نقوس المهدي
كاتب
«الإنسانية لا تتحمل كثيرًا من الواقع» (توماس إليوت)
في الحكاية التي احتال بها الشيطان على آدم وحواء، (قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)، ما يدعونا إلى النظر، إن الشيطان فتح أفقا خياليا – ممتدا نحو المستقبل والغيب – فعبّر من خلاله إلى لاوعي أو إلى غريزة آدم وحواء.
وبحديثه المغري للإغراء شكَّل ملامح عالم متخيل له خاصيتان، الاحتيال والإيهام، ثم أثار نزعة الفضول التي هي غريزة بشرية، فصور لآدم وحواء شيئا مغايرا وغير مألوف لهما يغري بالتجربة مادام يمنح الخلود، بحسب ما كان يزعم.. صدَّقاه رغم درايتهما المسبقة بحقيقة واقعهما وطبيعة بشريتهما، فاستسلما للتخييل ونسيا الحقيقة، أن الشيطان عدو، وأن الفناء طبيعة الأشياء.
كِتابةُ ما لم يُكتب
في السرد القصصي الحديث، لا يمكننا اعتبار الارتكاز على الخيال والحلم هروبا مقصودا من دائرة الواقع/الحاضر، والانفصال عنه، إذ أنه بحثٌ عن فضاءات تمنح برحابتها إمكانية جعل حقيقة الواقع مستساغة وأكثر وضوحا وتجليا. والكاتب يمارس التجريب محاولا ابتكار أشكال وأنماط جديدة قادرة على استيعاب التصورات.. (ليس بالرتابة نفسها) لأن الكتابة رسم واكتشاف وابتكار: «أأكتب ما لم يكتب؟»، فما لم يُكتب هو ما سيتم إنتاجه بطبيعة الحال، فهو تصميم جديد لهندسة ما: «أكتب هذا البياض العذري وأنحت من الكلم زهرات سريالية».
إن الكاتب مثقل بهاجس الكتابة وأفقها التجريبي، حتى وهو ينسج الحدث، فيُوكل عنه في التصريح ساردَ القصة. هذا العالم الواقعي تحتاجُ عملية رصده وتحديد مفارقاته، إلى صياغات متجددة تولّد الدهشة وتثير القلق، قال السارد: «إن صياغة الحياة شيء مزعج»، على اعتبارها تجربة حتمية ذاتيه ملأى بالكد والتعب والشقاء… أما لو تمت صياغتها ضمن سرد قصصي يتوسل إلى بناء حكاية، فلا شك أن النصوص يلزمها أن تُساهم في إثارة الأسئلة المقلقة والمزعجة، وألّا تكون ذات نمط مألوف لا تقدم ما من شأنه أن يوصف بالجدة والابتكار. لابد للقاص أن يكسر حواجز المألوف ليزج بقارئه في عوالم الغرابة والإدهاش والاحتيال، هذه -وباتفاق ضمني- هي مِلح الكتابة السردية، وهذا هو منهج التجريبيين الذي يعتمد على البحث عن نص لا يشبه نصا آخر، وعن طرائق جديدة للتخييل والكتابة، إنها تجربة ممتعة تصبح فيها الكتابة لا تقتصر على البحث عن المغامرة في القصة، بل إن الكتابة هي المغامرة نفسها، وهي حمل ثقيل ملقى على عاتق الكاتب، تخالط هواجسَه حتى وهو يكتب القصة. كتابة ذاتية تنطلق من الداخل. وقد قال محمد برادة: «أريد أن أكتب أشياء.. حضورها يجسد الغياب.. أكتب عن تجربة، لكن بودي لو أستطيع أن أكتب عن الهواجس والمعلومات والهذيان وأحلام اليقظة وسيناريو ليالي السهاد.
من يستطيع أن يلتقط هذه الكتابة الشفوية البصرية اللاواعية المستمرة كوجع لا يهدأ».
