نقوس المهدي
كاتب
المحلّ المختار لعموم مثقفي مصر..
"يعيش المثقّف على مقهى ريش
يعيش يعيش يعيش..
محفلط مزفلط " (يقصد متقعر)
كثير الكلام..
عديم الممارسة عدو الزّحام..
وكام كلمة فاضية
وكام اصطلاح..
يفبرك حلول المشاكل أوام..
يعيش المثقّف…
يعيش يعيش يعيش" ..
هكذا كان هجاء الشاعر المصري العامي المعروف والاكثر شغبا (أحمد فؤاد نجم)، لمقهى ريش أشهر المقاهي الثقافية المصرية على الاطلاق، وأحد معالم منطقة " وسط البلد" التي لاتزال قلب الثقافة المصرية الحي الى اليوم ولأن لمقهى ريش سحرا خاصا يجعل المثقفين المصريين والعرب والأجانب ايضا ممن يؤمون القاهرة ينجذبون الى مجالسه، انجذاب الدراويش المضروبين بالعشق العلوي الفريد، فان نجم دارت به الأيام وطوحته الى خانة المحبين فصار من جلساء ريش في الزمان الأخير وانقلبت العداوة حبا! هجائية نجم هذه والتي تغنى به مع توأمه الفني " الشيخ امام عيسى" رحمه الله عمرها اليوم يربو على 35 عاما، حين كان نجم ثوريا متمردا قضى في سجون ناصر ثم في سجون السادات أكثر مما قضاه خارجها.. أما اليوم فلم يعد ثمة ما يدعو للتمرد، الكل يتكلم ويهجو ويقول ما يحلو له ثم ينقلب الى اهله مطمئنا، ولأن الحال تبدلت هكذا فما أحلى أن يخرج الكلام الحر المشاغب المتمرد من نجم ومن غيره من المثقفين من فوق مقاعد ريش التي كانت بالأمس رمزا لمثقفي السلطة عند نجم ورهط من اليسار الراديكالي! مئة عام انطوت واستقبل ريش عامه الأول بعد المئة داخلا في قرنه الثاني، وهو يحظى بذات الاحتفاء الذي حظي به في الزمان الأول، ولاسيما في ذروة مجده في الستينات، وهو يستقبل هذا القرن الجديد بعد ان غلب شيخوخته وتم ترميمه واستعاد قسطا من حيويته المعمارية تؤهله للبقاء وتبعد عن أحجاره وتكويناته الخشبية شبح الموت الإكلينيكي.. أما حيويته من حيث هو مستقر لبشر من طراز خاص فإنه لم يكن فقدها أصلا لكي يستعيدها!
ناعمٌ كاسمه الذي نقش بشكل آخر على بابه المرمَّم، والذي تمتلئ جدرانه من الداخل بصورٍ لبعض من ارتادوه قديماً. يحتفظ بذاكرته حزناً، وفرحاً، وخوفاً، وملاذاً آمناً، وغير آمنٍ أحياناً أخرى. مرَّت الثقافةُ من هناكَ، والسياسةُ، والفنُ. وعندما تزور " ريش" ستكتشف أنك أمام تحفة معمارية، وستبهرك الديكورات واللوحات التي تملأ المكان، وستقف طويلاً أمام اللافتة التي تعلو الباب الرئيسي، والتي تشير إلى أنه تأسس عام 1908م. بداخل المقهى، وعلى غفلة من الصور المعلقة.. ترقب صورة " النوبل" العربي الأول شيخ الرواية العربية الراحل نجيب محفوظ وكانت لمحفوظ صورة أخرى كبيرة تنتصب في الأعلى، مكتوب في أعلاها: نجيب محفوظ- 1988 مع إهداء بخط يده " تحياتي لمقهى ريش وأهله، باقين وراحلين 10/3/1989". إضافة إلى صورِ كثيرة تشكِّل جداراً أخر للمقهى بحجم معين… للشاعرين الكبيرين فؤاد حداد وصلاح جاهين، ولشيخ القصة القصيرة الراحل يوسف إدريس، والملحن الكبير رياض السنباطي وعميد الكوميديا المصرية نجيب الريحاني ويوسف بك وهبي وأمل دنقل وصالح جودت، ومن الممثلين أيضاً: عبد المنعم