نقوس المهدي
كاتب
كنت في الثالثة عشرة حين قرأت للمرة الأولى كتاب طه حسين "مع أبي العلاء في سجنه" فلم أر فيه وقتئذ أكثر من تحليل لآراء المعرّي ولشخصيته وأسلوب عيشه. فلما قرأته أخيراً من جديد، إذ بي أجدني حيال جزء رابع من سيرة طه حسين الذاتية، يكمل به ما بدأه في "الأيام"، ولا غنى عنه لكل من يرغب في فهم أفكار الرجل، واستكمال معرفته بضروب معاناته، والإلمام بما لم يصرح به في كتبه الاخرى عن بعض أطوار حياته.
بلغ طه حسين في اختياره موضوع كتابه حداً بعيداً من الذكاء والحصافة. فهو في ظاهره كتاب عن الشاعر الأثير عنده، وحديث عن "سجونه" الثلاثة: العمى، والجسد والبيت الذي اختار لزومه على مدى نصف قرن، غير أن المؤلف انما لجأ إلى هذا الشكل وإلى هذه الحيلة الذكية كي يحقق من طريقهما اغراضاً ثلاثة رأى أن الظروف التي يعيش فيها تجعل من الصعب تحقيقها من طريق التعبير المباشر الصريح. أراد أولاً أن يعبر عن شكوكه الدينية ورأيه في معتقدات العامة، ذلك أنه حين حاول قبل ذلك بثلاثة عشر عاماً أن يدلي بدلوه في هذا الميدان وأقدم في كتابه "في الشعر الجاهلي" 1926 على خطوة متواضعة واجفة في هذا الاتجاه، قوبل في مجتمعه بعاصفة من الغضب القوي كادت ان تعصف به، فلا بأس عليه الآن من ان يواصل الخطو ولكن بنسبة تلك الشكوك إلى شاعر شهير قديم طالما اتهمه الناس بالزندقة والالحاد. فالقاعدة هي ان "ناقل الكفر ليس بكافر" وكيف يمكن ان يثير القوم عاصفة اخرى حول حديث جديد عن عقيدة ابي العلاء؟
وأراد ثانياً ان يتحدث حديثاً مسهباً عن كل ما عاناه ويعانيه من جراء عاهته التي ألمت به. كما ألمّت بالمعري، في طفولته، ومن جراء كونه "مستطيعاً بغيره"، يعتمد على هذا الغير اعتماداً كلياً في تحركاته ونزهاته ونظافته البدنية، وفي ما يُمليه من أحاديث ويسمعه من كتب تُقرأ عليه، غير أنه كما صرح مراراً في "الأيام" يكره اشد الكره ان يشكو من تلك العاهة، بل وأن يذكرها عن نفسه. وهو ايضاً يخشى ان يمتعض محبوه من افراد اسرته واصدقائه ممن يبذلون اقصى جهدهم للتسرية عنه، وللتخفيف مما تتسبب فيه تلك العاهة له من ألم نفسي ممض، ومن متاعب جسام، من حديثه عما لا يزال يقاسيه ويؤرقه على رغم جهودهم تلك، فيكون في ذلك الحديث بعض الإدانة لهم، وإيحاء ببعض التقصير منهم، فليجعل حديثه إذاً لا عن معاناته هو، ولكن عن معاناة ضرير آخر هو ابو العلاء.
