نقوس المهدي
كاتب
تقديم المترجم:
يعالج المستشرق الألماني المعروف يوحنا كريستوف بيرجل في بحثه هذا أشكال حضور الخمر في الشعر بالحضارة العربية الإسلامية(*) . لقد ركز بيرجل بالخصوص على أشعار حافظ الشيرازي، وجلال الدين الرومي، وعمر الخيام، الخاصة بالخمر، وهي أشعار لا يعرف المثقف العربي منها، إلا رباعيات الخيام. أما أشعار حافظ والرومي، فلم يكتب لها الانتشار بعد في عالمنا العربي، برغم وجود ترجمة عربية محترمة لديوان حافظ، وبرغم وجود عدد من الباحثين المصريين والعرب والقائمين على ترجمة الأدب الفارسي إلى اللغة العربية. ولعله من المفيد قبل متابعة الباحث في رحلته مع الشعراء وتغنيهم بالخمر إبداء الملاحظات التالية التي نعرض فيها لأشكال أخرى من حضور الخمر في الفكر العربي الديني منه والأدبي:
أولا: مما أوردته كتب الأدب العربي القديم عن آفات الخمر، "أنها تذهب العقل، وأفضل ما في الإنسان عقله، وتحسن القبيح، وتقبح الحسن". وحكى صاحب "العقد الفريد" أن مشارب الرجل يقال له نديم من الندامة، "لأن معاقر الكأس إذا سكر، تكلم بما يندم عليه"(1). وقال قصي بن كلاب لبنيه: "اجتنبوا الخمر، فإنها تصلح الأبدان، وتفسد الأذهان"(2). ولما قيل لعثمان بن عفان: "ما منعك من شرب الخمر في الجاهلية، ولا حرج عليك فيها؟" قال: "إني رأيتها تذهب العقل جملة. وما رأيت شيئا يذهب جملة، ويعود جملة"(3). ويحكى أن قوما سقوا أعرابية مسكرا، فقالت: "أيشرب نساؤكم مثل هذا؟ قالوا: نعم. قالت: فما يدري أحدكم من أبوه"(4).
ومن ألطف ما قرأت في وصف حالة السكر قول الشاعر:
"أقبلت من عند زياد كالخرف
أجر رجلي بخط مختلــــــف
كأنما يكتبان لام ألــــــــــف"(5).
ثانيا: تحكي كتب التاريخ أن أهل الحرمين أباحوا الغناء وحرموا النبيذ، وأن أهل العراق أباحوا النبيذ وحرموا الغناء(6). ونظرا لأن البصرة كانت منشأ الاعتزال، فقد أباح بعض المعتزلة أنواعا معينة من النبيذ. ويبدو أن ذلك هو سبب وصف المقدسي للمعتزلة بالفسق، حيث نسب إليهم أربع خصال، هي: "اللطفاة والدراية والفسق والسخرية"(7). وقد استغل خصوم المعتزلة من الأشاعرة وأهل الحديث وغيرهم هذه المسألة بالذات، وقاموا بالتشنيع علبهم. من ذلك مثلا اتهام عبد القاهر البغدادي، وهو أشعري متطرف، لإبراهيم النظام المعتزلي بإدمان السكر(8). وهذه التهمة لا يمكن فهمها إلا في إطار الصراع العقائدي العنيف بين المعتزلة والأشاعرة؟ وإلا لو كان الأمر يتعلق حقا باستنكار شرب الخمر -لكان أولى بالبغدادي والأشاعرة أن يهاجموا صاحبهم الخليفة المتوكل الذي قال عنه المسعودي في "مروج الذهب": "ولم يكن أحد ممن سلف من خلفاء بني العباس ظهر في مجلسه اللعب والمضاحك والهزل… إلا المتوكل، فإنه السابق إلى ذلك والمحدث له"(9). فالأشاعرة والحنابلة تغاضوا عن مساوئ المتوكل الكثيرة، لأنه اضطهد المعتزلة، وانتصر لمذهب ابن حنبل. أما تحامله على الشيعة، وظلمه لأهل الكتاب، وحياته المملوءة بالفسق والمجون- كل هذه المساوئ وغيرها سكت عنها الحنابلة والأشاعرة. ومن ذلك أيضا تشنيع أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري على المعتزلي ابن دريد في مقدمة كتابه "تهذيب اللغة"، حيث يقول: "وألفيته (= ابن دريد) أنا على كبر سنه سكران، لا يكاد يستمر لسانه على الكلام من سكره…"(10).
ثالثا: إن المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة، وإن كانوا قد حللوا بعض أنواع النبيذ، على مذهب أهل العراق، إلا أنهم لم يصلوا في ذلك إلى حد الفجر والفسق الذي نعرفه عن أبي نواس مثلا. يحكى أن المكتفي سأل الصولي مرة: "أتعرف أهتك بيت قالته العرب؟ قال: قول أبي نواس: ألا فاسقني خمرا، وقل لي: هي الخمر"(11). نعم نحن نعرف أن الجاحظ قد امتدح النبيذ في ورسالة "الشارب والمشروب"، خيث يقول مثلا: "وإن كل شراب، وإن حلا ورق… وطاب وعذب… فإن استطابتك لأول جرعة منه أكثر… ثم لا يزال في نقصان، إلى أن يعود مكروها وبلية، إلا النبيذ، فإن القدح الثاني أسهل من الأول، والثالث أيسر، والرابع ألذ، والخامس أسلس، والسادس أطرب، غلى أن يسلمك إلى النوم الذي هو حياتك"(12). ولكنه مع ذلك كان دائم التحذير من إدمان الشرب، والإكثار منه.
رابعا: اختلف الأئمة في مسألة تحريم الخمر أو تحليلها. فذهب الشافعي ومالك وابن حنبل إلى القول بأن المراد بالخمر هو ("جميع الأنبذة المسكرة من نبيذ التمر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيرها. وقالوا: كلها تسمى خمرا، وكلها محرمة"(13). أما أبو حنيفة، فقد حلل بعض أنواع الأنبذة، كنبيذ التمر والزبيب، "إن طبخ أدنى طبخ وشرب منه قدر لا يسكر"(14). وقد واجه أبو حنيفة أحيانا بعض المواقف الحرجة نتيجة لموقفه هذا من الخمر، ولولا سرعة بديهته، ورجاجة عقله، لما وجد لهذه المآزق مخرجا. يحكي صاحب "محاضرات الأدباء"، قائلا: "قال ابن أبي ليلى لأبي حنيفة: أيحل النبيذ وبيعه وشراؤه؟ قال: نعم. قال: أفيسرك أن أمك نباذة؟ فقال أبو حنيفة: أيحل الغناء وسماعه؟ قال نعم. قال: أفيسرك أن أمك مغنية؟ ووضع رجل بالكوفة على باب المسجد نبيذا بين يديه وجعل ينادي: من يشتري رطلا بدرهم بتحليل أبي حنيفة؟ فقال له أبو حنيفة: يا رجل، إنك فعلت قبيحا! فقال: ألست حللته؟ قال: صدقت. ومن الحلال أنك تجامع امرأتك، ولو استحضرتها الجامع، وجامعتها لا ستقبح ذلك. ولقي أبو حنيفة سكران، فقال له السكران: يا أبا حنيفة، يا ابن الزانية، إني شربت النبيذ! فقال: ما أحسنت حيث أحللت النبيذ، حتى شربه مثلك"(15).
خامسا: منذ القرون الأولى للإسلام نشب صراع عنيف بين المتشددين في الالتزام بأحكام الشريعة من ناحية، والمتساهلين في تأدية فرائض الإسلام من ناحية أخرى. كان الحنابلة من كبار ممثلي التيار المتشدد في الأمصار العربية بصفة عامة، في حين أن التيار المتساهل كان يمثله بعض فرق الصوفية. دأب المتشددون على اتهام المتساهلين بالفسق والإلحاد، ورد المتساهلون على المتشددين متهمين إياهم بالنفاق والخبث. فالتشدد عند الصوفية، ليس إلا قناعا يخفي المتشددون وراءه الجهل والخبث والرياء. هذه الفكرة بالذات هي أحد أهم الموضوعات التي عالجها كبار شعراء الفرس: عمر الخيام، وجلال الدين الرومي، وحافظ الشيرازي. كان بعض المتصوفة في بادئ الأمر من ألد أعداء عمر الخيام. ولكنهم استحسنوا بعد ذلك بعض رباعياته، وأدخلوها في أورادهم، واهتموا بدراستها(16). يقول الشاعر القدير، أحمد رامي، صاحب أجمل ترجمة عربية رباعيات الخيام -وهي الترجمة التي غنت أم كلثوم بعض مقاطعها-: "هذا هو الخيام الذي رماه الناس بالزندقة في عهده، والذي تقرن أشعاره اليوم بأشعار ابن أبي الخير والأنصاري والعطار، وهم أطهر الشعراء صفحة"(17). يشن الخيام هجوما عنيفا ضد أدعياء الزهد والمتاجرين بالدين، متهما إياهم باستنزاف دماء العباد، في حين أنه لا يقتل أحدا، ولا يشاغب أحدا. كل ما يفعله هو أنه يواسي وحدته بالخمر. ومع ذلك لم يتركوه وشأنه.
"يا مدعي الزهد أنا أكـــــرم
منك، وعقلي ثملا أحكــــــم
تستنزف الخلق، وما استقي،
إلا دم الكرم، فمن آثــــــــم"..(18)
ويقول في موضع آخر:
"خير لي العشق وكأس المدام
من ادعاء الزهد والاحتشـام
لو كانت النار لمثلي، خلـت
جنات عدن من جميع الأنام"(19).
