نقوس المهدي
كاتب
نهت الأحاديث المنقولة عن نبيّ الإسلام عن خصاء الآدمي للآدمي. جاء في الأثر أنّ "من خصى عبده خصيناه"، ولم يسمح لأحد بخصي نفسه بداعي التبتل (اذ كان جواب النبي أن "خصاء أمتي الصوم"). في الوقت نفسه حفظت أحاديث من قبيل "سيكون قوم ينالهم الإخصاء، فاستوصوا بهم خيراً".
ما بين هذين الحدّين، تشكّل المنظار الفقهي للعصور السلطانية، بين النهي عن الخصي، وبين تشريع شراء وبيع الخصيان من الرقيق، الأبيض والأسود، وصولاً إلى إناطة وظائف اجتماعية وسياسية ومالية وتربوية ودينية بهذه الشريحة من الناس.
فكان "خصيان الدهليز"، يفصلون بين "الحرملك" وباقي أنحاء البلاط السلطاني، و"خصيان التربة"، يفصلون بين الميت والحي، في جوار أضرحة السلاطين والأولياء الصالحين، وصولاً إلى الخصيان العاملين في خدمة المسجد الحرام بمكّة والمسجد النبوي في المدينة، ويعرفون بـ"الأغاوات"، حيث توطّدت وظيفتهم هذه في أيّام الأيوبيين ثم المماليك، وتعزّزت مع العثمانيين، وتراجعت مع السعوديين، ولم يتبق منهم اليوم في المدينة سوى بضعة أشخاص متقدّمين في السن.
الفرق بين المجبوب والمخصي
شكّل الخصي والخصيان مبحثاً أساسياً في كتاب "الحيوان" للعلامة البصريّ أبي عثمان عمرو بن بحر المعروف بـ"الجاحظ" (ت 869م). دافع الجاحظ عن النظرة المهيمنة في مجتمعه بأنّ الخصاء حرام، لكن بيع الخصي (الذي يفترض أن يكون تم خصاؤه قبل البلوغ) وشراءه حلال، وهاجم الطاعنين بهذه النظرة ووصفهم بـ"الأغبياء المنقوصين"، وذهب إلى أنّ "هديّة الخصيّ كهديّة الثوب والعطر والدّابة والفاكهة"، وأنّ "الخصيّ لا يحرم ملكه ولا استخدامه، بل لا يحلّ طرده ونفيه"، أما تحريره فـ"جائز".
مخصي-في-بلاط-السلطان-العثماني-عبد-الحميد-الثاني،-1912. خصي في بلاط السلطان العثماني
ميّز التراث العربيّ بين "المجبوب" و"الخصي". الخصي هو الذي بقي عضوه التناسلي (ذكره) دون الخصيتين (المعروفتان أيضاً بتعبير "الأنثيان"). أما "المجبوب" أو "الممسوح"، فبقيت خصيتاه (أنثياه) دون ذكره. سيطر هذا التقسيم على كل ما كتب عن هذا الموضوع، في المجتمعات الإسلاميّة، منذ أيّام الجاحظ حتى مطالع العصر الحديث. تبعاً لهذا التقسيم، ليس هناك "خصيّ مطلق".
الخصي لا يفقد جنسانيته تماماً. "بالعكس" يكاد يقول الجاحظ. فهو يوضح لقارئ كتاب "الحيوان" أنّ "الخصيّ ينكح ويتّخذ الجواري ويشتدّ شغفه بالنساء"، هذا حين يعتق ويقتدر، والأهم، يشتدّ "شغفهنّ به"، لا سيّما عندما يكون لا يزال خادماً للحريم.
وهذا إن كان منزوع الخصيتين، أما إذا كان "مجبوب" العضو، سليم الخصيتين، فإنه "قد بقي له ما عسى أن يكون فيه من ذلك ما هو أعجب إليهنّ، وقد يحتلم ويخرج منه عند الوطء ماء (السائل المنوي)، ولكنه قليلّ متغيّر الريح رقيق ضعيف".