وأراد ثالثاً ان يُكمل سيرته الذاتية بذكر أمور وقعت له، ولكنه يخجل لسبب من الأسباب ان يوردها، او يخشى أن يستغلها أعداؤه - وهم كثر - في الاساءة إلى سمعته والتشهير به. فليقل إذناً إن "أكبر ظنه" أو "لعل أبا العلاء" أقدم على فعل هذا أو ذاك، أو فكر في الإقدام على فعل هذا أو ذاك. استمع اليه يتحدث عن الاشهر الأخيرة من اقامة المعري في بغداد بعيداً من بلدته "معرّة النعمان" في الشام، وانظر ما إذا كان هذا الحديث ينطبق او لا ينطبق على طه حسين نفسه خلال الاشهر الاخيرة من اقامته في باريس بعد زواجه من فتاة فرنسية:
"لعل ابا العلاء انما سافر إلى بغداد فراراً اليها من قريته الخاملة التي لا يجد فيها من يلائم شكله من العلماء والادباء والفلاسفة. وقد وصل إلى بغداد وما أسرع ما أحبه أهلها وأثروه بمودتهم وما اسرع ما شهد أنديتهم الخاصة والعامة، واختلف إلى مجالس علمائهم وأدبائهم، وشفى نفسه من حاجته إلى الحديث إلى النظراء إلى أن يسمع منهم، كان قلقاً في بغداد، ولكنني اعتقد أنه لم يكن يميل إلى فراقها، ولو استقامت له الحياة فيها لما فارقها، وأكبر الظن أنه كان يحدث نفسه بإمكان الاستقرار في بغداد إلى آخر أيامه. ولعله داعب هذا الأمل الحلو في أن تلين له الحياة في العراق فيدعو أُمّه التي فارقها لتلتحق به وتنفق معه ما بقي من أيامها. وأكبر الظن أنه لم يكن يؤثر بغداد لأنها مدينة العلم والفلسفة فحسب، مدينة النور! بل لأن حياتها السياسية كانت ايضاً اخف عليه وأهون احتمالاً من حياة الشام، وكان كل شيء في بغداد يحبّبها إلى أبي العلاء، ويُغريه بالإقامة فيها حتى يدركه الموت، وقد رأيت أنه كان يكره كل شيء في المعرّة إلا أهلها الوادعين الآمنين، كان يكره إصْفارها من العلم والعلماء ودور الكتب وكان يكره تعرّضها لهذه الأحداث السياسية التي تجعلها كالكرة يتقاذفها الفاطميون والروم والأعراب القصر والانكليز والأحزاب وكان يعلم أنه عاد الى المعرّة من دون ان يحتاط لنفسه ويعتصم بالعزلة التامة والحيدة المطلقة لم يأمن من أن تعبث به أحداث السياسة كما عبثت بغيره من العلماء والأدباء، ومن هنا نفهم انه فكر فأطال التفكير، واستشار الخاصة من اصدقائه في بغداد بعد أن بيّن لهم جلية امره، فلما اعجزته الاقامة أخذ يفكر في السفر، ولكنه يتثاقل عنه ويرجئه ليستزيد من الحياة في بغداد، وإذا مرض أمه يزعجه عنها فجأة ويدعوه إلى فراقها في أسرع وقت ممكن..".
مجرد تخمين مني، غير أنه ربما استحق النظر فيه. فإن صدق فلعله كفيل بأن يقنع الناس بأن ينظروا الى كتاب "مع أبي العلاء في سجنه" باعتباره اضافة مهمة إلى كتاب "الأيام".
بلغ طه حسين في اختياره موضوع كتابه حداً بعيداً من الذكاء والحصافة. فهو في ظاهره كتاب عن الشاعر الأثير عنده، وحديث عن "سجونه" الثلاثة: العمى، والجسد والبيت الذي اختار لزومه على مدى نصف قرن، غير أن المؤلف انما لجأ إلى هذا الشكل وإلى هذه الحيلة الذكية كي يحقق من طريقهما اغراضاً ثلاثة رأى أن الظروف التي يعيش فيها تجعل من الصعب تحقيقها من طريق التعبير المباشر الصريح. أراد أولاً أن يعبر عن شكوكه الدينية ورأيه في معتقدات العامة، ذلك أنه حين حاول قبل ذلك بثلاثة عشر عاماً أن يدلي بدلوه في هذا الميدان وأقدم في كتابه "في الشعر الجاهلي" 1926 على خطوة متواضعة واجفة في هذا الاتجاه، قوبل في مجتمعه بعاصفة من الغضب القوي كادت ان تعصف به، فلا بأس عليه الآن من ان يواصل الخطو ولكن بنسبة تلك الشكوك إلى شاعر شهير قديم طالما اتهمه الناس بالزندقة والالحاد. فالقاعدة هي ان "ناقل الكفر ليس بكافر" وكيف يمكن ان يثير القوم عاصفة اخرى حول حديث جديد عن عقيدة ابي العلاء؟
وأراد ثانياً ان يتحدث حديثاً مسهباً عن كل ما عاناه ويعانيه من جراء عاهته التي ألمت به. كما ألمّت بالمعري، في طفولته، ومن جراء كونه "مستطيعاً بغيره"، يعتمد على هذا الغير اعتماداً كلياً في تحركاته ونزهاته ونظافته البدنية، وفي ما يُمليه من أحاديث ويسمعه من كتب تُقرأ عليه، غير أنه كما صرح مراراً في "الأيام" يكره اشد الكره ان يشكو من تلك العاهة، بل وأن يذكرها عن نفسه. وهو ايضاً يخشى ان يمتعض محبوه من افراد اسرته واصدقائه ممن يبذلون اقصى جهدهم للتسرية عنه، وللتخفيف مما تتسبب فيه تلك العاهة له من ألم نفسي ممض، ومن متاعب جسام، من حديثه عما لا يزال يقاسيه ويؤرقه على رغم جهودهم تلك، فيكون في ذلك الحديث بعض الإدانة لهم، وإيحاء ببعض التقصير منهم، فليجعل حديثه إذاً لا عن معاناته هو، ولكن عن معاناة ضرير آخر هو ابو العلاء.