شعرية اللغة والتخييل
حين نقرأ المجموعة القصصية «كاتب الديوان» للقاص والروائي الجزائري خليل حشلاف، فإننا حتما نقرأ لكاتب يكتب القصة القصيرة بنفس شعري، ويزخرف نسيج النصوص بلغة منتقاة بعناية كي تؤدي دورها الفني الذي من مميزاته ابتكار الجمال عبر تصوير لوحات شعرية متخيلة،. نقرأ مثلا:
«سقايات الماء، المواعين النحاسية، صليل المعادن، وشوشات النساء تحت المنحدر، وأيديهن في شغل، سيقانهن البيضاء تأخذ بدريئة القلب».
«الليل حلة مبرقشة بوردات النجوم، نوافذ البيوت كوات لنهار لم يولد».
«إذ يضيء نجم في طواميس الليل».
«لأضرب به عروة الظلام»
هذا التلاقح والتلاقي ما بين اللغتين السردية والشعرية، يصبح ضرورة وغاية لبناء نص يروي ضمأ القارئ المتلهف للعبارة البديعة والصورة المجازية المدهشة. ويكسب هذا النفسُ الشعري القاصَ يقظة ووعيا، على اعتبار أنه يدرك كيف يؤلف بين المعنى الظاهر والمعنى المضمر، كما يؤلف بين الواقعي والخيالي. وأنه يؤثث فضاء التخييل الشعري، ملتمسا من قارئه بلوغ الغاية بالتأويل.. فشعرية اللغة تُبعد النص عن التقريرية، بالتوسل بالاستعارة والرمز كما صارت عليه النصوص التجريبية.
يشتغل القاص على المزج ما بين العقلاني واللاعقلاني، وبين الواقعي والوهمي المتخيل، فيظهر الحدث المركزي كأنه شيء واقعي قطعا، لأن لغة القصة الشعرية تدعمه وتقدمه لإقناع القارئ به، فما كان لاواقعيا صعب التصديق، خارج فضاء النص، يُقدّم على أنه واقعي مادام القارئ ولج عالم النص، وهنا تظهر الغرابة التي تقلق النفس أو تدهشها. وكما أن القارئ يتورط في دوامة الحيرة، بحيث يتصور أن العنصر الغرائبي في القصص جزء لا يتجزأ من واقع الشخصيات وهذا حين يتم توظيف الحلم/المنام في السياق، كما في قصة «نوابض السرير الحديدي». وهذا نوع من الإيهام الذي تبحث عنه القصة القصيرة لتحقيق الجمال الفني الإبداعي، وهو أيضا أحد المدهشات التي تغري القارئ في الارتباط عاطفيا بالنص.
عوالم الغرابة والإدهاش
تبتدئ المجموعة بقصة «نسر بلا أجنحة»، ومن عنوانها تبدو لنا ملامح الغرابة. فالمألوف (خارج النص) أنه ليس ثمة نسرٌ بلا أجنحة، وهذا في حد ذاته تركيب يستدعي الخيال لتصور المعنى الغائب المراد لذاته، ودلالته يضمرها النص، نجد البطل شاعرا يحلق متنقلا من موضع إلى آخر، ليس على بساط سحري، وإنما بأجنحة الخيال. ثم نرى أن الأسئلة المباشرة التي يطرحها بطل القصة تظل بلا جواب: «وظلت الأسئلة معلقة»، ليس لصعوبة الجواب، بل لعدم قناعة شخصية القصة (الشاعر) بتلك الأجوبة الجاهزة المانحة ذاتها بسهولة، لأن السياق يوحي لنا بأن البطل يبحث عن