"أخلاقه مقسمّة بين أخلاق النساء وأخلاق الصبيان"
ما دوّنه الجاحظ في كتاب "الحيوان" هو بمثابة تصريح عن النظرة الرائجة حول الخصيان في العصر العباسي، خصوصاً في مجتمع البلاط ومنازل الأثرياء التي كانت تقبل على شراء الخصيان وتلحقهم بمجتمع الحريم.
فمن ناحية، يخرج الجاحظ، كما مجتمعه، الخصيان من دائرة "الرجولة" المعرّفة على أنّها "الفحولة". الخصي في منزلة بين منزلتين: "ليس برجل ولا امرأة" يقول الجاحظ. بل هو في منزلة بين النساء والصبيان كما يذكر في "كتاب مفاخرة الجواري والغلمان": "أخلاقه مقسّمة بين أخلاق النساء وأخلاق الصبيان". فهو سريع الدمعة والغضب، ويحب النميمة ولا يستأمن على سرّ، ويبول في الفراش، وهو يعمّر أكثر من الفحول. يستخدم الجاحظ هنا تشبيهاً صادماً لنا اليوم، إذ يقول: "كذلك طول أعمار البغال لقلة النّزو".
ويفسّر، في المقابل، قلّة أعمار العصافير "لكثرة سفادها". وبالعودة لكتاب "الحيوان": "يعرض للخصي العبث واللعب بالطير، وما أشبه ذلك من أخلاق النساء، وهو من أخلاق الصبيان أيضاً. ويعرض له الشره عند الطعام، والبخل عليه، والشحّ العام في كل شيء، وذلك من أخلاق الصبيان ثم النساء".
الخصي عند الجاحظ هو المتذبذب بامتياز. "مع الرجال امرأة، ومع النساء رجل".
"قد تجد في النساء من تؤثر الخصيان"
في الوقت نفسه، يرفض الجاحظ النظرة القائلة بأنّ شهوة الخصيّ الجنسية تقلّ. بل هي تزيد، وبشكل "حسود" وحانق. يهزأ الجاحظ إذاً من معشر الرجال الذين يطمئنون بأنّ نساءهم هي في صحبة الخصيان في الجناح المخصص للحريم، إذا كان سبب اطمئنانهم الاعتقاد بأنّ ما من تواصل جنسي ممكن بين نسائهم والخصيان. في الوقت نفسه، يطمئن الجاحظ هؤلاء الرجال بأنّ تواصلاً كهذا سيبقى محدوداً وبلا عواقب وخيمة. وهو يشرح من هذا المنطلق تلذذ نساء البلاط ومنازل الأثرياء مع الخصيان. فصحيح أن الخصي "يباشر (يضاجع) بمشقّة"، لكن المرأة يمكن أن تعاشره و"هي آمنة العار الأكبر، فهذا أشدّ لتوفير لذّتها وشهوتها"، حتى اذا تجاوزت النساء الحياء والخجل أمكنها إطلاق العنائن لطبائعها وشهواتها مع الخصيان، "فأمكنها النخير والصياح، وأن تكون مرة من فوق ومرة من أسفل، وسمحت النفس بمكنونها وأظهرت أقصى ما عندها"، كما أنّ المرأة تميل إلى الخصي "لأن أمره أستر وعاقبته أسلم وتحرص عليه لأنه ممنوع منها ولأن ذلك حرام عليها".
لا ينظر الجاحظ للخصيان المصرّح لهم، دون سواهم من الرجال، بالخدمة على النساء، ككائنات "لا جنسية"، بل كسلعة جنسية بلا عواقب وخيمة بالنسبة للنساء. يقول: "قد تجد في النساء من تؤثر النساء، وتجد فيهن من تؤثر الرجال، وتجد فيهن من تؤثر الخصيان، وتجد فيهنّ من تجمع ولا تفرّق وتعمّ ولا تخصّ".
