نقوس المهدي
كاتب
يهتم هذا المبحث أساسا بدراسة خصائص النّادرة عند الجاحظ باعتبارها جنسا نثريّا وسرديا مخصوصا يتميّز في المقام الأوّل بالإيجاز من الناحية الكمية والفكاهة والهزل من الناحية النوعية. بيد أنّ المفاجأة التي يحدثها العنوان من أول وهلة في ذهن القارئ، تتمثل أوّلا في الغرابة الكامنة في الربط المباشر بين قطبين لا يلتقيان أو هما قطبان متباعدان بحيث يستعصي الرّبط بينهما على سبيل التجاور أو التزامن في لحظة واحدة. أمّا المستوى الثاني فيتعلّق بالصّلة التي تشدّ هذه الجدلية إلى نصوص « البخلاء » ومن هنا ننتقل من السيّاق الدّلالي الأكبر، أي سياق المقدّس والمدنّس وهو سياق دينيّ عام ذو صبغة تقديسيّة عقديّة جادّة إلى السيّاق الدّلالي الأصغر الذي يرتكز على محورين : محور النوادر أوّلا ثمّ « البخلاء » ثانيا. أمّا المحور الأوّل الذي يتمثل في كلمة « النوادر » فيتضمّن معنيين متقابلين أوّلهما جادّ وقد خصّص له بعض الكتّاب فصولهم في مصنفاتهم، وتعرّضوا فيه إلى نوادر كلام العرب في الحكمة والأمثال، وثانيهما اصطلاحي جاد بمعنى النّدرة عن مجاله اللّغويّ الصرف إلى المجال الاصطلاحي الذي التبس بمعاني الهزل والضّحك. وكلمة « النوادر » في حدّ ذاتها تستدعي الضحك بمجرد سماعها لأنّها تردنا عبر الذّاكرة إلى أقاصيص ضاحكة ومضحكة.
أمّا المحور الثاني فيتعلّق بكتاب «البخلاء» حيث ترتبط لفظة «النوادر» مباشرة بقطبين هزليّين، الأول يتمثل في « البخلاء » باعتبارهم أشخاصا كسهل بن هارون والكندي، ثم باعتبارهم عنوانا لكتاب حيث يقع تجريدهم من شخصانيّتهم ليصبح الدال ذا دلالة تجريديّة (1) رمزيّة تنصهر فيها تدلاليّة الأسماء وتذوب في بوتقة اسم البخل نفسه. البخلاء إذن هم البخل مشخّصا أو البخل مطلقا.
فإذا صرفنا النظر الآن عن جدليّة «المقدّس والمدنس» فإنّ لفظة « نوادر » بإمكانها وحدها أن تـثير الضحك في السّامع دون الإحالة على قصص هزليّة بعينها أو على مشاهد طريفة محدّدة، معنى ذلك أنّها أصبحت تجسّد بنية صوريّة تجريديّة (2) لدى المتقبّل، نواتها الأساسية الغرابة والضّحك، وهذه البنية الصورية هي التي تحدّد « جنس » (3) النّادرة وهي التي توجه السامع أو القارئ إلى نمط معيّن من الخطاب.
إن البحث في نوادر البخلاء يجعلنا نتساءل عن « الفلسفة » التي جعلت الجاحظ يختار موضوع البخل لتأليف كتاب كامل في الغرض، وعن « فلسفته » في التخطيط لهذا الكتاب، أي يمكن أن نتساءل عن القواسم المشتركة بين نصوص النوادرالمختلفة، ماذا تمثل بالنسبة إلى بعضها البعض من جهة وبالنسبة إلى الكتاب برّمته من جهة أخرى؟ وبالنسبة إلى « جنس » النادرة من جهة ثالثة؟
يذهب شارل بلاّ في مؤلفه (4) «le milieu basrien et la formation de Gahiz» إلى أن ظاهرة البخل التي أسّس عليها الجاحظ كتاب البخلاء كانت صفة ممّيزة للطبقة البرجوازية التي أثرت بفضل اقتصادها المفرط، معنى ذلك أنّ البخل شكل منهجا اقتصاديّا وسلوكا حياتيا وحضاريا استطاع أصحابه بواسطته أن يثبتوا شخصيتهم إزاء قوة النفوذ العربي الثقافي والسياسي والدّيني.وتبعا لذلك دخلت ظاهرة البخل في صراع عنيف مع محور القيم الأخلاقية العربيّة ألا وهو الكرم. وفي هذا المقام يذهب فاروق سعد إلى أنّه « من المؤكد أن هذه الآفة الزمنيّة قد أوحت الاشمئزاز إلى نفوس العرب المعروفين بطبيعتهم السّمحة وميلهم الوراثي للكرم والجود، اذ لا ريب في أنّهم لم يأتلفوا وهذه النّظرية الجديدة ثمّ ما لبث أن تحوّل فضولهم ودهشتهم إلى حقد على البخل والبخلاء نما في إطار الشعوبية الطبيعي» (5).
فهذا الجدل الذي كان قائما إذن بين الكرم والبخل هو في الحقيقة تجسيد لتقابل قيميّ يستهدف أساسا الطّعن في ركيزة سلّم القيم الأخلاقية العربيّة ألا وهي الكرم وليس تمجيد الموالي للبخل واعتزازهم به إلاّ إدانة بالخُـلف للكرم العربيّ باعتباره سلوكا في الحياة العربيّة وفلسفة في الوجود وسمة مميّزة «للطّبيعة» العربيّة.
أمّا المستوى الثاني في التقابل والتوتّر فهو ذو صبغة دينية، وإذا كان بعض الشعراء الموالي (الفرس) كبشار بن برد (6) وأبي نواس (7) قد اتخذوا من المقدّس الدّيني مطيّة للسّخرية والاستهزاء، فإنّ « البخلاء » قد عارضوا بفلسفة بخلهم النظرة الدّينية الإسلامية الدّاعية إلى اعتناق فلسفة الكرم، وتحرير النفس من قيود الشح وسلطان البخل والتقتير، قال تعالى: « فاتّقوا اللّه ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا، ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون» (سورة التغابن، الآية 16).
وفي سياق سورة «محمد» يأتي التقابل بين الإنفاق والبخل بكيفية مباشرة، يقول تعالى: « وهَا أنتُمْ هَؤُلاَءِ تُدعون لتنفقوا في سبيل اللّه فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، واللّه الغنيّ وأنتم الفقراء » (الآية38).
والطريف في موضوع البخل ضمن هذا السياق المتشابك الذي تتنازعه الأطراف الدّينية والاجتماعية والسّياسية والاقتصاديّة (8) أن الجاحظ اهتدى بذكائه الحادّ إلى أنّ ظاهرة البخل تشكّل الموضع البؤري (focal) الذي تجسّدت فيه كل المتناقضات والصّراعات داخل المجتمع العربيّ الاسلاميّ بتباين أجناسه، وهو مادفع طه الحاجري إلى اعتبار أن الجاحظ «أخذ هذا الموضوع الذي كان أكبر مثارة لشّهوات السياسية والعنصريّة، والذي كان جديرا أن يثير عوامل المشاقة والمخاصمة فجعله موضوعا أدبيّا خالصا ومتعة فنيّة رائعة، وكان رهينا بالأغراض الموقوتة التي أثير من أجلها» (9).
وكون الجاحظ قد جعل البخل موضوعا لكتابه فهذا لا نزاع فيه وإن كان في حاجة ماسّة للتوضيح والكشف، أمّا كون الموضوع « أدبيّا خالصا » فهذا حكم تقليصيّ يحدّ من أبعاد إشكاليّة البخل ويفرغها من دلالات كثيرة (10).
ولنا أن نعود الآن إلى فلسفة نصّ « البخل » أو فلسفة « نادرة البخيل » عند الجاحظ.
يقول الجاحظ في مقدّمة «البخلاء» (ص6) محدّدا طبيعة الضّحك وباحثا عن مبرّر مقنع لموضوع كتابه ولمنهجه في تأليفه: « وهو شيء في أصل الطّباع، وفي أساس التركيب، لأن الضحك أوّل خير يظهر من الصّبي وبه تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علّة سروره ومادّة قوّته»، ومن الباحثين من يذهب إلى أنّ الجاحظ لم يكتب نوادر البخلاء على غير نهج؛ ولا سلك في وضعها مسلك الجاهل بسنن التنادر بل كان في توليدها عليما موفيا لشرائطها محيطا بكلّ ما يكفل للنّوادر حسن الموقع عند من يتقبلها (11) ويؤكد الجاحظ أنّ أسلوبه ـ كما هو معلوم ـ يعتمد على المزج بين الهزل والجدّ والضحك والبكاء، ويفسّر Ch. Pellat ذلك بقوله: « إنّ هذا الإلحاح الذي نعدّه اليوم ممتنع الوجوب، كان في زمن الجاحظ أمرا ضروريّا لأنّ الهزل بعامّة مكروه عند العرب لعدم ملاءمته للحلم والوقار» (الجاحظ، ص389) ويعلّل الجاحظ مذهبه في الكتابة بأنّ الجدّ الدّائم متعب مملّ، وأنّ في الهزل راحة وفي المزاح استجماما.ونحن نعتقد أن المهمّ في كلام الجاحظ ضمن هذا السّياق لا يكمن في ماذهب إليه Pallat من أنّ « الهزل بعامّة مكروه عند العرب» (إن صحت هذه المقولة) وإنّما يتمثل في التناول الجدلي لظاهرة الهزل في علاقتها بالجدّ، ولظاهرة الضحك في علاقتها بالبكاء، وهذا التناول الجدلي متأصل في التفكير الجاحظي (12) بل إنّه يشكّل في نظرنا موطن الإضافة والطّرافة في الفكر الجاحظي عامّة.
