد وجميع أطرافها مستفيدون منها على نحو من الأنحاء :
يتقاسم الكبار والصّبيان الأدوار، بحيث يأتي الصّبيان ما يدلّ على إقصاء المجانين، ويأتي العقلاء ما يدلّ على إدماجهم. فالازدواج الذي وصفه ميشال فوكو في موقف الغربيّين من الجنون في العصر الوسيط ينطبق مبدئيّا على واقع الحال في هذه النّصوص العربيّة : "الازدواج بين الإقصاء الاجتماعيّ والإدماج الروحيّ". ولعلّ صورة "المجنون العاقل" هي حصيلة هذا الازدواج، وتجسيد له على نحو مخصوص.
عن طريق هذا الرّمي ينتج الرّماة والمرميّون البصمة التي يحملها العاقل المجنون باعتباره مجنونا. يساهم عقلاء المجانين أنفسهم، وكما يصوّرهم العقلاء، في إنتاج هذه البصمة عبر تقنية إسقاط الجاه، فيستطيبون الأذى الاجتماعيّ لأنّه يمكّنهم من تعريض أجسادهم إلى متعة اللّه.
وكما يمكّن الرّمي من تأكيد انتماء المجنون إلى عالم المجانين، يمكّن الصّبيان من تقنية إنتاج الانتماء إلى الجسد الاجتماعيّ، عن طريق المساهمة في إقصاء الدّخيل والغريب. إنّهم يتدرّبون على المسؤوليّة الاجتماعيّة، وفي الوقت نفسه يحتاطون من التّماهي مع كبار لا يمكن أن يكونوا قدوة، لأنّهم لا يلعبون الدّور الاجتماعيّ العاديّ أو النّموذجيّ، ولا يمكن في نهاية المطاف إلاّ أن يكونوا عبرة لمن يعتبر.
الرّجال الكبار العقلاء يستفيدون من "عقل" المجانين، ويتفرّجون على جنونه لكي يعودوا إلى حياتهم الاجتماعيّة وإلى "جاههم" الذي لا يسقط، بعد نوع من "التّطهير" : فهؤلاء المجانين العقلاء جنّوا عوضا عنهم، وها هم يصفون جنونهم لكي يحتفظوا منه بحصيلة غير مجنونة.
وسواء كانت هذه الأخبار تاريخيّة أم لا، فإنّ الخطاب الذي ينتجها لا يوصل إلينا "حكمة" المجانين وكلامهم إلاّ في إطار معرفة تموضعه وتدجّنه، ووفق بلاغة قائمة على استراتيجيّة امتلاك الجنون والسّيطرة على وحشيّه وغريبه.
فالرّمي بالحجارة جزء من لعبة كبرى ليست بين الصّبيان وعقلاء المجانين، بل بين العقل والجنون، بحيث يمسك الأوّل بتلابيب الثّاني، ليَخرج العقلاءُ ظافرين من محنة التّعرّض إلى الجنون، فلا نعرف من مغامرتهم إلاّ ما يذكرونه لنا من وراء جدار السّلامة العازل : من وراء الجدار الذي قفزوا عليه بعد أن نجحوا في الامتحان، وحصّلوا في قبضة اليد نثرا منظوما أو شعرا موزونا…
.
(غرر الخصائص الواضحة للوطواط، وعقلاء المجانين للنّيسابوريّ).
