نقوس المهدي
كاتب
الإنسان هو ابن الحلم .. عليه ينعقد تقدمه ، وعيله يكون إحباطه أو تحققه ، وعندما تتزايد إحباطات الواقع ، إزداد الإنسان لجوءا للحلم ، يسعي فيه لتحقيق ما لم يستطع تحقيقه في الواقع ، سعيا للخروج من ضائقة الواقع المعاش . وعندما يفشل في تحقيق أي من الحالين ، الحلم والواقع ، يضغط عليه الإحباط وتتولد لديه المرارة ، يشعر بعدمية كل شيء ، وباللاجدوى من أي شيء ، وقد تتملكه السخرية من كل شيء ، فيسخر حتى من نفسه . فإذا ما نظرنا إلى نهايات القصص الخمس بالمجموعة ، وبربطها ببداياتها والمفارقات الواضحة فيها ، نتبين قدر الإحباط الذي تعانيه شخوص المجموعة ، إذ على قدر الأمل ، يكون الإحباط ، كلما عظم الأمل وتسلط ، كلما كان قدر الفشل وما يجره من إحباط .
تلك هي خلاصة مجموعة " قرن غزال " لخيري عبد الجواد .
فالراوي في قصة "العشة" ضاق به المسكن في الطابق الأخير ، وتسلطت عليه الشمس بنيرانها ، و "أفات" زوجته بتحريضها ، فراح يحلم بجنة تتحول فيها الشمس إلى ضياء ظليل يشع بهجة الرومانسية الحالمة ، تذر "أفات" زوجته في نسيم ليل صيفي مهفهف ، وتنتزع منها الرضا والفخر . ولكن هبة ريح أطاحت بالحلم فتبخر وانزوى .
وسيد دعبس في قصة "عفريت سيد دعبس" تراكمت عليه ضغوط الحياة وتواصلت إحباطاته في تحقيق حلم أن يكون مسرحيا معروفا ، خاصة بعد أن تم الاستغناء عنه في إحدى شركات المياه الغازية - ضمن من استغنت عنهم الشركات في عمليات الخصخصة – وهي التي لم يكن يعمل بها غير تكوين فرقة مسرحية ، فيشبع فيها طموحاته ويحقق بها أحلامه ، وبضياع هذا الحلم الأخير ، تتبخر أحلامه وتتوقف به مسيرة الحياة التي يرتجيها ، وكما هي طبيعة الإنسان في شرقنا ، ورغم دخول القرن الواحد والعشرين ، يلجأ سيد دعبس إلى الجن ليحقق له ما شاء من أحلام ، وعلى طريقة "فاوست" الذي باع نفسه للشيطان في سبيل تحقيق ما يريد من العالم في فترة زمنية محددة يصبح بعدها ملكا للشيطان ، وهكذا أيضا يلجأ سيد دعبس للجني ، وإن لم يبع نفسه له ، إلا أنه بعد أن يجد الجني أنه لا مفر من موت سيد دعبس ، يمهله أسبوعا واحدا يتحقق فيه لسيد دعبس كل ما يحلم به ، بعدها يتبخر سيد دعبس وينتهي به الحلم إلى لا شيء .
وهذا – تقريبا – نفس ما حدث "لعم سيد" في قصة "المخطوط" إذ بعد أن يتصور أنه حقق ما أراد بفتح مكتبة للكتب القديمة التى يعشقها عشقا – وأيضا رغم بدايات دخول القرن الواحد والعشرين – يكتشف في قرارة نفسه – ودون أن يذكر الكاتب أو الراوي ذلك صراحة – أن هناك من العلوم الكثيرة التي استجدت لا يعلم عنها شيئا ، فيلجأ إلى الخيال أيضا ، إلى الشخصية المجهولة ، والتي من الممكن أن تكون جنيا أو عفريتا ، ليحقق له ذلك ، يأتيه ذلك المجهول الغريب المنظر ، يسأله عن مخطوط لم يسبق له أن سمع عنه ، لكن المجهول يؤكد وجود هذا المخطوط بالمكتبة ، يبحث عم سيد عن المخطوط حتى يكتشف وجوده بالفعل ، يضعه على أحد الأرفف فيشعر أنه قد ملك المعرفة ، لكنه أيضا يكتشف في النهاية أن المخطوط هو الآخر قد اختفى ، وأنه في مكانه على باب مكتبة الكتب القديمة لا يزال جالسا لم يغادر بولاق الدكرور .