وأراد ثالثاً ان يُكمل سيرته الذاتية بذكر أمور وقعت له، ولكنه يخجل لسبب من الأسباب ان يوردها، او يخشى أن يستغلها أعداؤه - وهم كثر - في الاساءة إلى سمعته والتشهير به. فليقل إذناً إن "أكبر ظنه" أو "لعل أبا العلاء" أقدم على فعل هذا أو ذاك، أو فكر في الإقدام على فعل هذا أو ذاك. استمع اليه يتحدث عن الاشهر الأخيرة من اقامة المعري في بغداد بعيداً من بلدته "معرّة النعمان" في الشام، وانظر ما إذا كان هذا الحديث ينطبق او لا ينطبق على طه حسين نفسه خلال الاشهر الاخيرة من اقامته في باريس بعد زواجه من فتاة فرنسية:
"لعل ابا العلاء انما سافر إلى بغداد فراراً اليها من قريته الخاملة التي لا يجد فيها من يلائم شكله من العلماء والادباء والفلاسفة. وقد وصل إلى بغداد وما أسرع ما أحبه أهلها وأثروه بمودتهم وما اسرع ما شهد أنديتهم الخاصة والعامة، واختلف إلى مجالس علمائهم وأدبائهم، وشفى نفسه من حاجته إلى الحديث إلى النظراء إلى أن يسمع منهم، كان قلقاً في بغداد، ولكنني اعتقد أنه لم يكن يميل إلى فراقها، ولو استقامت له الحياة فيها لما فارقها، وأكبر الظن أنه كان يحدث نفسه بإمكان الاستقرار في بغداد إلى آخر أيامه. ولعله داعب هذا الأمل الحلو في أن تلين له الحياة في العراق فيدعو أُمّه التي فارقها لتلتحق به وتنفق معه ما بقي من أيامها. وأكبر الظن أنه لم يكن يؤثر بغداد لأنها مدينة العلم والفلسفة فحسب، مدينة النور! بل لأن حياتها السياسية كانت ايضاً اخف عليه وأهون احتمالاً من حياة الشام، وكان كل شيء في بغداد يحبّبها إلى أبي العلاء، ويُغريه بالإقامة فيها حتى يدركه الموت، وقد رأيت أنه كان يكره كل شيء في المعرّة إلا أهلها الوادعين الآمنين، كان يكره إصْفارها من العلم والعلماء ودور الكتب وكان يكره تعرّضها لهذه الأحداث السياسية التي تجعلها كالكرة يتقاذفها الفاطميون والروم والأعراب القصر والانكليز والأحزاب وكان يعلم أنه عاد الى المعرّة من دون ان يحتاط لنفسه ويعتصم بالعزلة التامة والحيدة المطلقة لم يأمن من أن تعبث به أحداث السياسة كما عبثت بغيره من العلماء والأدباء، ومن هنا نفهم انه فكر فأطال التفكير، واستشار الخاصة من اصدقائه في بغداد بعد أن بيّن لهم جلية امره، فلما اعجزته الاقامة أخذ يفكر في السفر، ولكنه يتثاقل عنه ويرجئه ليستزيد من الحياة في بغداد، وإذا مرض أمه يزعجه عنها فجأة ويدعوه إلى فراقها في أسرع وقت ممكن..".
مجرد تخمين مني، غير أنه ربما استحق النظر فيه. فإن صدق فلعله كفيل بأن يقنع الناس بأن ينظروا الى كتاب "مع أبي العلاء في سجنه" باعتباره اضافة مهمة إلى كتاب "الأيام".