وتصوّر «نصّ» النادرة لم يشذّ عن هذا التفكير الجدلي، ذلك أنّ النصوص الواردة في كتاب « البخلاء » تنقسم إلى نوعين متمايزين: النوع الأوّل عبارة عن مجموعة من الرّسائل والوصايا والرّدود، وكلّ هذه « الأنماط » تجسّد الجانب النظري لفلسفة البخل والأسس التنظيرية التي بنى عليها البخلاء «نظريّتهم» في البخل.
أمّا النوع الثاني فهو عبارة عن أخبار وقصص ونوادر قصيرة تصوّر حياة البخيل اليوميّة والعمليّة، وانطلاقا من هذين النوعين ألمع الجاحظ في مقدّمة مؤلفه إلى نمطين من النصوص : أوّلا الاحتجاجات وثانيا القصص (13) وهو التقسيم الذي تبنّاه أحمد بن امبيريك في مصنّفه «صورة بخيل الجاحظ الفنّية»، (ص 129).
أمّا الاحتجاجات فقد وردت في شكل «وحدات كلاميّة» مطوّلة طبقا لطبيعة نوعيّتها من جهة، ولخصوصيّة الأهداف التي من أجلها وضعت من جهة أخرى. وقد نسبها الجاحظ إلى أعلام معروفين كسهل بن هارون والكندي والثوري وخالد بن يزيد. ومن الخصائص الشكليّة التي تتميّز بها الاحتجاجات الاستخدام المكثّف للأساليب الإنشائية التي من خصائصها أنّها لا تقبل التصديق والكذب، وكذلك المقابلة وإقامة الحجج والبراهين، وطرح الاحتمالات المختلفة وتوليد بعضها من بعض، وفي هذا السياق نتبيّن الخلفيّة الفلسفيّة والكلاميّة والحجاجيّة التي يتميز بها تكوين الجاحظ، وقد وقف بن امبريك على ذلك قائلا : « ونحن نعلم أنّ الجاحظ قد عاش في بيئة كلاميّة معتزلية، كما قد يكون تأثّر بالمدرسة الأثينية السفسطائيّة التي كانت تعلم شباب أثينا البيان…» (14).
وأمّا « القصص » فقد استغرقت نصف الكتاب تقريبا، وقد وردت في شكل قصص قصيرة ونوادر تصوّر حياة البخيل وكيفيّة عيشه والمحيط الذي ينتمي إليه، وتتّصف هذه القصص ببساطة الوحدات السّردية وكثرة الأساليب الخبريّة وواقعيّة الوصف والتصوير، وذلك سعيا من الجاحظ إلى نقل صورة البخيل كما تجسّدت في الواقع دون أن يتصرّف في أبعادها وخصائصها.
من تلك القصص قصة زبيدة بن حميد الصّيرفي، وقصّة أحمد بن خلف، وقصّة ليلى الناعطيّة، وقصّة خالد بن عبد اللّه القسري، وقصّة الأصمعي وغيرها.
وهذه النصوص السّرديّـة المفردة، المختلفة أنماطها إذ فيها الخبر والطرفة والنّادرة، تنتمي كلّها في الحقيقة إلى نص جامع هو «نصّ البخل» الذي جعله الجاحظ « كتابا» للبخل والبخلاء معا. فليست النصوص المفردة إذن إلاّ استدلالات مختلفة لظاهرة واحدة ولكنّها ظاهرة شديدة التعقيد، متعدّدة الأبعاد. ومن هنا يأتي دور الجاحظ في اختيار تلك النوادر دون غيرها، وصياغتها صياغة فنيّـة ترتقي بها إلى درجة « الأدب» وتجعلها جزءا من الثقافة المكتوبة، وتوضّح في الآن نفسه سرّا من أسرار ظاهرة البخل (15). ولعلّ بعض الجمل التي يستهلّ بها الجاحظ نوادره تؤكّد لنا العلاقة المتينة بين النصّ المفرد والنص الجامع. من ذلك قوله في مستهل نادرة « الحزامي »: « وأمّا أبو محمّد الحزامي..» (16) أو قوله في نادرة أخرى: « ومن أعاجيب أهل مرْو» (17) بما تفيده «أمّا» من تفصيل و «من» من تبعيض.
وهذا التصوّر الكليّ لنصوص البخل يؤكد لنا مرّة أخرى استراتيجيّـة اختيار موضوع البخل أوّلاً، واختيار نصوص البخل وصياغتها صياغة أدبيّـة راقية ثانيا. فليس الجاحظ إذن بريئا في اختيار الموضوع ولا في اختيار نصوص النّوادر.
وفي هذا السّياق اللّصيق بخصوصيّات «النصّ» لا بدّ أن نثير إشكالية العلاقة بين الشفويـّة والكتابة. فلا شكّ أن النوادر التي أوردها الجاحظ في « البخلاء » ترجع إلى أصول شفويّـة، ولكنّ انتقالها من الشفويـة « الساذجة » إلى الكتابة الأدبيّـة والواعية والراقية يجعلنا نقف على النّسبة الكبيرة في تدخّل الجاحظ في صياغة نصوص تلك النوادر. إذن فلم يكن الجاحظ مجرّد راو لنوادر البخلاء، وإنّما كان « مبدعا » لها إلى حدّ كبير، هذا بالإضافة إلى النوادر التي يكون فيها الجاحظ شخصيّـة من الشخصيات النادرة، وطرفا من أطرافها.
حركيّـة «النصّ» في النادرة :
تستمدّ حركيّـة النص في النّادرة فعاليتها ضمن كتاب «البخلاء» للجاحظ من عدّة جدليّـات حسب طبيعة النّادرة ومضمونها، وحسب البنية الفنيّـة التي صيغت عليها، من ذلك على سبيل المثال جدلية البخل والكرم (18) حيث يضع الجاحظ وجها لوجه الظّاهرتين في صراع داخلي وخارجي مباشر، أو جدليّـة التخفّي والانكشاف، والظاهر والباطن حيث تنتهي النّادرة بانكشاف أعماق البخل في شخصية البخيل. ومن الطريف أن نشير في هذا السياق إلى أنّ «الكون النفسيّ» الذي يعيش فيه البخيل متآلف العناصر ومنسجم تمام الانسجام، لأنّ البخيل كما صوّره الجاحظ ليس واعيا بتناقضاته. ولقد سعى الجاحظ بدقّة وصفه لحركات البخيل وسلوكه وأساليب تفكيره وطرق تعبيره، ومواقفه، وردود فعله وأحاسيسه وانفعالاته، إلى هتك سرّ ذاك التناقض، وكشفه لعين القارئ بطريقة فنيّـة تشخيصية مثيرة للضحك والهزل.
إنّنا نعتقد أن الجاحظ قد استطاع أن يرتقي بتناقضات البخيل الباطنة والظاهرة إلى أقصى مرتبة من الحدّة والتوتر حيث تحوّل من المجال الفردي والاجتماعي إلى المجال الديني والعقدي أي إلى مجال « المقدّس » وتصبح الإشكالية حينئذ تتنزّل في حيّز ثنائـيّـة خطيرة هي ثنائـيّـة الإيمان والزندقة، وهو ما دفع محمد الجويلي إلى استنتاج « أنّ أهمّ ما يميّز هذا الصراع هو وصوله إلى الدين ذاته الذي يستقطب كل كبيرة وصغيرة في الحياة العربية الإسلامية. ولذلك اتخذ الصراع طابعا خطيرا في حضارة تـمتـزج فيها الدنيويّ بالأخروي.» (19). ومن يتتبّع نوادر « البخلاء » يلاحظ أن لجدليّة « المقدّس والمدنّس » حضورا مكثّفا في هذا « الجنس السرديّ » يرد تارة في شكل هامشي ولكنّه وظيفي ودقيق مثلما هو الشأن في نادرة المروزي والعراقي فقد قدّم الجاحظ المروزي بقوله: « وذلك أن رجلا من أهل مرو كان لا يزال يحجّ ويتّجر..» (20). وبين الشذوذ والتوتر والتناقض في مستويين : المستوى الأوّل يستقطبه الناسخ «لا يزال» وهو يدلّ على تكرّر وقوع الحدث واستمراريته بحيث يفقد هذا الطقس «طرافته» باعتبار ندرة حدوثة وصعوبة تحقيقه، ولذلك كان الحج فريضة ولكن على من استطاع إليه سبيلا.