إنسانيته وعمن يشعره بجدوى وجوده في الحياة، إنها نزعة من نزاعات الانعزال والتشظي النفسي، نقرأ: «شعرت بحاجة ملحة إلى إنسان أو أي حنان يطمئنني على الحياة». «أريدك أن تفتتني إلى ذرات في التربة/ كل ذرة تحملها الرياح/ وتخلقني متوحدا من جديد». يبحث عن التطهير النفسي والذاتي في مجتمع تمتلكه الحيرة والضياع ويفقد فيه الفرد الثقة والأمان، ما يجعله يصاب بانفصام، وكأنه يعيش بشخصيتين. لهذا فمبرره بحسب النص هو: «قررت أني ضحية مجتمع تعفنت أعرافه وأعراقه». إنه نوع من التمرد يجعل تركيبة الشخصية النفسية كأنها تنتقم من كل شيء حتى من ذاتها. في القصة الثانية المعنونة بـ»الإخلاء»، كأني أسمع منها صوت الكتاب، باعتباره بوابة المعرفة والعلم، وسبيل الثقافة، لكن الأسئلة تتناسل: هل هذه القصة تشير إلى معنى مفاده أن المكان الخالي من المعرفة يتحول ويُمسخ إلى مكان للموت؟ أم أن عبارة الإخلاء، مرتبطة بإخلاء المجتمع من الكتاب أي ترحيل الفكر والمعرفة، مما يقابله أيضا الحلم بالهجرة من مكان تُمنع فيه المعرفة إلى آخر أرحب، يوفر رغد القراءة والكتاب والمعارف؟ أي التحرر من ضغوط المجتمع ومن عشوائيته ومن لاجدواه.
الكاتب ورطنا في هذا النص بتوظيفه المكون العجائبي فزجّ بنا في متاهة القلق قصد فهم مغزى حَدثِ انفجارِ الكتاب، فنطرح أسئلة أخرى: هل الكتاب أيضا يُعتبر مصدرا من مصادر التفجير؟ وكيف؟ هل هو تفجير للمعرفة، أم تحوَّل إلى قنبلة ناسفة تمحو ظلام الجهل؟
يمكن أن نضع احتمالا آخر، وهو أن نربط النص بسياقه التاريخي وبظروفه الاجتماعية والسياسية أيضا، فقد يكون له أبعاد ذات رسائل خاصة. إنه كما قلت في البداية، أن النصوص مستفزة للقارئ بشكل يثير تساؤلات مختلفة، ولعل جميع الاحتمالات التي ينتجها الذهن قابلة للطرح، عندما تكون النصوص منفتحة على عدة تأويلات بحسب نظرية التلقى.
ووظف الكاتب ثيمة الخيال ـ أيضا ـ في قصة «ظمأ»، وبلغة رشيقة ووصف جميل. ثم في قصة «كاتب الديوان» التي تحمل المجموعة عنوانها نفسه. بحيث يقدم لنا شخصية كاتب ديوان خرج يبحث عن رجل «تسلل من فتحة النافذة هاربا من أوراق يومياته على غفلة منه ضاعفت من خشيته». ثم صار العسس يبحثون عن كاتب الديوان للقبض عليه بتهمة الخيانة بسبب ما قرأوه في يومياته من أفكار ومبادئ وقناعات تخالف اتجاههم.. إن هذه القصة تتناول قضية تعتبر من القضايا المعاصرة، وهي محاكمة الكاتب على إبداعه، فالمحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي مازال يمارس ضغوطه – في مجتمعاتنا العربية – على الكاتب ويضيق عليه واسعا، حتى صار يكتب بشيء من الارتياب والحذر.