ويدافع شاعر إيران الكبير حافظ الشيرازي عن الفكرة نفسها-أي أن المتصوفة قوم لا يؤذون أحدا، ولا يبغضون أحدا، بل إن الحب مذهبهم، والتسامح عقيدتهم. وهم وإن كانوا يهملون الفرائض الدينية، إلا أنهم لا يقتلون أحدا، ولا يعتدون على أحد. يقول حافظ في غزلياته:
"وشارب الخمر الذي لا رياء فيه ولا نفاق
خير من بائع الزهد الذي يكون فيه الرياء وضعف الأخلاق
(…) ولربما نتجاوز عن فروض الله، ولكنا لا نفعل السوء بأحد من العباد
فإذا قالوا: ليس هذا صوابا. قلنا: هذا هو عين الصواب، ومحض الإسعاد"(20)
سادسا: يشير المستشرق بيرجل إلى ثلاثة مذاهب في شرب الخمر بصفة عامة: الأول يحرمها كلية، والثاني هو مذهب السكر والإدمان، والثالث هو مذهب الاعتدال في الشراب، بحيث لا يصل المرء أبدا إلى حالة السكر. وهذا المذهب الأخير يرى أن في الخمر منافع، يمكن تحقيقها، إذا تناول الإنسان منها قدرا يسيرا. وقد عبر عن هذا المذهب ابن المقفع في قوله:
"سأشرب ما شربت على طعامي ثلاثا ثم أتركه صحيحا
فلست بقارف منه آثاما ولست براكب منه قبيحا"(21)
وأوضح منه قول القائل: "القدح الأول يكسر العطش، والثاني يمرئ الطعام، والثالث يفرح النفس، وما زاد على ذلك فضل"(22).
ونختم هذا التمهيد بقولنا إنه لو لم يكن للخمر من مضار سوى تقبيحها للحسن، وتحسينها للقبيح، لكان ذلك سببا كافيا في منع الإسلام لها، فما بالك ببقية مضارها. بل إننا نرى المدمن يرى كل شيء معكوسا، فتأتى أفعاله مضحكة غريبة. يحكي صاحب "محاضرات الأباء"، قائلا: "… قال العتابي: كان في دارنا سكران. فقعد على مصلى، وسلح فيه. فأخذت بيده إلى المستراح، فنام فيه! فقالت جاريتي: يا عجبا! كل شيء منه مقلوب. خرأ حيث ينام الناس، ونام حيث يخرأ الناس!"(23).
النص المترجم:
من المعروف أن شرب الخمر ممنوع في العالم الإسلامي. وقد ورد هذا التحريم في القرآن الكريم، ولكنه مر بمراحل متعاقبة. ففي البداية لم يكن هناك أي تحريم للخمر على الإطلاق، بل إن آية قرآنية مبكرة تذكر الخمر ضمن الأشياء التي يمكن فهمها على أنها من النعم الإلهية، مثل اللبن وعسل النحل، وأشباههما. تقول تلك الآية الكريمة: "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا"(النحل - 67).
ثم تلا ذلك أول تقييد من خلال الآية التالية: "يسألونك عن الخمر والميسر. قل فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما"(البقرة -219). ولكن نظرا لاستمرار بعض المسلمين الأوائل في حضور الصلاة، وهم في حالة سكر أو انتشاء، فقد نزلت الآية التالية، لتحرم شرب الخمر بحسم ووضوح: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ختى تعلموا ما تقولون"(النساء-43).
وتبع ذلك أخيرا الاستنكار المطلق لشرب الخمر، حيث يقول الله تعالى في كتابه المبين: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون"(المائدة-90-91). وعندما يظهر تعارض بين البلاغات الإلهية، يؤخذ بالآيات المتأخرة، باعتبارها ناسخة للمبكرات.
الخمر إذن محرمة على المسلم. بيد أن هذا لا يعني أنه لم يتناولها، من حين لآخر، سرا أو علانية، بإسراف شديد. فيحكى عن عمرو بن معدي كرب أنه مر بعيينة بن حصن "فأطعمه تمرا، ثم قال: أسقيك لبنا، أو ما كنا نتنادم عليه في الجاهلية؟ فقال: أليس قد أمرنا بتحريمها؟ قال عيينة: كلا، إن الله تعالى قال: فهل أنتم منتهون؟!(الآية السابقة)فقلنا:لا"(1).
ولا شك أن جاذبية الممنوع قد لعبت هنا دورا هاما. وبالمناسبة فكثيرا ما كان الحكام بالذات -على مر تاريخ الدولة الإسلامية- هم الذين تجاهلوا مبدأ تحريم الخمر، وإن كان ذلك لا ينطبق، إلا على حالات فردية من الخلفاء.
ومن الأمثلة المبكرة لذلك حالة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية (حكم من سنة 680م حتى 683م) الذي وصلنا منه بعض القصائد الطريفة في الخمر، يقارن الخمر في إحداها، كالعادة بالشمس، ثم يطور من ذلك معنى بهيجا مبنيا على نظرة فلكية شاملة، حيث يقول ما معناه: إن الشمس المنبثقة من عنقود العنب، موقعها من البروج هو إبريق الخمر. مشرقها في يد الساقي، ومغربها في حلقي(2).
ثم إن شرب الخمر وتمجيدها قد بلغا حدا فاحشا حقا في عصر حاكم آخر من بني أمية، وهو الخليفة الزنديق الوليد بن يزيد بن عبد الملك (حكم من سنة 743م حتى 744م) الذي كان فاشلا كخليفة، بيد أنه كا شاعرا نابغا ملهما. وهو صاحب بعض أجمل القصائد الخمرية التي وصلتنا باللغة العربية، مثال ذلك القصيدة التالية:
"اصدع نجيّ الهموم بالطــرب وانعم على الدهر بابنة العنب
واستقبل العيش في نضارتـــــه ولا تقف منه آثار معتقــــــب
من قهوة زانهــا تقادمهـــــــا فهي عجوز تعذر على الحقب
أشهى إلى الشرب يوم جلوتها من الفتاة الكريمة النســـــــب
فقد تجلـت ورق جوهرهــــــا حتى تبدت في منظر عجــــب
فهي بغير المزاج مـن شـــــرر وهي لدى المزج سائل الذهـب
كأنها في زجاجها قبــــــــس تذكو ضياء في عين مرتقـــــب
في فتية من بني أميـة أهــــــ ل المجد والمأثرات والحســب
ما في الورى مثلهم ولا فيهـــم مثلي ولا منتم لمثل أبــــــــي"(3)
كلا، إن أمير المؤمنين هذا لم يكن من الإيمان في شيء. وكان مما اعترف به علانية وصراحة انتسابه إلى تلك الأفكار الإلحادية. فعندما كتب إليه عمه هشام، قائلا: "ما تدع شيئا من المنكر، إلا أتيته وارتكبته، غير متحاش ولا مستتر، فليت شعري، ما دينك؟؟! أعلى الإسلام أنت، أم لا؟"(4). رد عليه الوليد بالأبيات التالية:
"يا أيها السائل عن ديننا نحن على دين أبي شاكر(= ابن هشام)
نشربها صرفا وممزوجـــة بالسخن أحيانا وبالفاتــر"(5)
وإلى مجون مشابه تنتهي أيضا الأبيات التالية:
"أدر الكأس يمينـــــــا لا تدر ليســـــــــــار
اسق هذا ثم هــــــــذا صاحب العود النضـار
من كميت عتقوهــــــا منذ دهر في جــــــرار
ختموها بالأفاويـــــــه وكافور وقـــــــــــــار
فلقد ايقنت أنــــــــي غير مبعوث لنــــــــار
سأروض الناس حتــى يركبوا أير الحمــــــار
وذروا من يطلب الجنـ ـة يسعى لتبــــــــــار(6)
أبو نواس:
إن الفكرة الماجنة الخاصة بدين الخمر، أي بتقديسها وعبادتها، التي وردت في الأبيات السابقة، عادت مرة أخرى للظهور عند أهم وأشهر شعراء الخمر في الأدب العربي على الإطلاق، ونعني بذلك أكثر شعراء العرب هوسا ومجونا: أبا نواس-والذي كان، برغم مخالفاته المتكررة للشريعة الإسلامية، يتمتع بمكانة خاصة لدى الخلفاء العباسيين في ذلك الوقت.
مثل الوليد، نظم أبو نواس أيضا، كمراعاة لقواعد السلوك، قصائد خمرية للخلفاء، ولكنه ترك أيضا أشعارا نابية قبيحة، تعمد فيها الخلاعة والبذاءة. وكثيرا ما كانت هذه الأشعار القبيحة عند أبي نواس نتيجة لمليه إلى حب الصبيان وممارسة الشذوذ الجنسي، حيث طعم هذه الأشعار بتفصيلات داعرة. وتمثل القصيدة التالية نموذجا للأشعار التي نظمها أبو نواس لقصر الخلافة، حيث اختتمها بوصف أقداح الخمر الساسانية، التي اشتهر عن حق بوصفه المتميز لها:
"وخمار حططت إليه ليــــــــــلا قلائص قد ونين من السفـــار
فجمجم والكرى في مقلتيـــــــــه كمخمور شكا ألم الخمـــــــار
أبن لي كيف صرت إلى حريمـــي ونجم الليل مكتحل بقـــــــار؟
فقلت له ترفق بي فإنــــــــــــي رأيت الصبح من خلل الدـيار
فكان جوابه أن قال صبـــــــــح! ولا صبح سوى ضوء العقــــار
وقام إلى العقار فسد فاهـــــــــــا فعاد الليل مســــــــود الإزار
فحل بزالها في قعر كــــــــــأس محفرة الجوانب والقــــــــرار
مصورة بصورة جند كســــــــرى وكسرى في قرار الطرجهـــــار
وجل الجند تحت ركاب كسرى بأعمدة، وأقبية قصـــــــــــار"(7).
