نقوس المهدي
كاتب
جريدة الراية
- الشاعر الكبير طوى الجزيرة وأفريقيا حتى وصل إلى الأندلس
- هناك شروح أندلسية لديوانه .. والعديد من المؤلفات انتصرت له
- د. محمد بن شريفة: اهتمام مغربي قديم بشعر المتنبي
- ابن الإفليلي أشهر شارح أندلسي لشعر المتنبي بعد ابن أبان
- هناك شعراء من المرابطين تأثروا بشعره وعارضوه
- عصر الموحدين اهتم بدراسته خلافا لما ذهب إليه المستشرق الفرنسي بلاشير
- اندلسيون آخرون سبقوا ابن عبد ربه الحفيد في شرح المتنبي
"شرح المختار من شعر أبي الطيب المتنبي" لابن عبد ربه الحفيد الذي أخرجه وقدم له الباحث المغربي الدكتور محمد بنشريفة، كتاب في منتهى الأهمية لا لأنه يتقدم على سواه من شروح شعر المتنبي، فهو لهذه الجهة ليس أفضل من سواه، بل لأسباب أخرى. من هذه الأسباب أن الشارح هنا، وهو ابن عبد ربه الحفيد المتوفى سنة 602هجرية، من عرب المغرب لا من المشارقة، فهو أندلسي. ويبدأ بنشريفة تقديمه للكتاب بقوله: "كنت قد استوفيت في كتابي" أبوتمام وأبوالطيب في أدب المغاربة" الكلام على العناية والاهتمام اللذين حظي بهما شعر أبي الطيب المتنبي قديماً وحديثاً، وبرهنت على أنه لم يحظ ديوان من الدواوين بمثل ما حظي به ديوان المتنبي حفظاً ومقابلة وشرحاً".
ويورد بنشريفة في تقديم الكتاب ما يؤيد قوله وما يؤكد "مغربية" المتنبي وكونه مالئ الدنيا وشاغل الناس. فإذا كان ابن عبد ربه الحفيد شارح المتنبي أندلسياً، فإنه لم يكن أول أندلسي يشرح شعر المنتخب، بل سبقه أندلسيون آخرون.
"لقد كان للأدباء الغاربة- بالمعنى الجغرافي الواسع - سهم كبير من هذه الشروح كماً وكيفاً. ومن خلال تتبعي لكتب الببليوغرافيا ألفيت أن اقدم شرح أندلسي لشعر المتنبي هو الذي نُسب إلى محمد بن أبان القرطبي.
ولعل ابا القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا القرشي القرطبي المعروف بابن الإفليلي هو أشهر شارح أندلسي لشعر المتنبي بعد ابن أبان، وقد عُرف هذا الشرح قديماً في المغرب والمشرق وأثنى عليه العلماء، وأفاد منه شرّاح المتنبي من المشارقة كالعكبري الذي ذكره في شرحه ونقل عنه كثيراً، واهتم به الأندلسيون في عصر صاحبه وبعد عصره، فألف ابن حزم كتابا في التعقيب على ابن الإفليلي في شرحه لديوان المتنبي، ورد أبومحمد عبدالله بن أحمد البناهي تلميذ ابن الإفليلي على أبي محمد ابن حزم، ولا وجود لهذين الكتابين اليوم. ويتصل بهذا الشرح اتصالا وثيقا شرح الأعلم الشنتمري. وهو خاص بشرح قصائد الصبا من شعر أبي الطيب المتنبي، ومنه قسم كبير في خزانة القرويين".
ويشير بنشريفة إلى شرح أندلسي ثالث وصل إلينا كذلك وهو "شرح شكل ابيات المتنبي" لأبي الحسن علي بن سيدة صاحب المحكم والمخصص، وقد توارد على تحقيقه ونشره عدد من المحققين في مصر وسوريا والعراق. "وثمة أيضا شرح لأحد أعلام القيروان وهو عبدالدائم بن مرزوق المسمى المكتفي، ويبدو أنه ألفه بالأندلس لأنه أورد فيه أشعاراً لبعض الأندلسيين".
وليس هذا كل شيء من اهتمام الأندلسيين والمغاربة بشعر المتنبي. فهناك شعراء من المرابيطين تأثروا بشعره وعارضوه. وهناك كتاب لأبي القسام ابن عبدالغفور الكلاعي عنوانه "الانتصار لأبي الطيب". وقد وضع ابن عبدالملك الشنتريني معجما لمشكل شعر المتنبي وسرقاته. ومن أعلام هذا القرن في الغرب الإسلامي ابن القطاع الصقلي الذي يعد من شراح المتنبي.
على أن أطرف الشروح الأندلسية وأهمها بنظرنا هو شرح أبي الحسن فضل بن فضيلة الأوريولي الذي فسر شعر المتنبي تفسيرا صوفياً، وقد سمى هذا التفسير "شرح الأبيات الكندية على الطريقة الصوفية" توجد منه نسخة في المكتب الأزاريفية في سوس.
