نقوس المهدي
كاتب
الخبز هذا الذي لا أحد يشكّ في ضرورته فدونه لا حياة ولا حركة. وهو المحقر العاري أو الحافي، على حد تعبير محمد شكري، والمعظم أيضا والذي قيدت من أجله الثورات وقامت من أجل الحصول عليه طوابير مديدة. هو نوع الجماد الحيّ الذي امتلك شيئا من الكاريزما فسحر الألباب بسمرته الخاطفة، هذا رغم احتواء جسمه لبعض الندوب.
ليس بالضرورة أن تكون لاهوتيا لتدرك أن الخبز مرتبط بالقداسة. فنبي المسلمين محمد يقول فيه : “أكرموا الخبز فإن الله أكرمه وسخر له بركات من السماء والأرض، ولا تسندوا به القصعة فانه ما أهانه قوم إلا ابتلاهم الله بالجوع”. ونهى أيضا عن قطعه بالسكين إكراما له. وعندما نعرف أن بيت لحم تعني بالآرامية دار الخبز نفهم حضوره في اليهودية فالمسيحية بالتّالي وسرّ وجوده بطقوس تقديم القربان المقدس. قال المسيح : “في الماء هذا أبي وفي الخبز هذا أمي”. يريد أنهما (الخبز والماء) يغذيان الأبْدان كما يغذيان الأبوين. فعند احتفال اليهود بعيد الفصح تجدهم يردّدون : “الخبز لم يجد الوقت للنهوض”، مذكرين بهروبهم المفاجئ من أرض مصر. عيد تحضر فيه فطيرة دون خميرة، خلافا لخبزهم اليومي.
وقد اتّسم الخبز منذ القدم، منذ العصور الحجرية، بشكل من أشكال الروحانيّة، إذ يعمد الإنسان البدائيّ إلى دفن الميّت بمعيّة الحبوب التي يمتلكها في ذات القبور لاعتقادهم أن الخبز سيكون ضروريّا في الحياة الأخرى. يتجاوز الخبز هنا الحياة نحو الموت، وهو حاو لجلّ عناصر الكون من ماء وتراب ونار وغيره. لذلك اكتسب عديد الرّموز، فاعتبر “عيشا” لدى المصريين، وارتبط بمكافأة العمل كقول التونسيّين معبرين عن العمل :“يلقط الخبزة” أو القول “مس قلبي ولا تمس رغيفي” يعني لا تقطع عيشي. ففي جمعه يبدو الخبز مشابها للحصى وأمّا جمعه فيتطلب جهدا خاصا، له بعد ايديولوجيّ فكأنه غير متوفّر بالسهولة الكافية، مما يجعل جمعه على هامش مزابل الموسرين. فشتان بين خبز الفقراء وخبز الأغنياء، وشتان بين الخبز الأسود (ذو القيمة الغذائية العالية) والخبز الأبيض، والأحمر، والأصفر، والخبز ذي الأشكال المتنوّعة من السويّ إلى الدّائريّ إلى المحاكي لأشكال تصل إلى حدود التعقيد.
من ناحية أخرى ترتبط طريقة إعداد الخبز بالخصوبة. فوضعه في الفرن، ونضوجه، ثم إخراجه ما هي إلاّ عمليّات توحي بالتزاوج والحمل والولادة. فقد عمد اليونانيون، في العصور الوسطى، إلى حبس بعض الأطفال في الأفران. أولئك الذين أتوا بعد رضيع مات عند الولادة أو بعد قضاء ولد بكر. يقولون إنهم آكلو إخوتهم وأخواتهم! يضعونهم في الفرن، يشعلون نارا عند بابه ويسألونهم : هل ستلتهمون أشقاءكم؟ ولا يخرجون إلا إذا كان ردهم بالنفي (هم أو أحد البالغين عوضهم).
ضيق المكان وظلمته يحيلنا إلى ظل الحصار وفقه الانتظار بأي صبغة كان. و ما أكثر الأفران بعالمنا العربي. والمفارقة الغريبة أن إقامة صغيرة بفرن لها أن تؤسس لتكوَن جديدا، الفرن المظلم كالرّحم فيه يتكوّن الخبز كما يتكوّن الجنين ويطلّ علينا أحمرا كما يطلّ الجنين.