أمّا المستوى الثاني فيستقطبه الفعل «يتّجر»، وإذا كان الفعل «يحجّ» مرتبطا عامّة بشعيرة إسلاميّـة يقصد بها وجه الله مطلقا ومن هنا نتبيّن قداسة (21) فإنّه في هذا السياق نجده قد ارتبط بالتّجارة، إذا يصبح الهدف من الحج هو التجارة وبذلك ينتقل البخيل من الوجهة الأخرويـة أي مجال الآخرة إلى مجال الدّنيا ليشذّ عن جموع الحجيج الذين تردّد قلوبهم وألسنتهم كلمات الله وهو إلى جانبهم يردّد في قلبه صفقات المال تماما مثلما شذّ في سلوكه عن عادات العرب وقيمهم. ولكنّ النادرة ينبغي أن تكون شاذة وإلاّ فما كان لها أن تكون.
غير أنّ التوتر يزداد حدّة إذا استحضرنا الرّبط المباشر بين فعلي « الحجّ والاتّجار » من جهة والناسخ « لا يزال » من جهة أخرى، ذلك أن الناسخ يفرغ مفهوم الحج من قداسته، إذا يصبح في نظر البخيل مجرّد مصدر لتثمير المال، لا وسيلة لتطهير النفس وتهذيبها والسموّ بها إلى محبّة الذات الإلهيّـة. إن هذا التقابل بين المقدّس والمدنّس يضع محبّـة الذات الإلهيـة وجها لوجه مع محبّة المال، والحجّ بهذا الشكل مرفوض لأنّه لا يقصد به أصلا وجه اللّه عزّ وجلّ.
وإذا كانت جدلية المقدّس والمدنس كما رأينا سلفا تؤطر النادرة وتوجهها فحسب، فإنّها في « قصّة أهل البصرة من المسجديّين » (22) أصبحت تمثّل البنية السطحيّـة والبنية العميقة للنّادرة. وكان عنصر « الماء » بمايتضمّنه من دلالات على الصفاء والطهارة (23)، السياق الذي فجّر فيه الجاحظ كيان البخيل القائم على التناقض مخرجا إيّاه في صورة الكائن «المدنّس».
إنّ أول توتر في هذه النادرة يظهر في التّسمية نفسها، فهؤلاء البخلاء يُسمّوْنَ المسجديين لكثرة ملازمتهم المسجد، وكثرة حلقاتهم به، ولكنّ ملازمة المسجد توازيها في الآن نفسه ملازمة البخل، بل إنّ ملازمة المسجد موظّفة لخدمة «فلسفة البخل» وبذلك تنزاح الملازمة عن وظيفتها التعبديّة، و «ينزاح» بيت الله عن قداسته ليصبح مجرّد مكان تعقد فيه الحلق، حلق درس البخل وقضاياه، لا حلق الفقه والدّين وهذه الصورة المكانيّـة التي يحلّ فيها البخل في صلب النواة التي تقوم عليها الحضارة الاسلاميـّـة، ألا وهي المسجد، تعكس ببلاغة عجيبة الكيفية التي تحرّك بها البخلاء داخل المنظومة العربية الاسلاميّـة، دون أن يحدث ذلك كثيرا من التوتر في الظاهر، فهذه حلقات البخل تتزامن مع حلقات الفقه والدين. ومكانهم الصوريّ « المدنّس » يوازي بيت الله « المقدّس » بل إن الجاحظ يتّخذ من رؤية البخيل مطيّة لإبراز أنّ البخل عند البخيل هو « المقدّس » وأنّه يكفي أن نغيّر زاوية النظر حتّى تنقلب الظاهرة إلى ضدّها. وهذا ما يؤكده لنا تعريف الجاحظ لفلسفة البخل عندهم يقول: « وكان هذا المذهب عندهم كالنسب الذي يجمع على التحاب وكالحلف الذي يجمع على التناصر» (24). وبذلك يصبح البخل أكثر فاعليّـة من الكرم ضديد البخل لأنه لا يعير قيمة لقداسة النسب، ولا لقداسة الحلف، وهذا يعني أنّ الصراع الذي كان قائما بين البخل والكرم والذي يبدو في الظاهر أخلاقيا صرفا لم يكن في العمق إلاّ صراعا سياسيّا.
ولقد مرّر الجاحظ بكثير من الذّكاء المضمون السياسي من خلال لفظتين مفعمتين بطاقة تدْلاليّـة (25) كبيرة وهما « التحابّ » و « التّناصر» « فالتحابّ » في البخل عند البخلاء يقابل التحاب في الدّين بين المسلمين وتأليف القلوب بواسطة «التحابّ» هو اللّبنة الأولى في تشكيل القوّة، ثم يأتي التناصر ليخرج الإيمان من حيّز القلب إلى حيز الفعل، على هذا النحو يصبح التّناصر تصوّرا آخر لمفهوم «الجهاد»، إنّه «الجهاد المضادّ»، ثمّ يأتي الفعل «يجمع» ليحيلنا على الخلفية البعيدة التي تنطلق منها فلسفة البخل، فليس هناك جمع إلا بعد تفرّق وتشتت، وقد فرق الإسلام صفوف الفرس، ومزّق أوصال امبراطوريتهم العظيمة، وفتت ديانتهم. إذن كان لا بد من جمع ما تفرّق، ورتق ما تمزّق، وجبر ما تفتت، إنّه الحلم باترجاع المجد الفارسي، وجمع الشمل بالتجمع في المساجد، والتجمع حول البخل، وعقد الحلقات. وبذلك تستوي المقابلة الصّارخة بين فلسفة « البخل الجامع » و« فلسفة » مسجد الجامع. ثم لا ينبغي أن ننسى أيضا أنّ البخلاء هم « أصحاب الجمع والمنع » نعم جمع المال ومنعه، ولكنه جمع للمناصرة. ولـمّا يئس الفرس من مجابهة القوّة الرّوحية الإسلامية العربية لأنها تستمد طاقتها من الله، ومن الرّسول وقد اختاره الله عربيا ولكن للناس كافة، ومن القرآن الكريم وقد نزل بلسان عربي مبين، استندوا حينئذ إلى القوة المادية الدنيوية أي إلى قوة «المال» مستغلّين في ذلك موقف الإسلام المتحرّر في التجارة عامّة.
والبخل ليس قوة ماديّـة فحسب بل هو «فلسفة» و»عقيدة» وهم - أي البخلاء - كانوا كما يقول الجاحظ: «إذا التقوا في حلقهم تذاكروا هذا الباب وتطارحوه وتدارسوه »(26). وغايتهم من ذلك لخّصها الجاحظ في شيئين أساسيين : أوّلا « التماسا للفائدة » وهذه الفائدة هي التي تجسّد البعد العلي لفلسفة البخل، أمّا الفائدة الثانية فهي كما يقول الجاحظ على لسان أحد « المسجديّين » « استمتاعا بذكره » فلذكر البخل وأخباره في نفس البخيل حلاوة تشبه حلاوة الذكر الحكيم في نفس المؤمن.
إنّ إشكالية هذه النادرة في الحقيقة تكمن في أنها تقوم على عنصر «الماء» قوام الحياة الرّوحية في الإسلام، الماء من حيث هو رمز للطّهارة، لذلك ارتبطت العبادات جميعا تقريبا بالتطهّر. والماء الذي يتطهّر به الإنسان يزيل ما علق بجسده من دنس، وبذلك يصبح الماء وسخا، أمّا البخيل فيرى شيئا آخر، يقول : «كنت أنا والنعجه كثيرا ما نغتسل بالعذب مخافة أن يعتري جلودنا منه (الماء المالح) مثل ما اعترى جوف الحمار. فكان ذلك الماء العذب الصّافي يذهب باطلا» (27). فهل يبقى الماء بعد الاغتسال به عذبا فضلا عن الصّفاء؟! وذهاب الماء «العذب» و«الصافي» بهذا الشكل اعتبره البخيل «باطلا» والمصطلح دينيّ يأتي في مقابل «الحقّ» ويأتي مرادفا للإسراف والتبذير. ولكنّ هذا الذي رآه البخيل «باطلا» هو حقّ من وجهة نظر إسلاميّـة، لأنّ الجنب مطالب بالاغتسال (28) غير أنّ البخيل ينطلق من منطلق آخر، ذكره ضمنيّا في قوله : «وكنت أن والنعجة كثيرا ما نغتسل بالعذب»، وكثرة الاغتسال هذه هي التي تجعل فعل الاغتسال لا يقوم بوظيفته الحقيقيّـة أي بوظيفة التطهير، وبذلك نسقط في التبذير أي في الباطل. هكذا نتبيّن كيف يبقى الماء عذبا صافيا، وهو في الواقع مدنّس. و«الباطل» لا بدّ من معالجته «بالاصلاح» وهذا «الاصلاح» لم يجعله البخيل نابعا من ذاته اتقاء لكلّ شبهة بل جعله بمثابة الإلهام الذي نزل عليه من السّماء، يقول «فانفتح لي فيه باب من الإصلاح» فعمدت إلى ذلك المتوضّإِ فجعلت في ناحية منه حفرة وصهرجتها وملستها حتّي صارت وكأنّها صخرة منقورة وصوّبت إليها المسيل...»(29). وإذا كان الماء يغتسل به العربي المسلم يصبح مدنّسا، فإن الماء يغتسل به البخيل الفارسيّ يصبح طاهرا، معنى ذلك أن جسد الفارسيّ طاهر بذاته، ومطهر للماء الذي يغتسل به.