وفي مقابل ذلك يقدم أبو نواس في القصيدة التالية اعترافا استفزازيا بالانتساب إلى دين الخمر:
أبحت حربم الكأس إذ كنت مشربا وأقصرت عنها بعدما صرت معسرا
ولو أن مالي يستقل بلذتــــــــــــي لأنسيت أهل اللهو كسرى وقيصـرا
وثقت بعفو الله عن كل مسلـــــــم فلست عن الصهباء ما عشت مقصرا
وأحور، مخلوع الزمام، تخالــــــه قضيبا من الريحان، يهتز أخضــرا
مربض جفون المقلتين، مزنــــــــــر له شفة من مصها مص سكــــــــرا
فلو أنه يقظان أو في منامـــــــــــــه يجود لأعمى بالولاء لأبصـــــــــرا
يخر لصرف الكأس في السكر ساجدا وإن مزجت صلى عليها، وكـــبـرا"(8).
ورغم التزام أبي نواس الواضح بالتقاليد الأدبية الخاصة بكتابة الشعر، إلا أن هذا لم يأت على حساب المعنى، حيث تظهر أشعاره قدرا هائلا من الخواطر والمعاني الأصيلة. وهو في ذلك لا يخفي وجهات نظره الشخصية. من ذلك مثلا تفضيله الانغماس في لذاته السلمية، على المشاركة في الغزوات الحربية المنتظمة التي كان يقوم بها الخليفة-أي الجهاد السنوي, يقول أبو نواس:
يا بشر ما لي والسيف والحــرب وإن نجمي للهو والطــــــــــرب
فلا شتق بي، فإنني رجــــــــل أكع عند اللقاء والطلــــــــــــب
وإن رأيت الشراة قد طلعـــــــوا ألجمت مهري من جانب الذنب
ولست أدري ما الساعدان،ولاالـ ترس، وما بيضة من اللبـــــــــب
همي إذا ما حروبهم غلبـــــــت أي الطريقين لي إلى الهـــــــــرب
لو كان قصف وشرب صافيـــــة مع كل خود تختال في السلـــــب
والنوم عند الفتاة أرشفهـــــــــا وجدتني ثم فارس العــــــــــرب!"(9)
ثم إن هناك أيضا قصيدة أخرى ممتعة لأبي نواس، يصف فيها حفلة سكر ماجنة، مستخدما في ذلك استعارات حربية، حيث يقول:
"إذا عبا أبو الهيجــــــا ء للهيجاء فرسانــــــا
وسارت راية المـــــــوت أمام الشيخ إعلانــــــا
وشبت حربها واشتــــــ ـعلت تلهب نيرانــــا
وأبدت لوعة الوقعـــــــ ـة أضراسا وأسنانـــــا
جعلنا القوس أيدينــــــا ونبل القوس سوسانـــا
وقدمنا مكان النبـــــــــ ـل والمطرد ريحانــــــا
فعادت حربنا أنســــــا وعدنا نحن خلانـــــــا
بفتيان يرون القـتــــــــ ـل في اللذة قربانـــــــا
إذا ما ضربوا الطبــــــل ضربنا نحن عيدانـــــا
وأنشأنا كراديســــــــــا من الخيري ألوانــــــا
وأحجار المجانيــــــــق لنا تفاح لبنانـــــــــــا
ومنشأ حبنا ســـــــــاق سبا خمرا، فسقانـــــا
يحث الكأس كي تلحــ ـق أخرانا بأولانــــــا
ترى هناك مصروعــــــا وذا ينجر سكرانــــــا
فهذي الحرب لا حرب تغم الناس عدوانــــــا
بها نقتلهم ثــــــــــــم بها ننشر قتلانــــــــا(10)
وهنا أيضا تقول الرسالة غير المعلنة التي يريد أبو نواس إبلاغها: من الأفضل أن يسقط المرء في مجلس شراب أو حفلة سكر، على أن يسقط في ساحة القتال، لأن مدمن الخمر عندما يسقط، يمكن إيقاظه وإحياؤه مرى أخرى، بعكس الساقط في ميدان القتال.
الحلاج:
ومهما بدا الحديث عن دين الخمر في أحيان كثيرة ماجنا، بل ملحدا، إلا أن ثمة إمكانية أخرى للمعنى تظل كامنة في صميمه: فالخمر قد ورد ذكرها في القرآن كإحدى متع الجنة التي وعد الله بها المؤمنين، حيث سيقوم الصبيان الحسان والحور العين بخدمة المؤمن التقي، المستلقي على وسائد وثيرة، والمستظل بأشجار مورقة، تجري من تحتها الأنهار، مستمتعا باحتساء الخمر. ولكن الخمر كانت أيضا في الوقت نفسه -وقد كان ذلك بالطبع في بغداد والأمصار الإسلامية الأخرى التي عاش فيها النصارى- معروفة كرمز محوري للدين المسيحي. وهكذا أمكن بالفعل ربط الخمر بصفة دينية، وهذا ما قام به التصوف الإسلامي. وهنا صارت الخمر رمزا للفيض الإلهي، وأصبح السكر يمثل صورة للوجد الصوفي.
وتوجد بعض البدايات المبكرة لهذا الاتجاه عند الحلاج، الصوفي الشهير الذي أعدم سنة 922م، بعد أن اتهمه أهل السنة بالإلحاد. ففي قصيدة قصيرة يصف الحلاج الله تعالى -على سبيل المثال- على أنه الساقي الذي يقدم شراب الاتصال الروحي، حيث يقول:
"نديمي غير منســوب إلى شيء من الحيـــف
سقاني مثلما يشـــرب كفعل الضيف بالضيف
فلما دارت الكـــــأس دعا بالنطع والسيـــف
كذا من يشرب الـراح مع التنين في الصيـــف"(11)
ابن الفارض:
وقد تم التوسع بعد ذلك في هذخ الاستعارات الخمرية الصوفية، حتى صارت عنصرا رئيسيا عند الشعراء المتأخرين، وخاصة في إيران وتركيا العثمانية وشبه القارة الهندية. ولم يظهر في تاريخ الشعر الصوفي العربي، إلا عدد قليل من الشعراء الفطاحل. والواقع أنه لا يوجد، إلا شاعرا واحد فحل في هذا الحقل عند العرب، وهو عمر بن الفارض (توفي سنة 1235م)، الذي يمثل ديوانه إلى حد بعيد تمجيدا للخمر الصوفية، والسكر عند المتصوفة. ونجد في هذا الديوان أبياتا كثيرة لا تحمل في مضمونها منفردة أي معنى صوفي، ولا تكتسب معنى صوفيا، إلا من خلال سياق القصيدة. وبصفة عامة أصبحت الخمر عند ابن الفارض رمزا للقوة المطلفة التي يصل إليها المتصوف عن طريق الخضوع الكامل للبارئ والاتحاد معه. وهكذا يصف ابن الفارض الخمر في إحدى قصائده الخمرية، كما يلي:
"شربنا، على ذكر الحبيب مدامـة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
ومن بين أحشاء الدنان تصاعــدت ولم يبق منها في الحقيقة، إلا اسـم
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ أقامت به الأفراح، وارتحل الهـــم
ولو نظر الندمان ختم إنائهــــــــا لأسكرهم من دونها ذلك الختــــــم
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميــــت لعادت إليه الروح وانتعش الجســم
ولو طرحوا في فيء حائط كرمهـــــا عليلا، وقد أشفي، لفارقه السقـــم(12)
ويستمر ابن الفارض في وصف الخمر، التي تتحول عنده إلى مادة ذات مفعول سحري. وكان أبو نواس أيضا قد وصف الخمر بأشياء مشابهة، ولكن بمبالغات ماجنة. بيد أن قوة الخمر هاهنا ترمز إلى قدرة الأولياء عند الصوفية على الإتيان بالكرامات.
جلال الدين الرومي:
ويختلف الأمر عند المتصوف الإيراني الكبير جلال الدين الرومي. فالنشوة -أي الوجد الصوفي- التي يشعر بها عندما يخلو بصديقه شمس الدين-تحتل موقع الصدارة في قصائده:
"من ذلك الفتى ذي الشفاة العذبة
من ذاك الساقي اللطيف الطلعـــة
انتشت الــــروح والجســـــــــد
يا صديقي لا تنم هذخ الليلـــــة"(13).
وهكذا تبدأ أحد غزلياته المهداة إلى صديقه بنبرات تبدو من ظاهرها خمرية-غزلية جدا. ولكن أيضا عند الرومي يتطرق الحديث إلى موضوع الخمر السرمدي كما توضح ذلك أبيات غزل آخر، يقول فيها ما معناه:
"قبل أن تخلق الحدائق والبساتين، والأعناب والخمور، كانت أرواحنا منتشية بالخمر السرمدية (= الفيض الإلهي). وقبل أن تصير النفس الكلية مهندسا معماريا يشكل الأشكال من الماء والطين، شربت أرواحنا الخمر الإلهية في خرابات (ب حانات) الحقائق الإلهية. أيها الساقي، سكر المعجب بالماء والطين (= الرافض للخمر الصوفية)، لكي يعرف ما فاته من سعادة. فديت حياتي لساق، يأتي من عالم الروح، كي يرفع النقاب عن كل مستتر"(14).