أما لماذا نعتبر أن كتاب الأوريولي هو أهم هذه الشروح فلأن صاحبه فسر شعر المتنبي على الطريقة الصوفية، ولعله أول من لجأ إلى هذا النوع من التفسير الذي توسله باحثون محدثون وجدوا في شعر المتنبي الكثير من مفردات الصوفية ومعانيهم. ولعل هذا المنحى في تفسير شعر المتنبي الذي بدأ به أبوالحسن فضل بن فضيلة الأوريولي هو أحدث ما توصل إليه باحثون معاصرون وجدوا المتنبي يستبطن شاعرا صوفيا، وهو ما لم يتنبه له القدماء ما عدا هذا الباحث الأندلسي الذي تقبع مخطوطة كتابه في مدينة سوس، وهي مخطوطة من أجل المخطوطات، وجديرة بمن يحققها وينشرها.
ثمة إذن اهتمام مغربي قديم بشعر المتنبي يشير إليه الدكتور محمد بنشريفة، وهو يعني في جملة ما يعنيه أن المتنبي طوى الجزيرة وسائر أفريقيا حتى وصل إلى الأندلس معززا مكرماً بدليل أن مكتبته الأندلسية القديمة عامرة بالكتب حول شعره. أما المكتبة المغربية المعاصرة، فإن بنشريفة لا يشير إليها.
أما ابن عبد ربه الحفيد مؤلف "شرح المختار من شعر المتنبي" فقد عاش في فترة كثر فيها أعلام العلم والأدب وتعددت بينهم اسباب التواصل ويبدو أنه كانت هناك مودة بينه وبين الفيلسوف الأندلسي ابن رشد. وتفهم من بعض شروحه أنه كان "مُغرماً" بالمتنبي. لمحمد بنشريفة يقول إن من مميزات شرحه أنه من المعجبين بالمتنبي وشرحه، ولا نكاد نجد له انتقادا فيه أو اعتراضاً عليه، وقد صرح بإعجابه بالمتنبي الحكيم عند شرح البيت الآتي:
إنْ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبٌّ لِغُرّتِهِ
فَلَيْتَ أنّا بِقَدْرِ الحُبّ نَقْتَسِمُ
قال: "وهو يشير في ذكر الحب إلى ما له في أمداح سيف الدولة من الأمثال التي انفرد هو بها دونهم (أي دون الشعراء) والمعاني الباقية على الدهر على حين يغني المادح والممدوح ويبقى الذكر المقيد بالحكمة الشعرية التي انفرد بها وهى من أجلها ويحق له فإنه تخيل في بقائها حقا رحمه الله، فلا أنصف سيف الدولة في القسمة بينه وبينهم، لكان له الحظ الأوفر والنصيب الأكبر بل الكل للمتنبي دونهم.
وأضاف بنشريفة: وفي الشرح ما يشي بمزاج صاحبه فهو على سبيل المثال يقول في شرح البيت التالي:
وعندما شرح قول المتنبي:
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن..
وقوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
عقب بقوله: وينظر إلى (هذا) قول بعض المتأخرين يحض على السكر:
بالعقل تزدحم الهموم على الفتى
فالرأي عندي أن تزول عقول
وصاحب هذا البيت هو المعتمد بن عباد..
هذا وغيره مما ورد في الشرح ينسجم مع ما حكاه عبدالواحد المراكشي في "المعجب في أخبار المغرب" عن مجالس ابن عبد ربه
ويقول بنشريفة: "إن في الشرح جزئيات تستحق الذكر، ولكني أخشى إذا تتبعتها أن يطول الموضوع. وإذا كنت قد أكثرت نسبيا من إيراد الشواهد فذلك لأن الشرح مخطوط وحيد. ثم إني قصدت إلى إعطاء فكرة كافية عن طبيعته، وهي تتمثل بصفة عامة في أن صاحبه لا ينقل عما سبق من الشراح، وإنما يعتمد على ثقافته الأدبية الرفيعة، وفي هذا تكمن أصالته وخصوصيته".
إن هذا الشرح الذي لم يرد له ذكر في أي مصدر هو واحد من خمسة شروح على شعر المتنبي ألفت في عصر الموحدين. وهذا يدل على عناية البنيات الأدبية في ذاك العصر بدراسة ديوان أبي الطيب خلافا لما ذهب إليه المستشرق الفرنسي بلاشير". وإنه لمن حسن الحظ أن وصل إلينا هذا الشرح، وكنا نتمنى لو أنه وصل إلينا كاملا وقد تكشف لنا الأيام عن القسم الأول من هذه النسخة أو من غيرها".