وفي قصة "نزهة المشتاق إلى فضائل بولاق" يحلم الراوي بأن يكون لبولاق الدكرور تاريخ وأمجاد ، فيحاول أن يوثقها ويخترع لها من المؤلفين الذين كتبوا عنها – وهم أيضا من كتاب الكتب القديمة – غير أنها تظل أيضا في النهاية مجرد وهم وخيال وتهويمات لم تلمس أرض الواقع ، وفي النهاية أيضا يخبرنا الكاتب أن ليس هناك كتب قديمة وربما يكون الأمر حيلة من أحد المحدثين ، وكأنه أصيب بخيبة أمل في أن يكون هناك تاريخ وأمجاد بالفعل لبولاق الدكرور .
وفي قصة "تمارين على الكتابة" يصيب الكاتب الراوي اليأس والإحباط والإفلاس ، فيتصور نفسه وقد أصبح علما في القصة يملك من الحكمة والخبرة ما يستطيع أن يقدمه للأجيال الجديدة ، فيأخذ في شرح عناصر كتابة القصة الجيدة ، لكنه سرعان ما يتبين أنه ما هكذا تكتب القصة ، ليست القواعد النظرية ، ولكن التجربة هي المعلم ، وأن ما يفعله إن هو إلا إفلاس ويأس ، ويكتشف أن ما يفعله هراء وعبث . وكأن خيري عبد الجواد يختم المجموعة كلها بأن كل شيء هراء وعبث، وأن الحلم ما لم يأخذ طريقه للواقع فسيظل وهم وعبث.
ومتابعة أعمال خيري عبد الجواد تؤكد انشغاله إلى حد كبير بالشؤون الاجتماعية والسياسية ، الأمر الذي يقودنا لتتبع أسباب إحباطات شخوصه من تلك الرؤية ، وفي هذه المجموعة على الرغم من أنه قد يبدو في الوهلة الأولي أن تلك الأسباب مختلفة ، إلا أن النظرة المتأملة تؤكد أن تلك الشخوص تعيش في مجتمع ، تتفاعل معه وبه ، وما يصيب هذا المجتمع ينعكس بالضرورة على الفرد ، لذا نرى تلك الرؤية المتدرجة مع قصص المجموعة الخمس من العام إلى الأقل عمومية إلى الخاص .
فالكاتب المتقوقع حول نفسه القابع في حجرته الذي رأيناه في آخر قصص المجموعة ، الذي انحصر اهتمامه بذاته ومشكلته الذاتية ، اتسعت دائرة اهتمامه قليلا لتشمل حي بولاق الدكرور الذي يعيش فيه في قصة نزهة المشتاق ، واتسعت الدائرة أكثر لتشمل الوطن بأكمله في قصتي العشة وسيد دعبس ، وتتسع الدئرة أكثر وأكثر لتشمل الكون كله في قصة المخطوط .
في أولي قصص المجموعة "العشة" يرتبط ميلاد البطل بالثورة المباركة التي كان لها كبير الأثر في العديد من التغييرات الاجتماعية التي انعكست – إن سلبا أو إيجابا – على حياة الأفراد ، وقد ربط الراوي نفسه بتلك الليلة ، ليلة الثالث والعشرين من يوليو 1952 ، وضعت الثورة لنفسها مبادئ ستة ، ووضع لنفسه مثلها ، ولم تحقق الثورة أيا من هذه المبادئ ، ولا هو ، ولما أراد التحقق بتلك الفكرة المبتكرة والساذجة في آن ، وضع فيها كل أحلامه وخبراته ، حشد للإحتفال بها كل مظاهر الاحتفال ، وكأننا في ليلة الثالث والعشرين من كل عام عندما يستعرض السيد الرئيس العرض العسكري ، وفي المساء ، تكون الاحتفالات الغنائية التي يحتشد لها كبار مطربي البلد ، غير أنه مع النسمات الأولي من صباح الرابع والعشرين من يوليو يتبخر كل شيء ، تحمل ذرات الهواء تلك العشة – على المستوي الفردي – تحمل كل الآمال والطموحات المعقودة على تلك الثورة الميمونة ، تتبخر في الهواء بين دهشة الجميع وذهولهم ، فالهم هنا عام ، هم الوطن لا هم الفرد .
