نقوس المهدي
كاتب
مثلما مات الشاعر بدر شاكر السياب غريباً في بلاده، اذ سار في تشييع نعشه ستة فقط من الاصدقاء والاهل ليدفن في مقبرة الحسن البصري عشية عيد الميلاد في العام 1964، بدا صاحب قصيدة «انشودة المطر» التي يراها كثيرون، أبلغ بيان فني وجمالي عن الحداثة الشعرية العربية، وكأنه يموت غريباً مرة أخرى في وطنه، بل في مدينته تحديداً، البصرة، ففي العام 2009، ألغي احتفال بذكرى وفاة رائد التحديث في الشعر العربي لتزامنه مع إحياء ذكرى «عاشوراء».
على رغم ان سيرة الشاعر السياب (1926-1964) القصيرة كانت سيرة متصلة من الاحزان، وعلى رغم ان الحدث هو حدث أدبي يستسعيد ذكرى وفاة الشاعر، الا ان مخاوف ادباء البصرة، كانت من احتمال ان يفسّر الاحتفال على انه «خروج على الحزن الرسمي والشعبي الجماعي يوم عاشوراء».
غير ان «المسكوت عنه» في القصة هو «تراجع الحياة المدنية والثقافية في البصرة، بل في مناطق واسعة من العراق، حيال النفوذ المتصاعد للقوى الطائفية الدينية المتشددة بما لها من تمثيل في الحكومة المحلية في البصرة، وبما تمتلكه من ميليشيات قادرة على تصفية من يخالفها الرأي».
هذا المآل الذي يتواصل اليوم بعد نصف قرن على غياب صاحب «الاسلحة والاطفال»، يبدو نقيضاً كلياً، لفسحة الحداثة العراقية التي تشكل بموجبها السياب وجيله الشعري والثقافي، وكانت ليست بعيدة عن ما كتبه ادونيس في مقدمة مختاراته لشعر السياب، حيث «أخذ ينشأ للشعر العربي الجديد وسط تعبيري جديد».
النص السيابي، ظل لاحقاً من القوة والديناميكية ما اعطاه القدرة على ان يبدو «ابداعاً مستمراً» وريادة ذلك النص كانت تتمثل في تجاوزه الاطار الشكلي القديم للشعر. النص كان «سؤالاً» يحمل رؤيا المصير، الاندفاع باللغة جاعلاً منها «لغة حيوية»، الخروج بالشعر من نطاق الانطباع الى مستوى البناء المعتمد على رؤيا وموقف، في تقاطع كلي مع وقائع حياته البائسة ومحيطه الاجتماعي المضنوك.
انه الرومانسي، هو الحالم في بواكيره... ومن المكان الذي يأخذه الى فطرة الانفتاح والتطلع الى الغد، كانت تلك الرومانسية، هي التعبير الهادئ والموجز عن توقعه لمغادرة المكان اذ يصبح اضيق مما يتسع في روحه من عوالم ورؤى.
ان فسحة الحياة المعاصرة العراقية ومجاوراتها العربية، في اربعينات القرن الماضي وخمسيناته، التي حنت على مشروع السياب التحديثي، لتبدو اليوم رجعة عن ذلك المتحقق في البنية الثقافية العربية التي استطاعت - رغم احباطاتها - ان تتصل مع مؤشرات المغايرة، وتضع بعض خطاها على طريق التحديث والمعاصرة. هذه العودة - الردة - تتمثل بقوى محافظة باتت تنشط اجتماعياً واقتصادياً، وبالتالي استطاعت ان تقترب من المشهد الثقافي بقوة، مؤكدة حضورها عبر الردع والتهميش والنفي والاقصاء والاغتيال المنظم لاحقاً (هل ننسى نحو الف من الكتاب والاكاديميين العراقيين ممن اغتيلوا في الفترة ذاتها التي شهدت صعود القوى الباطشة التي اخافت ادباء البصرة ومنعتهم من احياء ذكرى ابن مدينتهم البار)؟
من هنا، يمكن لنا ان نقرأ فاعلية ما احدثه السياب، لا ضمن حقل الشعر حسب، بل في نقله الذهنية الادبية الى مستويات تعبيرية مختلفة، وفتحه لحرية تطل وتتصل بأخرى وصولاً الى منهج «عقلي» عصري بحق، يرى في المغايرة مضموناً فاعلاً. نعم لقد كان هذا فعلاً ما احدثه «رومانسي» مغامر في حقل الشعر العربي اذ وضعنا امام «سؤال التحديث»، وأعطانا الفرصة كي نأخذ ما اثمرته تجربته في الافتراق عن التقليدي وكي نواجه متغيرات عصر لا يهدأ.