إن الخيال يخرج النص من رتابة المألوف إلى دهشة الغرابة، كما في قصة «طائر الليل»، ذلك الطائر النقار الذي ظل ينقر إلى ما لا نهاية.. نعثر أيضا على المكون العجائبي في قصة «نوابض السرير الحديدي»، حيث يتحدث البطل مع ذبابة (وهذا النص يذكرنا بالتحول والمسخ عند فرانز كافكا)، فيرى أشياء تدعو إلى الاستغراب في دوامة من التيه والضياع وما يشبه الدوار.. في النهاية تظهر كل هذه الأشياء على أنها كانت – بحسب والدة البطل – حلما مزعجا تسببت فيه نوابض السرير الحديدي، مع أنه مصر أنها حدثت فعلا.. فهل نصدق افتراض الأم، إن الأحداث كانت حلما، أم نصدق من عاينها (البطل)؟
ويوظف الكاتب فكرة المسخ أو تحول هوية الكائن الإنساني إلى طبيعة أخرى، كنوع من التمرد على أحداث الواقع والحاضر التي عرفت تحولات لا تبعث بالاطمئنان والاستقرار في نفس الإنسان المعاصر، ففكرة التحول ما هي إلا نقد لحالة الاغتراب والإحساس المفرط بالعزلة في عالم صار غريبا ومخيفا، نقرأ: «وشعرت بانتفاضة، بدا لي ثعبان يخرج لسانه ناظرا إلي من خلال هذين الثقبين المضيئين كزجاجتين رأيت فيهما نفسي الضائعة وبهزة كاملة من جسدي تشبثت بفرع آخر هاربا منه في يأس مميت».
أما الثلاث قصص الأخيرة «عسس الليل» و«منازل الضوء» و«إطار اللوحة»، فهي لم تخرج عن منوال النصوص الأخرى، فتستمر في رحلة ابتكار عوالم متخيلة تنزاح عن دائرة المعقول لتخفف من عبء سلطة المجتمع وضغوطه وأثر تحولاته وتغيراته، لنتأكد في النهاية أننا أمام نصوص تنطلق من الواقع لتأخذ بتلابيب القارئ إلى عوالم التخييل والغرابة والدهشة والفانتازيا.. جذور بتربة الواقع وفروع في عالم العجائبي.
نصوص خليل حشلاف لا تتبنى الواقع وتنقله كما يبدو للرائي، بل إنه يُصاغ وفق وعي شخصياته، وفق منظورها للعالم والحياة، وهذا لا يتم إلا بتسلق أبراج الخيال وخوض مغامرة التجريب.
صدرت المجموعة سنة 2012 عن طوى للنشر والإعلام بلندن، وللكاتب رواية بعنوان «عاصفة الجن» صدرت سنة 2013.
في الحكاية التي احتال بها الشيطان على آدم وحواء، (قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)، ما يدعونا إلى النظر، إن الشيطان فتح أفقا خياليا – ممتدا نحو المستقبل والغيب – فعبّر من خلاله إلى لاوعي أو إلى غريزة آدم وحواء.
وبحديثه المغري للإغراء شكَّل ملامح عالم متخيل له خاصيتان، الاحتيال والإيهام، ثم أثار نزعة الفضول التي هي غريزة بشرية، فصور لآدم وحواء شيئا مغايرا وغير مألوف لهما يغري بالتجربة مادام يمنح الخلود، بحسب ما كان يزعم.. صدَّقاه رغم درايتهما المسبقة بحقيقة واقعهما وطبيعة بشريتهما، فاستسلما للتخييل ونسيا الحقيقة، أن الشيطان عدو، وأن الفناء طبيعة الأشياء.
كِتابةُ ما لم يُكتب
في السرد القصصي الحديث، لا يمكننا اعتبار الارتكاز على الخيال والحلم هروبا مقصودا من دائرة الواقع/الحاضر، والانفصال عنه، إذ أنه بحثٌ عن فضاءات تمنح برحابتها إمكانية جعل حقيقة الواقع مستساغة وأكثر وضوحا وتجليا. والكاتب يمارس التجريب محاولا ابتكار أشكال وأنماط جديدة قادرة على استيعاب التصورات.. (ليس بالرتابة نفسها) لأن الكتابة رسم واكتشاف وابتكار: «أأكتب ما لم يكتب؟»، فما لم يُكتب هو ما سيتم إنتاجه بطبيعة الحال، فهو تصميم جديد لهندسة ما: «أكتب هذا البياض العذري وأنحت من الكلم زهرات سريالية».