إبراهيم وتوفيق الدقن ومحمود المليجي وأنور وجدي وإسماعيل ياسين. تتوسط هذه الصورالفوتوغرافية رسومٌ كاريكاتورية لرسَّام نسي أن يرسم نفسه في زحمة انشغاله بالآخرين رسماً. كان يمزج ملا مح الوجه لصاحب الصورة بملامح الشكل الذي يتخيله، كجسم طائر أو حيوان. لا أدري ماذا كان يقصد بالضبط. ولكن ربما فهمتُ من تعليقاته على كاريكاتيرات مثل اللوحة التي رسمَ فيها توفيق الحكيم، كتبَ أسفلها " عصفور من الشرق" والمعروف أن " عصفور من الشرق" هي إحدى روايات الحكيم. وهو رسمه على هيئة عصفور له ملامح وجهه. يوسف السباعي رسمه بجسد سمكة. إبراهيم ناجي بجسد سنجاب. طه حسين بجسد كروان ثم كتب تحت الرسم "دماء الكروان" والمعروف أيضاً أن لطه حسين رواية بعنوان " دعاء الكروان " لكنه حين عبَّر عنه بالرسم أبدل العين بالميم.. أم كلثوم رسمها بجسد طاووس.
رسم مقهى ريش الذي يحتفي المثقفون المصريون بدخوله القرن الثاني من عمر يرجى له أن يطول ويمتد.. ذاكرة الكثير من المبدعين، ووهبهم حكاياته الأثيرة وأسراراً كان يخبئها. كانت تقام فيه الندوات الفكرية والثقافية والليالي الساهرة. أما السيدة أم كلثوم " ثومة" كما يسميها المصريون، فان أولى بداياتها في حفلات الغناء القاهرية كانت في هذا المقهى. وكان نجيب محفوظ يواظب على ندواته و يقيمها صباح كل جمعة. واستوحى روايته " الكرنك" التي تحولت إلى شريط سينمائي (تم عرضه في العام 1975 لنخبة من النجوم أبرزهم سعاد حسني ونور الشريف)، سرد فيها محفوظ بعض ما تعرض له المثقفون في سنوات حكم جمال عبد الناصر(1954-1970) من ممارسات الدولة البوليسية آنذاك. وشخصيات المسلسل المصري المشهور " ليالي الحلمية" الذي كتبه " أسامة أنور عكاشة" وعرض في خمسة أجزاء خلال الثمانينات وحتى منتصف التسعينات، هي شخصيات حقيقية كانت ترتاد المقهى. وأصل حكاية ريش أنه قبل مايقارب مئة عام، أي في العام1908، بدأ مقهى " ريش" يستقبل رواده مثل كل المقاهي والتي كانت بامتداد " وسط البلد" في القاهرة، والتي بلغ عددها في ذلك الوقت مايزيد على أربعين مقهى صارت اليوم أثرا بعد عين، وزحفت مكانها محال الملابس والإكسسوارات، ومطاعم كنتكي، ومواقف السيارات، ومحلات الوجبات السريعة . لكن مقهى ريش مايزال إلى الآن يسكن أسفل البناية رقم 17 في شارع " طلعت حرب" الشارع الرئيسي في قلب وسط البلد. وعلى الرغم مما أصاب المقهى من شروخ في العام 1992 من جراء زلزال القاهرة إلا أن القائمين عليه رمموه غير مرة وكانت المرة الأخيرة قبل شهور. وحين تزور مقهى ريش ستعرف أن ثمة الكثير من الاختلاف بين هذا المقهى وأي مقهى آخر في أشهر ميادين القاهرة الحديثة التي أنشأها إسماعيل باشا (خديو مصر من 1863 الى 1879)على غرار العاصمة الفرنسية باريس، وجلب لها المهندس الفرنسي " هوسمان " ليخططها كما خطط باريس. شيد المقهى أحد الرعايا الألمان، ثم انتقل في العام 1914 إلى " هنري بير" أحد الرعايا الفرنسيين الذي أعطى له اسم " ريش" ليتشابه بهذا الاسم مع أشهر مقاهي باريس التي ما زالت قائمة إلى الآن، وتسمى " كافيه