من قافية الميم هذه القصيدة للمتنبي كما يشرحها ابن عبد ربه الحفيد:
فِراقٌ وَمَن فارَقتُ غَيرُ مُذَمَّمِ
وَأَمٌّ وَمَن يَمَّمتُ خَيرُ مُيَمَّمِ
وَما مَنزِلُ اللَذّاتِ عِندي بِمَنزِلٍ
إِذا لَم أُبَجَّل عِندَهُ وَأُكَرَّمِ
سَجِيَّةُ نَفسٍ ما تَزالُ مُليحَةً
مِنَ الضَيمِ مَرمِيّاً بِها كُلُّ مَخرَمِ
رَحَلتُ فَكَم باكٍ بِأَجفانِ شادِنٍ
عَلَيَّ وَكَم باكٍ بِأَجفانِ ضَيغَمِ
وَما رَبَّةُ القُرطِ المَليحِ مَكانُهُ
بِأَجزَعَ مِن رَبِّ الحُسامِ المُصَمِّمِ
فَلَو كانَ ما بي مِن حَبيبٍ مُقَنَّعٍ
عَذَرتُ وَلَكِن مِن حَبيبٍ مُعَمَّمِ
رَمى وَاِتَّقى رَميِي وَمِن دونِ ما اِتَّقى
هَوىً كاسِرٌ كَفّي وَقَوسي وَأَسهُمي
إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُهُ
وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّم
وقوله:
فراق ومن فارقت غير مذمم
وأم ومن يممت خير ميمم
يريد بهذا المصراع الأول سيف الدولة الذي فارقه. وقوله: وأم ومن يممت خيرميمم يريد كافورا. وأم قصد، وكان لما فارق سيف الدولة قد قصد كافورا.
وقوله:
وما منزل اللذات عندي بمنزل
إذا لم أبجل عنده وأكرم
يقول: لا أقنع باللذات في منزل لا أُعزّ فيه، فالعز مقصودي لا اللذة، ولو كان العز مقترنا بالشدائد احتملها لمكان العز كما قال:
فاطلب العز في لظى ودار الذل ولو كان في جنان الخلود
وكما قال: "وكل مكان ينبت العز طيب"، فذلك قوله: إذا لم أبجل عنده وأكرم.
ثم فسر ذلك بقوله:
سجيةُ نفسٍ ما تزال مليحة
من الضيم مرميا بها كل مخرم
وقوله: مرميا بها كل مخرم، مخارم الجبال أنوفها، أي لفرقها من الضيم ترتمي بها المرامي ولا تستقر في موضع.
وقوله:
رحلتُ فكم باك بأجفان شادن
علي وكم باك بأجفان ضيغم
بأجفان شادن يريد النساء الباكيات على مفارقته. وأجفان ضيغم يريد الشجعان يبكون على شجاعته فيبكون في باب أخرى، مطابق بين الشادن والضيغم.
ثم قال:
وماربّهُ القرط المليح مكانه
بأجزع من رب الحسام المصمم
رب الحسام المصمم سيف الدولة، وربة القرط المليح مكانه يريد النساء. يقول : وما النساء على ضعفهن بأجزع من فراقي من رب الحسام المصمم على قوته وشجاعته.
ثم قال:
فلو كان ما بي من حبيب مقنع
عذرت ولكن من حبيب معمم
يقول: وإن كنت الذي بكي علي الرجال والنساء جميعا فما بنفسي أنا إلا سيف الدولة وحده وكني عنه بمعمم ، وكني عن النساء بمقنع وقوله:
رمي واثقي رميي ومن دون ما اتقى
هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي
يقول: وان كنت قد فارقته على جفوة مما منيت به عنده وكان قد ساعد على أذيتي عنده فذلك قوله: رمى يعني سيف الدولة فلما رماه وكان هو البادي بالرمي، اتقى أن يرميه المتنبي بعد المفارقة بأهاجيه فلم يفعل ذلك المتنبي ومنعه من ذلك الحب المتقدم في سيف الدولة الذي يكسر كفه وقوسه وأسهمه. ثم فسّر العلة التي من أجلها اتقى سيف الدولة أن يهجوه المتنبي ويرميه أذيته. وقوله:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من قوم
أي لما قدم سيف الدولة إلاساءة في حق المتنبي ورماه بالأذبة التي فارقه من أجلها ساءت ظنونه به عند المفارقة وتوهم أنه يجازيه بالهجاء على ما قدم من الإساءة في حقه فكلما تحقق سيف الدولة الإساءة التي في حقه يصدق توهمه بأنه لا بد سيجازي عليها وينتصر بلسانه كما تفعل الشعراء . المتنبي لم يفعل شيئا من ذلك فكشف العلة في تركيب البغضاء من المبدأ وأرسل البيت مثلا: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه، وهذا حق في نفسه.