ويبدو تأجيل الاحتفال بذكرى رحيله اليوم غربة الشاعر الثانية في وطنه، حد ان عائلته التزمت الصمت، واكتفى ابن عمه عبد الحميد السياب بأن يدعو الحكومة العراقية الى تحويل «دار جدي» المنزل الذي ولد فيه السياب في عام 1926 (عام ذاته الذي شهد ولادة الركنين الآخرين من اركان التحديث في الشعر العربي، نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي) والذي يقبع تحت الإهمال والخراب إلى متحف يضم جميع مقتنيات السياب وإعماله الشعرية والدراسات والاعمال الادبية والفنية التي عنت بدراسة تجربته والتعبير عنها.
واذا كانت ذكرى رحيل صاحب «المومس العمياء»، شهدت صمت المثقفين والادباء في البصرة خوفاً من «اصولية دينية مسلحة» في «العراق الجديد»، قد لا تسامح المحتفين وتعديهم على حرمة «عاشوراء»، تعني بوضوح التراجع المريع للحرية الفكرية والثقافية في البلاد، فإنها تدل على نقيضها، حين كانت ايام الحداثة في «العراق القديم»، مترعة بالرحمة والاتصال حتى بين طرفين نقيضين، فركن الكلاسيكية الشعرية، محمد مهدي الجواهري، يقول في صاحب قصيدة «غريب على الخليج»: «لقد كنت يا بدر جسراً ذهبياً حياً يعبر عليه بثقة وإعجاب، ولطف واعتزاز كل هذا الموكب الساحر من دنيا الشعر العربي الفخم الضخم الخالد المنحدر عبر العصور إلى الضفة المقابلة من الأرض الجديدة التي تجاورت، وتفاهمت مع القمر في أجرأ محاولة، وأخصب تجربة حاولها الموهوبون للتدليل على أن الموسيقى في الحداء العربي وانسياب النغم ورقة الصياغة ومتانة السلاسل الذهبية إلى جانب نعومتها يمكن أن تنصب كلها في قوالب جديدة متطورة مستساغة من دون أن تفقد أي شيء من خصائصها».
على رغم ان سيرة الشاعر السياب (1926-1964) القصيرة كانت سيرة متصلة من الاحزان، وعلى رغم ان الحدث هو حدث أدبي يستسعيد ذكرى وفاة الشاعر، الا ان مخاوف ادباء البصرة، كانت من احتمال ان يفسّر الاحتفال على انه «خروج على الحزن الرسمي والشعبي الجماعي يوم عاشوراء».
غير ان «المسكوت عنه» في القصة هو «تراجع الحياة المدنية والثقافية في البصرة، بل في مناطق واسعة من العراق، حيال النفوذ المتصاعد للقوى الطائفية الدينية المتشددة بما لها من تمثيل في الحكومة المحلية في البصرة، وبما تمتلكه من ميليشيات قادرة على تصفية من يخالفها الرأي».
هذا المآل الذي يتواصل اليوم بعد نصف قرن على غياب صاحب «الاسلحة والاطفال»، يبدو نقيضاً كلياً، لفسحة الحداثة العراقية التي تشكل بموجبها السياب وجيله الشعري والثقافي، وكانت ليست بعيدة عن ما كتبه ادونيس في مقدمة مختاراته لشعر السياب، حيث «أخذ ينشأ للشعر العربي الجديد وسط تعبيري جديد».
النص السيابي، ظل لاحقاً من القوة والديناميكية ما اعطاه القدرة على ان يبدو «ابداعاً مستمراً» وريادة ذلك النص كانت تتمثل في تجاوزه الاطار الشكلي القديم للشعر. النص كان «سؤالاً» يحمل رؤيا المصير، الاندفاع باللغة جاعلاً منها «لغة حيوية»، الخروج بالشعر من نطاق الانطباع الى مستوى البناء المعتمد على رؤيا وموقف، في تقاطع كلي مع وقائع حياته البائسة ومحيطه الاجتماعي المضنوك.