ثمّ ينتقل البخيل من الخطاب السّرديّ إلى الخطاب الاستدلالي، وينطلق من المقارنة بين جلد المتغوّط وجلد الجنب، فالمتغوّط نتن ولكنّه ليس مطالبا بالاغتسال والجنب في نظر البخيل غير نتن ولكن فرض عليه الاغتسال. إن البخيل يناقش إذن حكم اغتسال الجنب لأنه يتناقض مع فلسفة البخل، ولسبب آخر أعمق سنذكره في آخر التحليل.
ويسوي البخيل في نهاية الاستدلال بين جلد المتغوّط وجلد الجنب حتى يتسنّى له إخراج الماء في صورة السّائل «الطاهر» «فمقادير طيب الجلود واحدة والماء على حاله». وبذلك ينتفي الخلاف بين الماء المدنّس والماء الطّاهر، بل إنّ الماء المدنس في نظر البخيل طاهر.
يستخدم البخيل في الدّفاع عن رؤيته وموقفه ثلاثة أنماط من الاستدلال :
أوّلا استدلال مضحك لأنّه يأتي على لسان الحيوان «والحمار أيضا لا تقزّز له من ماء الجنابة» ولكنّه في نفسه عميق الدلالة، لأن الحمار يمثل الطبيعة الفطريّة الحيوانية التي يشترك فيها معه الإنسان، وبما أنّ الحمار لم يتقزز من الماء فإنّ الإشكال إذن يأتي من منطلقات الحكم على الماء لا من الماء نفسه.
أمّا الاستدلال الثاني فينطلق من ذات البخيل نفسه بدليل قوله : «وليس علينا حرج في سقيه منه» (30) وفي هذا السياق يسوّي البخيل بينه وبين الحمار لإثبات صحة «الحكم» الطّبيعيّ، وليرفع عن نفسه أي حرج في ذلك.
أمّا الاستدلال الثالث فيستند إلى المصدرين الأساسيّين في التشريع الإسلامي وهما الكتاب والسنّة وبما أنّ الكتاب لم يحرّم سقي الحمار من ماء الجنابة ولا نهت عنه السنّـة، فهو إذن جائز، ولكنّ جوازه لا يأتي فقط من عدم التحريم وعدم النهي، بل يأتي من الأصل الثالث وهو الإجماع. يبدو ذلك في قول السّارد في خاتمة النادرة : «قال القوم هذا بتوفيق اللّه ومنّه» (31).
بهذه الجملة تبلغ جدليّة المقدّس والمدنّس درجتها القصوى حيث يصبح الماء المدنس في نظر القوم أجمعين منّة من الذات الإلهيّـة المقدّسة، ويصبح اللّه عزّ وجلّ «طرفا في عمليّـة البخل نفسها أليس هذا ضربا من الزّندقة» ؟!
وهذه النتيجة التي انتهينا إليها انطلاقا من تحليلنا لهذه العيّنة تتجاوز النتيجة التي توصّل إليها أحمد بن امبيريك في قوله : «فخطاب البخيل وتصرّفاته وجميع حياته يطبعها طابع دينيّ، ولكنّنا لا نجد أثرا لهذا الطابع في عالمه الدّاخلي فهل يكون دين البخيل حاضرا في كلّ شيء إلا في قلبه ؟» (32) ذلك أنّ المسألة تعدّت حدود الاعتقاد أو عدمه إلى الطعن في المقدّس الديني والاستخفاف به.
إنّ تركيز البخيل في هذه «النادرة» على عنصر الماء مقصود لأنّ الماء هو قوام العبادات في الاسلام، وبدونه تفقد العبادات قداستها، ولكنّ الماء الطاهر والمطهّر يأتي في مقابل النار التي قامت عليها الدّيانة المجوسيّـة (33).
أفلا يكون هذا النفور من الماء ومن الأحكام المعلّقة به تعبيرا بالخلف عن الحنين إلى الديانة المجوسيّـة ؟
لقد كان انطلاقنا من نصّ «النادرة»، والنادرة كجنس أدبي تقوم على الضحك والإضحاك، ولكنّ هذا الضحك جعله الجاحظ مُرّا لأنه كشف به حقيقة البخيل العميقة، حقيقته المتناقضة بين الانتماء إلى المنظومة العربيّـة الاسلاميّـة والانفصال عنها. إن النصّ يُفهم بما يحيل عليه ويوحي به أكثر ممّا يفهم بما فيه أو بما يصرّح به.
وقد استمدّ النصّ من مادته اللغوية مدلولين أساسيين أوّلا مفهوم العلامة (نص ينص أي يدلّ) ومفهوم
وقد استمدّ النصّ من مادته اللغوية مدلولين أساسيين أوّلا مفهوم العلامة (نص ينص أي يدلّ ) ومفهوم الحركيّة (نصّ ينصّ أي يجري ) وبين العلامة التي تُقيّد وتحدّد وتدلّ (34) والحركيّة التي لا تستقرّ على حال مجال واسع للتأويل، وفضاء رحب تجد القراءة فيه مرتعا عجيبا و مسرحا فسيحا.
الهوامش والإحالات
1) Abstraite.
2) Structure formelle.
3) Genre.
4) شارل بلاّ:Ch. Pellat: le milieu basrien et la formation de Gahiz-librairie Adrien-Maisonneuve, Paris 1953
نقلة إلى العربية ابراهيم الكيلاني، تحت عنوان الجاحظ في البصرة وبغداد وسامرّاء، دار الفكر، ط 1، 1985
5) فاروق سعد، مع بخلاء الجاحظ، ط 4 بيروت، 1983، ص ص 17-18، دار الآفاق الجديدة.
6) في هذا السياق يقول بشار (الكامل) :
إبليسُ أفضلُ من أبيكمُ آدَم فتبيّنُوا يامعشَرَ الأشرَارِ
النّارُ عنصـرُهُ، وآدمُ طينــة والطّين لا يسْمو سمُوّ النار
أنظر أيضا قصيدته في هجاء أعرابيّ، الدّيوان، تحقيق الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ج3، ص 207.
7) أنظر على سبيل المثال داليتة الشهيرة ضمن مجاني الأب شيخو، شعراء العراق ص 52 وكذلك سينيّته ضمن الدّيوان ص 37 تحقيق الغزالي ـ دار الكتاب العربي، بيروت 1984.
8) محمد الجويلي، نحو دراسة في سوسيولوجيّة البخل، الدار العربيّة للكتاب 1990 ص 176.
9) مقدّمة كتاب «البخلاء» تحقيق طه الحاجري، ص33 (ط7).
10) محمد الجويلي، سوسيولوجيّة البخل، ص43.
11) مقدّمة «البخلاء» ص6.
12) أنظر في هذا السياق : علي بوملحم : المناحي الفلسفيّة عند الجاحظ. دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط. 2، 1988، ص 298 (الجدليّة).
ـ حول مفهوم الضحك أنظر : اندريه جيبسون André Gipson :ملاحظات عن القصة والفكاهة، ترجمة نصر أبوزيد مجلة فصول، م. II، ع 2، 1985، ص 176.
13) البخلاء، الـمقدمة، ص 5 (ط. 7)
14) أحمد بن امبيريك، صورة البخيل الفنية، ص 129.
15) يوزّع عبد الفتاح كيليطو النوادر إلى نوعين : «النوادر المعتمة» وهي التي ليس فيها دليل على أربابها والنوادر «الشفافة» وهي المرتبطة بأصحابها. وإذا كان كيليطو يقلل من شأن النادرة «المعتمة» فإنّها في نظرنا تقوم بنفس الوظيفة التي تقوم بها النادرة «الشفافة» في علاقتها بالنصّ «الجامع» أي «نص البخل» أنظر مصنّف كيليطو : الكتابة والتناسخ ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، ط. دار المعارف ص ص 70- 71.
16) الجاحظ، البخلاء، ط.دار المعارف ص 59.
17) المصدر نفسه، ص 22.
18) أنظر قصة المروزيّ والعراقيّ، البخلاء ص 22.
19) محمد الجويلي، نحو دراسة في سوسيولوجيّة البخل، الدار العربيّة للكتاب 1990 ص 217.
20) البخلاء، ص 22.
21) قال تعالى : «وأتِمُّوا الحَجَّ والعمْرَةَ للّه» البقرة، الآية 196.
22) البخلاء، ص 29.
23) Voir Dictionnaire des symboles, Jean Chevalier-A. Cheerbrant. Ed. Robert Laffont S.A.
et Ed. Jupiter, Paris, 1982, (eau) p.295.
حول الطهارة والتّطهّر انظر القرآن الكريم : البقرة، الآية 222، آل عمران الآية 42، التوبة الآية 103، المائدة الآية 41، الأنفال الآية 11، الأحزاب الآية 33، الحج الآية 26، المدثّر الآية 4، الفرقان الآية 48، الإنسان الآية 21.
24) البخلاء، ص 29.
25) التدلال : La signifiance
26) البخلاء، ص 29.
27) المصدر نفسه، ص 29.