عمر الخيام:
ومهما قصر حديثنا عن الأشعار الخمرية في الإسلام، فلا يجوز أن نتغافل الإشارة إلى شاعرين كبيرين. الأول هو عالم الرياضيات والفلك عمر الخيام (توفي سنة 1122م) -والذي اشتهر في الغرب بفضل رباعياته. والثاني هو الشاعر حافظ الشيرازي(1326-1389م). أما العالم عمر الخيام، فقد دعا في رباعياته -التي كان ينظمها في أوقات فراغه بإتقان وسلاسة- إلى حياة مرحة صافية، خالية من الهموم، مملوءة باللذات الحسية، نظرا لزوال وتفاهة كل ما هو أرضي دنيوي. على أن رباعيات الخيام لا تخلو من نزعة إنسانية واضحة، مصحوبة بنقد الدين المستتب والتهكم عليه. وهي عناصر نجدها فيما بعد أيضا عند حافظ الشيرازي المتأثر بعمر الخيام. وهكذا يبرر عمر الخيام شربه الخمر -مثلما يفعل حافظ من بعده- بالقضاء والقدر في الإسلام، أو يعتمد على رحمة الله تعالى(15). وهو يدعي أن تحيبم الخمر لا ينطبق، إلا على الأغبياء. ثم إنه يبيح الاستمتاع بالخمر في إحدى قفشاته الماجنة، حيث يقول ما معناه: "تقولون إني سأحاسب، لأني أشرب الخمر. وتأمروني بالبعد عن ماء العنب الذي يحرمه الدين. ولكن يبدو أن متعة الخمر محللة لي لأجل ذلك. لقد أمر النبي(ص) أن نسفح دم عدو الدين (= الخمر)"(16).
حافظ الشيرازي:
أما حافظ الشيرازي، فهو الشاعر الذي أثارت غزلياته لدى شاعر ألمانيا العظيم جوته -في شيخوخته- إعجابا وحماسا شديدين جعلاه يشعر بأن عليه أن يكون أكثر اجتهادا وأغزر إنتاجا، حيث يقول في مذكراته: "إن مجموعة أشعار حافظ الشيرازي قد أثرت في تأثيرا عميقا قويا، حملني على أن أنتج وأفيض بما أحس وأشعر، لأني لم أكن قادرا على مقاومة هذا التأثير القوي على نحو آخر، لقد كان التأثير حيا قويا"(17). وبدأ جوته يكتب قصائد "إلى حافظ"، والتي تكون منها "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي". ويعتبر هذا الديوان إلى حد بعيد حوارا مع الشاعر الشرقي الذي أراد جوته أن يتنافس معه. يقول جوته في قصيدته "غير محدود".
"وليفن العالم كله، أي حافــــــــظ!
فإني لا أريد أن أنافس غيــــــــرك،
غيرك أنــــــت وحـــــــــــــــدك!
فلنتقاسم سويا، نحن التوأمـيـــــــن
كل إيلام وكـــــــل ســـــــــــــرور
فما تحبه أنــت وما تحتسيـــــــــه
يجب أن يكون مفخرتي بل وحياتي"(18).
ولكن كيف كان حافظ الشيرازي يشرب ويحب؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال في سطور قليلة. ولذلك سنكتفي هنا بذكر ما يلي: إن الخمر عند حافظ لا تعني نبيذ عصير العنب فحسب، ولكنها أيضا ترمز لأشياء أخرى. فثمة أبيات خمرية بحتة، مثل:
"وشراب عمره حولان، ومحبوب عمره أربع عشرة سنة
كافيان لي من صحبة الكبير والصغير…!(19)
أما الأشياء الأخرى التي ترمز إليها استعارات حافظ الخمرية، فلم تكن عنده بالضرورة صوفية، ولكن ذهنية -بل كانت من جديد في نهاية المطاف دينية، أي لها علاقة بدين الحب ذلك الذي نادى به حافظ -اتباعا لديانة زرادشت- وكموقف معارض للتشدد في تطبيق أحكام الشريعة. ومن هنا فهو يجعل الوضوء في أشعاره ليس بالماء -كما يفعل المسلم المؤمن- ولكن بالخمر. وهو بالطبع ما لا ينبغي فهمه حرفيا، بل كنقد واضح للتدين المنقوص، المرائي للشريعة، والذي لا يأخذ من الدين، إلا ظاهره. وأكثر من ذلك ما نجده توا في أول غزليات ديوان حافظ: فالشيخ الزرادشتي -رئيس إحدى الأديرة الزرادشتية- وهو شخصية ذات أهمية مركزية في شعر حافظ- يأمر تلامذته أن يطلوا سجادة الصلاة بالخمر، كرمز للانتقال إلى مرحلة جديدة من الغنوصية، يتمتع أصحابها بأخلاق أسمى وأرقى من أخلاق طبقة المتمسحين بالدين، الذين يتمسكون بالقشور، ويهملون الأصول -كما يوضح الديوان بعبارات لطيفة- كرمز لروح حرة محبة للإنسانية:
"وماذا يحدث وماذا يضيرك؟! لو أنني شربت معك بضع أقداح من الشراب المعتق؟!
والخمر من "دم العناقيد"، وليس من دمك المهرق!"(20)
ولا يزال هذا البيت في غاية الأهمية في مجتمع ما انفك يقتل مواطنيه باسم الدين. لقد استمع جوته إلى كل هذا الطرب، ولكنه أدرك أيضا عمق الفكرة وبعد الغور، في أشعار حافظ، وسكره الأبدي. وتغنى هو أيضا في "كتاب الساقي بطريقة مرحة عميقة. وفي "كتاب المغني" يختتم قصيدة" الخلق والإحياء" بالمقطع الشعري التالي:
"وهكذا، أي حافظ! ليكن قصيدك الرائع،
وليكن مثلك السامي القدوس،
هاديا يحدونا خلال جرس الكؤوس،
ويهدينا بعد إلى معبد خالقنا الصانع"(21).
لقد حظيت الخمر في الشعر الإسلامي -تحديدا بسبب تحريما- بأهمية بعيدة الغور غير متوقعة. وتتجاوز هذه الأهمية إلى حد بعيد رومانسية طرب السكر المبالغ فيه في كثير من أغاني الخمر أو الشرب الألمانيةn
هوامش المقدمة:
1 ـ راجع: ابن عبد ربه، العقد الفريد، جار الهلال، بيروت (بدون تاريخ)، المجلد الثالث، ص328.
2 ـ المرجع السابق، المجلد الثالث، ص329
3 ـ المرجع السابق، المجلد الثالث، ص329
4 ـ المرجع السابق، المجلد الثالث، ص334
5 ـ المرجع السابق، المجلد الثالث، ص332.
6 ـ أبو القاسم حسين بن محمد الراغب الأصبهاني، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، مكتبة الحياة، بيروت (بدون تاريخ)، المجلد الأول، ص670.
7 ـ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق المستشرق. دي خويه، ليدن 1906، ص41.
8 ـ عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1982، ص136.
9 ـ أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي، مروج الذهب، دار الفكر، بيروت 1973، المجلد الرابع، ص86.
10 ـ أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري، تهذيب اللغة، تحقيق عبد السلام هارون ومحمد علي النجار، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1964، المجلد الأول، ص31.
11 ـ الأصبهاني، محاضرات الأدباء، المجلد الأول، ص681.
12 ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي بمصر، القاهرة 1979، الجزء الثالث، ص123.
13 ـ أحمد أمين، ضحى الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت(بدون تاريخ) المجلد الأول، ص119.
14 ـ المرجع السابق، المجلد الأول، ص119
15 ـ الأصبهاني، محاضرات الأدباء، المجلد الأول، ص669.
16 ـ راجع: أحمد رامي، الترجمة العربية لرباعيات الخيام، دار العودة، بيروت 1983، ص28.
17 ـ المرجع السابق، ص28
18 ـ المرجع السابق، ص72
19 ـ المرجع السابق، ص107
20 ـ أغاني شيراز أو غزليات حافظ الشيرازي، ترجمة إبراهيم أمين الشواربي، القاهرة 1944، ص68.
21 ـ الأصبهاني، محاضرات الأدباء، المجلد الأول، ص679
22 ـ المرجع السابق، المجلد الأول، ص678
23 ـ المرجع نفسه، المجلد الأول، ص677
هوامش بحث بيرجل:
1 ـ أبو القاسم حسين بن محمد الراغب الأصبهاني، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، دار الهلال، بيروت (بدون تاريخ)، المجلد الأول، ص670
2 ـ راجع: P.Schwrtz, Escorialstudien-Studien zur arabischen Literatur-und Sprachkunde I, Stuttgart.
3 ـ أبو الفرج الأصبهاني، كتاب الأغاني، طبعة مصورة عن مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة (بدون تاريخ) الجزء السابع، ص19
4 ـ المرجع نفسه، ج7، ص3.
5 ـ المرجع نفسه، ج7، ص4.
6 ـ المرجع نفسه، ج7، ص46.
7 ـ ديوان أبي نواس، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت 1986، ص247.
8 ـ المرجع نفسه، ص276.
9 ـ المرجع نفسه، ص46.
10 ـ المرجع نفسه، ص613.
11 ـ لوي ماسينيون، ديوان الحلاج، باريس 1931.
12 ـ ديوان ابن الفارض، دار صادر بيروت 1962، ص140-141.
13 - Johann Christoph Birgel, Licht und Reigen, Bern-Frankfurt/main 1974, S47.
14 ـ المرجع نفسه، ص3
15 ـ يقول الخيام في ذلك:
"إن لم أكن أخلصت في طاعتك
فإنني أطمع في رحمتك
وإنما يشفع لي أنني
قد عشت لا أشرك في وحدتك"
راجع: أحمد رامي، الترجمة العربية لرباعيات الخيام، دار العودة، ببيروت 1983، ص54.
16 ـ راجع الرباعية رقم 76 من ترجمة شاك (A.F.Schack) الألمانية لرباعيات الخيام، شتوتجارت، برلين (بدون تاريخ).
17 ـ جوته، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص8
18 ـ المرجع نفسه، ص104.
19 ـ أغاني شيراز أو غزليات حافظ الشيرازي، ترجمة ابراهيم أمين الشواربي، القاهرة 1944، ص257-258.
20 ـ المرجع نفسه، ص68.
21 ـ جوته، الديون الشرقي للمؤلف الغربي، ص7.
(*) العنوان الأصلي للبحث هو: "الخمر في الشعر الإسلامي"، وهو عنوان لا يستقيم بالعربية.