ريش". وكما هي الحال بالقاهرة توجد في مدن " بنزرت" بتونس و" قسنطينة" بالجزائر و" الدار البيضاء" بالمغرب مقاهٍ تحمل اسم " ريش"، وتتشابه مع مقهى القاهرة وباريس في كونها تقع في أحد الميادين الكبيرة وبنفس طراز العمارة والديكور والوظيفة أيضا لكن مقهى ريش المصري هو عميد المقاهي التي تحمل هذا الاسم في الشرق كله، سواء من حيث القدم أو من حيث إقبال المثقفين على اختلاف أجيالهم ومشاربهم عليه الى اليوم. وربما يرى الكثيرون في انتشار هذا المقهى ذي الطابع الفرنسي في بعض الدول العربية نوعًا من الغزو الثقافي الأجنبي، لكن من المؤكد أن هذا المقهي وجد أهم رواده من الأدباء والفنانين العرب الذين تعلموا ونهلوا من الثقافة الفرنسية، وبخاصة في عصر البعثات العلمية؛ فكان لا بد أن يجدوا في أوطانهم عند عودتهم أماكن يجلسون فيها، تقارب المناخ والطابع الفرنسي الذي اعتادوا عليه. وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 قام " ميشيل بوليدس" بشراء " ريش" من صاحبه الفرنسي، وميشيل كان انذاك من أشهر التجار اليونانيين بالقاهرة، وكان يهوى الأدب والفن؛ لذلك أجرى توسعات جديدة داخل المقهى، وقام بشراء قطعة أرض أمامه، وأنشأ عليه مسرحاً، وأحاطه بحديقة أنشأ بها كشكًا للموسيقى تُعزف فيه الموسيقات العالمية والعسكرية في أوقات محددة، وهنا تحديدا كان حفل أم كلثوم الذي أشرنا اليه سالفا . ومنذ ذلك الوقت أصبح لمقهى ريش بُعد ثقافي، وتحول من مجرد مقهى أرستقراطي غربي، إلى مكان يتجمع فيه الفنانون والمثقفون والأجانب. وفي الأربعينيات من القرن العشرين احتشد كل من يعمل في الموسيقى والغناء في المقهى لإيجاد حل لمشاكلهم المهنية، وكان على رأسهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكانت نتيجة هذا التجمع أن تم الاتفاق على إنشاء أول نقابة للموسيقيين بمصر بل وفي العالم العربي.
لمقهى ريش أسلوبه الخاص، فهو لا يقدم لرواده الشيشة (النارجيلة)، ولايسمح بالألعاب التي تقدم في بقية المقاهي؛ كالكوتشينة (ألعاب الورق) والطاولة، وهذا يرجع إلى طبيعة الزبائن؛ فهم عادة من المفكرين وأبناء الجالية الأجنبية بمصر، وبخاصة من المراسلين الأجانب والسائحين. ومقهى ريش هو الوحيد الذي يمكنك أن تَصفِه بالمقهى الثقافي، ولا يوجد مثيل له في مصر بنفس الطابع؛ وذلك لأن رواده من المثقفين الذين يمضون أوقاتا طويلة داخله، سواء في القراءة أو إقامة الندوات والصالونات الثقافية. وإلى جانب المشروبات يتناولون بعض الأطعمة الخفيفة وأطباق الحلوى، بالإضافة إلى الخمور التي عادة ما يُقبل عليها الزبائن من الأوروبيين! كما يوفر " ريش" لهم شيئًا مهمًا قلما يجدونه في أي مقهى آخر؛ ألا وهو الهدوء.. فمنذ دخولك إلى المقهى لا تسمع أي ضجيج ولا تلك الأصوات العالية التي عادة ما تسمع في المقاهي، بالرغم من امتلاء مقاعد المقهى وتجول النادلين بزيهم المميز، وهم يقدمون الطلبات للزبائن؛ فالجميع يؤدي دوره بتناغم وهدوء تامين. ويرى البعض أن المقهى يستحق لقب " ملتقى جيل الستينيات"؛ لأنه هو الميلاد