نقوس المهدي
كاتب
لا أذكر أنني رأيته في النهار يوما. فشكل وجهه المرتبك ينسجم تمام الانسجام مع ليل "لاكولمينا" الرث. وقد كان يظهر دائما هناك: بين زقاقي كامانا وكايوما.
كان يعتمر في بعض الأحيان قبعة قذرة (فتكون تلك هي أفضل ساعات عمله، إذ ينفخ حينئذ صدره مع الصفير، ويحيي بكبرياء، وحتى عبارة "طابت ليلتكم" تخرج منه عندها بصوت مرخم)، ولكنه يصفر على الدوام، مطلقاً رئتيه مع الصفير الذي يوجه به حركة المرور في تلك المنطقة المضطربة بفوضى السير في مركز مدينة "ليما" المشوش.
متى ظهر هناك؟ متى رأيته لأول مرة؟ ومنذ متى بدأ يتعرف عليّ ويوجه إليّ تلك التحية الحميمة التي لم تثر اهتمامي في أول الأمر، لكنني صرت أعتبرها اليوم قطعة من العتمة، وجزءاً من رطوبة ليالي نيسان القذرة؟
في بعض الأحيان، وحين يكون النعاس والإرهاق مهيمنين عليّ، بعد أن أكون قد ركنت السيارة وبدأت مسيري الليلي نحو البيت، يأتيني فجأة صوت الصفير الرنان (ذلك الصفير الذي تعلمت أن أعرف أنه لا يمكن أن يكون صادراً من صدر شرطي منتفخ.) وكان ذلك الصفير يأتي في أغلب الأحيان من المكان نفسه: مقابل سينما "باريس" قريباً من ثلاثة مطاعم فاخرة، كنت قد رأيته جالساً على رصيفها عدة مرات.
كان في تلك السن التي يستحيل على المرء تحديدها بدقة: ما بين الخمسين والستين. لم يكن شيخاً هرماً على أية حال، ولكنه لم يكن كذلك رجلاً في مرحلة الشباب الثاني الذي يعيشه الناس عادة ما بين الأربعين من العمر ونصف القرن.
إنه ريفي دون شك، ولوجهه ذلك اللون البرونزي الذي يميز من هم ليسوا بالخلاسيين المكتملين، لكنه لم يكن ريفياً نقياً كذلك.
لست أدري إن كان به شيء من العرج، لكنه حين يمشي - وخصوصاً حين يمشي مسرعاً، وهو ما يفعله بكثرة - يبدو أن في مشيته نوعاً من العرج الذي يتيح لي التعرف عليه من مسافة بعيدة نسبياً.
كان يجوب منطقة "لاكولمينا"، بحثاً عن اختناقات مفترضة (أو حقيقية) في حركة المرور، ما تلبث أن تنحل قبل أن يصل. هل كان لصفيره حقاً كل تلك القدرة التنظيمية؟!
وفجأة، تضيء الذاكرة: أجل، لقد كانت هناك فترة ماضية كرس فيها نفسه للعناية بالسيارات. كان واحداً من أولئك الذين ما إن تترك سيارتك للحظة واحدة، حتى تجدها عند عودتك وقد أصبحت جاهزة، ولا يطلب منك شيئاً مقابل ذلك، بل ينهمك في فتح الباب، ثم في توجيهك للخروج بالسيارة، مومئاً بحركات مرور دقيقة ومستخدماً في ذلك الخرقة القذرة التي يحملها بيمناه على الدوام، وإن كان يعلقها أحيانا بنزق على ذراع اليد ذاتها.
عندئذ لا تستطيع بالطبع أن ترفض منحه شيئا. وأظن أن هذا هو السبب الذي جعله واحداً من أكثر الأشخاص المألوفين لديّ، ولابد أنه كان يتذكر وجهي بين أصدقائه القليلين.
بعد ذلك رأيته يغسل بعض السيارات. لكنه لم يفعل ذلك معي على الإطلاق.