-"حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الأبلّي قال : رأيت غورك المجنون يوماً خارجاً من الحمام والصبيان قيام يضربونه ويؤذونه وهو يبكي فقلت له : ما خبرك يا أبا محمد؟ قال : قد آذاني هؤلاء الصبيان. أما يكفيني ما أنا فيه من العشق والجنون؟"
(عقلاء المجانين)
"عقلاء المجانين" في بعض كتب التّراجم وفي كتاب النّيسابوريّ (ت 406 هـ) الذي يحمل هذا العنوان هم "مجانين" يقصدهم العقلاء لسماع كلامهم الذي يتبيّن أنّه غير "مجنون"، أو يصل إلينا مليئا بحكمة من نوع ما، مع أنّهم يحملون مظاهر للجنون من حيث السّلوك والحركات، ومن حيث الهامشيّة الاجتماعيّة. فـأغلب "عقلاء المجانين" لا يعملون وليست لهم موارد رزق، ولا سكن لهم أحيانا ومنهم من يكون مصفّدا في دير أو مارستان ومنهم من يأوي إلى الخرائب. والكثير منهم يهيم في القفار والفلوات، كمجنون ليلى، فهو من "عقلاء المجانين" حسب الصّياغة التي أخرجها النّيسابوريّ لقصّته أو بالأحرى خرافته. وما يزيد الأمر تعقّدا، وما سنعود إليه في مبحث آخر أنّ الكثير منهم مصاب بالجنون بالمعاني الطّبّيّة القديمة للكلمة، فمنهم "الممرور"، ومنهم "الموسوس"، ومنهم "المصروع".
عقلاء- مجانين أو مجانين-عقلاء تنطبق عليهم إلى حدّ ما الكلمة المركّبة التي استنبطها جاك لاكان في إحدى ندواته : folisophe "المجنون-الحكيم" أو إن شئنا "حكيم الجنون" أو "مجنون الحكمة".
إنّهم "مجانين" يرميهم الصّبيان بالحجارة، في نصوص كثيرة لا تدخل تحت حصر. لكنّهم "عقلاء" يقولون للعقلاء حقيقة ما، وتصلنا هذه الحقيقة عبر العقلاء، فهم الرّواة والنّقلة والوسطاء.
لن أتوقّف عند الكثير من مدلولات هذا الوجه، وجه "العاقل المجنون"، وعند الإشكاليّات الفكريّة المعاصرة التي أثيرت حول علاقة العقل باللاّعقل وحول إمكانيّة كتابة تاريخ الجنون، بل سأركّز على نحو مجهريّ على هذه التّيمة التي لفتت نظري وأنا أتعقّب آثار هؤلاء المجانين وآثار الذين أخرجوا لنا صورهم ورووا أقوالهم. فالتّفاصيل الصّغيرة الهامشيّة قد تكون أحد الخيوط الكاشفة عن تركيبة النّسيج الخطابيّ، وإن كانت خيطا نافرا أو بقيّة متروكة لأنّها بديهيّة.
فما مدلول الرّمي بالحجارة في مثل هذه الأخبار، أو على وجه الدّقّة في هذا الخطاب عن الجنون؟ من هم الصّبيان، وهل يمثّلون إرادة الكبار سواء كانوا من العامّة أو الخاصّة؟ هل يتدرّبون على التّكفير والتّفسيق حتّى يصبحوا كبارا وحماة للجسد الجماعيّ؟ هل يمثّلون العقل الاجتماعيّ الذي يقصي الخارجين عن نظام الإنتاج والتّبادل الاقتصاديّ؟ ولكن لماذا أوكلت هذه المهمّة إلى الصّبية ولم توكل إلى الكبار؟ وما دور العقلاء الكبار في عبث الصّبيان بالمجانين العقلاء؟
من التّبسيط المخلّ أن نكتفي بإسناد وظيفة اضطهاديّة إقصائيّة لفعل الصّبيان، وأن نكتفي باستخراج بنية قائمة على فاعلين ومفعولين. فالفضاء الذي يتحرّك فيه المجنون العاقل يبدو لنا ركحا مصغّرا يقوم فيه أطراف متعدّدون بأدوار محدّدة ومتناغمة. فلنتبيّن طبيعة هذا المسرح انطلاقا من هذه التّيمة، ولننظر في الأركان الأربعة لنتبيّن العلاقات بينها : الرّامون بالحجارة وفعل الرّمي بها والمرميّون بها والكبار الذين يشهدون الموقف ويتدخّلون أحيانا لكفّ الأذى عنهم.