انه الرومانسي، هو الحالم في بواكيره... ومن المكان الذي يأخذه الى فطرة الانفتاح والتطلع الى الغد، كانت تلك الرومانسية، هي التعبير الهادئ والموجز عن توقعه لمغادرة المكان اذ يصبح اضيق مما يتسع في روحه من عوالم ورؤى.
ان فسحة الحياة المعاصرة العراقية ومجاوراتها العربية، في اربعينات القرن الماضي وخمسيناته، التي حنت على مشروع السياب التحديثي، لتبدو اليوم رجعة عن ذلك المتحقق في البنية الثقافية العربية التي استطاعت - رغم احباطاتها - ان تتصل مع مؤشرات المغايرة، وتضع بعض خطاها على طريق التحديث والمعاصرة. هذه العودة - الردة - تتمثل بقوى محافظة باتت تنشط اجتماعياً واقتصادياً، وبالتالي استطاعت ان تقترب من المشهد الثقافي بقوة، مؤكدة حضورها عبر الردع والتهميش والنفي والاقصاء والاغتيال المنظم لاحقاً (هل ننسى نحو الف من الكتاب والاكاديميين العراقيين ممن اغتيلوا في الفترة ذاتها التي شهدت صعود القوى الباطشة التي اخافت ادباء البصرة ومنعتهم من احياء ذكرى ابن مدينتهم البار)؟
من هنا، يمكن لنا ان نقرأ فاعلية ما احدثه السياب، لا ضمن حقل الشعر حسب، بل في نقله الذهنية الادبية الى مستويات تعبيرية مختلفة، وفتحه لحرية تطل وتتصل بأخرى وصولاً الى منهج «عقلي» عصري بحق، يرى في المغايرة مضموناً فاعلاً. نعم لقد كان هذا فعلاً ما احدثه «رومانسي» مغامر في حقل الشعر العربي اذ وضعنا امام «سؤال التحديث»، وأعطانا الفرصة كي نأخذ ما اثمرته تجربته في الافتراق عن التقليدي وكي نواجه متغيرات عصر لا يهدأ.
ويبدو تأجيل الاحتفال بذكرى رحيله اليوم غربة الشاعر الثانية في وطنه، حد ان عائلته التزمت الصمت، واكتفى ابن عمه عبد الحميد السياب بأن يدعو الحكومة العراقية الى تحويل «دار جدي» المنزل الذي ولد فيه السياب في عام 1926 (عام ذاته الذي شهد ولادة الركنين الآخرين من اركان التحديث في الشعر العربي، نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي) والذي يقبع تحت الإهمال والخراب إلى متحف يضم جميع مقتنيات السياب وإعماله الشعرية والدراسات والاعمال الادبية والفنية التي عنت بدراسة تجربته والتعبير عنها.
واذا كانت ذكرى رحيل صاحب «المومس العمياء»، شهدت صمت المثقفين والادباء في البصرة خوفاً من «اصولية دينية مسلحة» في «العراق الجديد»، قد لا تسامح المحتفين وتعديهم على حرمة «عاشوراء»، تعني بوضوح التراجع المريع للحرية الفكرية والثقافية في البلاد، فإنها تدل على نقيضها، حين كانت ايام الحداثة في «العراق القديم»، مترعة بالرحمة والاتصال حتى بين طرفين نقيضين، فركن الكلاسيكية الشعرية، محمد مهدي الجواهري، يقول في صاحب قصيدة «غريب على الخليج»: «لقد كنت يا بدر جسراً ذهبياً حياً يعبر عليه بثقة وإعجاب، ولطف واعتزاز كل هذا الموكب الساحر من دنيا الشعر العربي الفخم الضخم الخالد المنحدر عبر العصور إلى الضفة المقابلة من الأرض الجديدة التي تجاورت، وتفاهمت مع القمر في أجرأ محاولة، وأخصب تجربة حاولها الموهوبون للتدليل على أن الموسيقى في الحداء العربي وانسياب النغم ورقة الصياغة ومتانة السلاسل الذهبية إلى جانب نعومتها يمكن أن تنصب كلها في قوالب جديدة متطورة مستساغة من دون أن تفقد أي شيء من خصائصها».