ثم جاءت القفزة "الديالكتيكية" فيما بعد. الحقيقة أنني لا أستطيع تحديد زمن وقوعها. ولكنها جرت كما يبدو حين انتقلت للسكن في مركز المدينة. فمنذ ذلك الحين صرت أسمع صوت الصفير بشكل دائم. ظننت أول الأمر أن من يفعل ذلك هو شرطي مخبول، لكنني سرعان ما أدركت أن ذلك مستحيل، فقد جاء وقت كان من الوهم التفكير فيه بوجود شرطي (وخصوصاً شرطي مرور) في ساعات الليل، حتى في مركز المدينة ذاته، اللهم إلا إذا كان هناك اجتماع متأخر لمجلس الوزراء، أو إذا كان على شخصية رفيعة، وخصوصاً رئيس الجمهورية بالذات، الخروج في وقت متأخر. أي أن صاحب الصفير لم يكن شرطياً.
لكن ذلك لم يقلقني، لأنه ليس في الأمر ما يدعو إلى القلق. إلى أن رأيته في إحدى الليالي، بوجهه المرتبك، وهو يجتاز الشارع، يرافقه ذلك الصفير المتهور الذي لا يتوقف عن إطلاقه، وكأن حياته تتوقف عليه. لكن حياته كانت في حركاته أيضا: في تلويح ذراعيه الواثقتين من أنهما توجهان حركة كواكب المجرة.
عند عودتي من رحلتي الأخيرة، وجدته فيما يمكن تسميته عصره الذهبي.
كان يبدو أكثر تحكما بنفسه: منتصب القامة، وعلى ذراعه اليمنى تلك الخرقة الأبدية. ولم يعد يمشي مسرعاً، بل صار انتقاله من مكانه أشبه بالمشية المنتظمة أمام محكمة نؤلفها نحن جميع من كنا نمتثل لصفيره الذي كان يصبح أكثر ذاتية يوماً بعد آخر، والصفير الوحيد في ليل مدينة ليما التي يغادرها رجال الشرطة قبل حلول الليل بوقت طويل، هاربين مثل الفئران من الاغتيالات الإرهابية التي صارت شائعة. فاعتباراً من الساعة السادسة مساء (وقد لاحظت ذلك منذ عودتي) يعتصم رجال الشرطة في مواقعهم ويغلقون كل الشوارع المؤدية إليها، بحيث لا يتمكن أحد من إزعاج أمنهم المحاصر.
أثناء ذلك، وفي مركز المدينة - بل ويمكنني أن أؤكد كذلك أنه في المدينة كلها - كان صديقي، مجنون الصفارة، هو من يمثل السلطة الغائبة.
لقد أدركت ذلك عندما حاولت أن أجد تفسيراً لمغزى صفيره الحاد الذي لا معنى له في الظاهر، ولتلك الإشارات المتمادية في غيها، فعرفت أن النظام الذي يسود المدينة، في الليل على الأقل، هو نظام الجنون.
إنني واثق من أن صديقي كان يعي شيئاً من ذلك، إذ لم يكن عبثا أنه يواصل الصفير ذاته حين يلمح أحد معارفه على مقربة منه.
وفي تلك الفترة بدأ يهتم بزيه، أو ما يمكننا أن نسميه زيه، بعض الاهتمام. فإضافة إلى القبعة التي لا تغيب، والتي استحال لونها إلى رمادي ضارب إلى الزرقة بسبب مزيج القذارة والبلى، كانت ملابسه تبدو وكأنها من جينز باهت. بل إن حذاءه الذي التقطه حديثاً (وأقول التقطه لأني لا أستطيع استخدام فعل: اشتراه) لم يكن متنافراً مع ذلك الزي العام.
لم يكن مجنون الصفارة يتوقف عن الصفير والنفخ في مملكته التي تركها له رجال الشرطة - السادة السابقون والمهيمنون على الصفير - كان ينفخ مستنزفاً حياته التي استنزفت نهائياً بالفعل في تلك الليلة التي جاء فيها الخارج على القانون "راسكا - راسكا" وقد أعمى الخوف قلبه، فأفرغ كل ما في بندقيته من رصاص باتجاه المكان الذي يصدر منه الصفير، موقناً من أنه يقدم بذلك خدمة كبيرة للمجتمع، بتصفيته واحداً آخر من أولئك الشرطة الكريهين، الذين يحملهم مسئولية زجه في "إصلاحية الأحداث الجانحين" حين كان عمره تسع سنوات، وسرق علبة واحدة من علب "لبان البالون" الذي كانوا يعلنون عنه في التليفزيون، وكان المذيع يقول بلهجة حاسمة إنه لابد للأطفال السعداء والمرحين من مضغ ذلك اللبان، فظن يومها أنه واحد منهم، لكنه كان مخطئا.