* ترجمه عن الألمانية وقدم له:
ثابت عيد
(باحث من مصر مقيم في سويسرا)
يعالج المستشرق الألماني المعروف يوحنا كريستوف بيرجل في بحثه هذا أشكال حضور الخمر في الشعر بالحضارة العربية الإسلامية(*) . لقد ركز بيرجل بالخصوص على أشعار حافظ الشيرازي، وجلال الدين الرومي، وعمر الخيام، الخاصة بالخمر، وهي أشعار لا يعرف المثقف العربي منها، إلا رباعيات الخيام. أما أشعار حافظ والرومي، فلم يكتب لها الانتشار بعد في عالمنا العربي، برغم وجود ترجمة عربية محترمة لديوان حافظ، وبرغم وجود عدد من الباحثين المصريين والعرب والقائمين على ترجمة الأدب الفارسي إلى اللغة العربية. ولعله من المفيد قبل متابعة الباحث في رحلته مع الشعراء وتغنيهم بالخمر إبداء الملاحظات التالية التي نعرض فيها لأشكال أخرى من حضور الخمر في الفكر العربي الديني منه والأدبي:
أولا: مما أوردته كتب الأدب العربي القديم عن آفات الخمر، "أنها تذهب العقل، وأفضل ما في الإنسان عقله، وتحسن القبيح، وتقبح الحسن". وحكى صاحب "العقد الفريد" أن مشارب الرجل يقال له نديم من الندامة، "لأن معاقر الكأس إذا سكر، تكلم بما يندم عليه"(1). وقال قصي بن كلاب لبنيه: "اجتنبوا الخمر، فإنها تصلح الأبدان، وتفسد الأذهان"(2). ولما قيل لعثمان بن عفان: "ما منعك من شرب الخمر في الجاهلية، ولا حرج عليك فيها؟" قال: "إني رأيتها تذهب العقل جملة. وما رأيت شيئا يذهب جملة، ويعود جملة"(3). ويحكى أن قوما سقوا أعرابية مسكرا، فقالت: "أيشرب نساؤكم مثل هذا؟ قالوا: نعم. قالت: فما يدري أحدكم من أبوه"(4).
ومن ألطف ما قرأت في وصف حالة السكر قول الشاعر:
"أقبلت من عند زياد كالخرف
أجر رجلي بخط مختلــــــف
كأنما يكتبان لام ألــــــــــف"(5).
ثانيا: تحكي كتب التاريخ أن أهل الحرمين أباحوا الغناء وحرموا النبيذ، وأن أهل العراق أباحوا النبيذ وحرموا الغناء(6). ونظرا لأن البصرة كانت منشأ الاعتزال، فقد أباح بعض المعتزلة أنواعا معينة من النبيذ. ويبدو أن ذلك هو سبب وصف المقدسي للمعتزلة بالفسق، حيث نسب إليهم أربع خصال، هي: "اللطفاة والدراية والفسق والسخرية"(7). وقد استغل خصوم المعتزلة من الأشاعرة وأهل الحديث وغيرهم هذه المسألة بالذات، وقاموا بالتشنيع علبهم. من ذلك مثلا اتهام عبد القاهر البغدادي، وهو أشعري متطرف، لإبراهيم النظام المعتزلي بإدمان السكر(8). وهذه التهمة لا يمكن فهمها إلا في إطار الصراع العقائدي العنيف بين المعتزلة والأشاعرة؟ وإلا لو كان الأمر يتعلق حقا باستنكار شرب الخمر -لكان أولى بالبغدادي والأشاعرة أن يهاجموا صاحبهم الخليفة المتوكل الذي قال عنه المسعودي في "مروج الذهب": "ولم يكن أحد ممن سلف من خلفاء بني العباس ظهر في مجلسه اللعب والمضاحك والهزل… إلا المتوكل، فإنه السابق إلى ذلك والمحدث له"(9). فالأشاعرة والحنابلة تغاضوا عن مساوئ المتوكل الكثيرة، لأنه اضطهد المعتزلة، وانتصر لمذهب ابن حنبل. أما تحامله على الشيعة، وظلمه لأهل الكتاب، وحياته المملوءة بالفسق والمجون- كل هذه المساوئ وغيرها سكت عنها الحنابلة والأشاعرة. ومن ذلك أيضا تشنيع أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري على المعتزلي ابن دريد في مقدمة كتابه "تهذيب اللغة"، حيث يقول: "وألفيته (= ابن دريد) أنا على كبر سنه سكران، لا يكاد يستمر لسانه على الكلام من سكره…"(10).
ثالثا: إن المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة، وإن كانوا قد حللوا بعض أنواع النبيذ، على مذهب أهل العراق، إلا أنهم لم يصلوا في ذلك إلى حد الفجر والفسق الذي نعرفه عن أبي نواس مثلا. يحكى أن المكتفي سأل الصولي مرة: "أتعرف أهتك بيت قالته العرب؟ قال: قول أبي نواس: ألا فاسقني خمرا، وقل لي: هي الخمر"(11). نعم نحن نعرف أن الجاحظ قد امتدح النبيذ في ورسالة "الشارب والمشروب"، خيث يقول مثلا: "وإن كل شراب، وإن حلا ورق… وطاب وعذب… فإن استطابتك لأول جرعة منه أكثر… ثم لا يزال في نقصان، إلى أن يعود مكروها وبلية، إلا النبيذ، فإن القدح الثاني أسهل من الأول، والثالث أيسر، والرابع ألذ، والخامس أسلس، والسادس أطرب، غلى أن يسلمك إلى النوم الذي هو حياتك"(12). ولكنه مع ذلك كان دائم التحذير من إدمان الشرب، والإكثار منه.
رابعا: اختلف الأئمة في مسألة تحريم الخمر أو تحليلها. فذهب الشافعي ومالك وابن حنبل إلى القول بأن المراد بالخمر هو ("جميع الأنبذة المسكرة من نبيذ التمر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيرها. وقالوا: كلها تسمى خمرا، وكلها محرمة"(13). أما أبو حنيفة، فقد حلل بعض أنواع الأنبذة، كنبيذ التمر والزبيب، "إن طبخ أدنى طبخ وشرب منه قدر لا يسكر"(14). وقد واجه أبو حنيفة أحيانا بعض المواقف الحرجة نتيجة لموقفه هذا من الخمر، ولولا سرعة بديهته، ورجاجة عقله، لما وجد لهذه المآزق مخرجا. يحكي صاحب "محاضرات الأدباء"، قائلا: "قال ابن أبي ليلى لأبي حنيفة: أيحل النبيذ وبيعه وشراؤه؟ قال: نعم. قال: أفيسرك أن أمك نباذة؟ فقال أبو حنيفة: أيحل الغناء وسماعه؟ قال نعم. قال: أفيسرك أن أمك مغنية؟ ووضع رجل بالكوفة على باب المسجد نبيذا بين يديه وجعل ينادي: من يشتري رطلا بدرهم بتحليل أبي حنيفة؟ فقال له أبو حنيفة: يا رجل، إنك فعلت قبيحا! فقال: ألست حللته؟ قال: صدقت. ومن الحلال أنك تجامع امرأتك، ولو استحضرتها الجامع، وجامعتها لا ستقبح ذلك. ولقي أبو حنيفة سكران، فقال له السكران: يا أبا حنيفة، يا ابن الزانية، إني شربت النبيذ! فقال: ما أحسنت حيث أحللت النبيذ، حتى شربه مثلك"(15).
خامسا: منذ القرون الأولى للإسلام نشب صراع عنيف بين المتشددين في الالتزام بأحكام الشريعة من ناحية، والمتساهلين في تأدية فرائض الإسلام من ناحية أخرى. كان الحنابلة من كبار ممثلي التيار المتشدد في الأمصار العربية بصفة عامة، في حين أن التيار المتساهل كان يمثله بعض فرق الصوفية. دأب المتشددون على اتهام المتساهلين بالفسق والإلحاد، ورد المتساهلون على المتشددين متهمين إياهم بالنفاق والخبث. فالتشدد عند الصوفية، ليس إلا قناعا يخفي المتشددون وراءه الجهل والخبث والرياء. هذه الفكرة بالذات هي أحد أهم الموضوعات التي عالجها كبار شعراء الفرس: عمر الخيام، وجلال الدين الرومي، وحافظ الشيرازي. كان بعض المتصوفة في بادئ الأمر من ألد أعداء عمر الخيام. ولكنهم استحسنوا بعد ذلك بعض رباعياته، وأدخلوها في أورادهم، واهتموا بدراستها(16). يقول الشاعر القدير، أحمد رامي، صاحب أجمل ترجمة عربية رباعيات الخيام -وهي الترجمة التي غنت أم كلثوم بعض مقاطعها-: "هذا هو الخيام الذي رماه الناس بالزندقة في عهده، والذي تقرن أشعاره اليوم بأشعار ابن أبي الخير والأنصاري والعطار، وهم أطهر الشعراء صفحة"(17). يشن الخيام هجوما عنيفا ضد أدعياء الزهد والمتاجرين بالدين، متهما إياهم باستنزاف دماء العباد، في حين أنه لا يقتل أحدا، ولا يشاغب أحدا. كل ما يفعله هو أنه يواسي وحدته بالخمر. ومع ذلك لم يتركوه وشأنه.
"يا مدعي الزهد أنا أكـــــرم
منك، وعقلي ثملا أحكــــــم
تستنزف الخلق، وما استقي،
إلا دم الكرم، فمن آثــــــــم"..(18)
ويقول في موضع آخر:
"خير لي العشق وكأس المدام
من ادعاء الزهد والاحتشـام
لو كانت النار لمثلي، خلـت
جنات عدن من جميع الأنام"(19).