لطالما مثلت الخميرة التي تنفخ الخبز (كبطن امرأة حبلى) موضع عناية خصوصية في بعض المناطق الأوروبية. توفر لها الحماية كالأمهات. يستدعى الصمت في حضورها لئلاّ تقع العجينة، فترسم بعض التشوهات على جسد الوليد... في اليونان أيضا، تقترن الخميرة بالخصوبة. النسوة اللواتي يعتدن استعارتها، يقصين من طلبهن جاراتهن العقيمات.
وحول الخبز تحوم ايروتيكا ما، قادرة على إثارة كافة حواسنا في الوقت نفسه. رائحته العبقة خاصة عند خروجه من الفرن، وسامته، لمسته الدافئة و مذاقه المغري.. بطبيعة الحال إذا كان ذا جودة عالية. وعلى سبيل الطرفة: تغزل رجل بامرأته قائلا : “إن رائحتك مثل رائحة الزهور البرية”، فأجابته : “وأنت رائحتك مثل رائحة الخبز الساخن”. الخبز غاوٍ صنع من نارٍ مثل الشيطان يدفعنا إلى ارتكاب شتّى الخطايا. نذكر في الأسطوريّة البابليّة “لصّ بغداد” الفارّ دوما والهارب برغيف بين يديه سرقه من إحدى الأفران، هذا إضافة إلى ما طلعت به السنما في أولى أفلامها لشارلي شابلين وكم رغيفا سرق وكم مرّة حوصر من طرف الطبقة الحاكمة.
القداسة تلك تسرّبت في تفاصيل معاملة الشعوب لتلك المادة العجينية مثل انكار رميه أو وضعه مقلوبا، فذلك يجذب الأرواح الشريرة. كمّ تسرّب في الخرافة ذات البعد الشعبيّ. ترى الحيثيين الذين يعتقدون أنّ الخبز يحمي الجنود والرجال من الوهن. أما الخبز المخمر فيحصنهم من الأوبئة. أما الخبز المبارك في طقوس المسيحييين فلاعتبارهم الشهير أنه جسد يسوع.
علاوة على أنه يزيد من خصوبة الدجاج لتبيض بكميات خارقة، ولصيد الفئران من المخازن، ويساعد كل من يضعه في جيبه ليربح قضاياه... وأظنه يفيدنا بالوقاية من انفلونزا الخنازير مثلا أو الشفاء من زكام المفاوضات. فلماذا يغيب الخبز عن جيوب أولي الأمر منا؟
أمّا خلال القرن العاشر ميلادي، فقد استهلك الصينيون نوعا من الخبز المتبّل (المختلط بالتوابل) مي كنغ (MI KING) فكان جنكيز خان الامبراطور المعروف يستمتع به كثيرا ويصطحبه في الكثير من غزواته. والمرجح أن الصليبيين تسببوا في وصوله إلى الشرق في رحلاتهم التجاريّة في الحجّ أو في سلوكهم لـ“طريق الحرير” نحو الشرق الأقصى. وقد اكتسب شعبية في عديد المدن الأوروبية.
ومن ناحية إثارة الخبز للحروب، فتاريخها نصر أو هزيمة ولكل نتيجة رمز يؤرخ لها. قد يكون قوسا أو نصبا تذكاريا أو أي شيء آخر. وللخبز نصيبه أيضا. عندما حاول العثمانيون غزو أوروبا، واصلوا في زحفهم غرباً إلى أسوار فيينا سنة 1683. وعندما استعصت عليهم لصلابة تحصيناتها فكروا بدخولها من تحت الأرض عبر نفق يحفرونه. باشروا الحفر ليلاً ونهاراً حتى شارفوا على النجاح. لكن الغريب، والمصادف، هو تزامن الحفر ذات ليلة مع اقترابه من مخبز بالمدينة، حيث كان هناك أحد الخبازين النمساويين يعمل ليلاً في مخبزه ليكون الخبز جاهزاً في الصباح لأهل مدينته. فلاحظ وسط السكينة صوتاً غير مألوف.. سمع نقراً منتظماً ومستمراً في باطن الأرض قريباً منه. حمله شكه القلق إلى حاكم المدينة فأطلعه على الأمر. فخبروا خطة الغزاة وباغتوهم عند وصولهم لسطح الأرض. فدحر العثمانيون وكسرت شوكتهم وتشتت أحلامهم عند أسوار فيينا. وتذكيرا بنصرهم هذا أقدم الخباز “البطل” على صنع خبز بشكل هلال(CROISSANT) رمز الدولة العثمانية ليتذكر النمساويون مع كل قضمة فوزهم العظيم. وها أن العالم كله الآن يحتفي معهم، مع إشراقة كل يوم جديد، حتى المهزومون منهم دون إدراك للحقيقة.