الرّامون بالحجارة يرمون بالحجارة عقلاء المجانين باعتبارهم مجانين لا عقلاء. إنّهم ليسوا الكبار الرّشّد بل الصّغار الذين يعدّون من النّاحية القانونيّة الفقهيّة محجورا عليهم لانعدام أهليّتهم، وهم في ذلك يتساوون مع المجانين. فالصّراع بين الصّبيان وعقلاء المجانين هو صراع داخل فئة ناقصي العقل والأهليّة. وصفة نقصان العقل الظّرفيّ والحادث تستتبع أحوالا مشتركة أساسها اللّعب والعبث. يقول أحد الرّواة : "أصابتنا سنة جدبة، فخرجنا نستسقي وفيما بيننا مجنون يلعب ويهذي ويشغل النّاس عن الاستسقاء" (عقلاء المجانين). وقد كان مجنون ليلى كثيرا ما يلعب بالحصى (الأغاني). وحتّى إذا امتهن المجانين حرفة، فإنّها قد تكون متّصلة بالصّبيان ولعبهم. فقد ذكر النّيسابوريّ شيخا موسوسا في حمّام حرفته بيع "الكعاب والدّوامات" للصّبيان. (عقلاء)
وبما أنّ التّشابه في منزلة نقصان العقل يجمع بين الصّبيان والمجانين، فإنّ علاقة الصّراع المرآتيّ بينهم قد تتحوّل إلى تعاطف وتآلف، وقد تلتحق بهم فئة دنيا من النّاحية الفقهيّة، هي فئة النّساء، فهنّ لسن محجورا عليهنّ بحكم أنوثتهنّ لكنّهنّ ناقصات عقل ودين، وليس من شأنهنّ أمور الولايات، وتعدّ شهادتهنّ نصف شهادة رجل. يقول أحد الرّواة : "مررنا بغورك يوما والنّساء والصّبيان حوله يبكون رحمة له، فأومأ إلينا فقربنا منه، فقال : اسمعوا، وانشأ يقول :
هلمّوا إلى جسد برى الشّوقُ عظمَه وأوهن بعد العـزّ والجاه صاحبَه…" (عقلاء)
ويمكن أن نقول إنّ رماة الحجارة يقومون بفعل مزدوج متناظر مع ازدواج وضعيّة العاقل المجنون. فهم قصّر ينقصهم العقل أوّلا، وهم صبيان في طور النّموّ والتّحوّل إلى راشدين عقلاء ثانيا. وتبعا لذلك، فإنّهم لا يفقهون بعد عقل عقلاء المجانين، وفي الوقت نفسه يتدرّبون على أن يكون عقلاء، ولذلك يرمون بالحجارة المجانين، أو يضربون من عقلاء المجانين أجسادهم المجنونة.
ويبقى الرّجال العقلاء خارج الدّائرة الضّيّقة التي تجمع بين الصّبيان والعقلاء المجانين، لأنّهم لا يشاركون الصّبيان فعلهم، ولا يهتمّون بالجزء المجنون من عقلاء المجانين، بل يستدرجون المجانين من حيث هم عقلاء، لينقلوا إلينا أقوالهم وأشعارهم. إنّهم يغوصون على الدّرّ في بحر الجنون، ويعودون بعد غوصهم إلى برّ العقل.
أمّا فعل الرّمي بالحجارة فهو لا يمثّل الاضطهاد الأقصى، أو "العنف الفكريّ المادّيّ الأقصى". ففي النّصوص القديمة تستعمل عبارة الرّجم لترجمة الاضطهاد الإراديّ الذي يقوم به الكبار خارج مقرّرات السّلطة القضائيّة. فالرّمي إذاية لا محالة، إلاّ أنّها تبقى في الغالب الأعمّ قريبة من اللّعب والعبث، بما أنّ رماتها صبيان، وبما أنّ الحجارة الصّغيرة والحصى من الأدوات التي يلعبون بها عادة. والرّجم خلافا لمجرّد الرّمي بالحجارة لا يستعمل لعقلاء المجانين بل للمارقين الذين يتعرّضون إلى التّأديب بسبب خروجهم على العقيدة أو شبهة خروجهم عليها. ولا شكّ أنّ للكلمات إحالات وإيحاءات دلاليّة تجعل الرّجم بالحجارة قريبا من الرّجم باعتباره الصّيغة المقرّرة لإقامة الحدّ على الزّاني والزّانية، لا سيّما أنّ الرّجم كثيرا ما يصحبه فعل لغويّ هو "التّزنية"، أي نسبة المرجوم إلى الزّنا.