28) قال تعالى {وإنْ كنْتُمْ جُنُبًا فآطّهّرُوا} سورة المائدة : الآية 6.
29) البخلاء، ص 29.
30) البخلاء، ص 29.
31) المصدر نفسه، ص 29.
32) صورة بخيل الجاحظ الفنيّـة، ص 65.
33) ذكرت عائشة عبد الرحمن أنّ بشار بن برد كان يتعصّب للنار علي الأرض ويصوّب رأي «أبليس» في امتناعه عن السجود لآدم ومّا يروى في ديوانه : [البسيط] الأرض مظلمةٌ والنارُ مشرقةٌ والنّارُمعبودةٌ مذْ كانت النّارُ
أنظر رسالة الغفران للمعرّي، دار المعارف، ط7، ص 310.
34) من هنا أتت عبارة «لا اجتهاد مع النصّ» (عند الأصوليين).
* عن الحياة الثقافية - تونس ع/184 - يونيو 2007
أمّا المحور الثاني فيتعلّق بكتاب «البخلاء» حيث ترتبط لفظة «النوادر» مباشرة بقطبين هزليّين، الأول يتمثل في « البخلاء » باعتبارهم أشخاصا كسهل بن هارون والكندي، ثم باعتبارهم عنوانا لكتاب حيث يقع تجريدهم من شخصانيّتهم ليصبح الدال ذا دلالة تجريديّة (1) رمزيّة تنصهر فيها تدلاليّة الأسماء وتذوب في بوتقة اسم البخل نفسه. البخلاء إذن هم البخل مشخّصا أو البخل مطلقا.
فإذا صرفنا النظر الآن عن جدليّة «المقدّس والمدنس» فإنّ لفظة « نوادر » بإمكانها وحدها أن تـثير الضحك في السّامع دون الإحالة على قصص هزليّة بعينها أو على مشاهد طريفة محدّدة، معنى ذلك أنّها أصبحت تجسّد بنية صوريّة تجريديّة (2) لدى المتقبّل، نواتها الأساسية الغرابة والضّحك، وهذه البنية الصورية هي التي تحدّد « جنس » (3) النّادرة وهي التي توجه السامع أو القارئ إلى نمط معيّن من الخطاب.
إن البحث في نوادر البخلاء يجعلنا نتساءل عن « الفلسفة » التي جعلت الجاحظ يختار موضوع البخل لتأليف كتاب كامل في الغرض، وعن « فلسفته » في التخطيط لهذا الكتاب، أي يمكن أن نتساءل عن القواسم المشتركة بين نصوص النوادرالمختلفة، ماذا تمثل بالنسبة إلى بعضها البعض من جهة وبالنسبة إلى الكتاب برّمته من جهة أخرى؟ وبالنسبة إلى « جنس » النادرة من جهة ثالثة؟
يذهب شارل بلاّ في مؤلفه (4) «le milieu basrien et la formation de Gahiz» إلى أن ظاهرة البخل التي أسّس عليها الجاحظ كتاب البخلاء كانت صفة ممّيزة للطبقة البرجوازية التي أثرت بفضل اقتصادها المفرط، معنى ذلك أنّ البخل شكل منهجا اقتصاديّا وسلوكا حياتيا وحضاريا استطاع أصحابه بواسطته أن يثبتوا شخصيتهم إزاء قوة النفوذ العربي الثقافي والسياسي والدّيني.وتبعا لذلك دخلت ظاهرة البخل في صراع عنيف مع محور القيم الأخلاقية العربيّة ألا وهو الكرم. وفي هذا المقام يذهب فاروق سعد إلى أنّه « من المؤكد أن هذه الآفة الزمنيّة قد أوحت الاشمئزاز إلى نفوس العرب المعروفين بطبيعتهم السّمحة وميلهم الوراثي للكرم والجود، اذ لا ريب في أنّهم لم يأتلفوا وهذه النّظرية الجديدة ثمّ ما لبث أن تحوّل فضولهم ودهشتهم إلى حقد على البخل والبخلاء نما في إطار الشعوبية الطبيعي» (5).
فهذا الجدل الذي كان قائما إذن بين الكرم والبخل هو في الحقيقة تجسيد لتقابل قيميّ يستهدف أساسا الطّعن في ركيزة سلّم القيم الأخلاقية العربيّة ألا وهي الكرم وليس تمجيد الموالي للبخل واعتزازهم به إلاّ إدانة بالخُـلف للكرم العربيّ باعتباره سلوكا في الحياة العربيّة وفلسفة في الوجود وسمة مميّزة «للطّبيعة» العربيّة.
أمّا المستوى الثاني في التقابل والتوتّر فهو ذو صبغة دينية، وإذا كان بعض الشعراء الموالي (الفرس) كبشار بن برد (6) وأبي نواس (7) قد اتخذوا من المقدّس الدّيني مطيّة للسّخرية والاستهزاء، فإنّ « البخلاء » قد عارضوا بفلسفة بخلهم النظرة الدّينية الإسلامية الدّاعية إلى اعتناق فلسفة الكرم، وتحرير النفس من قيود الشح وسلطان البخل والتقتير، قال تعالى: « فاتّقوا اللّه ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا، ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون» (سورة التغابن، الآية 16).
وفي سياق سورة «محمد» يأتي التقابل بين الإنفاق والبخل بكيفية مباشرة، يقول تعالى: « وهَا أنتُمْ هَؤُلاَءِ تُدعون لتنفقوا في سبيل اللّه فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، واللّه الغنيّ وأنتم الفقراء » (الآية38).
والطريف في موضوع البخل ضمن هذا السياق المتشابك الذي تتنازعه الأطراف الدّينية والاجتماعية والسّياسية والاقتصاديّة (8) أن الجاحظ اهتدى بذكائه الحادّ إلى أنّ ظاهرة البخل تشكّل الموضع البؤري (focal) الذي تجسّدت فيه كل المتناقضات والصّراعات داخل المجتمع العربيّ الاسلاميّ بتباين أجناسه، وهو مادفع طه الحاجري إلى اعتبار أن الجاحظ «أخذ هذا الموضوع الذي كان أكبر مثارة لشّهوات السياسية والعنصريّة، والذي كان جديرا أن يثير عوامل المشاقة والمخاصمة فجعله موضوعا أدبيّا خالصا ومتعة فنيّة رائعة، وكان رهينا بالأغراض الموقوتة التي أثير من أجلها» (9).
وكون الجاحظ قد جعل البخل موضوعا لكتابه فهذا لا نزاع فيه وإن كان في حاجة ماسّة للتوضيح والكشف، أمّا كون الموضوع « أدبيّا خالصا » فهذا حكم تقليصيّ يحدّ من أبعاد إشكاليّة البخل ويفرغها من دلالات كثيرة (10).
ولنا أن نعود الآن إلى فلسفة نصّ « البخل » أو فلسفة « نادرة البخيل » عند الجاحظ.
يقول الجاحظ في مقدّمة «البخلاء» (ص6) محدّدا طبيعة الضّحك وباحثا عن مبرّر مقنع لموضوع كتابه ولمنهجه في تأليفه: « وهو شيء في أصل الطّباع، وفي أساس التركيب، لأن الضحك أوّل خير يظهر من الصّبي وبه تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علّة سروره ومادّة قوّته»، ومن الباحثين من يذهب إلى أنّ الجاحظ لم يكتب نوادر البخلاء على غير نهج؛ ولا سلك في وضعها مسلك الجاهل بسنن التنادر بل كان في توليدها عليما موفيا لشرائطها محيطا بكلّ ما يكفل للنّوادر حسن الموقع عند من يتقبلها (11) ويؤكد الجاحظ أنّ أسلوبه ـ كما هو معلوم ـ يعتمد على المزج بين الهزل والجدّ والضحك والبكاء، ويفسّر Ch. Pellat ذلك بقوله: « إنّ هذا الإلحاح الذي نعدّه اليوم ممتنع الوجوب، كان في زمن الجاحظ أمرا ضروريّا لأنّ الهزل بعامّة مكروه عند العرب لعدم ملاءمته للحلم والوقار» (الجاحظ، ص389) ويعلّل الجاحظ مذهبه في الكتابة بأنّ الجدّ الدّائم متعب مملّ، وأنّ في الهزل راحة وفي المزاح استجماما.ونحن نعتقد أن المهمّ في كلام الجاحظ ضمن هذا السّياق لا يكمن في ماذهب إليه Pallat من أنّ « الهزل بعامّة مكروه عند العرب» (إن صحت هذه المقولة) وإنّما يتمثل في التناول الجدلي لظاهرة الهزل في علاقتها بالجدّ، ولظاهرة الضحك في علاقتها بالبكاء، وهذا التناول الجدلي متأصل في التفكير الجاحظي (12) بل إنّه يشكّل في نظرنا موطن الإضافة والطّرافة في الفكر الجاحظي عامّة.
وتصوّر «نصّ» النادرة لم يشذّ عن هذا التفكير الجدلي، ذلك أنّ النصوص الواردة في كتاب « البخلاء » تنقسم إلى نوعين متمايزين: النوع الأوّل عبارة عن مجموعة من الرّسائل والوصايا والرّدود، وكلّ هذه « الأنماط » تجسّد الجانب النظري لفلسفة البخل والأسس التنظيرية التي بنى عليها البخلاء «نظريّتهم» في البخل.