وفي قصة "عفريت سيد دعبس" يسير أيضا سيد دعبس في ليلة الثالث والعشرين من يوليو ، يتأمل حياته ، لم يحقق شيئا من آماله وطموحاته ، ربما لقلة الإمكانيات ، ربما لقلة الثقافة المنهجية ، ربما لظروف البيئة والفقر والعوز ، وربما كل هذه العوامل مجتمعة خلقت شخصية سيد دعبس الحالم المتطلع الذي يعجز عن التحقيق والتحقق ، ويزيد الطين بلة ، ما آلت إليه شركة المياه الغازية التي يعمل بها ، حيث تم بيعها ، وكأنها الأثر الباقي من تلك الثورة المباركة ، حتي هذه ، تم ضياعها ، فماذا تبقي منها ؟ ! فعلى الرغم من تصور الهم هنا هو هم سيد دعبس ، إلا أن خيري عبد الجواد استطاع تضفير الهمين معا ، الهم الخاص والهم العام ، في نسيج متقن ، لا يستطيع الفصل فيه إلا مدقق متأمل.
وفي قصة "المخطوط" يستمر خيري عبد الجواد في التضفير بين الواقع والخيال ، في الإتيان بالمخلوقات العلوية لتسير بيننا وتتحدث إلينا ولتصير مألوفة لنا ، وهي تلك الخاصية التي تميز بها وعرفت به ، حتي باتت أمرا مسلما به ، لا عن طريق الإقحام ولكن استخدام الهلوسات البشرية المنطلقة والتي لا تحدها حدود ، تتحرك بلا قيود ، تصعد السماوات العلا ، وتهبط إلى الأراضين ، فتحيل المستحيل ممكنا ، ولكنه يوظفها في إنتاج قصة عصرية ، ولا يتوقف بها عند الحكايات العجائبية .
فنستطيع بيسر القول أن أهم ما يميز خيري عبد الجواد هو الأصالة في حكايات الجن والعفاريت التي اعتمدت عليها الحكايات التراثية ، والمعاصرة التي ينتج بها قصة حداثية معاصرة .
ففي بدايات القرن الواحد والعشرين يفتح "عم سيد" مكتبة لبيع وشراء واستبدال الكتب القديمة التي يعشقها هو شخصيا وينتشي لرائحتها ، يذوب حبا لمجرد مرآها مرصوصة على الأرفف أمامه ، يخيل إليه أن شخصا غريب المنظر والمظهر يسأله عن مخطوط باسم "قمر الأقمار" ويؤكد له أن المخطوط موجود لديه وأنه ليس على الأرفف ، ثم يتبخر الرجل ، ويعاوده مرة أخرى بشكل مختلف ويسأله عن المخطوط ثم يختفي ، ويجد "عم سيد" المخطوط بأحد الكراتين التي لم تكن قد فُتحت بعد ، فيضعه على أحد الأرفف وحينها ، وحينها فقط : [ .. عرف كل شيء .. ورأى كل شيء ، رأى ما فوق السماء وما تحت الأرض وعالم الظلام والجبال والبحار وما تقول الطيور في السماء والسمك في البحار ورباعيات الأرجل في الجبال، ودورة الأفلاك في كامل بهائها وتعاقب الأزمنة ومصائر البشر المهددة بالفناء ..إلخ ] أي أنه توصل إلى المعرفة ، وليس من مكان بعيد ، فلم يبحث عنها في الهند أو في الصين ، وإنما وجدها لديه ، غير أنه لم يكن يعرف ، وكأن خيري عبد الجواد يتمثل الآية القائلة {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} وإذا كان الإنسان مجذوب دوما للبحث عن المجهول ، في الظلام وفي الجبال وفي البحار ، ففي بطون الكتب وفي النفس البشرية يجد ما يسعى إليه ، والبحث عن المجهول في الحكايات القديمة أحد أهم شواغل خيري عبد الجواد ، ركز عليها في هذه القصة ، واستفاض فيها في روايته "مسالك الأحبة" التي تمحورت حول ذات الفكرة ، وهي فكرة بشرية أزلية ، لذا فهو هنا يركز على الهم الإنساني العام.