ويعرض ابن عبد ربه لقصيدة رائعة من قصائد المتنبي منها هذه الأبيات:
لعَيْنَيْكِ ما يَلقَى الفُؤادُ وَمَا لَقي
وللحُبّ ما لم يَبقَ منّي وما بَقي
وَما كنتُ ممّنْ يَدْخُلُ العِشْقُ قلبَه
وَلكِنّ مَن يُبصِرْ جفونَكِ يَعشَقِ
وَبينَ الرّضَى وَالسُّخطِ وَالقُرْبِ وَالنَّوَى
مَجَالٌ لِدَمْعِ المُقْلَةِ المُتَرَقرِقِ
وَأحلى الهَوَى ما شكّ في الوَصْلِ رَبُّهُ
وَفي الهجرِ فهوَ الدّهرَ يَرْجو وَيَتّقي
وَغضْبَى من الإدلالِ سكرَى من الصّبى
شَفَعْتُ إلَيها مِنْ شَبَابي برَيِّقِ
وَأشنَبَ مَعْسُولِ الثّنِيّاتِ وَاضِحٍ
سَتَرْتُ فَمي عَنهُ فَقَبّلَ مَفْرِقي
وَما كلّ مَن يهوَى يَعِفّ إذا خَلا
عَفَافي وَيُرْضي الحِبّ وَالخَيلُ تلتقي
سَقَى الله أيّامَ الصّبَى ما يَسُرّهَا
وَيَفْعَلُ فِعْلَ البَابِليّ المُعَتَّقِ
إذا ما لَبِسْتَ الدّهْرَ مُستَمتِعاً بِهِ
تَخَرّقْتَ وَالمَلْبُوسُ لم يَتَخَرّقِ
وَلم أرَ كالألحَاظِ يَوْمَ رَحِيلِهِمْ
بَعثنَ بكلّ القتل من كلّ مُشفِقِ
عَشِيّةَ يَعْدُونَا عَنِ النّظَرِ البُكَا
وَعن لذّةِ التّوْديعِ خوْفُ التّفَرّقِ
ونكتفي بشرحه لبعض أبياتها وهذا شرحه للبيت الأول:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي.. أي لسحر عينيك وتتييم جفونك لقي فؤادي ما لقي من جوي وحر أشواق وما يلقى بعد هذا يشير إلى بعد السلوّ وأن عذابه بها وحبه فيها موصولان لا ينفكان عنه بقية العمر.. "وللحب ما لم يبق مني وما بقي، أي ونصني الحب ما ذهب من بدني وما بقي لم يذهب حتى يفنى تحولا ويذوب ويشير أيضا إلى أن سقمه به لا يرجى منه بره حتى يموت..
وقوله : وما كنت ممن يدخل العشق قلبه.. لما رتب تفانيه في الحب خشي أن يفهم من ذلك عنه إفراط في التصابي وانصباب في العشق فكأنه قال لمحبوبته: والله ما أنا بذلك الذي يفهم عني من التأني للحب ،لكن الأمر في سحر عينيك أشد من ذلك من يبصرها يعشق ولا بد ولو كان أقسى الناس قلبا وأغلظهم كبدا ، فلا تظني غير ذلك.
وقوله: "وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه".. أي الحاصل لا يبتغي فلو كان الوصل حاصلا مقطوعا بحصوله لم يبتغ ولم تكن لتنميه لذة كما قال الشاعر : ولولا طراد الصيد لم تك لذة.
وقوله: " وغضبي من الإذلال سكرى من الصبا".. أي تياهة لجمالها كأنها غضبي وريانة من ماء الشبيبو والصبا كأنها سكرى، ومن كان بهذه الصفة قلما يقبل في الوصال شفاعة لكنه أعطى أن شبابه أيضا ريق مفتن شفع له عندها وكان شفيعا مقبولا يشير إلى حسن شبيبته في ذلك الوقت كما قال:"ليالي عند البيض فوداي فتنة ثم قال يفسر أن شفيع شبابه إليها مقبول بقوله:
وأشنب معسول التنيات واضح
سترت فمي عنه فقبل مفرقي
ومن القصائد التي يشرحها ابن عبد ربه هذه القصيدة التي نكتفي ببعض أبياتها الأولى:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
المغاني المنازل والشعب المذكور شعب بوان من بلاد فارس وهو موصوف بالخصب وكثرة المياه والظلال والجنات الألفاف ، فهو أطيب البلدان وهو منها في الطيب بمنزلة فضل الربيع في الزمان لكن أهلها هجم لا يوصفون بجود العرب ولذلك قال:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
"غريب الوجه يريد ليس فيهم أدمة العرب، واليد ليس لهم سخاء العرب ، واللسان يريد أنهم عجم ليس لهم فصاحة العرب، ثم بين فيهم رطانة العجم بقوله:
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
"خص سليمان لأن الجن طاعته فهو يفهم كلام الجن ،لكن على ذلك لو مشى في هذه الملاعب التي بشعب بوان لاحتاج إلى ترجمان يترجم له كلامهم.
هذه نماذج من شروح ابن عبدربه الحفيد لنماذج من شعر المتنبي وهي شروح جيدة ولكنها لا تضاهي شروح المشارقة .الكتاب الذي أخرجه وقدم له الباحث المغربي الدكتور محمد بنشريفة كتاب جزيل الفائدة تهب منه علينا نفحات من أبي الطيب ونفحات أخرى من الأندلس والمغرب.