في الزمن الحديث، حيث تطغى العولمة التي طالت القوت اليوميّ، فنحن لا ننسى ريادة الخبز. فها هو اللورد الانكليزي ساندويتش(SANDWICH) اكتسب شهرته بفضله. فهوسه بالقمار وطاولته، جعل طباخه يعد له أول فطيرة دسمة وسريعة التحضير.
غالبا ما يكون الخبز في الشرق مسطحا طريا ودون لبّ. يعوض الصحون والمناديل. في مصر يكنى عيْشا كما ذكرنا آنفا وخبزا بسورية ولبنان واليمن و“بيتا” بتركية. إخوة أشقاء لبيتاس (PITAS) الإغريقي. شهرته لم تأت من فراغ. فالإغريقيون هم أكبر من يستهلك الخبز بأوروبا، فالخبز بخلفيته الوجودية وقود للعمل الفكري. ولعلّه ما يفسّر ازدهار الفلسفة والمعرفة لدى اليونانيين القدامى، لذلك اعتبر منعه قتلا للاجتهاد ومرادفا للاضطهاد.. فناء للحكمة. ومن الطبيعي أن نقف خلف الطوابير بحثا عنه! وإذا تبخرت الحكمة لا يتبقى سوى شهداء الخبز والأحياء أكثرهم.
يمر الخبز في دمنا فننساه سريعا. ننسى أنه حلم الجوعى والتائهين. ننسى أنه يرافقنا بكل وجباتنا ورحلاتنا وخرافاتنا وأنه موحد الأديان جميعها. رمز القوت ووقودنا اليومي. يقول مثل روسي : “مع قطعة خبز تجد جنتك تحت التنَّوب” (التنَّوب هو شجر من فصيلة الصنوبريات). ويقول أبو المخفَّف الشاعر الذي عاصر المأمون:
منعُ الرغيفِ سفاهةٌ = تركُ الرغيفِ منَ الهَباتِ.
لنقل نهاية على سبيل الدعابة : تصبحون على خبز.
* شوقي البرنوصي: شاعر من تونس
ليس بالضرورة أن تكون لاهوتيا لتدرك أن الخبز مرتبط بالقداسة. فنبي المسلمين محمد يقول فيه : “أكرموا الخبز فإن الله أكرمه وسخر له بركات من السماء والأرض، ولا تسندوا به القصعة فانه ما أهانه قوم إلا ابتلاهم الله بالجوع”. ونهى أيضا عن قطعه بالسكين إكراما له. وعندما نعرف أن بيت لحم تعني بالآرامية دار الخبز نفهم حضوره في اليهودية فالمسيحية بالتّالي وسرّ وجوده بطقوس تقديم القربان المقدس. قال المسيح : “في الماء هذا أبي وفي الخبز هذا أمي”. يريد أنهما (الخبز والماء) يغذيان الأبْدان كما يغذيان الأبوين. فعند احتفال اليهود بعيد الفصح تجدهم يردّدون : “الخبز لم يجد الوقت للنهوض”، مذكرين بهروبهم المفاجئ من أرض مصر. عيد تحضر فيه فطيرة دون خميرة، خلافا لخبزهم اليومي.
وقد اتّسم الخبز منذ القدم، منذ العصور الحجرية، بشكل من أشكال الروحانيّة، إذ يعمد الإنسان البدائيّ إلى دفن الميّت بمعيّة الحبوب التي يمتلكها في ذات القبور لاعتقادهم أن الخبز سيكون ضروريّا في الحياة الأخرى. يتجاوز الخبز هنا الحياة نحو الموت، وهو حاو لجلّ عناصر الكون من ماء وتراب ونار وغيره. لذلك اكتسب عديد الرّموز، فاعتبر “عيشا” لدى المصريين، وارتبط بمكافأة العمل كقول التونسيّين معبرين عن العمل :“يلقط الخبزة” أو القول “مس قلبي ولا تمس رغيفي” يعني لا تقطع عيشي. ففي جمعه يبدو الخبز مشابها للحصى وأمّا جمعه فيتطلب جهدا خاصا، له بعد ايديولوجيّ فكأنه غير متوفّر بالسهولة الكافية، مما يجعل جمعه على هامش مزابل الموسرين. فشتان بين خبز الفقراء وخبز الأغنياء، وشتان بين الخبز الأسود (ذو القيمة الغذائية العالية) والخبز الأبيض، والأحمر، والأصفر، والخبز ذي الأشكال المتنوّعة من السويّ إلى الدّائريّ إلى المحاكي لأشكال تصل إلى حدود التعقيد.