الفرق بين الإنسان والحيوان
يمكن، بالنسبة إلى الجاحظ، معرفة "الخصيّ" من صوته، خصوصاً إذا كان من الخصيان الصقالبة (السلافيون)، كما يمكن الاستدلال عليه من مشيته، إذ "يشتد وقع رجله على أرض السطح". يعتبرهم جيّدين للخدمة، إنما "لم تر أحداً منهم قط نفذ إلى صناعة تنسب إلى بعض المشقّة". يقابل الجاحظ بين إخصاء الحيوان وإخصاء الإنسان. إخصاء حيوان أو طير ينقص رائحته الكريهة، أما إخصاء الإنسان فيجعله "أنتن، وصنانه أحدّ، ويعمّ أيضاً خبث العرق سائر جسده حتى لتوجد لأجسادهم رائحة لا تكون لغيرهم". ويتابع على هذه الوتيرة: "الإنسان إذا خُصي طال عظمه وعُرض فخالف أيضاً جميع الحيوان من هذا الوجه". لا يتوقف عند هذه العتبة. هو يرى أيضاً أنّ الخصاء يعلي من خصال الرقيق الأبيض من الصقالبة، لكنه يهبط من خصال الرقيق الأسود من الحبشة والنوبة والسودان.
الخصيان غير مخنثين .. بعكس "الغلمان"
يميّز الجاحظ بشكل كليّ بين "الخصيان" وبين "الغلمان". فالغلمان المُرد هم مراهقون مخنثون اندفع الأثرياء والشعراء في عصره في طلبهم وحبّهم أكثر من الجري وراء الجواري (في عصر الجاحظ كانت الجارية إذا وصفت بكمال الحسن قيل "كأنها غلام")، أما الخصيان فغير مخنثين.
يقول الجاحظ عن الخصيان في "الحيوان": "من العجب أنّهم مع خروجهم من شطر طبائع الرجال إلى طبائع النساء لا يعرض لهم التخنيث." ثم يخبرك بأنه صادف له أن رأى إعرابيّاً مخنثاً، ومخنثاً من "الزنج الأقحاح" (يقصد الفحول)، و"قد خبّرني من رأى كردياً مخنثاً"، لكن "لم أر خصياً قط مخنثاً، ولا سمعت به ولا أدري كيف ذلك، ولا أعرف المانع منه، ولو كان الأمر في ذلك إلى ظاهر الرأي. لقد كان ينبغي لهم أن يكون ذلك فيهم عامّاً". ورغم أن الجاحظ يحدّد المشترك بين الخصيان والغلمان لجهة عدم ظهور اللحية، فإنّه يرفق ذلك بالتعجب من أنّ ذلك يترافق مع "قلّة ما يعرض للخصيان من التخنيث، مع مفارقتهم لشطر معاني الرجال إلى شبه النساء".
تبدّل النظرة: الخصيان على الجبهة
الجاحظ من أعلام العصر العباسي، في القرن الثالث للهجرة، التاسع للميلاد. المقاربة التي قدّمها لموضوع الخصيان في "كتاب الحيوان" و"كتاب مفاخرة الجواري والخلان" تأسيسية بامتياز، كونها رغم كل ما تصدمنا به اليوم بمقارناتها المنفّرة بين خصي البشر وخصي البهائم، وبين خصي السود وخصي البيض، وبين أخلاق الخصيان وأخلاق النساء والصبيان، تظلّ مستندة إلى "نزعة أنسنة": فالإخصاء يلحق بالبشر عكس ما يسفر عنه في الحيوان. والخصيان ليسوا كائنات لاجنسية، بل هم حتى سلع جنسية للنساء، توازي السلع الجنسية من جوار وغلمان للرجال.
ولئن حاول الجاحظ ربط الأمور بعضها ببعض على هذا النحو الذي بيّناه بإعادة قراءة وعرض ما كتبه، فقد حاول ابراهيم البيهقي من القرن الرابع الهجري، في كتاب "المحاسن والمساوئ"، تحرير جردة بمناقب وفضائل الخصيان: فهو لا يصلع، ولم ير خصياً قط مخنثاً، بل يمكن أن يكون مجاهداً نموذجياً، "فالخصي إذا تنسك غزا ولزم الثغور وبادر بماله إلى طرسوس".