- الشاعر الكبير طوى الجزيرة وأفريقيا حتى وصل إلى الأندلس
- هناك شروح أندلسية لديوانه .. والعديد من المؤلفات انتصرت له
- د. محمد بن شريفة: اهتمام مغربي قديم بشعر المتنبي
- ابن الإفليلي أشهر شارح أندلسي لشعر المتنبي بعد ابن أبان
- هناك شعراء من المرابطين تأثروا بشعره وعارضوه
- عصر الموحدين اهتم بدراسته خلافا لما ذهب إليه المستشرق الفرنسي بلاشير
- اندلسيون آخرون سبقوا ابن عبد ربه الحفيد في شرح المتنبي
"شرح المختار من شعر أبي الطيب المتنبي" لابن عبد ربه الحفيد الذي أخرجه وقدم له الباحث المغربي الدكتور محمد بنشريفة، كتاب في منتهى الأهمية لا لأنه يتقدم على سواه من شروح شعر المتنبي، فهو لهذه الجهة ليس أفضل من سواه، بل لأسباب أخرى. من هذه الأسباب أن الشارح هنا، وهو ابن عبد ربه الحفيد المتوفى سنة 602هجرية، من عرب المغرب لا من المشارقة، فهو أندلسي. ويبدأ بنشريفة تقديمه للكتاب بقوله: "كنت قد استوفيت في كتابي" أبوتمام وأبوالطيب في أدب المغاربة" الكلام على العناية والاهتمام اللذين حظي بهما شعر أبي الطيب المتنبي قديماً وحديثاً، وبرهنت على أنه لم يحظ ديوان من الدواوين بمثل ما حظي به ديوان المتنبي حفظاً ومقابلة وشرحاً".
ويورد بنشريفة في تقديم الكتاب ما يؤيد قوله وما يؤكد "مغربية" المتنبي وكونه مالئ الدنيا وشاغل الناس. فإذا كان ابن عبد ربه الحفيد شارح المتنبي أندلسياً، فإنه لم يكن أول أندلسي يشرح شعر المنتخب، بل سبقه أندلسيون آخرون.
"لقد كان للأدباء الغاربة- بالمعنى الجغرافي الواسع - سهم كبير من هذه الشروح كماً وكيفاً. ومن خلال تتبعي لكتب الببليوغرافيا ألفيت أن اقدم شرح أندلسي لشعر المتنبي هو الذي نُسب إلى محمد بن أبان القرطبي.
ولعل ابا القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا القرشي القرطبي المعروف بابن الإفليلي هو أشهر شارح أندلسي لشعر المتنبي بعد ابن أبان، وقد عُرف هذا الشرح قديماً في المغرب والمشرق وأثنى عليه العلماء، وأفاد منه شرّاح المتنبي من المشارقة كالعكبري الذي ذكره في شرحه ونقل عنه كثيراً، واهتم به الأندلسيون في عصر صاحبه وبعد عصره، فألف ابن حزم كتابا في التعقيب على ابن الإفليلي في شرحه لديوان المتنبي، ورد أبومحمد عبدالله بن أحمد البناهي تلميذ ابن الإفليلي على أبي محمد ابن حزم، ولا وجود لهذين الكتابين اليوم. ويتصل بهذا الشرح اتصالا وثيقا شرح الأعلم الشنتمري. وهو خاص بشرح قصائد الصبا من شعر أبي الطيب المتنبي، ومنه قسم كبير في خزانة القرويين".
ويشير بنشريفة إلى شرح أندلسي ثالث وصل إلينا كذلك وهو "شرح شكل ابيات المتنبي" لأبي الحسن علي بن سيدة صاحب المحكم والمخصص، وقد توارد على تحقيقه ونشره عدد من المحققين في مصر وسوريا والعراق. "وثمة أيضا شرح لأحد أعلام القيروان وهو عبدالدائم بن مرزوق المسمى المكتفي، ويبدو أنه ألفه بالأندلس لأنه أورد فيه أشعاراً لبعض الأندلسيين".
وليس هذا كل شيء من اهتمام الأندلسيين والمغاربة بشعر المتنبي. فهناك شعراء من المرابيطين تأثروا بشعره وعارضوه. وهناك كتاب لأبي القسام ابن عبدالغفور الكلاعي عنوانه "الانتصار لأبي الطيب". وقد وضع ابن عبدالملك الشنتريني معجما لمشكل شعر المتنبي وسرقاته. ومن أعلام هذا القرن في الغرب الإسلامي ابن القطاع الصقلي الذي يعد من شراح المتنبي.
على أن أطرف الشروح الأندلسية وأهمها بنظرنا هو شرح أبي الحسن فضل بن فضيلة الأوريولي الذي فسر شعر المتنبي تفسيرا صوفياً، وقد سمى هذا التفسير "شرح الأبيات الكندية على الطريقة الصوفية" توجد منه نسخة في المكتب الأزاريفية في سوس.