ويدافع شاعر إيران الكبير حافظ الشيرازي عن الفكرة نفسها-أي أن المتصوفة قوم لا يؤذون أحدا، ولا يبغضون أحدا، بل إن الحب مذهبهم، والتسامح عقيدتهم. وهم وإن كانوا يهملون الفرائض الدينية، إلا أنهم لا يقتلون أحدا، ولا يعتدون على أحد. يقول حافظ في غزلياته:
"وشارب الخمر الذي لا رياء فيه ولا نفاق
خير من بائع الزهد الذي يكون فيه الرياء وضعف الأخلاق
(…) ولربما نتجاوز عن فروض الله، ولكنا لا نفعل السوء بأحد من العباد
فإذا قالوا: ليس هذا صوابا. قلنا: هذا هو عين الصواب، ومحض الإسعاد"(20)
سادسا: يشير المستشرق بيرجل إلى ثلاثة مذاهب في شرب الخمر بصفة عامة: الأول يحرمها كلية، والثاني هو مذهب السكر والإدمان، والثالث هو مذهب الاعتدال في الشراب، بحيث لا يصل المرء أبدا إلى حالة السكر. وهذا المذهب الأخير يرى أن في الخمر منافع، يمكن تحقيقها، إذا تناول الإنسان منها قدرا يسيرا. وقد عبر عن هذا المذهب ابن المقفع في قوله:
"سأشرب ما شربت على طعامي ثلاثا ثم أتركه صحيحا
فلست بقارف منه آثاما ولست براكب منه قبيحا"(21)
وأوضح منه قول القائل: "القدح الأول يكسر العطش، والثاني يمرئ الطعام، والثالث يفرح النفس، وما زاد على ذلك فضل"(22).
ونختم هذا التمهيد بقولنا إنه لو لم يكن للخمر من مضار سوى تقبيحها للحسن، وتحسينها للقبيح، لكان ذلك سببا كافيا في منع الإسلام لها، فما بالك ببقية مضارها. بل إننا نرى المدمن يرى كل شيء معكوسا، فتأتى أفعاله مضحكة غريبة. يحكي صاحب "محاضرات الأباء"، قائلا: "… قال العتابي: كان في دارنا سكران. فقعد على مصلى، وسلح فيه. فأخذت بيده إلى المستراح، فنام فيه! فقالت جاريتي: يا عجبا! كل شيء منه مقلوب. خرأ حيث ينام الناس، ونام حيث يخرأ الناس!"(23).
النص المترجم:
من المعروف أن شرب الخمر ممنوع في العالم الإسلامي. وقد ورد هذا التحريم في القرآن الكريم، ولكنه مر بمراحل متعاقبة. ففي البداية لم يكن هناك أي تحريم للخمر على الإطلاق، بل إن آية قرآنية مبكرة تذكر الخمر ضمن الأشياء التي يمكن فهمها على أنها من النعم الإلهية، مثل اللبن وعسل النحل، وأشباههما. تقول تلك الآية الكريمة: "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا"(النحل - 67).
ثم تلا ذلك أول تقييد من خلال الآية التالية: "يسألونك عن الخمر والميسر. قل فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما"(البقرة -219). ولكن نظرا لاستمرار بعض المسلمين الأوائل في حضور الصلاة، وهم في حالة سكر أو انتشاء، فقد نزلت الآية التالية، لتحرم شرب الخمر بحسم ووضوح: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ختى تعلموا ما تقولون"(النساء-43).
وتبع ذلك أخيرا الاستنكار المطلق لشرب الخمر، حيث يقول الله تعالى في كتابه المبين: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون"(المائدة-90-91). وعندما يظهر تعارض بين البلاغات الإلهية، يؤخذ بالآيات المتأخرة، باعتبارها ناسخة للمبكرات.
الخمر إذن محرمة على المسلم. بيد أن هذا لا يعني أنه لم يتناولها، من حين لآخر، سرا أو علانية، بإسراف شديد. فيحكى عن عمرو بن معدي كرب أنه مر بعيينة بن حصن "فأطعمه تمرا، ثم قال: أسقيك لبنا، أو ما كنا نتنادم عليه في الجاهلية؟ فقال: أليس قد أمرنا بتحريمها؟ قال عيينة: كلا، إن الله تعالى قال: فهل أنتم منتهون؟!(الآية السابقة)فقلنا:لا"(1).
ولا شك أن جاذبية الممنوع قد لعبت هنا دورا هاما. وبالمناسبة فكثيرا ما كان الحكام بالذات -على مر تاريخ الدولة الإسلامية- هم الذين تجاهلوا مبدأ تحريم الخمر، وإن كان ذلك لا ينطبق، إلا على حالات فردية من الخلفاء.
ومن الأمثلة المبكرة لذلك حالة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية (حكم من سنة 680م حتى 683م) الذي وصلنا منه بعض القصائد الطريفة في الخمر، يقارن الخمر في إحداها، كالعادة بالشمس، ثم يطور من ذلك معنى بهيجا مبنيا على نظرة فلكية شاملة، حيث يقول ما معناه: إن الشمس المنبثقة من عنقود العنب، موقعها من البروج هو إبريق الخمر. مشرقها في يد الساقي، ومغربها في حلقي(2).
ثم إن شرب الخمر وتمجيدها قد بلغا حدا فاحشا حقا في عصر حاكم آخر من بني أمية، وهو الخليفة الزنديق الوليد بن يزيد بن عبد الملك (حكم من سنة 743م حتى 744م) الذي كان فاشلا كخليفة، بيد أنه كا شاعرا نابغا ملهما. وهو صاحب بعض أجمل القصائد الخمرية التي وصلتنا باللغة العربية، مثال ذلك القصيدة التالية:
"اصدع نجيّ الهموم بالطــرب وانعم على الدهر بابنة العنب
واستقبل العيش في نضارتـــــه ولا تقف منه آثار معتقــــــب
من قهوة زانهــا تقادمهـــــــا فهي عجوز تعذر على الحقب
أشهى إلى الشرب يوم جلوتها من الفتاة الكريمة النســـــــب
فقد تجلـت ورق جوهرهــــــا حتى تبدت في منظر عجــــب
فهي بغير المزاج مـن شـــــرر وهي لدى المزج سائل الذهـب
كأنها في زجاجها قبــــــــس تذكو ضياء في عين مرتقـــــب
في فتية من بني أميـة أهــــــ ل المجد والمأثرات والحســب
ما في الورى مثلهم ولا فيهـــم مثلي ولا منتم لمثل أبــــــــي"(3)
كلا، إن أمير المؤمنين هذا لم يكن من الإيمان في شيء. وكان مما اعترف به علانية وصراحة انتسابه إلى تلك الأفكار الإلحادية. فعندما كتب إليه عمه هشام، قائلا: "ما تدع شيئا من المنكر، إلا أتيته وارتكبته، غير متحاش ولا مستتر، فليت شعري، ما دينك؟؟! أعلى الإسلام أنت، أم لا؟"(4). رد عليه الوليد بالأبيات التالية:
"يا أيها السائل عن ديننا نحن على دين أبي شاكر(= ابن هشام)
نشربها صرفا وممزوجـــة بالسخن أحيانا وبالفاتــر"(5)
وإلى مجون مشابه تنتهي أيضا الأبيات التالية:
"أدر الكأس يمينـــــــا لا تدر ليســـــــــــار
اسق هذا ثم هــــــــذا صاحب العود النضـار
من كميت عتقوهــــــا منذ دهر في جــــــرار
ختموها بالأفاويـــــــه وكافور وقـــــــــــــار
فلقد ايقنت أنــــــــي غير مبعوث لنــــــــار
سأروض الناس حتــى يركبوا أير الحمــــــار
وذروا من يطلب الجنـ ـة يسعى لتبــــــــــار(6)
أبو نواس:
إن الفكرة الماجنة الخاصة بدين الخمر، أي بتقديسها وعبادتها، التي وردت في الأبيات السابقة، عادت مرة أخرى للظهور عند أهم وأشهر شعراء الخمر في الأدب العربي على الإطلاق، ونعني بذلك أكثر شعراء العرب هوسا ومجونا: أبا نواس-والذي كان، برغم مخالفاته المتكررة للشريعة الإسلامية، يتمتع بمكانة خاصة لدى الخلفاء العباسيين في ذلك الوقت.
مثل الوليد، نظم أبو نواس أيضا، كمراعاة لقواعد السلوك، قصائد خمرية للخلفاء، ولكنه ترك أيضا أشعارا نابية قبيحة، تعمد فيها الخلاعة والبذاءة. وكثيرا ما كانت هذه الأشعار القبيحة عند أبي نواس نتيجة لمليه إلى حب الصبيان وممارسة الشذوذ الجنسي، حيث طعم هذه الأشعار بتفصيلات داعرة. وتمثل القصيدة التالية نموذجا للأشعار التي نظمها أبو نواس لقصر الخلافة، حيث اختتمها بوصف أقداح الخمر الساسانية، التي اشتهر عن حق بوصفه المتميز لها:
"وخمار حططت إليه ليــــــــــلا قلائص قد ونين من السفـــار
فجمجم والكرى في مقلتيـــــــــه كمخمور شكا ألم الخمـــــــار
أبن لي كيف صرت إلى حريمـــي ونجم الليل مكتحل بقـــــــار؟
فقلت له ترفق بي فإنــــــــــــي رأيت الصبح من خلل الدـيار
فكان جوابه أن قال صبـــــــــح! ولا صبح سوى ضوء العقــــار
وقام إلى العقار فسد فاهـــــــــــا فعاد الليل مســــــــود الإزار
فحل بزالها في قعر كــــــــــأس محفرة الجوانب والقــــــــرار
مصورة بصورة جند كســــــــرى وكسرى في قرار الطرجهـــــار
وجل الجند تحت ركاب كسرى بأعمدة، وأقبية قصـــــــــــار"(7).