وفي قصة "نزهة المشتاق إلى فضائل بولاق" والتي تستدعي إلى الذاكرة قصة خورخي لويس بورخس "الاقتراب من المعتصم" في مختاراته بترجمة د. محمد أبو العطا تحت عنوان "الألف" حيث تدور القصتان حول تحقيق كتاب في طبعاته المختلفة . تدور قصة بورخس حول رواية مختلقة لمؤلف مختلق ، وتدور قصة خيري عبد الجواد حول فضائل ونشأة بولاق الدكرور ، وهي أيضا مختلقة ولمؤلف مختلق كذلك .
وينحصر هم الكاتب هنا في هم عام وإن كان محدودا نسبيا ، حيث الإحساس بالفقر والتخلف في هذه البقة من الأرض المصرية لا يمكن قبوله في بدايات القرن الواحد والعشرين ، فيخترع الكاتب تاريخا لهذه البقعة من خلال العثور على مخطوط نادر يؤصل لهذه البقعة ، وليثبت الكاتب أنه مصري مائة بالمائة ، فعندما تعييه الحيلة في الحاضر ، يلجأ إلى التاريخ وإلى الماضي ، ليستعيض به عن الحاضر ، وكأني به يقول نحن أبناء حضارة عمرها سبعة آلاف سنة .
وإن كانت هذه القصة تحديدا تتطلب وقفة ، حيث يسعى خيري عبد الجواد دائما لمحاولة التجديد والتجريب ، وهذا من حقه وواجبه ، ولنا أيضا حقنا في الحكم على ما يقدمه .
فإذا كانت القصة القصيرة ، في أبسط صورها ، تعتمد على التركيز ، وعلي عدد محدود قدر الإمكان من الشخوص تتحاور وتتفاعل حول حدث واحد مركز ، فماذا نجد من ذلك في قصة "نزهة المشتاق" ؟
القصة أقرب إلى المقال منها إلى القصة القصيرة ، لا تحمل منها إلا خيط رفيع جدا يتمثل في استدعاء أحدهم للراوي لإبلاغه بعثوره على مخطوط نادر ، ويطلب منه إعداد مقدمة لنشر هذا المخطوط ، وما عدا ذلك فهو تحقيقات مختلقة لطبعات هذا المخطوط الوهمي ، وعديد من التواريخ والشروح والطبعات المتعددة لأف ليلة وليلة مما أدى إلى تصدع البناء المحكم الذي رأيناه في العشة وعفريت سيد دعبس والمخطوط ، فأدى بالتبعية إلى تشتيت الذهن وانهيار التركيز وغياب المتعة التي يتفق معي خيري عبد الجواد في أنها عنصر أساسي في أي عمل إبداعي جيد.
فالتجريب مشروع للمبدع ، وتكسير القواعد في بعض الأحيان له شروط ، وقد وجدت نماذج عديدة من القصة القصيرة استخدمت بعض طرائق الشعر ، أو الفن التشكيلي ، أو الموسيقي ، بقدر ، فاستفادت منها وطورت فيها وخلقت منهجا جديدا لها ، أما أن تصبح القصة القصيرة مجرد مقال ، أو تصبح رواية أو أن تصبح غيرها من الأجناس الأدبية .. فهذا محل نظر .
كما تأتي قصة "تمارين على الكتابة" ، يتمحور الراوي فيها حول ذاته ، يعيش في حجرته منعزلا في الليلة الأخيرة من القرن العشرين ، يحاسب نفسه ماذا قدم وماذا حدث له ، فرغ مخزون التجربة ، وضعفت الذاكرة وخبا الحبر في أقلامه ، منذ أعوام لم يقدم جديدا من إبداع الشخوص على الورق ، أو إبداع البشر في الحياة ، لم يعد القلمان يقويان على الكتابة ، ويزيد من إحباطاته ووحدته وقوفه عاجزا أمام ما يدور حوله من أحداث جسام مثل: [ .. إنهيار الإتحاد السوفيتي ، وتفتت الكتلة الشرقية وانتصار الرأسمالية وحصار ليبيا وضرب العراق .. إلخ ..] . ولو لم يذكر خيري عبد الجواد أن كاتبه يعيش الليلة الأخيرة من القرن العشرين ، لقلت أن هذه القصة كُتبت في بداياته الأولى ، حيث تخلو من العمق الجميل المحبب والثراء الموجود في كل أعماله السابقة وحتي في القصص الأولى بذات المجموعة ، فضلا عن لجوئه للحيل القديمة – ولا أقول الساذجة – لخلق المفارقة بين اسم الراوي (سعيد فرحان) وبين ما يشعر به وما يخطه على الورق (أنا وحيد وتعيس) ، (أنا وحيد وتعيس وخائب الرجاء) .