أما لماذا نعتبر أن كتاب الأوريولي هو أهم هذه الشروح فلأن صاحبه فسر شعر المتنبي على الطريقة الصوفية، ولعله أول من لجأ إلى هذا النوع من التفسير الذي توسله باحثون محدثون وجدوا في شعر المتنبي الكثير من مفردات الصوفية ومعانيهم. ولعل هذا المنحى في تفسير شعر المتنبي الذي بدأ به أبوالحسن فضل بن فضيلة الأوريولي هو أحدث ما توصل إليه باحثون معاصرون وجدوا المتنبي يستبطن شاعرا صوفيا، وهو ما لم يتنبه له القدماء ما عدا هذا الباحث الأندلسي الذي تقبع مخطوطة كتابه في مدينة سوس، وهي مخطوطة من أجل المخطوطات، وجديرة بمن يحققها وينشرها.
ثمة إذن اهتمام مغربي قديم بشعر المتنبي يشير إليه الدكتور محمد بنشريفة، وهو يعني في جملة ما يعنيه أن المتنبي طوى الجزيرة وسائر أفريقيا حتى وصل إلى الأندلس معززا مكرماً بدليل أن مكتبته الأندلسية القديمة عامرة بالكتب حول شعره. أما المكتبة المغربية المعاصرة، فإن بنشريفة لا يشير إليها.
أما ابن عبد ربه الحفيد مؤلف "شرح المختار من شعر المتنبي" فقد عاش في فترة كثر فيها أعلام العلم والأدب وتعددت بينهم اسباب التواصل ويبدو أنه كانت هناك مودة بينه وبين الفيلسوف الأندلسي ابن رشد. وتفهم من بعض شروحه أنه كان "مُغرماً" بالمتنبي. لمحمد بنشريفة يقول إن من مميزات شرحه أنه من المعجبين بالمتنبي وشرحه، ولا نكاد نجد له انتقادا فيه أو اعتراضاً عليه، وقد صرح بإعجابه بالمتنبي الحكيم عند شرح البيت الآتي:
إنْ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبٌّ لِغُرّتِهِ
فَلَيْتَ أنّا بِقَدْرِ الحُبّ نَقْتَسِمُ
قال: "وهو يشير في ذكر الحب إلى ما له في أمداح سيف الدولة من الأمثال التي انفرد هو بها دونهم (أي دون الشعراء) والمعاني الباقية على الدهر على حين يغني المادح والممدوح ويبقى الذكر المقيد بالحكمة الشعرية التي انفرد بها وهى من أجلها ويحق له فإنه تخيل في بقائها حقا رحمه الله، فلا أنصف سيف الدولة في القسمة بينه وبينهم، لكان له الحظ الأوفر والنصيب الأكبر بل الكل للمتنبي دونهم.
وأضاف بنشريفة: وفي الشرح ما يشي بمزاج صاحبه فهو على سبيل المثال يقول في شرح البيت التالي:
وعندما شرح قول المتنبي:
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن..
وقوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
عقب بقوله: وينظر إلى (هذا) قول بعض المتأخرين يحض على السكر:
بالعقل تزدحم الهموم على الفتى
فالرأي عندي أن تزول عقول
وصاحب هذا البيت هو المعتمد بن عباد..
هذا وغيره مما ورد في الشرح ينسجم مع ما حكاه عبدالواحد المراكشي في "المعجب في أخبار المغرب" عن مجالس ابن عبد ربه
ويقول بنشريفة: "إن في الشرح جزئيات تستحق الذكر، ولكني أخشى إذا تتبعتها أن يطول الموضوع. وإذا كنت قد أكثرت نسبيا من إيراد الشواهد فذلك لأن الشرح مخطوط وحيد. ثم إني قصدت إلى إعطاء فكرة كافية عن طبيعته، وهي تتمثل بصفة عامة في أن صاحبه لا ينقل عما سبق من الشراح، وإنما يعتمد على ثقافته الأدبية الرفيعة، وفي هذا تكمن أصالته وخصوصيته".
إن هذا الشرح الذي لم يرد له ذكر في أي مصدر هو واحد من خمسة شروح على شعر المتنبي ألفت في عصر الموحدين. وهذا يدل على عناية البنيات الأدبية في ذاك العصر بدراسة ديوان أبي الطيب خلافا لما ذهب إليه المستشرق الفرنسي بلاشير". وإنه لمن حسن الحظ أن وصل إلينا هذا الشرح، وكنا نتمنى لو أنه وصل إلينا كاملا وقد تكشف لنا الأيام عن القسم الأول من هذه النسخة أو من غيرها".