يستشهد البيهقي هنا ببيت شعر له دلالته عن الخصيان في عصره، عصر الدفاع عن الثغور الإسلامية، مثل طرسوس، بوجه عودة الروم (البيزنطيون):
ونساء لمطمئن مقيم ورجال إن كانت الأسفار
وبعد أن كان الجاحظ يستعرض ثقل مشية الخصي، تجد البيهقي وهو مفتتن بصبر الخصي "على طول الركوب، والقوة على كثرة الركض، حتى يجاوز في ذلك رجال الأتراك وفرسان الخوارج." ثم يعود البيهقي للائحة مساوىء الخصيان (الرائحة النتنة – المادة الأثيرة للمتنبي في هجاء الخصي كافور، وحب الشراب والتبول في الفراش والإفراط في الشهوة وسرعة الدمعة والخبث).
قبل قرون مديدة من الصدمة التي شكلها وجود الخصيان في مجتمعات البلاط السلطانية بالنسبة إلى الرحالة ثم المستشرقين الأوروبيين الغربيين، كان التراث الإسلامي المكتوب يتأرجح بين الحميمية والغرائبية عند مقاربة الموضوع، سواء من باب الفقه أو الطب أو الأخلاق. هذا مع البقاء ضمن الترسيمة الأساسية: تحريم الخصي (وبالتالي إسناد ذلك لغير المسلمين، خصوصاً الأقباط، وكانت أسيوط محطة أساسية لذلك، واليهود، بالنسبة لإخصاء الصقالبة)، وإباحة شراء وبيع الخصيان. وما تعاظم من قرن إلى قرن كان تطوّر الوظائف الموكلة للخصيان، خصوصاً في العصرين المملوكي والعثماني، وهو ما يستحق مقالة بمفردها.
الماوردي: الخصي لا يمنع عن النبوة والإمامة
بيد أن حضارة الإسلام بقيت تميّز خصيانها عن "خصيان الروم". فكما يقول الجاحظ: "من أهل الملل من يخصي ابنه ويقفه على بيت العبادة ويجعله سادناً كصنيع الروم". بل أن "الروم أول من ابتدع الخصاء وكل خصاء في الدنيا فإنما أصله من قبل الروم" كما يقول في "الحيوان"، ويستعجب الجاحظ كيف يقوم بذلك النصارى و"هم يدّعون من الرأفة والرّحمة ورقّة القلب والكبد ما لا يدعيه أحد من جميع الأصناف".
وبالفعل، عرف التاريخ البيزنطي بطاركة وقديسين من الخصيان، لكنه عرف أيضاً من أخصوا لحرمانهم من الأهلية ليكونوا أباطرة. وهذه مسألة ستطرح نفسها على الفقه السياسي الإسلامي أيضاً، وأهمّ مصنّفاته في العصر العباسي المتأخّر، "الأحكام السلطانية" لأبي الحسن الماوردي (ت. 1058م). اشترط الماوردي في الإمامة، بمعنييها، "حراسة الدين وسياسة الدنيا"، أن يكون من يتولاها سليم الحواس، وسليم الأعضاء من دون نقص يمنعه عن قيادة الناس.
لكن المارودي لم يجد أن الخصي، سواء عني به قطع الذكر أو الخصيتين، يمنع عن عقد الإمامة أو عن استدامتها، "لأن فقد هذين العضوين يؤثر في التناسل دون الرأي والحنكة"، بل يفسّر المارودي معنى "حصور" عن النبي يحيى بن زكريا على أنه "من لا يقدر على اتيان النساء"، و"من لم يكن له ذكر يغشى به النساء أو كان (ذكره) كالنواة". بالتالي، "لم يمنع ذلك من النبوة، فأولى أن لا يمنع من الإمامة".
باستثناءات قليلة، مثل حالة كافور الأخشيدي، لم يصل الخصيان إلى هذه المنزلة في العصور السلطانية، لكن أمرهم سيتعاظم في البطانة الحاكمة مع "طواشي" المماليك و"آغات" العثمانيين، فيصل منهم نفر إلى الصدارة العظمى في السلطنة، ويتولى آخرون خزانتها وأوقافها وإدارة الأماكن المقدّسة فيها، ثم تتراجع "مؤسستهم" مع أفول الدولة العثمانية. ولهذا جزء آخر.