الحقيقي لأبناء هذا الجيل وبخاصة بعد هزيمة حزيران - يونيو67، فهو لعب دوراً مهماً في ظهور العديد منهم أمثال إبراهيم أصلان، وصنع الله إبراهيم، ويوسف القعيد، وجمال الغيطاني، وفاروق جويدة وغيرهم. استطاع المقهى على مدار تاريخه ومعاصرته للعديد من الأحداث أن يلعب دورًا هامًا وبأشكال عدة، وأن يكون القاعدة التي تنطلق منها الحركات الوطنية. ففي العام 1919م كان المقهى مكانًا تكتب فيه المنشورات والمطبوعات أثناء الثورة. هذا ما تؤكده " المطبعة" التي تم العثور عليها منذ سنوات داخل بادروم المقهى. وفي نفس المقهى جلس الزعيم الراحل جمال عبد الناصر يحتسي القهوة، ويعد لدوره في ثورة يوليو، كما كانت جزءًا من حياة شاب عراقي جاء يدرس بالقاهرة وهو الرئيس العراقي الراحل " صدام حسين"، وكان يرأس المكان الذي يتجمع فيه اللاجئون السياسيون مثل الشاعر العراقي " عبد الوهاب البياتي" و" قحطان الشعبي" و" عبد الفتاح إسماعيل" رئيس جمهورية اليمن الشعبية السابق. وفي العام 1973 تجمع المثقفون فيه وأصدروا بياناً أرسلوه إلى توفيق الحكيم لنشره بصحيفة الأهرام، يعربون فيه عن عدم رضاهم عن حالة اللاسلم واللاحرب!
عن جريدة المستقبل
"يعيش المثقّف على مقهى ريش
يعيش يعيش يعيش..
محفلط مزفلط " (يقصد متقعر)
كثير الكلام..
عديم الممارسة عدو الزّحام..
وكام كلمة فاضية
وكام اصطلاح..
يفبرك حلول المشاكل أوام..
يعيش المثقّف…
يعيش يعيش يعيش" ..
هكذا كان هجاء الشاعر المصري العامي المعروف والاكثر شغبا (أحمد فؤاد نجم)، لمقهى ريش أشهر المقاهي الثقافية المصرية على الاطلاق، وأحد معالم منطقة " وسط البلد" التي لاتزال قلب الثقافة المصرية الحي الى اليوم ولأن لمقهى ريش سحرا خاصا يجعل المثقفين المصريين والعرب والأجانب ايضا ممن يؤمون القاهرة ينجذبون الى مجالسه، انجذاب الدراويش المضروبين بالعشق العلوي الفريد، فان نجم دارت به الأيام وطوحته الى خانة المحبين فصار من جلساء ريش في الزمان الأخير وانقلبت العداوة حبا! هجائية نجم هذه والتي تغنى به مع توأمه الفني " الشيخ امام عيسى" رحمه الله عمرها اليوم يربو على 35 عاما، حين كان نجم ثوريا متمردا قضى في سجون ناصر ثم في سجون السادات أكثر مما قضاه خارجها.. أما اليوم فلم يعد ثمة ما يدعو للتمرد، الكل يتكلم ويهجو ويقول ما يحلو له ثم ينقلب الى اهله مطمئنا، ولأن الحال تبدلت هكذا فما أحلى أن يخرج الكلام الحر المشاغب المتمرد من نجم ومن غيره من المثقفين من فوق مقاعد ريش التي كانت بالأمس رمزا لمثقفي السلطة عند نجم ورهط من اليسار الراديكالي! مئة عام انطوت واستقبل ريش عامه الأول بعد المئة داخلا في قرنه الثاني، وهو يحظى بذات الاحتفاء الذي حظي به في الزمان الأول، ولاسيما في ذروة مجده في الستينات، وهو يستقبل هذا القرن الجديد بعد ان غلب شيخوخته وتم ترميمه واستعاد قسطا من حيويته المعمارية تؤهله للبقاء وتبعد عن أحجاره وتكويناته الخشبية شبح الموت الإكلينيكي.. أما حيويته من حيث هو مستقر لبشر من طراز خاص فإنه لم يكن فقدها أصلا لكي يستعيدها!