كان يعتمر في بعض الأحيان قبعة قذرة (فتكون تلك هي أفضل ساعات عمله، إذ ينفخ حينئذ صدره مع الصفير، ويحيي بكبرياء، وحتى عبارة "طابت ليلتكم" تخرج منه عندها بصوت مرخم)، ولكنه يصفر على الدوام، مطلقاً رئتيه مع الصفير الذي يوجه به حركة المرور في تلك المنطقة المضطربة بفوضى السير في مركز مدينة "ليما" المشوش.
متى ظهر هناك؟ متى رأيته لأول مرة؟ ومنذ متى بدأ يتعرف عليّ ويوجه إليّ تلك التحية الحميمة التي لم تثر اهتمامي في أول الأمر، لكنني صرت أعتبرها اليوم قطعة من العتمة، وجزءاً من رطوبة ليالي نيسان القذرة؟
في بعض الأحيان، وحين يكون النعاس والإرهاق مهيمنين عليّ، بعد أن أكون قد ركنت السيارة وبدأت مسيري الليلي نحو البيت، يأتيني فجأة صوت الصفير الرنان (ذلك الصفير الذي تعلمت أن أعرف أنه لا يمكن أن يكون صادراً من صدر شرطي منتفخ.) وكان ذلك الصفير يأتي في أغلب الأحيان من المكان نفسه: مقابل سينما "باريس" قريباً من ثلاثة مطاعم فاخرة، كنت قد رأيته جالساً على رصيفها عدة مرات.
كان في تلك السن التي يستحيل على المرء تحديدها بدقة: ما بين الخمسين والستين. لم يكن شيخاً هرماً على أية حال، ولكنه لم يكن كذلك رجلاً في مرحلة الشباب الثاني الذي يعيشه الناس عادة ما بين الأربعين من العمر ونصف القرن.
إنه ريفي دون شك، ولوجهه ذلك اللون البرونزي الذي يميز من هم ليسوا بالخلاسيين المكتملين، لكنه لم يكن ريفياً نقياً كذلك.
لست أدري إن كان به شيء من العرج، لكنه حين يمشي - وخصوصاً حين يمشي مسرعاً، وهو ما يفعله بكثرة - يبدو أن في مشيته نوعاً من العرج الذي يتيح لي التعرف عليه من مسافة بعيدة نسبياً.
كان يجوب منطقة "لاكولمينا"، بحثاً عن اختناقات مفترضة (أو حقيقية) في حركة المرور، ما تلبث أن تنحل قبل أن يصل. هل كان لصفيره حقاً كل تلك القدرة التنظيمية؟!
وفجأة، تضيء الذاكرة: أجل، لقد كانت هناك فترة ماضية كرس فيها نفسه للعناية بالسيارات. كان واحداً من أولئك الذين ما إن تترك سيارتك للحظة واحدة، حتى تجدها عند عودتك وقد أصبحت جاهزة، ولا يطلب منك شيئاً مقابل ذلك، بل ينهمك في فتح الباب، ثم في توجيهك للخروج بالسيارة، مومئاً بحركات مرور دقيقة ومستخدماً في ذلك الخرقة القذرة التي يحملها بيمناه على الدوام، وإن كان يعلقها أحيانا بنزق على ذراع اليد ذاتها.
عندئذ لا تستطيع بالطبع أن ترفض منحه شيئا. وأظن أن هذا هو السبب الذي جعله واحداً من أكثر الأشخاص المألوفين لديّ، ولابد أنه كان يتذكر وجهي بين أصدقائه القليلين.
بعد ذلك رأيته يغسل بعض السيارات. لكنه لم يفعل ذلك معي على الإطلاق.
ثم جاءت القفزة "الديالكتيكية" فيما بعد. الحقيقة أنني لا أستطيع تحديد زمن وقوعها. ولكنها جرت كما يبدو حين انتقلت للسكن في مركز المدينة. فمنذ ذلك الحين صرت أسمع صوت الصفير بشكل دائم. ظننت أول الأمر أن من يفعل ذلك هو شرطي مخبول، لكنني سرعان ما أدركت أن ذلك مستحيل، فقد جاء وقت كان من الوهم التفكير فيه بوجود شرطي (وخصوصاً شرطي مرور) في ساعات الليل، حتى في مركز المدينة ذاته، اللهم إلا إذا كان هناك اجتماع متأخر لمجلس الوزراء، أو إذا كان على شخصية رفيعة، وخصوصاً رئيس الجمهورية بالذات، الخروج في وقت متأخر. أي أن صاحب الصفير لم يكن شرطياً.