وفي مقابل ذلك يقدم أبو نواس في القصيدة التالية اعترافا استفزازيا بالانتساب إلى دين الخمر:
أبحت حربم الكأس إذ كنت مشربا وأقصرت عنها بعدما صرت معسرا
ولو أن مالي يستقل بلذتــــــــــــي لأنسيت أهل اللهو كسرى وقيصـرا
وثقت بعفو الله عن كل مسلـــــــم فلست عن الصهباء ما عشت مقصرا
وأحور، مخلوع الزمام، تخالــــــه قضيبا من الريحان، يهتز أخضــرا
مربض جفون المقلتين، مزنــــــــــر له شفة من مصها مص سكــــــــرا
فلو أنه يقظان أو في منامـــــــــــــه يجود لأعمى بالولاء لأبصـــــــــرا
يخر لصرف الكأس في السكر ساجدا وإن مزجت صلى عليها، وكـــبـرا"(8).
ورغم التزام أبي نواس الواضح بالتقاليد الأدبية الخاصة بكتابة الشعر، إلا أن هذا لم يأت على حساب المعنى، حيث تظهر أشعاره قدرا هائلا من الخواطر والمعاني الأصيلة. وهو في ذلك لا يخفي وجهات نظره الشخصية. من ذلك مثلا تفضيله الانغماس في لذاته السلمية، على المشاركة في الغزوات الحربية المنتظمة التي كان يقوم بها الخليفة-أي الجهاد السنوي, يقول أبو نواس:
يا بشر ما لي والسيف والحــرب وإن نجمي للهو والطــــــــــرب
فلا شتق بي، فإنني رجــــــــل أكع عند اللقاء والطلــــــــــــب
وإن رأيت الشراة قد طلعـــــــوا ألجمت مهري من جانب الذنب
ولست أدري ما الساعدان،ولاالـ ترس، وما بيضة من اللبـــــــــب
همي إذا ما حروبهم غلبـــــــت أي الطريقين لي إلى الهـــــــــرب
لو كان قصف وشرب صافيـــــة مع كل خود تختال في السلـــــب
والنوم عند الفتاة أرشفهـــــــــا وجدتني ثم فارس العــــــــــرب!"(9)
ثم إن هناك أيضا قصيدة أخرى ممتعة لأبي نواس، يصف فيها حفلة سكر ماجنة، مستخدما في ذلك استعارات حربية، حيث يقول:
"إذا عبا أبو الهيجــــــا ء للهيجاء فرسانــــــا
وسارت راية المـــــــوت أمام الشيخ إعلانــــــا
وشبت حربها واشتــــــ ـعلت تلهب نيرانــــا
وأبدت لوعة الوقعـــــــ ـة أضراسا وأسنانـــــا
جعلنا القوس أيدينــــــا ونبل القوس سوسانـــا
وقدمنا مكان النبـــــــــ ـل والمطرد ريحانــــــا
فعادت حربنا أنســــــا وعدنا نحن خلانـــــــا
بفتيان يرون القـتــــــــ ـل في اللذة قربانـــــــا
إذا ما ضربوا الطبــــــل ضربنا نحن عيدانـــــا
وأنشأنا كراديســــــــــا من الخيري ألوانــــــا
وأحجار المجانيــــــــق لنا تفاح لبنانـــــــــــا
ومنشأ حبنا ســـــــــاق سبا خمرا، فسقانـــــا
يحث الكأس كي تلحــ ـق أخرانا بأولانــــــا
ترى هناك مصروعــــــا وذا ينجر سكرانــــــا
فهذي الحرب لا حرب تغم الناس عدوانــــــا
بها نقتلهم ثــــــــــــم بها ننشر قتلانــــــــا(10)
وهنا أيضا تقول الرسالة غير المعلنة التي يريد أبو نواس إبلاغها: من الأفضل أن يسقط المرء في مجلس شراب أو حفلة سكر، على أن يسقط في ساحة القتال، لأن مدمن الخمر عندما يسقط، يمكن إيقاظه وإحياؤه مرى أخرى، بعكس الساقط في ميدان القتال.
الحلاج:
ومهما بدا الحديث عن دين الخمر في أحيان كثيرة ماجنا، بل ملحدا، إلا أن ثمة إمكانية أخرى للمعنى تظل كامنة في صميمه: فالخمر قد ورد ذكرها في القرآن كإحدى متع الجنة التي وعد الله بها المؤمنين، حيث سيقوم الصبيان الحسان والحور العين بخدمة المؤمن التقي، المستلقي على وسائد وثيرة، والمستظل بأشجار مورقة، تجري من تحتها الأنهار، مستمتعا باحتساء الخمر. ولكن الخمر كانت أيضا في الوقت نفسه -وقد كان ذلك بالطبع في بغداد والأمصار الإسلامية الأخرى التي عاش فيها النصارى- معروفة كرمز محوري للدين المسيحي. وهكذا أمكن بالفعل ربط الخمر بصفة دينية، وهذا ما قام به التصوف الإسلامي. وهنا صارت الخمر رمزا للفيض الإلهي، وأصبح السكر يمثل صورة للوجد الصوفي.
وتوجد بعض البدايات المبكرة لهذا الاتجاه عند الحلاج، الصوفي الشهير الذي أعدم سنة 922م، بعد أن اتهمه أهل السنة بالإلحاد. ففي قصيدة قصيرة يصف الحلاج الله تعالى -على سبيل المثال- على أنه الساقي الذي يقدم شراب الاتصال الروحي، حيث يقول:
"نديمي غير منســوب إلى شيء من الحيـــف
سقاني مثلما يشـــرب كفعل الضيف بالضيف
فلما دارت الكـــــأس دعا بالنطع والسيـــف
كذا من يشرب الـراح مع التنين في الصيـــف"(11)
ابن الفارض:
وقد تم التوسع بعد ذلك في هذخ الاستعارات الخمرية الصوفية، حتى صارت عنصرا رئيسيا عند الشعراء المتأخرين، وخاصة في إيران وتركيا العثمانية وشبه القارة الهندية. ولم يظهر في تاريخ الشعر الصوفي العربي، إلا عدد قليل من الشعراء الفطاحل. والواقع أنه لا يوجد، إلا شاعرا واحد فحل في هذا الحقل عند العرب، وهو عمر بن الفارض (توفي سنة 1235م)، الذي يمثل ديوانه إلى حد بعيد تمجيدا للخمر الصوفية، والسكر عند المتصوفة. ونجد في هذا الديوان أبياتا كثيرة لا تحمل في مضمونها منفردة أي معنى صوفي، ولا تكتسب معنى صوفيا، إلا من خلال سياق القصيدة. وبصفة عامة أصبحت الخمر عند ابن الفارض رمزا للقوة المطلفة التي يصل إليها المتصوف عن طريق الخضوع الكامل للبارئ والاتحاد معه. وهكذا يصف ابن الفارض الخمر في إحدى قصائده الخمرية، كما يلي:
"شربنا، على ذكر الحبيب مدامـة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
ومن بين أحشاء الدنان تصاعــدت ولم يبق منها في الحقيقة، إلا اسـم
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ أقامت به الأفراح، وارتحل الهـــم
ولو نظر الندمان ختم إنائهــــــــا لأسكرهم من دونها ذلك الختــــــم
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميــــت لعادت إليه الروح وانتعش الجســم
ولو طرحوا في فيء حائط كرمهـــــا عليلا، وقد أشفي، لفارقه السقـــم(12)
ويستمر ابن الفارض في وصف الخمر، التي تتحول عنده إلى مادة ذات مفعول سحري. وكان أبو نواس أيضا قد وصف الخمر بأشياء مشابهة، ولكن بمبالغات ماجنة. بيد أن قوة الخمر هاهنا ترمز إلى قدرة الأولياء عند الصوفية على الإتيان بالكرامات.
جلال الدين الرومي:
ويختلف الأمر عند المتصوف الإيراني الكبير جلال الدين الرومي. فالنشوة -أي الوجد الصوفي- التي يشعر بها عندما يخلو بصديقه شمس الدين-تحتل موقع الصدارة في قصائده:
"من ذلك الفتى ذي الشفاة العذبة
من ذاك الساقي اللطيف الطلعـــة
انتشت الــــروح والجســـــــــد
يا صديقي لا تنم هذخ الليلـــــة"(13).
وهكذا تبدأ أحد غزلياته المهداة إلى صديقه بنبرات تبدو من ظاهرها خمرية-غزلية جدا. ولكن أيضا عند الرومي يتطرق الحديث إلى موضوع الخمر السرمدي كما توضح ذلك أبيات غزل آخر، يقول فيها ما معناه:
"قبل أن تخلق الحدائق والبساتين، والأعناب والخمور، كانت أرواحنا منتشية بالخمر السرمدية (= الفيض الإلهي). وقبل أن تصير النفس الكلية مهندسا معماريا يشكل الأشكال من الماء والطين، شربت أرواحنا الخمر الإلهية في خرابات (ب حانات) الحقائق الإلهية. أيها الساقي، سكر المعجب بالماء والطين (= الرافض للخمر الصوفية)، لكي يعرف ما فاته من سعادة. فديت حياتي لساق، يأتي من عالم الروح، كي يرفع النقاب عن كل مستتر"(14).