فقد أورد بعض المؤرّخين حادثة رجل استهان بالذّات الإلهيّة فأقيم عليه الحدّ وتطوّع النّاس لرجمه : "وفيها (أي في سنة 572 هـ) قال رجل لطحان : أعطني كارة دقيق. فقال : لا. فقال : والله ما أبرح حتى آخذ. فقال الطحان : وحق علي ما هو خير من الله ما أعطيك. فشهد عليه جماعة، فسجن أياماً. ثم ضرب مائة سوط، وسوّد وجهه وصفع والناس يرجمونه، وأعيد إلى الحبس".(تاريخ الإسلام للذّهبيّ)
وقد كان الرّجم مثلا مصير أبي الأسود الدّؤليّ، فهو لم يكن من عقلاء المجانين، بل كان من "عقلاء" المعتزلة، أو من مجانين المسلمين، إذا اعتبرنا موقف من يعتبرون الاعتزال شبهة : "كان أبو الأسود على مذهب الاعتزال، وكان جيرانه يؤذونه على ذلك، وربما يرجمونه ليلا بالحجارة، فإذا أصبحوا وأتى المسجد، قالوا يا أبا الأسود : الله رماك. فيقول : كذبتم. لو رماني لما أخطأني، وأنتم تخطئون." (الكشكول للبهاء العامليّ)
أمّا المرميّون بالحجارة، فموقفهم مزدوج منها. فهم أحيانا يعبّرون عن تأذّيهم منها، ولكنّهم كثيرا ما يقرنون هذا التّأذّي بالصّبر : يقول أحد الرّواة : "رأيت فليتا والصّبيان حوله يؤذونه ويرمونه بالحجارة وهو يقول : "ولمن صبر وغفر إنّ ذلك لمن عزم الأمور." (عقلاء). بل إنّهم يقبلونها أحيانا ويرون فيها منفعة للصّبيان في الدّنيا ومنفعة لهم في الآخرة : "قال عمرو بن جابر الكوفيّ : مرّ بهلول بصبيان الكتّاب فجعلوا يضربونه، فدنوت منه وقلت : ألا تشكوهم إلى آبائهم؟ فقال لي : اسكت فلعلّي إذا متّ يذكرون هذا الفرح فيقولون : رحم الله ذلك المجنون." (عقلاء)
وبما أنّ أغلب المرميّين بالحجارة من عقلاء المجانين هم عبّاد وزهّاد ومتصوّفة، فيمكن أن نذهب إلى أنّ هذا الرّمي بالحجارة عنصر من عناصر مجموعة من الأحوال التي يطلق عليها في أدبيّات الزّهد والتّصوّف بـ"إسقاط الجاه". فحبّ الجاه كحبّ المال "من المهلكات" (إحياء علوم الدّين للغزالي). والتّصوّف حسب بعضهم هو "إسقاط الجاهِ، وسواد الوجه في الدنيا والآخرة." (الرسالة القشيريّة). وقد ذكر الغزالي إسقاط الجاه في كتاب "الإحياء" محترزا من وجوه الإفراط فيه : "وأما من حيث العمل : فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق، وتفارقه لذة القبول، ويأنس بالخمول، ويرد الخلق، ويقنع بالقبول من الخالق. وهذا هو مذهب الملامتية، إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس فيسلموا من آفة الجاه. وهذا غير جائز لمن يقتدي به، فإنه يوهن الدين في قلوب المسلمين، وأما الذي لا يقتدي به فلا يجوز له أن يقدم على محظور لأجل ذلك، بل له أن يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس… "
ولكنّ إسقاط الجاه على نحو إفراطيّ يبقى أهمّ من الضّوابط التي أراد وضعها الغزالي وغيره، لأنّه يتغذّى من المتعة المازوشيّة، المتعة بجعل الجسد عرضة إلى متعة الآخر. ولعلّنا نجد في الرسالة القشيريّة ما يدلّ على هذه المتعة، وما يدلّ على أنّ تعرّض عقلاء المجانين إلى ضرب الصّبيان أحد تجلّياتها : "قيل لإبراهيم بن أدهم : هل فرحت في الدنيا قط؟ فقال: نعم، مرتين. إحداهما : كنت قاعداً ذات يوم فجاء إنسان وبال عليَّ. والثانية : كنت قاعداً فجاء إنسان وصفعني. قيل : كان أويْس القرني إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة، فيقول : إن كان ولا بد فارموني بالصغار : كيلا تدقّوا ساقي فتمنعوني عن الصلاة."