[SIZE=6]- وسام سعادة - الخصيان في التراث العربي: أرّقت شهوتهم الجاحظ وأقرّ الماوردي بحقّهم في الإمامة[/SIZE]
ما بين هذين الحدّين، تشكّل المنظار الفقهي للعصور السلطانية، بين النهي عن الخصي، وبين تشريع شراء وبيع الخصيان من الرقيق، الأبيض والأسود، وصولاً إلى إناطة وظائف اجتماعية وسياسية ومالية وتربوية ودينية بهذه الشريحة من الناس.
فكان "خصيان الدهليز"، يفصلون بين "الحرملك" وباقي أنحاء البلاط السلطاني، و"خصيان التربة"، يفصلون بين الميت والحي، في جوار أضرحة السلاطين والأولياء الصالحين، وصولاً إلى الخصيان العاملين في خدمة المسجد الحرام بمكّة والمسجد النبوي في المدينة، ويعرفون بـ"الأغاوات"، حيث توطّدت وظيفتهم هذه في أيّام الأيوبيين ثم المماليك، وتعزّزت مع العثمانيين، وتراجعت مع السعوديين، ولم يتبق منهم اليوم في المدينة سوى بضعة أشخاص متقدّمين في السن.
الفرق بين المجبوب والمخصي
شكّل الخصي والخصيان مبحثاً أساسياً في كتاب "الحيوان" للعلامة البصريّ أبي عثمان عمرو بن بحر المعروف بـ"الجاحظ" (ت 869م). دافع الجاحظ عن النظرة المهيمنة في مجتمعه بأنّ الخصاء حرام، لكن بيع الخصي (الذي يفترض أن يكون تم خصاؤه قبل البلوغ) وشراءه حلال، وهاجم الطاعنين بهذه النظرة ووصفهم بـ"الأغبياء المنقوصين"، وذهب إلى أنّ "هديّة الخصيّ كهديّة الثوب والعطر والدّابة والفاكهة"، وأنّ "الخصيّ لا يحرم ملكه ولا استخدامه، بل لا يحلّ طرده ونفيه"، أما تحريره فـ"جائز".
مخصي-في-بلاط-السلطان-العثماني-عبد-الحميد-الثاني،-1912. خصي في بلاط السلطان العثماني
ميّز التراث العربيّ بين "المجبوب" و"الخصي". الخصي هو الذي بقي عضوه التناسلي (ذكره) دون الخصيتين (المعروفتان أيضاً بتعبير "الأنثيان"). أما "المجبوب" أو "الممسوح"، فبقيت خصيتاه (أنثياه) دون ذكره. سيطر هذا التقسيم على كل ما كتب عن هذا الموضوع، في المجتمعات الإسلاميّة، منذ أيّام الجاحظ حتى مطالع العصر الحديث. تبعاً لهذا التقسيم، ليس هناك "خصيّ مطلق".
الخصي لا يفقد جنسانيته تماماً. "بالعكس" يكاد يقول الجاحظ. فهو يوضح لقارئ كتاب "الحيوان" أنّ "الخصيّ ينكح ويتّخذ الجواري ويشتدّ شغفه بالنساء"، هذا حين يعتق ويقتدر، والأهم، يشتدّ "شغفهنّ به"، لا سيّما عندما يكون لا يزال خادماً للحريم.
وهذا إن كان منزوع الخصيتين، أما إذا كان "مجبوب" العضو، سليم الخصيتين، فإنه "قد بقي له ما عسى أن يكون فيه من ذلك ما هو أعجب إليهنّ، وقد يحتلم ويخرج منه عند الوطء ماء (السائل المنوي)، ولكنه قليلّ متغيّر الريح رقيق ضعيف".
"أخلاقه مقسمّة بين أخلاق النساء وأخلاق الصبيان"
ما دوّنه الجاحظ في كتاب "الحيوان" هو بمثابة تصريح عن النظرة الرائجة حول الخصيان في العصر العباسي، خصوصاً في مجتمع البلاط ومنازل الأثرياء التي كانت تقبل على شراء الخصيان وتلحقهم بمجتمع الحريم.