من ناحية أخرى ترتبط طريقة إعداد الخبز بالخصوبة. فوضعه في الفرن، ونضوجه، ثم إخراجه ما هي إلاّ عمليّات توحي بالتزاوج والحمل والولادة. فقد عمد اليونانيون، في العصور الوسطى، إلى حبس بعض الأطفال في الأفران. أولئك الذين أتوا بعد رضيع مات عند الولادة أو بعد قضاء ولد بكر. يقولون إنهم آكلو إخوتهم وأخواتهم! يضعونهم في الفرن، يشعلون نارا عند بابه ويسألونهم : هل ستلتهمون أشقاءكم؟ ولا يخرجون إلا إذا كان ردهم بالنفي (هم أو أحد البالغين عوضهم).
ضيق المكان وظلمته يحيلنا إلى ظل الحصار وفقه الانتظار بأي صبغة كان. و ما أكثر الأفران بعالمنا العربي. والمفارقة الغريبة أن إقامة صغيرة بفرن لها أن تؤسس لتكوَن جديدا، الفرن المظلم كالرّحم فيه يتكوّن الخبز كما يتكوّن الجنين ويطلّ علينا أحمرا كما يطلّ الجنين.
لطالما مثلت الخميرة التي تنفخ الخبز (كبطن امرأة حبلى) موضع عناية خصوصية في بعض المناطق الأوروبية. توفر لها الحماية كالأمهات. يستدعى الصمت في حضورها لئلاّ تقع العجينة، فترسم بعض التشوهات على جسد الوليد... في اليونان أيضا، تقترن الخميرة بالخصوبة. النسوة اللواتي يعتدن استعارتها، يقصين من طلبهن جاراتهن العقيمات.
وحول الخبز تحوم ايروتيكا ما، قادرة على إثارة كافة حواسنا في الوقت نفسه. رائحته العبقة خاصة عند خروجه من الفرن، وسامته، لمسته الدافئة و مذاقه المغري.. بطبيعة الحال إذا كان ذا جودة عالية. وعلى سبيل الطرفة: تغزل رجل بامرأته قائلا : “إن رائحتك مثل رائحة الزهور البرية”، فأجابته : “وأنت رائحتك مثل رائحة الخبز الساخن”. الخبز غاوٍ صنع من نارٍ مثل الشيطان يدفعنا إلى ارتكاب شتّى الخطايا. نذكر في الأسطوريّة البابليّة “لصّ بغداد” الفارّ دوما والهارب برغيف بين يديه سرقه من إحدى الأفران، هذا إضافة إلى ما طلعت به السنما في أولى أفلامها لشارلي شابلين وكم رغيفا سرق وكم مرّة حوصر من طرف الطبقة الحاكمة.
القداسة تلك تسرّبت في تفاصيل معاملة الشعوب لتلك المادة العجينية مثل انكار رميه أو وضعه مقلوبا، فذلك يجذب الأرواح الشريرة. كمّ تسرّب في الخرافة ذات البعد الشعبيّ. ترى الحيثيين الذين يعتقدون أنّ الخبز يحمي الجنود والرجال من الوهن. أما الخبز المخمر فيحصنهم من الأوبئة. أما الخبز المبارك في طقوس المسيحييين فلاعتبارهم الشهير أنه جسد يسوع.