إلا أن قدرة خيري عبد الجواد في تغليف مضامينه الإجتماعية والسياسية لم يتوقف فقط على استخدام العجائبي وتطويعه ليصبح واقعا ملموسا فيشعرنا بالحميمية تجاه ما هو مرعب ومخيف ، وإنما في خلق لغة أستطيع بارتياح أن أقول أنها خاصة به ، تزيد من تلك الحميمية والمعايشة مع العمل ، تلك اللغة المنسربة بنعومة وسلاسة من بيئة الحدث والجارية بعادية على ألسنة شخوصه . فعلي سبيل المثال:
"عندما يشتد الحر وتزداد لزوجة العرق على الأجساد فلا يطيق المرء نفسه ، وبينما زوجة الراوي تمسح حبات عرق انزلق إلى صدرها ، يصيح الزوج (وجدتها) ، فترد عليه : فيه إيه ؟ وهذه الكلمات البيسطة جدا التي تقولها الزوجة (فيه إيه؟) كم تحمل من شحنات ، ففيها من الطبيعية التي تكون الزوجة عليها في مثل هذا الجو الخانق ، فيها شحنات ذلك الجو ، فيها مدى التباعد الذي بين الزوجين ، خاصة في ذلك الجو الذي أراد خيري عبد الجواد أن يستخدمه (كفرشة) لفكرة عشته ، إذ بينما الزوج مهموم بذلك الجو وبكيفية الخروج منه ، وبعد تفكير طويل وبحث للخلاص يجد المخرج ، وبفرحة الوصول والانتصار يصيح (وجدتها) ، بينما الزوجة تقابل تلك الفرحة وذلك الانتصار بهذه الكلمة الصادة الرادة ، لتوحي مدى الانعزالية والانفرادية غير المشجعة . ويؤكد الكاتب هذا المعنى بعد ذلك حين يصف نظرة الدهشة والإعجاب في نظرة الجيران [ .. كان يلمح الجيران يقفون على أسطح المنازل المجاورة يقضون الساعات في تأمل هذا البناء المبهم بانبهار ودهشة ، أما زوجته ، فلم تكلف نفسها عناء إلقاء نظرة واحدة على ما يفعله] .
وفي (فالأنسب هو الحصير المعمول من البوص) فكلمة المعمول تختلف اختلافا كبيرا جدا من كلمة المصنوع مثلا ، إذ توحي الأخيرة بالعلمية والدراسة والقوانين واللوائح وغيرها كثير من الصنعة ، أما كلمة المعمول فهي مشحونة بالفطرية والبداءة والعشوائية التي تتناسب مع الجو العام للمحيط وللشخصية .
ويقابل سيد دعبس الجني بعد ليلة طويلة يحلم بعدها بالراحة ، لا يصدق أنه جني ، وعندما يجادله الجني ويشعر سيد دعبس (بطققان الروح) يريد أن يغير الحديث لينهي المسألة ، وعلي طريقة ابن البلد الكريم يفاجئ الجني وسط الحديث عن الموت [ تاكل بلح ؟ ] فمجرد ذكر هذا السؤال بهذه اللهجة يوحي بشخصية ابن البلد الفكاهية العفوية الكريمة الطيبة الساذجة المفضلة للصلح والتراضي غير الراغبة في المشاكل ، وكأنها (تدلق) جردل مياه على النار فتخمده .
وعندما يتفقان على المهلة التي طلبها سيد دعبس ، على أن يعود بعدها ليسلم نفسه للجني ، يسارع الجني : (يا حلاوتك ....) فتأتي هذه الكلمة العفوية كذلك لتحيل الجني إلى بشري ، وتعطي الإحساس بالألفة والاقتراب ، وكأن من يتحدث إن هو إلا ابن آدم من بولاق الدكرور .