إن الكاتب مثقل بهاجس الكتابة وأفقها التجريبي، حتى وهو ينسج الحدث، فيُوكل عنه في التصريح ساردَ القصة. هذا العالم الواقعي تحتاجُ عملية رصده وتحديد مفارقاته، إلى صياغات متجددة تولّد الدهشة وتثير القلق، قال السارد: «إن صياغة الحياة شيء مزعج»، على اعتبارها تجربة حتمية ذاتيه ملأى بالكد والتعب والشقاء… أما لو تمت صياغتها ضمن سرد قصصي يتوسل إلى بناء حكاية، فلا شك أن النصوص يلزمها أن تُساهم في إثارة الأسئلة المقلقة والمزعجة، وألّا تكون ذات نمط مألوف لا تقدم ما من شأنه أن يوصف بالجدة والابتكار. لابد للقاص أن يكسر حواجز المألوف ليزج بقارئه في عوالم الغرابة والإدهاش والاحتيال، هذه -وباتفاق ضمني- هي مِلح الكتابة السردية، وهذا هو منهج التجريبيين الذي يعتمد على البحث عن نص لا يشبه نصا آخر، وعن طرائق جديدة للتخييل والكتابة، إنها تجربة ممتعة تصبح فيها الكتابة لا تقتصر على البحث عن المغامرة في القصة، بل إن الكتابة هي المغامرة نفسها، وهي حمل ثقيل ملقى على عاتق الكاتب، تخالط هواجسَه حتى وهو يكتب القصة. كتابة ذاتية تنطلق من الداخل. وقد قال محمد برادة: «أريد أن أكتب أشياء.. حضورها يجسد الغياب.. أكتب عن تجربة، لكن بودي لو أستطيع أن أكتب عن الهواجس والمعلومات والهذيان وأحلام اليقظة وسيناريو ليالي السهاد.
من يستطيع أن يلتقط هذه الكتابة الشفوية البصرية اللاواعية المستمرة كوجع لا يهدأ».
شعرية اللغة والتخييل
حين نقرأ المجموعة القصصية «كاتب الديوان» للقاص والروائي الجزائري خليل حشلاف، فإننا حتما نقرأ لكاتب يكتب القصة القصيرة بنفس شعري، ويزخرف نسيج النصوص بلغة منتقاة بعناية كي تؤدي دورها الفني الذي من مميزاته ابتكار الجمال عبر تصوير لوحات شعرية متخيلة،. نقرأ مثلا:
«سقايات الماء، المواعين النحاسية، صليل المعادن، وشوشات النساء تحت المنحدر، وأيديهن في شغل، سيقانهن البيضاء تأخذ بدريئة القلب».
«الليل حلة مبرقشة بوردات النجوم، نوافذ البيوت كوات لنهار لم يولد».
«إذ يضيء نجم في طواميس الليل».
«لأضرب به عروة الظلام»
هذا التلاقح والتلاقي ما بين اللغتين السردية والشعرية، يصبح ضرورة وغاية لبناء نص يروي ضمأ القارئ المتلهف للعبارة البديعة والصورة المجازية المدهشة. ويكسب هذا النفسُ الشعري القاصَ يقظة ووعيا، على اعتبار أنه يدرك كيف يؤلف بين المعنى الظاهر والمعنى المضمر، كما يؤلف بين الواقعي والخيالي. وأنه يؤثث فضاء التخييل الشعري، ملتمسا من قارئه بلوغ الغاية بالتأويل.. فشعرية اللغة تُبعد النص عن التقريرية، بالتوسل بالاستعارة والرمز كما صارت عليه النصوص التجريبية.