أمّا النوع الثاني فهو عبارة عن أخبار وقصص ونوادر قصيرة تصوّر حياة البخيل اليوميّة والعمليّة، وانطلاقا من هذين النوعين ألمع الجاحظ في مقدّمة مؤلفه إلى نمطين من النصوص : أوّلا الاحتجاجات وثانيا القصص (13) وهو التقسيم الذي تبنّاه أحمد بن امبيريك في مصنّفه «صورة بخيل الجاحظ الفنّية»، (ص 129).
أمّا الاحتجاجات فقد وردت في شكل «وحدات كلاميّة» مطوّلة طبقا لطبيعة نوعيّتها من جهة، ولخصوصيّة الأهداف التي من أجلها وضعت من جهة أخرى. وقد نسبها الجاحظ إلى أعلام معروفين كسهل بن هارون والكندي والثوري وخالد بن يزيد. ومن الخصائص الشكليّة التي تتميّز بها الاحتجاجات الاستخدام المكثّف للأساليب الإنشائية التي من خصائصها أنّها لا تقبل التصديق والكذب، وكذلك المقابلة وإقامة الحجج والبراهين، وطرح الاحتمالات المختلفة وتوليد بعضها من بعض، وفي هذا السياق نتبيّن الخلفيّة الفلسفيّة والكلاميّة والحجاجيّة التي يتميز بها تكوين الجاحظ، وقد وقف بن امبريك على ذلك قائلا : « ونحن نعلم أنّ الجاحظ قد عاش في بيئة كلاميّة معتزلية، كما قد يكون تأثّر بالمدرسة الأثينية السفسطائيّة التي كانت تعلم شباب أثينا البيان…» (14).
وأمّا « القصص » فقد استغرقت نصف الكتاب تقريبا، وقد وردت في شكل قصص قصيرة ونوادر تصوّر حياة البخيل وكيفيّة عيشه والمحيط الذي ينتمي إليه، وتتّصف هذه القصص ببساطة الوحدات السّردية وكثرة الأساليب الخبريّة وواقعيّة الوصف والتصوير، وذلك سعيا من الجاحظ إلى نقل صورة البخيل كما تجسّدت في الواقع دون أن يتصرّف في أبعادها وخصائصها.
من تلك القصص قصة زبيدة بن حميد الصّيرفي، وقصّة أحمد بن خلف، وقصّة ليلى الناعطيّة، وقصّة خالد بن عبد اللّه القسري، وقصّة الأصمعي وغيرها.
وهذه النصوص السّرديّـة المفردة، المختلفة أنماطها إذ فيها الخبر والطرفة والنّادرة، تنتمي كلّها في الحقيقة إلى نص جامع هو «نصّ البخل» الذي جعله الجاحظ « كتابا» للبخل والبخلاء معا. فليست النصوص المفردة إذن إلاّ استدلالات مختلفة لظاهرة واحدة ولكنّها ظاهرة شديدة التعقيد، متعدّدة الأبعاد. ومن هنا يأتي دور الجاحظ في اختيار تلك النوادر دون غيرها، وصياغتها صياغة فنيّـة ترتقي بها إلى درجة « الأدب» وتجعلها جزءا من الثقافة المكتوبة، وتوضّح في الآن نفسه سرّا من أسرار ظاهرة البخل (15). ولعلّ بعض الجمل التي يستهلّ بها الجاحظ نوادره تؤكّد لنا العلاقة المتينة بين النصّ المفرد والنص الجامع. من ذلك قوله في مستهل نادرة « الحزامي »: « وأمّا أبو محمّد الحزامي..» (16) أو قوله في نادرة أخرى: « ومن أعاجيب أهل مرْو» (17) بما تفيده «أمّا» من تفصيل و «من» من تبعيض.
وهذا التصوّر الكليّ لنصوص البخل يؤكد لنا مرّة أخرى استراتيجيّـة اختيار موضوع البخل أوّلاً، واختيار نصوص البخل وصياغتها صياغة أدبيّـة راقية ثانيا. فليس الجاحظ إذن بريئا في اختيار الموضوع ولا في اختيار نصوص النّوادر.
وفي هذا السّياق اللّصيق بخصوصيّات «النصّ» لا بدّ أن نثير إشكالية العلاقة بين الشفويـّة والكتابة. فلا شكّ أن النوادر التي أوردها الجاحظ في « البخلاء » ترجع إلى أصول شفويّـة، ولكنّ انتقالها من الشفويـة « الساذجة » إلى الكتابة الأدبيّـة والواعية والراقية يجعلنا نقف على النّسبة الكبيرة في تدخّل الجاحظ في صياغة نصوص تلك النوادر. إذن فلم يكن الجاحظ مجرّد راو لنوادر البخلاء، وإنّما كان « مبدعا » لها إلى حدّ كبير، هذا بالإضافة إلى النوادر التي يكون فيها الجاحظ شخصيّـة من الشخصيات النادرة، وطرفا من أطرافها.
حركيّـة «النصّ» في النادرة :
تستمدّ حركيّـة النص في النّادرة فعاليتها ضمن كتاب «البخلاء» للجاحظ من عدّة جدليّـات حسب طبيعة النّادرة ومضمونها، وحسب البنية الفنيّـة التي صيغت عليها، من ذلك على سبيل المثال جدلية البخل والكرم (18) حيث يضع الجاحظ وجها لوجه الظّاهرتين في صراع داخلي وخارجي مباشر، أو جدليّـة التخفّي والانكشاف، والظاهر والباطن حيث تنتهي النّادرة بانكشاف أعماق البخل في شخصية البخيل. ومن الطريف أن نشير في هذا السياق إلى أنّ «الكون النفسيّ» الذي يعيش فيه البخيل متآلف العناصر ومنسجم تمام الانسجام، لأنّ البخيل كما صوّره الجاحظ ليس واعيا بتناقضاته. ولقد سعى الجاحظ بدقّة وصفه لحركات البخيل وسلوكه وأساليب تفكيره وطرق تعبيره، ومواقفه، وردود فعله وأحاسيسه وانفعالاته، إلى هتك سرّ ذاك التناقض، وكشفه لعين القارئ بطريقة فنيّـة تشخيصية مثيرة للضحك والهزل.
إنّنا نعتقد أن الجاحظ قد استطاع أن يرتقي بتناقضات البخيل الباطنة والظاهرة إلى أقصى مرتبة من الحدّة والتوتر حيث تحوّل من المجال الفردي والاجتماعي إلى المجال الديني والعقدي أي إلى مجال « المقدّس » وتصبح الإشكالية حينئذ تتنزّل في حيّز ثنائـيّـة خطيرة هي ثنائـيّـة الإيمان والزندقة، وهو ما دفع محمد الجويلي إلى استنتاج « أنّ أهمّ ما يميّز هذا الصراع هو وصوله إلى الدين ذاته الذي يستقطب كل كبيرة وصغيرة في الحياة العربية الإسلامية. ولذلك اتخذ الصراع طابعا خطيرا في حضارة تـمتـزج فيها الدنيويّ بالأخروي.» (19). ومن يتتبّع نوادر « البخلاء » يلاحظ أن لجدليّة « المقدّس والمدنّس » حضورا مكثّفا في هذا « الجنس السرديّ » يرد تارة في شكل هامشي ولكنّه وظيفي ودقيق مثلما هو الشأن في نادرة المروزي والعراقي فقد قدّم الجاحظ المروزي بقوله: « وذلك أن رجلا من أهل مرو كان لا يزال يحجّ ويتّجر..» (20). وبين الشذوذ والتوتر والتناقض في مستويين : المستوى الأوّل يستقطبه الناسخ «لا يزال» وهو يدلّ على تكرّر وقوع الحدث واستمراريته بحيث يفقد هذا الطقس «طرافته» باعتبار ندرة حدوثة وصعوبة تحقيقه، ولذلك كان الحج فريضة ولكن على من استطاع إليه سبيلا.
أمّا المستوى الثاني فيستقطبه الفعل «يتّجر»، وإذا كان الفعل «يحجّ» مرتبطا عامّة بشعيرة إسلاميّـة يقصد بها وجه الله مطلقا ومن هنا نتبيّن قداسة (21) فإنّه في هذا السياق نجده قد ارتبط بالتّجارة، إذا يصبح الهدف من الحج هو التجارة وبذلك ينتقل البخيل من الوجهة الأخرويـة أي مجال الآخرة إلى مجال الدّنيا ليشذّ عن جموع الحجيج الذين تردّد قلوبهم وألسنتهم كلمات الله وهو إلى جانبهم يردّد في قلبه صفقات المال تماما مثلما شذّ في سلوكه عن عادات العرب وقيمهم. ولكنّ النادرة ينبغي أن تكون شاذة وإلاّ فما كان لها أن تكون.