وحتي الكلمة الغريبة على الأسماع العادية التي يستخدمها "عم سيد" في المخطوط وهي كلمة "الزبن" وعلى الرغم من غرابتها هذه إلا أنها تولد شحنات من العتاقة التي يعيشها عم سيد بين الكتب القديمة الفواحة برائحة الزمن ، كما توحي بدراية الكاتب بمصطلحات أهل المهنة ، الأمر الذي يخلق الحميمية والرضى من المتلقي وتقرب المسافة بينه وبين العمل .
وهناك خاصية من خصائص كتابات خيري عبد الجواد ، تسري في كل أعماله – تقريبا – وتتضح بصورة جلية واضحة في كل قصص هذه المجموعة بصفة خاصة ، وهي السخرية المريرة التي قد توحي بقناعة الكاتب بعدم جدوى الكتابة ، وبالصيرورة إلى العدم ، وما دام الأمر كذلك فما جدوى كل شيء ، إذ كثيرة هي الكتابة ، ولكن من يقرأ ، والتي قد تبدو في أن الكاتب في نهاية كل قصة يخرج لسانه لقارئه قائلا : هيه وضكت عليك . ولكن القارئ يبتسم ، وفي رضى يقول أبد لم تضحك عليّ ، وإنما أضحكتني من نفسي ، حيث لم يضع وقتي هباء ، ولا كانت قراءتي عبثا .
فانظر إلى قصة العشة ، بعد أن يحتشد الراوي لبناء العشة بكل الحماس ، وبعد أن يحشد الأهل والجيران ليشهدوا افتتاح ذلك العمل المبهر ، ووسط كل مظاهر الاحتفال والاحتفاء ، يتبخر كل شيء وكأن شيئا لم يكن .
وكذلك يحتشد سيد دعبس ليحقق حلم حياته ، لكنه في النهاية يتبخر وكأن شيئا لم يكن .
كما يصل إلى ذلك صراحة في نهاية المخطوط :
[ .. وللحظة خاطفة أدرك أنه هو شخصيا سوف يموت في يوم ما ليس ببعيد ، وأنه لا جدوى من أي شيء طالما المصير المحتوم واقع لا محالة ... ] .
وفي نهاية نزهة المشتاق وبعد أن يجهد الراوي نفسه في البحث والتقصي نراه يقول :
[ .. مما يجعلنا نشك في صحة نسبة هذا الكتاب إلى عصره ، وأنه من الكتب الكثيرة المنتحلة كتبتها أيدٍ معاصرة بغرض تشويه وجه التاريخ .. ] (ص65) وكأنه يقول أن العملية من أولها هي تأليف في تأليف ولا علاقة لها بالحقيقة في شيء .
وفي نهاية قصة تمارين على الكتابة بعد أن أجهد نفسه في البحث عن الوصايا التي بها يمكن كتابة قصة : - [ .. كانت الصفحات قد امتلأت فتوقف قليلا ، وأخذ يقرأ ما كتبه وهز رأسه وأمسك القلم مرة أخرى وكتب أسفل الصفحة جملة أخيرة : كل هذا هراء .. ] (ص78) ليختم بها القصة ويختم بها المجموعة كلها .
ولتبقي "قرن غزال" في النهاية بصمة واضحة المعالم في القصة القصيرة المصرية .
تلك هي خلاصة مجموعة " قرن غزال " لخيري عبد الجواد .
فالراوي في قصة "العشة" ضاق به المسكن في الطابق الأخير ، وتسلطت عليه الشمس بنيرانها ، و "أفات" زوجته بتحريضها ، فراح يحلم بجنة تتحول فيها الشمس إلى ضياء ظليل يشع بهجة الرومانسية الحالمة ، تذر "أفات" زوجته في نسيم ليل صيفي مهفهف ، وتنتزع منها الرضا والفخر . ولكن هبة ريح أطاحت بالحلم فتبخر وانزوى .