ناعمٌ كاسمه الذي نقش بشكل آخر على بابه المرمَّم، والذي تمتلئ جدرانه من الداخل بصورٍ لبعض من ارتادوه قديماً. يحتفظ بذاكرته حزناً، وفرحاً، وخوفاً، وملاذاً آمناً، وغير آمنٍ أحياناً أخرى. مرَّت الثقافةُ من هناكَ، والسياسةُ، والفنُ. وعندما تزور " ريش" ستكتشف أنك أمام تحفة معمارية، وستبهرك الديكورات واللوحات التي تملأ المكان، وستقف طويلاً أمام اللافتة التي تعلو الباب الرئيسي، والتي تشير إلى أنه تأسس عام 1908م. بداخل المقهى، وعلى غفلة من الصور المعلقة.. ترقب صورة " النوبل" العربي الأول شيخ الرواية العربية الراحل نجيب محفوظ وكانت لمحفوظ صورة أخرى كبيرة تنتصب في الأعلى، مكتوب في أعلاها: نجيب محفوظ- 1988 مع إهداء بخط يده " تحياتي لمقهى ريش وأهله، باقين وراحلين 10/3/1989". إضافة إلى صورِ كثيرة تشكِّل جداراً أخر للمقهى بحجم معين… للشاعرين الكبيرين فؤاد حداد وصلاح جاهين، ولشيخ القصة القصيرة الراحل يوسف إدريس، والملحن الكبير رياض السنباطي وعميد الكوميديا المصرية نجيب الريحاني ويوسف بك وهبي وأمل دنقل وصالح جودت، ومن الممثلين أيضاً: عبد المنعم إبراهيم وتوفيق الدقن ومحمود المليجي وأنور وجدي وإسماعيل ياسين. تتوسط هذه الصورالفوتوغرافية رسومٌ كاريكاتورية لرسَّام نسي أن يرسم نفسه في زحمة انشغاله بالآخرين رسماً. كان يمزج ملا مح الوجه لصاحب الصورة بملامح الشكل الذي يتخيله، كجسم طائر أو حيوان. لا أدري ماذا كان يقصد بالضبط. ولكن ربما فهمتُ من تعليقاته على كاريكاتيرات مثل اللوحة التي رسمَ فيها توفيق الحكيم، كتبَ أسفلها " عصفور من الشرق" والمعروف أن " عصفور من الشرق" هي إحدى روايات الحكيم. وهو رسمه على هيئة عصفور له ملامح وجهه. يوسف السباعي رسمه بجسد سمكة. إبراهيم ناجي بجسد سنجاب. طه حسين بجسد كروان ثم كتب تحت الرسم "دماء الكروان" والمعروف أيضاً أن لطه حسين رواية بعنوان " دعاء الكروان " لكنه حين عبَّر عنه بالرسم أبدل العين بالميم.. أم كلثوم رسمها بجسد طاووس.