لكن ذلك لم يقلقني، لأنه ليس في الأمر ما يدعو إلى القلق. إلى أن رأيته في إحدى الليالي، بوجهه المرتبك، وهو يجتاز الشارع، يرافقه ذلك الصفير المتهور الذي لا يتوقف عن إطلاقه، وكأن حياته تتوقف عليه. لكن حياته كانت في حركاته أيضا: في تلويح ذراعيه الواثقتين من أنهما توجهان حركة كواكب المجرة.
عند عودتي من رحلتي الأخيرة، وجدته فيما يمكن تسميته عصره الذهبي.
كان يبدو أكثر تحكما بنفسه: منتصب القامة، وعلى ذراعه اليمنى تلك الخرقة الأبدية. ولم يعد يمشي مسرعاً، بل صار انتقاله من مكانه أشبه بالمشية المنتظمة أمام محكمة نؤلفها نحن جميع من كنا نمتثل لصفيره الذي كان يصبح أكثر ذاتية يوماً بعد آخر، والصفير الوحيد في ليل مدينة ليما التي يغادرها رجال الشرطة قبل حلول الليل بوقت طويل، هاربين مثل الفئران من الاغتيالات الإرهابية التي صارت شائعة. فاعتباراً من الساعة السادسة مساء (وقد لاحظت ذلك منذ عودتي) يعتصم رجال الشرطة في مواقعهم ويغلقون كل الشوارع المؤدية إليها، بحيث لا يتمكن أحد من إزعاج أمنهم المحاصر.
أثناء ذلك، وفي مركز المدينة - بل ويمكنني أن أؤكد كذلك أنه في المدينة كلها - كان صديقي، مجنون الصفارة، هو من يمثل السلطة الغائبة.
لقد أدركت ذلك عندما حاولت أن أجد تفسيراً لمغزى صفيره الحاد الذي لا معنى له في الظاهر، ولتلك الإشارات المتمادية في غيها، فعرفت أن النظام الذي يسود المدينة، في الليل على الأقل، هو نظام الجنون.
إنني واثق من أن صديقي كان يعي شيئاً من ذلك، إذ لم يكن عبثا أنه يواصل الصفير ذاته حين يلمح أحد معارفه على مقربة منه.
وفي تلك الفترة بدأ يهتم بزيه، أو ما يمكننا أن نسميه زيه، بعض الاهتمام. فإضافة إلى القبعة التي لا تغيب، والتي استحال لونها إلى رمادي ضارب إلى الزرقة بسبب مزيج القذارة والبلى، كانت ملابسه تبدو وكأنها من جينز باهت. بل إن حذاءه الذي التقطه حديثاً (وأقول التقطه لأني لا أستطيع استخدام فعل: اشتراه) لم يكن متنافراً مع ذلك الزي العام.
لم يكن مجنون الصفارة يتوقف عن الصفير والنفخ في مملكته التي تركها له رجال الشرطة - السادة السابقون والمهيمنون على الصفير - كان ينفخ مستنزفاً حياته التي استنزفت نهائياً بالفعل في تلك الليلة التي جاء فيها الخارج على القانون "راسكا - راسكا" وقد أعمى الخوف قلبه، فأفرغ كل ما في بندقيته من رصاص باتجاه المكان الذي يصدر منه الصفير، موقناً من أنه يقدم بذلك خدمة كبيرة للمجتمع، بتصفيته واحداً آخر من أولئك الشرطة الكريهين، الذين يحملهم مسئولية زجه في "إصلاحية الأحداث الجانحين" حين كان عمره تسع سنوات، وسرق علبة واحدة من علب "لبان البالون" الذي كانوا يعلنون عنه في التليفزيون، وكان المذيع يقول بلهجة حاسمة إنه لابد للأطفال السعداء والمرحين من مضغ ذلك اللبان، فظن يومها أنه واحد منهم، لكنه كان مخطئا.