من قافية الميم هذه القصيدة للمتنبي كما يشرحها ابن عبد ربه الحفيد:
فِراقٌ وَمَن فارَقتُ غَيرُ مُذَمَّمِ
وَأَمٌّ وَمَن يَمَّمتُ خَيرُ مُيَمَّمِ
وَما مَنزِلُ اللَذّاتِ عِندي بِمَنزِلٍ
إِذا لَم أُبَجَّل عِندَهُ وَأُكَرَّمِ
سَجِيَّةُ نَفسٍ ما تَزالُ مُليحَةً
مِنَ الضَيمِ مَرمِيّاً بِها كُلُّ مَخرَمِ
رَحَلتُ فَكَم باكٍ بِأَجفانِ شادِنٍ
عَلَيَّ وَكَم باكٍ بِأَجفانِ ضَيغَمِ
وَما رَبَّةُ القُرطِ المَليحِ مَكانُهُ
بِأَجزَعَ مِن رَبِّ الحُسامِ المُصَمِّمِ
فَلَو كانَ ما بي مِن حَبيبٍ مُقَنَّعٍ
عَذَرتُ وَلَكِن مِن حَبيبٍ مُعَمَّمِ
رَمى وَاِتَّقى رَميِي وَمِن دونِ ما اِتَّقى
هَوىً كاسِرٌ كَفّي وَقَوسي وَأَسهُمي
إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُهُ
وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّم
وقوله:
فراق ومن فارقت غير مذمم
وأم ومن يممت خير ميمم
يريد بهذا المصراع الأول سيف الدولة الذي فارقه. وقوله: وأم ومن يممت خيرميمم يريد كافورا. وأم قصد، وكان لما فارق سيف الدولة قد قصد كافورا.
وقوله:
وما منزل اللذات عندي بمنزل
إذا لم أبجل عنده وأكرم
يقول: لا أقنع باللذات في منزل لا أُعزّ فيه، فالعز مقصودي لا اللذة، ولو كان العز مقترنا بالشدائد احتملها لمكان العز كما قال:
فاطلب العز في لظى ودار الذل ولو كان في جنان الخلود
وكما قال: "وكل مكان ينبت العز طيب"، فذلك قوله: إذا لم أبجل عنده وأكرم.
ثم فسر ذلك بقوله:
سجيةُ نفسٍ ما تزال مليحة
من الضيم مرميا بها كل مخرم
وقوله: مرميا بها كل مخرم، مخارم الجبال أنوفها، أي لفرقها من الضيم ترتمي بها المرامي ولا تستقر في موضع.
وقوله:
رحلتُ فكم باك بأجفان شادن
علي وكم باك بأجفان ضيغم
بأجفان شادن يريد النساء الباكيات على مفارقته. وأجفان ضيغم يريد الشجعان يبكون على شجاعته فيبكون في باب أخرى، مطابق بين الشادن والضيغم.
ثم قال:
وماربّهُ القرط المليح مكانه
بأجزع من رب الحسام المصمم
رب الحسام المصمم سيف الدولة، وربة القرط المليح مكانه يريد النساء. يقول : وما النساء على ضعفهن بأجزع من فراقي من رب الحسام المصمم على قوته وشجاعته.
ثم قال:
فلو كان ما بي من حبيب مقنع
عذرت ولكن من حبيب معمم
يقول: وإن كنت الذي بكي علي الرجال والنساء جميعا فما بنفسي أنا إلا سيف الدولة وحده وكني عنه بمعمم ، وكني عن النساء بمقنع وقوله:
رمي واثقي رميي ومن دون ما اتقى
هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي
يقول: وان كنت قد فارقته على جفوة مما منيت به عنده وكان قد ساعد على أذيتي عنده فذلك قوله: رمى يعني سيف الدولة فلما رماه وكان هو البادي بالرمي، اتقى أن يرميه المتنبي بعد المفارقة بأهاجيه فلم يفعل ذلك المتنبي ومنعه من ذلك الحب المتقدم في سيف الدولة الذي يكسر كفه وقوسه وأسهمه. ثم فسّر العلة التي من أجلها اتقى سيف الدولة أن يهجوه المتنبي ويرميه أذيته. وقوله:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من قوم
أي لما قدم سيف الدولة إلاساءة في حق المتنبي ورماه بالأذبة التي فارقه من أجلها ساءت ظنونه به عند المفارقة وتوهم أنه يجازيه بالهجاء على ما قدم من الإساءة في حقه فكلما تحقق سيف الدولة الإساءة التي في حقه يصدق توهمه بأنه لا بد سيجازي عليها وينتصر بلسانه كما تفعل الشعراء . المتنبي لم يفعل شيئا من ذلك فكشف العلة في تركيب البغضاء من المبدأ وأرسل البيت مثلا: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه، وهذا حق في نفسه.