غير أنّ التوتر يزداد حدّة إذا استحضرنا الرّبط المباشر بين فعلي « الحجّ والاتّجار » من جهة والناسخ « لا يزال » من جهة أخرى، ذلك أن الناسخ يفرغ مفهوم الحج من قداسته، إذا يصبح في نظر البخيل مجرّد مصدر لتثمير المال، لا وسيلة لتطهير النفس وتهذيبها والسموّ بها إلى محبّة الذات الإلهيّـة. إن هذا التقابل بين المقدّس والمدنّس يضع محبّـة الذات الإلهيـة وجها لوجه مع محبّة المال، والحجّ بهذا الشكل مرفوض لأنّه لا يقصد به أصلا وجه اللّه عزّ وجلّ.
وإذا كانت جدلية المقدّس والمدنس كما رأينا سلفا تؤطر النادرة وتوجهها فحسب، فإنّها في « قصّة أهل البصرة من المسجديّين » (22) أصبحت تمثّل البنية السطحيّـة والبنية العميقة للنّادرة. وكان عنصر « الماء » بمايتضمّنه من دلالات على الصفاء والطهارة (23)، السياق الذي فجّر فيه الجاحظ كيان البخيل القائم على التناقض مخرجا إيّاه في صورة الكائن «المدنّس».
إنّ أول توتر في هذه النادرة يظهر في التّسمية نفسها، فهؤلاء البخلاء يُسمّوْنَ المسجديين لكثرة ملازمتهم المسجد، وكثرة حلقاتهم به، ولكنّ ملازمة المسجد توازيها في الآن نفسه ملازمة البخل، بل إنّ ملازمة المسجد موظّفة لخدمة «فلسفة البخل» وبذلك تنزاح الملازمة عن وظيفتها التعبديّة، و «ينزاح» بيت الله عن قداسته ليصبح مجرّد مكان تعقد فيه الحلق، حلق درس البخل وقضاياه، لا حلق الفقه والدّين وهذه الصورة المكانيّـة التي يحلّ فيها البخل في صلب النواة التي تقوم عليها الحضارة الاسلاميـّـة، ألا وهي المسجد، تعكس ببلاغة عجيبة الكيفية التي تحرّك بها البخلاء داخل المنظومة العربية الاسلاميّـة، دون أن يحدث ذلك كثيرا من التوتر في الظاهر، فهذه حلقات البخل تتزامن مع حلقات الفقه والدين. ومكانهم الصوريّ « المدنّس » يوازي بيت الله « المقدّس » بل إن الجاحظ يتّخذ من رؤية البخيل مطيّة لإبراز أنّ البخل عند البخيل هو « المقدّس » وأنّه يكفي أن نغيّر زاوية النظر حتّى تنقلب الظاهرة إلى ضدّها. وهذا ما يؤكده لنا تعريف الجاحظ لفلسفة البخل عندهم يقول: « وكان هذا المذهب عندهم كالنسب الذي يجمع على التحاب وكالحلف الذي يجمع على التناصر» (24). وبذلك يصبح البخل أكثر فاعليّـة من الكرم ضديد البخل لأنه لا يعير قيمة لقداسة النسب، ولا لقداسة الحلف، وهذا يعني أنّ الصراع الذي كان قائما بين البخل والكرم والذي يبدو في الظاهر أخلاقيا صرفا لم يكن في العمق إلاّ صراعا سياسيّا.
ولقد مرّر الجاحظ بكثير من الذّكاء المضمون السياسي من خلال لفظتين مفعمتين بطاقة تدْلاليّـة (25) كبيرة وهما « التحابّ » و « التّناصر» « فالتحابّ » في البخل عند البخلاء يقابل التحاب في الدّين بين المسلمين وتأليف القلوب بواسطة «التحابّ» هو اللّبنة الأولى في تشكيل القوّة، ثم يأتي التناصر ليخرج الإيمان من حيّز القلب إلى حيز الفعل، على هذا النحو يصبح التّناصر تصوّرا آخر لمفهوم «الجهاد»، إنّه «الجهاد المضادّ»، ثمّ يأتي الفعل «يجمع» ليحيلنا على الخلفية البعيدة التي تنطلق منها فلسفة البخل، فليس هناك جمع إلا بعد تفرّق وتشتت، وقد فرق الإسلام صفوف الفرس، ومزّق أوصال امبراطوريتهم العظيمة، وفتت ديانتهم. إذن كان لا بد من جمع ما تفرّق، ورتق ما تمزّق، وجبر ما تفتت، إنّه الحلم باترجاع المجد الفارسي، وجمع الشمل بالتجمع في المساجد، والتجمع حول البخل، وعقد الحلقات. وبذلك تستوي المقابلة الصّارخة بين فلسفة « البخل الجامع » و« فلسفة » مسجد الجامع. ثم لا ينبغي أن ننسى أيضا أنّ البخلاء هم « أصحاب الجمع والمنع » نعم جمع المال ومنعه، ولكنه جمع للمناصرة. ولـمّا يئس الفرس من مجابهة القوّة الرّوحية الإسلامية العربية لأنها تستمد طاقتها من الله، ومن الرّسول وقد اختاره الله عربيا ولكن للناس كافة، ومن القرآن الكريم وقد نزل بلسان عربي مبين، استندوا حينئذ إلى القوة المادية الدنيوية أي إلى قوة «المال» مستغلّين في ذلك موقف الإسلام المتحرّر في التجارة عامّة.
والبخل ليس قوة ماديّـة فحسب بل هو «فلسفة» و»عقيدة» وهم - أي البخلاء - كانوا كما يقول الجاحظ: «إذا التقوا في حلقهم تذاكروا هذا الباب وتطارحوه وتدارسوه »(26). وغايتهم من ذلك لخّصها الجاحظ في شيئين أساسيين : أوّلا « التماسا للفائدة » وهذه الفائدة هي التي تجسّد البعد العلي لفلسفة البخل، أمّا الفائدة الثانية فهي كما يقول الجاحظ على لسان أحد « المسجديّين » « استمتاعا بذكره » فلذكر البخل وأخباره في نفس البخيل حلاوة تشبه حلاوة الذكر الحكيم في نفس المؤمن.
إنّ إشكالية هذه النادرة في الحقيقة تكمن في أنها تقوم على عنصر «الماء» قوام الحياة الرّوحية في الإسلام، الماء من حيث هو رمز للطّهارة، لذلك ارتبطت العبادات جميعا تقريبا بالتطهّر. والماء الذي يتطهّر به الإنسان يزيل ما علق بجسده من دنس، وبذلك يصبح الماء وسخا، أمّا البخيل فيرى شيئا آخر، يقول : «كنت أنا والنعجه كثيرا ما نغتسل بالعذب مخافة أن يعتري جلودنا منه (الماء المالح) مثل ما اعترى جوف الحمار. فكان ذلك الماء العذب الصّافي يذهب باطلا» (27). فهل يبقى الماء بعد الاغتسال به عذبا فضلا عن الصّفاء؟! وذهاب الماء «العذب» و«الصافي» بهذا الشكل اعتبره البخيل «باطلا» والمصطلح دينيّ يأتي في مقابل «الحقّ» ويأتي مرادفا للإسراف والتبذير. ولكنّ هذا الذي رآه البخيل «باطلا» هو حقّ من وجهة نظر إسلاميّـة، لأنّ الجنب مطالب بالاغتسال (28) غير أنّ البخيل ينطلق من منطلق آخر، ذكره ضمنيّا في قوله : «وكنت أن والنعجة كثيرا ما نغتسل بالعذب»، وكثرة الاغتسال هذه هي التي تجعل فعل الاغتسال لا يقوم بوظيفته الحقيقيّـة أي بوظيفة التطهير، وبذلك نسقط في التبذير أي في الباطل. هكذا نتبيّن كيف يبقى الماء عذبا صافيا، وهو في الواقع مدنّس. و«الباطل» لا بدّ من معالجته «بالاصلاح» وهذا «الاصلاح» لم يجعله البخيل نابعا من ذاته اتقاء لكلّ شبهة بل جعله بمثابة الإلهام الذي نزل عليه من السّماء، يقول «فانفتح لي فيه باب من الإصلاح» فعمدت إلى ذلك المتوضّإِ فجعلت في ناحية منه حفرة وصهرجتها وملستها حتّي صارت وكأنّها صخرة منقورة وصوّبت إليها المسيل...»(29). وإذا كان الماء يغتسل به العربي المسلم يصبح مدنّسا، فإن الماء يغتسل به البخيل الفارسيّ يصبح طاهرا، معنى ذلك أن جسد الفارسيّ طاهر بذاته، ومطهر للماء الذي يغتسل به.
ثمّ ينتقل البخيل من الخطاب السّرديّ إلى الخطاب الاستدلالي، وينطلق من المقارنة بين جلد المتغوّط وجلد الجنب، فالمتغوّط نتن ولكنّه ليس مطالبا بالاغتسال والجنب في نظر البخيل غير نتن ولكن فرض عليه الاغتسال. إن البخيل يناقش إذن حكم اغتسال الجنب لأنه يتناقض مع فلسفة البخل، ولسبب آخر أعمق سنذكره في آخر التحليل.
ويسوي البخيل في نهاية الاستدلال بين جلد المتغوّط وجلد الجنب حتى يتسنّى له إخراج الماء في صورة السّائل «الطاهر» «فمقادير طيب الجلود واحدة والماء على حاله». وبذلك ينتفي الخلاف بين الماء المدنّس والماء الطّاهر، بل إنّ الماء المدنس في نظر البخيل طاهر.