عمر الخيام:
ومهما قصر حديثنا عن الأشعار الخمرية في الإسلام، فلا يجوز أن نتغافل الإشارة إلى شاعرين كبيرين. الأول هو عالم الرياضيات والفلك عمر الخيام (توفي سنة 1122م) -والذي اشتهر في الغرب بفضل رباعياته. والثاني هو الشاعر حافظ الشيرازي(1326-1389م). أما العالم عمر الخيام، فقد دعا في رباعياته -التي كان ينظمها في أوقات فراغه بإتقان وسلاسة- إلى حياة مرحة صافية، خالية من الهموم، مملوءة باللذات الحسية، نظرا لزوال وتفاهة كل ما هو أرضي دنيوي. على أن رباعيات الخيام لا تخلو من نزعة إنسانية واضحة، مصحوبة بنقد الدين المستتب والتهكم عليه. وهي عناصر نجدها فيما بعد أيضا عند حافظ الشيرازي المتأثر بعمر الخيام. وهكذا يبرر عمر الخيام شربه الخمر -مثلما يفعل حافظ من بعده- بالقضاء والقدر في الإسلام، أو يعتمد على رحمة الله تعالى(15). وهو يدعي أن تحيبم الخمر لا ينطبق، إلا على الأغبياء. ثم إنه يبيح الاستمتاع بالخمر في إحدى قفشاته الماجنة، حيث يقول ما معناه: "تقولون إني سأحاسب، لأني أشرب الخمر. وتأمروني بالبعد عن ماء العنب الذي يحرمه الدين. ولكن يبدو أن متعة الخمر محللة لي لأجل ذلك. لقد أمر النبي(ص) أن نسفح دم عدو الدين (= الخمر)"(16).
حافظ الشيرازي:
أما حافظ الشيرازي، فهو الشاعر الذي أثارت غزلياته لدى شاعر ألمانيا العظيم جوته -في شيخوخته- إعجابا وحماسا شديدين جعلاه يشعر بأن عليه أن يكون أكثر اجتهادا وأغزر إنتاجا، حيث يقول في مذكراته: "إن مجموعة أشعار حافظ الشيرازي قد أثرت في تأثيرا عميقا قويا، حملني على أن أنتج وأفيض بما أحس وأشعر، لأني لم أكن قادرا على مقاومة هذا التأثير القوي على نحو آخر، لقد كان التأثير حيا قويا"(17). وبدأ جوته يكتب قصائد "إلى حافظ"، والتي تكون منها "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي". ويعتبر هذا الديوان إلى حد بعيد حوارا مع الشاعر الشرقي الذي أراد جوته أن يتنافس معه. يقول جوته في قصيدته "غير محدود".
"وليفن العالم كله، أي حافــــــــظ!
فإني لا أريد أن أنافس غيــــــــرك،
غيرك أنــــــت وحـــــــــــــــدك!
فلنتقاسم سويا، نحن التوأمـيـــــــن
كل إيلام وكـــــــل ســـــــــــــرور
فما تحبه أنــت وما تحتسيـــــــــه
يجب أن يكون مفخرتي بل وحياتي"(18).
ولكن كيف كان حافظ الشيرازي يشرب ويحب؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال في سطور قليلة. ولذلك سنكتفي هنا بذكر ما يلي: إن الخمر عند حافظ لا تعني نبيذ عصير العنب فحسب، ولكنها أيضا ترمز لأشياء أخرى. فثمة أبيات خمرية بحتة، مثل:
"وشراب عمره حولان، ومحبوب عمره أربع عشرة سنة
كافيان لي من صحبة الكبير والصغير…!(19)
أما الأشياء الأخرى التي ترمز إليها استعارات حافظ الخمرية، فلم تكن عنده بالضرورة صوفية، ولكن ذهنية -بل كانت من جديد في نهاية المطاف دينية، أي لها علاقة بدين الحب ذلك الذي نادى به حافظ -اتباعا لديانة زرادشت- وكموقف معارض للتشدد في تطبيق أحكام الشريعة. ومن هنا فهو يجعل الوضوء في أشعاره ليس بالماء -كما يفعل المسلم المؤمن- ولكن بالخمر. وهو بالطبع ما لا ينبغي فهمه حرفيا، بل كنقد واضح للتدين المنقوص، المرائي للشريعة، والذي لا يأخذ من الدين، إلا ظاهره. وأكثر من ذلك ما نجده توا في أول غزليات ديوان حافظ: فالشيخ الزرادشتي -رئيس إحدى الأديرة الزرادشتية- وهو شخصية ذات أهمية مركزية في شعر حافظ- يأمر تلامذته أن يطلوا سجادة الصلاة بالخمر، كرمز للانتقال إلى مرحلة جديدة من الغنوصية، يتمتع أصحابها بأخلاق أسمى وأرقى من أخلاق طبقة المتمسحين بالدين، الذين يتمسكون بالقشور، ويهملون الأصول -كما يوضح الديوان بعبارات لطيفة- كرمز لروح حرة محبة للإنسانية:
"وماذا يحدث وماذا يضيرك؟! لو أنني شربت معك بضع أقداح من الشراب المعتق؟!
والخمر من "دم العناقيد"، وليس من دمك المهرق!"(20)
ولا يزال هذا البيت في غاية الأهمية في مجتمع ما انفك يقتل مواطنيه باسم الدين. لقد استمع جوته إلى كل هذا الطرب، ولكنه أدرك أيضا عمق الفكرة وبعد الغور، في أشعار حافظ، وسكره الأبدي. وتغنى هو أيضا في "كتاب الساقي بطريقة مرحة عميقة. وفي "كتاب المغني" يختتم قصيدة" الخلق والإحياء" بالمقطع الشعري التالي:
"وهكذا، أي حافظ! ليكن قصيدك الرائع،
وليكن مثلك السامي القدوس،
هاديا يحدونا خلال جرس الكؤوس،
ويهدينا بعد إلى معبد خالقنا الصانع"(21).
لقد حظيت الخمر في الشعر الإسلامي -تحديدا بسبب تحريما- بأهمية بعيدة الغور غير متوقعة. وتتجاوز هذه الأهمية إلى حد بعيد رومانسية طرب السكر المبالغ فيه في كثير من أغاني الخمر أو الشرب الألمانيةn
هوامش المقدمة:
1 ـ راجع: ابن عبد ربه، العقد الفريد، جار الهلال، بيروت (بدون تاريخ)، المجلد الثالث، ص328.
2 ـ المرجع السابق، المجلد الثالث، ص329
3 ـ المرجع السابق، المجلد الثالث، ص329
4 ـ المرجع السابق، المجلد الثالث، ص334
5 ـ المرجع السابق، المجلد الثالث، ص332.
6 ـ أبو القاسم حسين بن محمد الراغب الأصبهاني، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، مكتبة الحياة، بيروت (بدون تاريخ)، المجلد الأول، ص670.
7 ـ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق المستشرق. دي خويه، ليدن 1906، ص41.
8 ـ عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1982، ص136.
9 ـ أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي، مروج الذهب، دار الفكر، بيروت 1973، المجلد الرابع، ص86.
10 ـ أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري، تهذيب اللغة، تحقيق عبد السلام هارون ومحمد علي النجار، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1964، المجلد الأول، ص31.
11 ـ الأصبهاني، محاضرات الأدباء، المجلد الأول، ص681.
12 ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي بمصر، القاهرة 1979، الجزء الثالث، ص123.
13 ـ أحمد أمين، ضحى الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت(بدون تاريخ) المجلد الأول، ص119.
14 ـ المرجع السابق، المجلد الأول، ص119
15 ـ الأصبهاني، محاضرات الأدباء، المجلد الأول، ص669.
16 ـ راجع: أحمد رامي، الترجمة العربية لرباعيات الخيام، دار العودة، بيروت 1983، ص28.
17 ـ المرجع السابق، ص28
18 ـ المرجع السابق، ص72
19 ـ المرجع السابق، ص107
20 ـ أغاني شيراز أو غزليات حافظ الشيرازي، ترجمة إبراهيم أمين الشواربي، القاهرة 1944، ص68.
21 ـ الأصبهاني، محاضرات الأدباء، المجلد الأول، ص679
22 ـ المرجع السابق، المجلد الأول، ص678
23 ـ المرجع نفسه، المجلد الأول، ص677
هوامش بحث بيرجل:
1 ـ أبو القاسم حسين بن محمد الراغب الأصبهاني، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، دار الهلال، بيروت (بدون تاريخ)، المجلد الأول، ص670
2 ـ راجع: P.Schwrtz, Escorialstudien-Studien zur arabischen Literatur-und Sprachkunde I, Stuttgart.
3 ـ أبو الفرج الأصبهاني، كتاب الأغاني، طبعة مصورة عن مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة (بدون تاريخ) الجزء السابع، ص19
4 ـ المرجع نفسه، ج7، ص3.
5 ـ المرجع نفسه، ج7، ص4.
6 ـ المرجع نفسه، ج7، ص46.
7 ـ ديوان أبي نواس، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت 1986، ص247.
8 ـ المرجع نفسه، ص276.
9 ـ المرجع نفسه، ص46.
10 ـ المرجع نفسه، ص613.
11 ـ لوي ماسينيون، ديوان الحلاج، باريس 1931.
12 ـ ديوان ابن الفارض، دار صادر بيروت 1962، ص140-141.
13 - Johann Christoph Birgel, Licht und Reigen, Bern-Frankfurt/main 1974, S47.
14 ـ المرجع نفسه، ص3
15 ـ يقول الخيام في ذلك:
"إن لم أكن أخلصت في طاعتك
فإنني أطمع في رحمتك
وإنما يشفع لي أنني
قد عشت لا أشرك في وحدتك"
راجع: أحمد رامي، الترجمة العربية لرباعيات الخيام، دار العودة، ببيروت 1983، ص54.
16 ـ راجع الرباعية رقم 76 من ترجمة شاك (A.F.Schack) الألمانية لرباعيات الخيام، شتوتجارت، برلين (بدون تاريخ).
17 ـ جوته، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص8
18 ـ المرجع نفسه، ص104.
19 ـ أغاني شيراز أو غزليات حافظ الشيرازي، ترجمة ابراهيم أمين الشواربي، القاهرة 1944، ص257-258.
20 ـ المرجع نفسه، ص68.
21 ـ جوته، الديون الشرقي للمؤلف الغربي، ص7.
(*) العنوان الأصلي للبحث هو: "الخمر في الشعر الإسلامي"، وهو عنوان لا يستقيم بالعربية.
* ترجمه عن الألمانية وقدم له:
ثابت عيد
(باحث من مصر مقيم في سويسرا)