فمن ناحية، يخرج الجاحظ، كما مجتمعه، الخصيان من دائرة "الرجولة" المعرّفة على أنّها "الفحولة". الخصي في منزلة بين منزلتين: "ليس برجل ولا امرأة" يقول الجاحظ. بل هو في منزلة بين النساء والصبيان كما يذكر في "كتاب مفاخرة الجواري والغلمان": "أخلاقه مقسّمة بين أخلاق النساء وأخلاق الصبيان". فهو سريع الدمعة والغضب، ويحب النميمة ولا يستأمن على سرّ، ويبول في الفراش، وهو يعمّر أكثر من الفحول. يستخدم الجاحظ هنا تشبيهاً صادماً لنا اليوم، إذ يقول: "كذلك طول أعمار البغال لقلة النّزو".
ويفسّر، في المقابل، قلّة أعمار العصافير "لكثرة سفادها". وبالعودة لكتاب "الحيوان": "يعرض للخصي العبث واللعب بالطير، وما أشبه ذلك من أخلاق النساء، وهو من أخلاق الصبيان أيضاً. ويعرض له الشره عند الطعام، والبخل عليه، والشحّ العام في كل شيء، وذلك من أخلاق الصبيان ثم النساء".
الخصي عند الجاحظ هو المتذبذب بامتياز. "مع الرجال امرأة، ومع النساء رجل".
"قد تجد في النساء من تؤثر الخصيان"
في الوقت نفسه، يرفض الجاحظ النظرة القائلة بأنّ شهوة الخصيّ الجنسية تقلّ. بل هي تزيد، وبشكل "حسود" وحانق. يهزأ الجاحظ إذاً من معشر الرجال الذين يطمئنون بأنّ نساءهم هي في صحبة الخصيان في الجناح المخصص للحريم، إذا كان سبب اطمئنانهم الاعتقاد بأنّ ما من تواصل جنسي ممكن بين نسائهم والخصيان. في الوقت نفسه، يطمئن الجاحظ هؤلاء الرجال بأنّ تواصلاً كهذا سيبقى محدوداً وبلا عواقب وخيمة. وهو يشرح من هذا المنطلق تلذذ نساء البلاط ومنازل الأثرياء مع الخصيان. فصحيح أن الخصي "يباشر (يضاجع) بمشقّة"، لكن المرأة يمكن أن تعاشره و"هي آمنة العار الأكبر، فهذا أشدّ لتوفير لذّتها وشهوتها"، حتى اذا تجاوزت النساء الحياء والخجل أمكنها إطلاق العنائن لطبائعها وشهواتها مع الخصيان، "فأمكنها النخير والصياح، وأن تكون مرة من فوق ومرة من أسفل، وسمحت النفس بمكنونها وأظهرت أقصى ما عندها"، كما أنّ المرأة تميل إلى الخصي "لأن أمره أستر وعاقبته أسلم وتحرص عليه لأنه ممنوع منها ولأن ذلك حرام عليها".
لا ينظر الجاحظ للخصيان المصرّح لهم، دون سواهم من الرجال، بالخدمة على النساء، ككائنات "لا جنسية"، بل كسلعة جنسية بلا عواقب وخيمة بالنسبة للنساء. يقول: "قد تجد في النساء من تؤثر النساء، وتجد فيهن من تؤثر الرجال، وتجد فيهن من تؤثر الخصيان، وتجد فيهنّ من تجمع ولا تفرّق وتعمّ ولا تخصّ".