يستخدم البخيل في الدّفاع عن رؤيته وموقفه ثلاثة أنماط من الاستدلال :
أوّلا استدلال مضحك لأنّه يأتي على لسان الحيوان «والحمار أيضا لا تقزّز له من ماء الجنابة» ولكنّه في نفسه عميق الدلالة، لأن الحمار يمثل الطبيعة الفطريّة الحيوانية التي يشترك فيها معه الإنسان، وبما أنّ الحمار لم يتقزز من الماء فإنّ الإشكال إذن يأتي من منطلقات الحكم على الماء لا من الماء نفسه.
أمّا الاستدلال الثاني فينطلق من ذات البخيل نفسه بدليل قوله : «وليس علينا حرج في سقيه منه» (30) وفي هذا السياق يسوّي البخيل بينه وبين الحمار لإثبات صحة «الحكم» الطّبيعيّ، وليرفع عن نفسه أي حرج في ذلك.
أمّا الاستدلال الثالث فيستند إلى المصدرين الأساسيّين في التشريع الإسلامي وهما الكتاب والسنّة وبما أنّ الكتاب لم يحرّم سقي الحمار من ماء الجنابة ولا نهت عنه السنّـة، فهو إذن جائز، ولكنّ جوازه لا يأتي فقط من عدم التحريم وعدم النهي، بل يأتي من الأصل الثالث وهو الإجماع. يبدو ذلك في قول السّارد في خاتمة النادرة : «قال القوم هذا بتوفيق اللّه ومنّه» (31).
بهذه الجملة تبلغ جدليّة المقدّس والمدنّس درجتها القصوى حيث يصبح الماء المدنس في نظر القوم أجمعين منّة من الذات الإلهيّـة المقدّسة، ويصبح اللّه عزّ وجلّ «طرفا في عمليّـة البخل نفسها أليس هذا ضربا من الزّندقة» ؟!
وهذه النتيجة التي انتهينا إليها انطلاقا من تحليلنا لهذه العيّنة تتجاوز النتيجة التي توصّل إليها أحمد بن امبيريك في قوله : «فخطاب البخيل وتصرّفاته وجميع حياته يطبعها طابع دينيّ، ولكنّنا لا نجد أثرا لهذا الطابع في عالمه الدّاخلي فهل يكون دين البخيل حاضرا في كلّ شيء إلا في قلبه ؟» (32) ذلك أنّ المسألة تعدّت حدود الاعتقاد أو عدمه إلى الطعن في المقدّس الديني والاستخفاف به.
إنّ تركيز البخيل في هذه «النادرة» على عنصر الماء مقصود لأنّ الماء هو قوام العبادات في الاسلام، وبدونه تفقد العبادات قداستها، ولكنّ الماء الطاهر والمطهّر يأتي في مقابل النار التي قامت عليها الدّيانة المجوسيّـة (33).
أفلا يكون هذا النفور من الماء ومن الأحكام المعلّقة به تعبيرا بالخلف عن الحنين إلى الديانة المجوسيّـة ؟
لقد كان انطلاقنا من نصّ «النادرة»، والنادرة كجنس أدبي تقوم على الضحك والإضحاك، ولكنّ هذا الضحك جعله الجاحظ مُرّا لأنه كشف به حقيقة البخيل العميقة، حقيقته المتناقضة بين الانتماء إلى المنظومة العربيّـة الاسلاميّـة والانفصال عنها. إن النصّ يُفهم بما يحيل عليه ويوحي به أكثر ممّا يفهم بما فيه أو بما يصرّح به.
وقد استمدّ النصّ من مادته اللغوية مدلولين أساسيين أوّلا مفهوم العلامة (نص ينص أي يدلّ) ومفهوم
وقد استمدّ النصّ من مادته اللغوية مدلولين أساسيين أوّلا مفهوم العلامة (نص ينص أي يدلّ ) ومفهوم الحركيّة (نصّ ينصّ أي يجري ) وبين العلامة التي تُقيّد وتحدّد وتدلّ (34) والحركيّة التي لا تستقرّ على حال مجال واسع للتأويل، وفضاء رحب تجد القراءة فيه مرتعا عجيبا و مسرحا فسيحا.
الهوامش والإحالات
1) Abstraite.
2) Structure formelle.
3) Genre.
4) شارل بلاّ:Ch. Pellat: le milieu basrien et la formation de Gahiz-librairie Adrien-Maisonneuve, Paris 1953
نقلة إلى العربية ابراهيم الكيلاني، تحت عنوان الجاحظ في البصرة وبغداد وسامرّاء، دار الفكر، ط 1، 1985
5) فاروق سعد، مع بخلاء الجاحظ، ط 4 بيروت، 1983، ص ص 17-18، دار الآفاق الجديدة.
6) في هذا السياق يقول بشار (الكامل) :
إبليسُ أفضلُ من أبيكمُ آدَم فتبيّنُوا يامعشَرَ الأشرَارِ
النّارُ عنصـرُهُ، وآدمُ طينــة والطّين لا يسْمو سمُوّ النار
أنظر أيضا قصيدته في هجاء أعرابيّ، الدّيوان، تحقيق الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ج3، ص 207.
7) أنظر على سبيل المثال داليتة الشهيرة ضمن مجاني الأب شيخو، شعراء العراق ص 52 وكذلك سينيّته ضمن الدّيوان ص 37 تحقيق الغزالي ـ دار الكتاب العربي، بيروت 1984.
8) محمد الجويلي، نحو دراسة في سوسيولوجيّة البخل، الدار العربيّة للكتاب 1990 ص 176.
9) مقدّمة كتاب «البخلاء» تحقيق طه الحاجري، ص33 (ط7).
10) محمد الجويلي، سوسيولوجيّة البخل، ص43.
11) مقدّمة «البخلاء» ص6.
12) أنظر في هذا السياق : علي بوملحم : المناحي الفلسفيّة عند الجاحظ. دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط. 2، 1988، ص 298 (الجدليّة).
ـ حول مفهوم الضحك أنظر : اندريه جيبسون André Gipson :ملاحظات عن القصة والفكاهة، ترجمة نصر أبوزيد مجلة فصول، م. II، ع 2، 1985، ص 176.
13) البخلاء، الـمقدمة، ص 5 (ط. 7)
14) أحمد بن امبيريك، صورة البخيل الفنية، ص 129.
15) يوزّع عبد الفتاح كيليطو النوادر إلى نوعين : «النوادر المعتمة» وهي التي ليس فيها دليل على أربابها والنوادر «الشفافة» وهي المرتبطة بأصحابها. وإذا كان كيليطو يقلل من شأن النادرة «المعتمة» فإنّها في نظرنا تقوم بنفس الوظيفة التي تقوم بها النادرة «الشفافة» في علاقتها بالنصّ «الجامع» أي «نص البخل» أنظر مصنّف كيليطو : الكتابة والتناسخ ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، ط. دار المعارف ص ص 70- 71.
16) الجاحظ، البخلاء، ط.دار المعارف ص 59.
17) المصدر نفسه، ص 22.
18) أنظر قصة المروزيّ والعراقيّ، البخلاء ص 22.
19) محمد الجويلي، نحو دراسة في سوسيولوجيّة البخل، الدار العربيّة للكتاب 1990 ص 217.
20) البخلاء، ص 22.
21) قال تعالى : «وأتِمُّوا الحَجَّ والعمْرَةَ للّه» البقرة، الآية 196.
22) البخلاء، ص 29.
23) Voir Dictionnaire des symboles, Jean Chevalier-A. Cheerbrant. Ed. Robert Laffont S.A.
et Ed. Jupiter, Paris, 1982, (eau) p.295.
حول الطهارة والتّطهّر انظر القرآن الكريم : البقرة، الآية 222، آل عمران الآية 42، التوبة الآية 103، المائدة الآية 41، الأنفال الآية 11، الأحزاب الآية 33، الحج الآية 26، المدثّر الآية 4، الفرقان الآية 48، الإنسان الآية 21.
24) البخلاء، ص 29.
25) التدلال : La signifiance
26) البخلاء، ص 29.
27) المصدر نفسه، ص 29.
28) قال تعالى {وإنْ كنْتُمْ جُنُبًا فآطّهّرُوا} سورة المائدة : الآية 6.
29) البخلاء، ص 29.
30) البخلاء، ص 29.
31) المصدر نفسه، ص 29.
32) صورة بخيل الجاحظ الفنيّـة، ص 65.
33) ذكرت عائشة عبد الرحمن أنّ بشار بن برد كان يتعصّب للنار علي الأرض ويصوّب رأي «أبليس» في امتناعه عن السجود لآدم ومّا يروى في ديوانه : [البسيط] الأرض مظلمةٌ والنارُ مشرقةٌ والنّارُمعبودةٌ مذْ كانت النّارُ
أنظر رسالة الغفران للمعرّي، دار المعارف، ط7، ص 310.
34) من هنا أتت عبارة «لا اجتهاد مع النصّ» (عند الأصوليين).
* عن الحياة الثقافية - تونس ع/184 - يونيو 2007