علاوة على أنه يزيد من خصوبة الدجاج لتبيض بكميات خارقة، ولصيد الفئران من المخازن، ويساعد كل من يضعه في جيبه ليربح قضاياه... وأظنه يفيدنا بالوقاية من انفلونزا الخنازير مثلا أو الشفاء من زكام المفاوضات. فلماذا يغيب الخبز عن جيوب أولي الأمر منا؟
أمّا خلال القرن العاشر ميلادي، فقد استهلك الصينيون نوعا من الخبز المتبّل (المختلط بالتوابل) مي كنغ (MI KING) فكان جنكيز خان الامبراطور المعروف يستمتع به كثيرا ويصطحبه في الكثير من غزواته. والمرجح أن الصليبيين تسببوا في وصوله إلى الشرق في رحلاتهم التجاريّة في الحجّ أو في سلوكهم لـ“طريق الحرير” نحو الشرق الأقصى. وقد اكتسب شعبية في عديد المدن الأوروبية.
ومن ناحية إثارة الخبز للحروب، فتاريخها نصر أو هزيمة ولكل نتيجة رمز يؤرخ لها. قد يكون قوسا أو نصبا تذكاريا أو أي شيء آخر. وللخبز نصيبه أيضا. عندما حاول العثمانيون غزو أوروبا، واصلوا في زحفهم غرباً إلى أسوار فيينا سنة 1683. وعندما استعصت عليهم لصلابة تحصيناتها فكروا بدخولها من تحت الأرض عبر نفق يحفرونه. باشروا الحفر ليلاً ونهاراً حتى شارفوا على النجاح. لكن الغريب، والمصادف، هو تزامن الحفر ذات ليلة مع اقترابه من مخبز بالمدينة، حيث كان هناك أحد الخبازين النمساويين يعمل ليلاً في مخبزه ليكون الخبز جاهزاً في الصباح لأهل مدينته. فلاحظ وسط السكينة صوتاً غير مألوف.. سمع نقراً منتظماً ومستمراً في باطن الأرض قريباً منه. حمله شكه القلق إلى حاكم المدينة فأطلعه على الأمر. فخبروا خطة الغزاة وباغتوهم عند وصولهم لسطح الأرض. فدحر العثمانيون وكسرت شوكتهم وتشتت أحلامهم عند أسوار فيينا. وتذكيرا بنصرهم هذا أقدم الخباز “البطل” على صنع خبز بشكل هلال(CROISSANT) رمز الدولة العثمانية ليتذكر النمساويون مع كل قضمة فوزهم العظيم. وها أن العالم كله الآن يحتفي معهم، مع إشراقة كل يوم جديد، حتى المهزومون منهم دون إدراك للحقيقة.
في الزمن الحديث، حيث تطغى العولمة التي طالت القوت اليوميّ، فنحن لا ننسى ريادة الخبز. فها هو اللورد الانكليزي ساندويتش(SANDWICH) اكتسب شهرته بفضله. فهوسه بالقمار وطاولته، جعل طباخه يعد له أول فطيرة دسمة وسريعة التحضير.
غالبا ما يكون الخبز في الشرق مسطحا طريا ودون لبّ. يعوض الصحون والمناديل. في مصر يكنى عيْشا كما ذكرنا آنفا وخبزا بسورية ولبنان واليمن و“بيتا” بتركية. إخوة أشقاء لبيتاس (PITAS) الإغريقي. شهرته لم تأت من فراغ. فالإغريقيون هم أكبر من يستهلك الخبز بأوروبا، فالخبز بخلفيته الوجودية وقود للعمل الفكري. ولعلّه ما يفسّر ازدهار الفلسفة والمعرفة لدى اليونانيين القدامى، لذلك اعتبر منعه قتلا للاجتهاد ومرادفا للاضطهاد.. فناء للحكمة. ومن الطبيعي أن نقف خلف الطوابير بحثا عنه! وإذا تبخرت الحكمة لا يتبقى سوى شهداء الخبز والأحياء أكثرهم.
يمر الخبز في دمنا فننساه سريعا. ننسى أنه حلم الجوعى والتائهين. ننسى أنه يرافقنا بكل وجباتنا ورحلاتنا وخرافاتنا وأنه موحد الأديان جميعها. رمز القوت ووقودنا اليومي. يقول مثل روسي : “مع قطعة خبز تجد جنتك تحت التنَّوب” (التنَّوب هو شجر من فصيلة الصنوبريات). ويقول أبو المخفَّف الشاعر الذي عاصر المأمون:
منعُ الرغيفِ سفاهةٌ = تركُ الرغيفِ منَ الهَباتِ.
لنقل نهاية على سبيل الدعابة : تصبحون على خبز.
* شوقي البرنوصي: شاعر من تونس