الفرق بين الإنسان والحيوان
يمكن، بالنسبة إلى الجاحظ، معرفة "الخصيّ" من صوته، خصوصاً إذا كان من الخصيان الصقالبة (السلافيون)، كما يمكن الاستدلال عليه من مشيته، إذ "يشتد وقع رجله على أرض السطح". يعتبرهم جيّدين للخدمة، إنما "لم تر أحداً منهم قط نفذ إلى صناعة تنسب إلى بعض المشقّة". يقابل الجاحظ بين إخصاء الحيوان وإخصاء الإنسان. إخصاء حيوان أو طير ينقص رائحته الكريهة، أما إخصاء الإنسان فيجعله "أنتن، وصنانه أحدّ، ويعمّ أيضاً خبث العرق سائر جسده حتى لتوجد لأجسادهم رائحة لا تكون لغيرهم". ويتابع على هذه الوتيرة: "الإنسان إذا خُصي طال عظمه وعُرض فخالف أيضاً جميع الحيوان من هذا الوجه". لا يتوقف عند هذه العتبة. هو يرى أيضاً أنّ الخصاء يعلي من خصال الرقيق الأبيض من الصقالبة، لكنه يهبط من خصال الرقيق الأسود من الحبشة والنوبة والسودان.
الخصيان غير مخنثين .. بعكس "الغلمان"
يميّز الجاحظ بشكل كليّ بين "الخصيان" وبين "الغلمان". فالغلمان المُرد هم مراهقون مخنثون اندفع الأثرياء والشعراء في عصره في طلبهم وحبّهم أكثر من الجري وراء الجواري (في عصر الجاحظ كانت الجارية إذا وصفت بكمال الحسن قيل "كأنها غلام")، أما الخصيان فغير مخنثين.
يقول الجاحظ عن الخصيان في "الحيوان": "من العجب أنّهم مع خروجهم من شطر طبائع الرجال إلى طبائع النساء لا يعرض لهم التخنيث." ثم يخبرك بأنه صادف له أن رأى إعرابيّاً مخنثاً، ومخنثاً من "الزنج الأقحاح" (يقصد الفحول)، و"قد خبّرني من رأى كردياً مخنثاً"، لكن "لم أر خصياً قط مخنثاً، ولا سمعت به ولا أدري كيف ذلك، ولا أعرف المانع منه، ولو كان الأمر في ذلك إلى ظاهر الرأي. لقد كان ينبغي لهم أن يكون ذلك فيهم عامّاً". ورغم أن الجاحظ يحدّد المشترك بين الخصيان والغلمان لجهة عدم ظهور اللحية، فإنّه يرفق ذلك بالتعجب من أنّ ذلك يترافق مع "قلّة ما يعرض للخصيان من التخنيث، مع مفارقتهم لشطر معاني الرجال إلى شبه النساء".
تبدّل النظرة: الخصيان على الجبهة
الجاحظ من أعلام العصر العباسي، في القرن الثالث للهجرة، التاسع للميلاد. المقاربة التي قدّمها لموضوع الخصيان في "كتاب الحيوان" و"كتاب مفاخرة الجواري والخلان" تأسيسية بامتياز، كونها رغم كل ما تصدمنا به اليوم بمقارناتها المنفّرة بين خصي البشر وخصي البهائم، وبين خصي السود وخصي البيض، وبين أخلاق الخصيان وأخلاق النساء والصبيان، تظلّ مستندة إلى "نزعة أنسنة": فالإخصاء يلحق بالبشر عكس ما يسفر عنه في الحيوان. والخصيان ليسوا كائنات لاجنسية، بل هم حتى سلع جنسية للنساء، توازي السلع الجنسية من جوار وغلمان للرجال.
ولئن حاول الجاحظ ربط الأمور بعضها ببعض على هذا النحو الذي بيّناه بإعادة قراءة وعرض ما كتبه، فقد حاول ابراهيم البيهقي من القرن الرابع الهجري، في كتاب "المحاسن والمساوئ"، تحرير جردة بمناقب وفضائل الخصيان: فهو لا يصلع، ولم ير خصياً قط مخنثاً، بل يمكن أن يكون مجاهداً نموذجياً، "فالخصي إذا تنسك غزا ولزم الثغور وبادر بماله إلى طرسوس".