والخلاصة التي نخرج بها بعد تعقّب الأدوار المختلفة لرمي الصّبيان عقلاء المجانين بالحجارة هي أنّ هذه اللّعبة ليست لعبة الصّبيان بقدر ما هي لعبة الكبار، وأنّها لعبة محكمة القواعد وجميع أطرافها مستفيدون منها على نحو من الأنحاء :
يتقاسم الكبار والصّبيان الأدوار، بحيث يأتي الصّبيان ما يدلّ على إقصاء المجانين، ويأتي العقلاء ما يدلّ على إدماجهم. فالازدواج الذي وصفه ميشال فوكو في موقف الغربيّين من الجنون في العصر الوسيط ينطبق مبدئيّا على واقع الحال في هذه النّصوص العربيّة : "الازدواج بين الإقصاء الاجتماعيّ والإدماج الروحيّ". ولعلّ صورة "المجنون العاقل" هي حصيلة هذا الازدواج، وتجسيد له على نحو مخصوص.
عن طريق هذا الرّمي ينتج الرّماة والمرميّون البصمة التي يحملها العاقل المجنون باعتباره مجنونا. يساهم عقلاء المجانين أنفسهم، وكما يصوّرهم العقلاء، في إنتاج هذه البصمة عبر تقنية إسقاط الجاه، فيستطيبون الأذى الاجتماعيّ لأنّه يمكّنهم من تعريض أجسادهم إلى متعة اللّه.
وكما يمكّن الرّمي من تأكيد انتماء المجنون إلى عالم المجانين، يمكّن الصّبيان من تقنية إنتاج الانتماء إلى الجسد الاجتماعيّ، عن طريق المساهمة في إقصاء الدّخيل والغريب. إنّهم يتدرّبون على المسؤوليّة الاجتماعيّة، وفي الوقت نفسه يحتاطون من التّماهي مع كبار لا يمكن أن يكونوا قدوة، لأنّهم لا يلعبون الدّور الاجتماعيّ العاديّ أو النّموذجيّ، ولا يمكن في نهاية المطاف إلاّ أن يكونوا عبرة لمن يعتبر.
الرّجال الكبار العقلاء يستفيدون من "عقل" المجانين، ويتفرّجون على جنونه لكي يعودوا إلى حياتهم الاجتماعيّة وإلى "جاههم" الذي لا يسقط، بعد نوع من "التّطهير" : فهؤلاء المجانين العقلاء جنّوا عوضا عنهم، وها هم يصفون جنونهم لكي يحتفظوا منه بحصيلة غير مجنونة.
وسواء كانت هذه الأخبار تاريخيّة أم لا، فإنّ الخطاب الذي ينتجها لا يوصل إلينا "حكمة" المجانين وكلامهم إلاّ في إطار معرفة تموضعه وتدجّنه، ووفق بلاغة قائمة على استراتيجيّة امتلاك الجنون والسّيطرة على وحشيّه وغريبه.
فالرّمي بالحجارة جزء من لعبة كبرى ليست بين الصّبيان وعقلاء المجانين، بل بين العقل والجنون، بحيث يمسك الأوّل بتلابيب الثّاني، ليَخرج العقلاءُ ظافرين من محنة التّعرّض إلى الجنون، فلا نعرف من مغامرتهم إلاّ ما يذكرونه لنا من وراء جدار السّلامة العازل : من وراء الجدار الذي قفزوا عليه بعد أن نجحوا في الامتحان، وحصّلوا في قبضة اليد نثرا منظوما أو شعرا موزونا…
.