ويعرض ابن عبد ربه لقصيدة رائعة من قصائد المتنبي منها هذه الأبيات:
لعَيْنَيْكِ ما يَلقَى الفُؤادُ وَمَا لَقي
وللحُبّ ما لم يَبقَ منّي وما بَقي
وَما كنتُ ممّنْ يَدْخُلُ العِشْقُ قلبَه
وَلكِنّ مَن يُبصِرْ جفونَكِ يَعشَقِ
وَبينَ الرّضَى وَالسُّخطِ وَالقُرْبِ وَالنَّوَى
مَجَالٌ لِدَمْعِ المُقْلَةِ المُتَرَقرِقِ
وَأحلى الهَوَى ما شكّ في الوَصْلِ رَبُّهُ
وَفي الهجرِ فهوَ الدّهرَ يَرْجو وَيَتّقي
وَغضْبَى من الإدلالِ سكرَى من الصّبى
شَفَعْتُ إلَيها مِنْ شَبَابي برَيِّقِ
وَأشنَبَ مَعْسُولِ الثّنِيّاتِ وَاضِحٍ
سَتَرْتُ فَمي عَنهُ فَقَبّلَ مَفْرِقي
وَما كلّ مَن يهوَى يَعِفّ إذا خَلا
عَفَافي وَيُرْضي الحِبّ وَالخَيلُ تلتقي
سَقَى الله أيّامَ الصّبَى ما يَسُرّهَا
وَيَفْعَلُ فِعْلَ البَابِليّ المُعَتَّقِ
إذا ما لَبِسْتَ الدّهْرَ مُستَمتِعاً بِهِ
تَخَرّقْتَ وَالمَلْبُوسُ لم يَتَخَرّقِ
وَلم أرَ كالألحَاظِ يَوْمَ رَحِيلِهِمْ
بَعثنَ بكلّ القتل من كلّ مُشفِقِ
عَشِيّةَ يَعْدُونَا عَنِ النّظَرِ البُكَا
وَعن لذّةِ التّوْديعِ خوْفُ التّفَرّقِ
ونكتفي بشرحه لبعض أبياتها وهذا شرحه للبيت الأول:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي.. أي لسحر عينيك وتتييم جفونك لقي فؤادي ما لقي من جوي وحر أشواق وما يلقى بعد هذا يشير إلى بعد السلوّ وأن عذابه بها وحبه فيها موصولان لا ينفكان عنه بقية العمر.. "وللحب ما لم يبق مني وما بقي، أي ونصني الحب ما ذهب من بدني وما بقي لم يذهب حتى يفنى تحولا ويذوب ويشير أيضا إلى أن سقمه به لا يرجى منه بره حتى يموت..
وقوله : وما كنت ممن يدخل العشق قلبه.. لما رتب تفانيه في الحب خشي أن يفهم من ذلك عنه إفراط في التصابي وانصباب في العشق فكأنه قال لمحبوبته: والله ما أنا بذلك الذي يفهم عني من التأني للحب ،لكن الأمر في سحر عينيك أشد من ذلك من يبصرها يعشق ولا بد ولو كان أقسى الناس قلبا وأغلظهم كبدا ، فلا تظني غير ذلك.
وقوله: "وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه".. أي الحاصل لا يبتغي فلو كان الوصل حاصلا مقطوعا بحصوله لم يبتغ ولم تكن لتنميه لذة كما قال الشاعر : ولولا طراد الصيد لم تك لذة.
وقوله: " وغضبي من الإذلال سكرى من الصبا".. أي تياهة لجمالها كأنها غضبي وريانة من ماء الشبيبو والصبا كأنها سكرى، ومن كان بهذه الصفة قلما يقبل في الوصال شفاعة لكنه أعطى أن شبابه أيضا ريق مفتن شفع له عندها وكان شفيعا مقبولا يشير إلى حسن شبيبته في ذلك الوقت كما قال:"ليالي عند البيض فوداي فتنة ثم قال يفسر أن شفيع شبابه إليها مقبول بقوله:
وأشنب معسول التنيات واضح
سترت فمي عنه فقبل مفرقي
ومن القصائد التي يشرحها ابن عبد ربه هذه القصيدة التي نكتفي ببعض أبياتها الأولى:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
المغاني المنازل والشعب المذكور شعب بوان من بلاد فارس وهو موصوف بالخصب وكثرة المياه والظلال والجنات الألفاف ، فهو أطيب البلدان وهو منها في الطيب بمنزلة فضل الربيع في الزمان لكن أهلها هجم لا يوصفون بجود العرب ولذلك قال:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
"غريب الوجه يريد ليس فيهم أدمة العرب، واليد ليس لهم سخاء العرب ، واللسان يريد أنهم عجم ليس لهم فصاحة العرب، ثم بين فيهم رطانة العجم بقوله:
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
"خص سليمان لأن الجن طاعته فهو يفهم كلام الجن ،لكن على ذلك لو مشى في هذه الملاعب التي بشعب بوان لاحتاج إلى ترجمان يترجم له كلامهم.
هذه نماذج من شروح ابن عبدربه الحفيد لنماذج من شعر المتنبي وهي شروح جيدة ولكنها لا تضاهي شروح المشارقة .الكتاب الذي أخرجه وقدم له الباحث المغربي الدكتور محمد بنشريفة كتاب جزيل الفائدة تهب منه علينا نفحات من أبي الطيب ونفحات أخرى من الأندلس والمغرب.