يشتغل القاص على المزج ما بين العقلاني واللاعقلاني، وبين الواقعي والوهمي المتخيل، فيظهر الحدث المركزي كأنه شيء واقعي قطعا، لأن لغة القصة الشعرية تدعمه وتقدمه لإقناع القارئ به، فما كان لاواقعيا صعب التصديق، خارج فضاء النص، يُقدّم على أنه واقعي مادام القارئ ولج عالم النص، وهنا تظهر الغرابة التي تقلق النفس أو تدهشها. وكما أن القارئ يتورط في دوامة الحيرة، بحيث يتصور أن العنصر الغرائبي في القصص جزء لا يتجزأ من واقع الشخصيات وهذا حين يتم توظيف الحلم/المنام في السياق، كما في قصة «نوابض السرير الحديدي». وهذا نوع من الإيهام الذي تبحث عنه القصة القصيرة لتحقيق الجمال الفني الإبداعي، وهو أيضا أحد المدهشات التي تغري القارئ في الارتباط عاطفيا بالنص.
عوالم الغرابة والإدهاش
تبتدئ المجموعة بقصة «نسر بلا أجنحة»، ومن عنوانها تبدو لنا ملامح الغرابة. فالمألوف (خارج النص) أنه ليس ثمة نسرٌ بلا أجنحة، وهذا في حد ذاته تركيب يستدعي الخيال لتصور المعنى الغائب المراد لذاته، ودلالته يضمرها النص، نجد البطل شاعرا يحلق متنقلا من موضع إلى آخر، ليس على بساط سحري، وإنما بأجنحة الخيال. ثم نرى أن الأسئلة المباشرة التي يطرحها بطل القصة تظل بلا جواب: «وظلت الأسئلة معلقة»، ليس لصعوبة الجواب، بل لعدم قناعة شخصية القصة (الشاعر) بتلك الأجوبة الجاهزة المانحة ذاتها بسهولة، لأن السياق يوحي لنا بأن البطل يبحث عن إنسانيته وعمن يشعره بجدوى وجوده في الحياة، إنها نزعة من نزاعات الانعزال والتشظي النفسي، نقرأ: «شعرت بحاجة ملحة إلى إنسان أو أي حنان يطمئنني على الحياة». «أريدك أن تفتتني إلى ذرات في التربة/ كل ذرة تحملها الرياح/ وتخلقني متوحدا من جديد». يبحث عن التطهير النفسي والذاتي في مجتمع تمتلكه الحيرة والضياع ويفقد فيه الفرد الثقة والأمان، ما يجعله يصاب بانفصام، وكأنه يعيش بشخصيتين. لهذا فمبرره بحسب النص هو: «قررت أني ضحية مجتمع تعفنت أعرافه وأعراقه». إنه نوع من التمرد يجعل تركيبة الشخصية النفسية كأنها تنتقم من كل شيء حتى من ذاتها. في القصة الثانية المعنونة بـ»الإخلاء»، كأني أسمع منها صوت الكتاب، باعتباره بوابة المعرفة والعلم، وسبيل الثقافة، لكن الأسئلة تتناسل: هل هذه القصة تشير إلى معنى مفاده أن المكان الخالي من المعرفة يتحول ويُمسخ إلى مكان للموت؟ أم أن عبارة الإخلاء، مرتبطة بإخلاء المجتمع من الكتاب أي ترحيل الفكر والمعرفة، مما يقابله أيضا الحلم بالهجرة من مكان تُمنع فيه المعرفة إلى آخر أرحب، يوفر رغد القراءة والكتاب والمعارف؟ أي التحرر من ضغوط المجتمع ومن عشوائيته ومن لاجدواه.
الكاتب ورطنا في هذا النص بتوظيفه المكون العجائبي فزجّ بنا في متاهة القلق قصد فهم مغزى حَدثِ انفجارِ الكتاب، فنطرح أسئلة أخرى: هل الكتاب أيضا يُعتبر مصدرا من مصادر التفجير؟ وكيف؟ هل هو تفجير للمعرفة، أم تحوَّل إلى قنبلة ناسفة تمحو ظلام الجهل؟
يمكن أن نضع احتمالا آخر، وهو أن نربط النص بسياقه التاريخي وبظروفه الاجتماعية والسياسية أيضا، فقد يكون له أبعاد ذات رسائل خاصة. إنه كما قلت في البداية، أن النصوص مستفزة للقارئ بشكل يثير تساؤلات مختلفة، ولعل جميع الاحتمالات التي ينتجها الذهن قابلة للطرح، عندما تكون النصوص منفتحة على عدة تأويلات بحسب نظرية التلقى.