يستشهد البيهقي هنا ببيت شعر له دلالته عن الخصيان في عصره، عصر الدفاع عن الثغور الإسلامية، مثل طرسوس، بوجه عودة الروم (البيزنطيون):
ونساء لمطمئن مقيم ورجال إن كانت الأسفار
وبعد أن كان الجاحظ يستعرض ثقل مشية الخصي، تجد البيهقي وهو مفتتن بصبر الخصي "على طول الركوب، والقوة على كثرة الركض، حتى يجاوز في ذلك رجال الأتراك وفرسان الخوارج." ثم يعود البيهقي للائحة مساوىء الخصيان (الرائحة النتنة – المادة الأثيرة للمتنبي في هجاء الخصي كافور، وحب الشراب والتبول في الفراش والإفراط في الشهوة وسرعة الدمعة والخبث).
قبل قرون مديدة من الصدمة التي شكلها وجود الخصيان في مجتمعات البلاط السلطانية بالنسبة إلى الرحالة ثم المستشرقين الأوروبيين الغربيين، كان التراث الإسلامي المكتوب يتأرجح بين الحميمية والغرائبية عند مقاربة الموضوع، سواء من باب الفقه أو الطب أو الأخلاق. هذا مع البقاء ضمن الترسيمة الأساسية: تحريم الخصي (وبالتالي إسناد ذلك لغير المسلمين، خصوصاً الأقباط، وكانت أسيوط محطة أساسية لذلك، واليهود، بالنسبة لإخصاء الصقالبة)، وإباحة شراء وبيع الخصيان. وما تعاظم من قرن إلى قرن كان تطوّر الوظائف الموكلة للخصيان، خصوصاً في العصرين المملوكي والعثماني، وهو ما يستحق مقالة بمفردها.
الماوردي: الخصي لا يمنع عن النبوة والإمامة
بيد أن حضارة الإسلام بقيت تميّز خصيانها عن "خصيان الروم". فكما يقول الجاحظ: "من أهل الملل من يخصي ابنه ويقفه على بيت العبادة ويجعله سادناً كصنيع الروم". بل أن "الروم أول من ابتدع الخصاء وكل خصاء في الدنيا فإنما أصله من قبل الروم" كما يقول في "الحيوان"، ويستعجب الجاحظ كيف يقوم بذلك النصارى و"هم يدّعون من الرأفة والرّحمة ورقّة القلب والكبد ما لا يدعيه أحد من جميع الأصناف".
وبالفعل، عرف التاريخ البيزنطي بطاركة وقديسين من الخصيان، لكنه عرف أيضاً من أخصوا لحرمانهم من الأهلية ليكونوا أباطرة. وهذه مسألة ستطرح نفسها على الفقه السياسي الإسلامي أيضاً، وأهمّ مصنّفاته في العصر العباسي المتأخّر، "الأحكام السلطانية" لأبي الحسن الماوردي (ت. 1058م). اشترط الماوردي في الإمامة، بمعنييها، "حراسة الدين وسياسة الدنيا"، أن يكون من يتولاها سليم الحواس، وسليم الأعضاء من دون نقص يمنعه عن قيادة الناس.
لكن المارودي لم يجد أن الخصي، سواء عني به قطع الذكر أو الخصيتين، يمنع عن عقد الإمامة أو عن استدامتها، "لأن فقد هذين العضوين يؤثر في التناسل دون الرأي والحنكة"، بل يفسّر المارودي معنى "حصور" عن النبي يحيى بن زكريا على أنه "من لا يقدر على اتيان النساء"، و"من لم يكن له ذكر يغشى به النساء أو كان (ذكره) كالنواة". بالتالي، "لم يمنع ذلك من النبوة، فأولى أن لا يمنع من الإمامة".
باستثناءات قليلة، مثل حالة كافور الأخشيدي، لم يصل الخصيان إلى هذه المنزلة في العصور السلطانية، لكن أمرهم سيتعاظم في البطانة الحاكمة مع "طواشي" المماليك و"آغات" العثمانيين، فيصل منهم نفر إلى الصدارة العظمى في السلطنة، ويتولى آخرون خزانتها وأوقافها وإدارة الأماكن المقدّسة فيها، ثم تتراجع "مؤسستهم" مع أفول الدولة العثمانية. ولهذا جزء آخر.
[SIZE=6]- وسام سعادة - الخصيان في التراث العربي: أرّقت شهوتهم الجاحظ وأقرّ الماوردي بحقّهم في الإمامة[/SIZE]