رسم مقهى ريش الذي يحتفي المثقفون المصريون بدخوله القرن الثاني من عمر يرجى له أن يطول ويمتد.. ذاكرة الكثير من المبدعين، ووهبهم حكاياته الأثيرة وأسراراً كان يخبئها. كانت تقام فيه الندوات الفكرية والثقافية والليالي الساهرة. أما السيدة أم كلثوم " ثومة" كما يسميها المصريون، فان أولى بداياتها في حفلات الغناء القاهرية كانت في هذا المقهى. وكان نجيب محفوظ يواظب على ندواته و يقيمها صباح كل جمعة. واستوحى روايته " الكرنك" التي تحولت إلى شريط سينمائي (تم عرضه في العام 1975 لنخبة من النجوم أبرزهم سعاد حسني ونور الشريف)، سرد فيها محفوظ بعض ما تعرض له المثقفون في سنوات حكم جمال عبد الناصر(1954-1970) من ممارسات الدولة البوليسية آنذاك. وشخصيات المسلسل المصري المشهور " ليالي الحلمية" الذي كتبه " أسامة أنور عكاشة" وعرض في خمسة أجزاء خلال الثمانينات وحتى منتصف التسعينات، هي شخصيات حقيقية كانت ترتاد المقهى. وأصل حكاية ريش أنه قبل مايقارب مئة عام، أي في العام1908، بدأ مقهى " ريش" يستقبل رواده مثل كل المقاهي والتي كانت بامتداد " وسط البلد" في القاهرة، والتي بلغ عددها في ذلك الوقت مايزيد على أربعين مقهى صارت اليوم أثرا بعد عين، وزحفت مكانها محال الملابس والإكسسوارات، ومطاعم كنتكي، ومواقف السيارات، ومحلات الوجبات السريعة . لكن مقهى ريش مايزال إلى الآن يسكن أسفل البناية رقم 17 في شارع " طلعت حرب" الشارع الرئيسي في قلب وسط البلد. وعلى الرغم مما أصاب المقهى من شروخ في العام 1992 من جراء زلزال القاهرة إلا أن القائمين عليه رمموه غير مرة وكانت المرة الأخيرة قبل شهور. وحين تزور مقهى ريش ستعرف أن ثمة الكثير من الاختلاف بين هذا المقهى وأي مقهى آخر في أشهر ميادين القاهرة الحديثة التي أنشأها إسماعيل باشا (خديو مصر من 1863 الى 1879)على غرار العاصمة الفرنسية باريس، وجلب لها المهندس الفرنسي " هوسمان " ليخططها كما خطط باريس. شيد المقهى أحد الرعايا الألمان، ثم انتقل في العام 1914 إلى " هنري بير" أحد الرعايا الفرنسيين الذي أعطى له اسم " ريش" ليتشابه بهذا الاسم مع أشهر مقاهي باريس التي ما زالت قائمة إلى الآن، وتسمى " كافيه ريش". وكما هي الحال بالقاهرة توجد في مدن " بنزرت" بتونس و" قسنطينة" بالجزائر و" الدار البيضاء" بالمغرب مقاهٍ تحمل اسم " ريش"، وتتشابه مع مقهى القاهرة وباريس في كونها تقع في أحد الميادين الكبيرة وبنفس طراز العمارة والديكور والوظيفة أيضا لكن مقهى ريش المصري هو عميد المقاهي التي تحمل هذا الاسم في الشرق كله، سواء من حيث القدم أو من حيث إقبال المثقفين على اختلاف أجيالهم ومشاربهم عليه الى اليوم. وربما يرى الكثيرون في انتشار هذا المقهى ذي الطابع الفرنسي في بعض الدول العربية نوعًا من الغزو الثقافي الأجنبي، لكن من المؤكد أن هذا المقهي وجد أهم رواده من الأدباء والفنانين العرب الذين تعلموا ونهلوا من الثقافة الفرنسية، وبخاصة في عصر البعثات العلمية؛ فكان لا بد أن يجدوا في أوطانهم عند عودتهم أماكن يجلسون فيها، تقارب المناخ والطابع الفرنسي الذي اعتادوا عليه. وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 قام " ميشيل بوليدس" بشراء " ريش" من صاحبه الفرنسي، وميشيل كان انذاك من أشهر التجار اليونانيين بالقاهرة، وكان يهوى الأدب والفن؛ لذلك أجرى توسعات جديدة داخل المقهى، وقام بشراء قطعة أرض أمامه، وأنشأ عليه مسرحاً، وأحاطه بحديقة أنشأ بها كشكًا للموسيقى تُعزف فيه الموسيقات العالمية والعسكرية في أوقات محددة، وهنا تحديدا كان حفل أم كلثوم الذي أشرنا اليه سالفا . ومنذ ذلك الوقت أصبح لمقهى ريش بُعد ثقافي، وتحول من مجرد مقهى أرستقراطي غربي، إلى مكان يتجمع فيه الفنانون والمثقفون والأجانب. وفي الأربعينيات من القرن العشرين احتشد كل من يعمل في الموسيقى والغناء في المقهى لإيجاد حل لمشاكلهم المهنية، وكان على رأسهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكانت نتيجة هذا التجمع أن تم الاتفاق على إنشاء أول نقابة للموسيقيين بمصر بل وفي العالم العربي.