ووظف الكاتب ثيمة الخيال ـ أيضا ـ في قصة «ظمأ»، وبلغة رشيقة ووصف جميل. ثم في قصة «كاتب الديوان» التي تحمل المجموعة عنوانها نفسه. بحيث يقدم لنا شخصية كاتب ديوان خرج يبحث عن رجل «تسلل من فتحة النافذة هاربا من أوراق يومياته على غفلة منه ضاعفت من خشيته». ثم صار العسس يبحثون عن كاتب الديوان للقبض عليه بتهمة الخيانة بسبب ما قرأوه في يومياته من أفكار ومبادئ وقناعات تخالف اتجاههم.. إن هذه القصة تتناول قضية تعتبر من القضايا المعاصرة، وهي محاكمة الكاتب على إبداعه، فالمحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي مازال يمارس ضغوطه – في مجتمعاتنا العربية – على الكاتب ويضيق عليه واسعا، حتى صار يكتب بشيء من الارتياب والحذر.
إن الخيال يخرج النص من رتابة المألوف إلى دهشة الغرابة، كما في قصة «طائر الليل»، ذلك الطائر النقار الذي ظل ينقر إلى ما لا نهاية.. نعثر أيضا على المكون العجائبي في قصة «نوابض السرير الحديدي»، حيث يتحدث البطل مع ذبابة (وهذا النص يذكرنا بالتحول والمسخ عند فرانز كافكا)، فيرى أشياء تدعو إلى الاستغراب في دوامة من التيه والضياع وما يشبه الدوار.. في النهاية تظهر كل هذه الأشياء على أنها كانت – بحسب والدة البطل – حلما مزعجا تسببت فيه نوابض السرير الحديدي، مع أنه مصر أنها حدثت فعلا.. فهل نصدق افتراض الأم، إن الأحداث كانت حلما، أم نصدق من عاينها (البطل)؟
ويوظف الكاتب فكرة المسخ أو تحول هوية الكائن الإنساني إلى طبيعة أخرى، كنوع من التمرد على أحداث الواقع والحاضر التي عرفت تحولات لا تبعث بالاطمئنان والاستقرار في نفس الإنسان المعاصر، ففكرة التحول ما هي إلا نقد لحالة الاغتراب والإحساس المفرط بالعزلة في عالم صار غريبا ومخيفا، نقرأ: «وشعرت بانتفاضة، بدا لي ثعبان يخرج لسانه ناظرا إلي من خلال هذين الثقبين المضيئين كزجاجتين رأيت فيهما نفسي الضائعة وبهزة كاملة من جسدي تشبثت بفرع آخر هاربا منه في يأس مميت».
أما الثلاث قصص الأخيرة «عسس الليل» و«منازل الضوء» و«إطار اللوحة»، فهي لم تخرج عن منوال النصوص الأخرى، فتستمر في رحلة ابتكار عوالم متخيلة تنزاح عن دائرة المعقول لتخفف من عبء سلطة المجتمع وضغوطه وأثر تحولاته وتغيراته، لنتأكد في النهاية أننا أمام نصوص تنطلق من الواقع لتأخذ بتلابيب القارئ إلى عوالم التخييل والغرابة والدهشة والفانتازيا.. جذور بتربة الواقع وفروع في عالم العجائبي.
نصوص خليل حشلاف لا تتبنى الواقع وتنقله كما يبدو للرائي، بل إنه يُصاغ وفق وعي شخصياته، وفق منظورها للعالم والحياة، وهذا لا يتم إلا بتسلق أبراج الخيال وخوض مغامرة التجريب.
صدرت المجموعة سنة 2012 عن طوى للنشر والإعلام بلندن، وللكاتب رواية بعنوان «عاصفة الجن» صدرت سنة 2013.