لمقهى ريش أسلوبه الخاص، فهو لا يقدم لرواده الشيشة (النارجيلة)، ولايسمح بالألعاب التي تقدم في بقية المقاهي؛ كالكوتشينة (ألعاب الورق) والطاولة، وهذا يرجع إلى طبيعة الزبائن؛ فهم عادة من المفكرين وأبناء الجالية الأجنبية بمصر، وبخاصة من المراسلين الأجانب والسائحين. ومقهى ريش هو الوحيد الذي يمكنك أن تَصفِه بالمقهى الثقافي، ولا يوجد مثيل له في مصر بنفس الطابع؛ وذلك لأن رواده من المثقفين الذين يمضون أوقاتا طويلة داخله، سواء في القراءة أو إقامة الندوات والصالونات الثقافية. وإلى جانب المشروبات يتناولون بعض الأطعمة الخفيفة وأطباق الحلوى، بالإضافة إلى الخمور التي عادة ما يُقبل عليها الزبائن من الأوروبيين! كما يوفر " ريش" لهم شيئًا مهمًا قلما يجدونه في أي مقهى آخر؛ ألا وهو الهدوء.. فمنذ دخولك إلى المقهى لا تسمع أي ضجيج ولا تلك الأصوات العالية التي عادة ما تسمع في المقاهي، بالرغم من امتلاء مقاعد المقهى وتجول النادلين بزيهم المميز، وهم يقدمون الطلبات للزبائن؛ فالجميع يؤدي دوره بتناغم وهدوء تامين. ويرى البعض أن المقهى يستحق لقب " ملتقى جيل الستينيات"؛ لأنه هو الميلاد الحقيقي لأبناء هذا الجيل وبخاصة بعد هزيمة حزيران - يونيو67، فهو لعب دوراً مهماً في ظهور العديد منهم أمثال إبراهيم أصلان، وصنع الله إبراهيم، ويوسف القعيد، وجمال الغيطاني، وفاروق جويدة وغيرهم. استطاع المقهى على مدار تاريخه ومعاصرته للعديد من الأحداث أن يلعب دورًا هامًا وبأشكال عدة، وأن يكون القاعدة التي تنطلق منها الحركات الوطنية. ففي العام 1919م كان المقهى مكانًا تكتب فيه المنشورات والمطبوعات أثناء الثورة. هذا ما تؤكده " المطبعة" التي تم العثور عليها منذ سنوات داخل بادروم المقهى. وفي نفس المقهى جلس الزعيم الراحل جمال عبد الناصر يحتسي القهوة، ويعد لدوره في ثورة يوليو، كما كانت جزءًا من حياة شاب عراقي جاء يدرس بالقاهرة وهو الرئيس العراقي الراحل " صدام حسين"، وكان يرأس المكان الذي يتجمع فيه اللاجئون السياسيون مثل الشاعر العراقي " عبد الوهاب البياتي" و" قحطان الشعبي" و" عبد الفتاح إسماعيل" رئيس جمهورية اليمن الشعبية السابق. وفي العام 1973 تجمع المثقفون فيه وأصدروا بياناً أرسلوه إلى توفيق الحكيم لنشره بصحيفة الأهرام، يعربون فيه عن عدم رضاهم عن حالة اللاسلم واللاحرب!
عن جريدة المستقبل