وسيد دعبس في قصة "عفريت سيد دعبس" تراكمت عليه ضغوط الحياة وتواصلت إحباطاته في تحقيق حلم أن يكون مسرحيا معروفا ، خاصة بعد أن تم الاستغناء عنه في إحدى شركات المياه الغازية - ضمن من استغنت عنهم الشركات في عمليات الخصخصة – وهي التي لم يكن يعمل بها غير تكوين فرقة مسرحية ، فيشبع فيها طموحاته ويحقق بها أحلامه ، وبضياع هذا الحلم الأخير ، تتبخر أحلامه وتتوقف به مسيرة الحياة التي يرتجيها ، وكما هي طبيعة الإنسان في شرقنا ، ورغم دخول القرن الواحد والعشرين ، يلجأ سيد دعبس إلى الجن ليحقق له ما شاء من أحلام ، وعلى طريقة "فاوست" الذي باع نفسه للشيطان في سبيل تحقيق ما يريد من العالم في فترة زمنية محددة يصبح بعدها ملكا للشيطان ، وهكذا أيضا يلجأ سيد دعبس للجني ، وإن لم يبع نفسه له ، إلا أنه بعد أن يجد الجني أنه لا مفر من موت سيد دعبس ، يمهله أسبوعا واحدا يتحقق فيه لسيد دعبس كل ما يحلم به ، بعدها يتبخر سيد دعبس وينتهي به الحلم إلى لا شيء .
وهذا – تقريبا – نفس ما حدث "لعم سيد" في قصة "المخطوط" إذ بعد أن يتصور أنه حقق ما أراد بفتح مكتبة للكتب القديمة التى يعشقها عشقا – وأيضا رغم بدايات دخول القرن الواحد والعشرين – يكتشف في قرارة نفسه – ودون أن يذكر الكاتب أو الراوي ذلك صراحة – أن هناك من العلوم الكثيرة التي استجدت لا يعلم عنها شيئا ، فيلجأ إلى الخيال أيضا ، إلى الشخصية المجهولة ، والتي من الممكن أن تكون جنيا أو عفريتا ، ليحقق له ذلك ، يأتيه ذلك المجهول الغريب المنظر ، يسأله عن مخطوط لم يسبق له أن سمع عنه ، لكن المجهول يؤكد وجود هذا المخطوط بالمكتبة ، يبحث عم سيد عن المخطوط حتى يكتشف وجوده بالفعل ، يضعه على أحد الأرفف فيشعر أنه قد ملك المعرفة ، لكنه أيضا يكتشف في النهاية أن المخطوط هو الآخر قد اختفى ، وأنه في مكانه على باب مكتبة الكتب القديمة لا يزال جالسا لم يغادر بولاق الدكرور .
وفي قصة "نزهة المشتاق إلى فضائل بولاق" يحلم الراوي بأن يكون لبولاق الدكرور تاريخ وأمجاد ، فيحاول أن يوثقها ويخترع لها من المؤلفين الذين كتبوا عنها – وهم أيضا من كتاب الكتب القديمة – غير أنها تظل أيضا في النهاية مجرد وهم وخيال وتهويمات لم تلمس أرض الواقع ، وفي النهاية أيضا يخبرنا الكاتب أن ليس هناك كتب قديمة وربما يكون الأمر حيلة من أحد المحدثين ، وكأنه أصيب بخيبة أمل في أن يكون هناك تاريخ وأمجاد بالفعل لبولاق الدكرور .
وفي قصة "تمارين على الكتابة" يصيب الكاتب الراوي اليأس والإحباط والإفلاس ، فيتصور نفسه وقد أصبح علما في القصة يملك من الحكمة والخبرة ما يستطيع أن يقدمه للأجيال الجديدة ، فيأخذ في شرح عناصر كتابة القصة الجيدة ، لكنه سرعان ما يتبين أنه ما هكذا تكتب القصة ، ليست القواعد النظرية ، ولكن التجربة هي المعلم ، وأن ما يفعله إن هو إلا إفلاس ويأس ، ويكتشف أن ما يفعله هراء وعبث . وكأن خيري عبد الجواد يختم المجموعة كلها بأن كل شيء هراء وعبث، وأن الحلم ما لم يأخذ طريقه للواقع فسيظل وهم وعبث.
ومتابعة أعمال خيري عبد الجواد تؤكد انشغاله إلى حد كبير بالشؤون الاجتماعية والسياسية ، الأمر الذي يقودنا لتتبع أسباب إحباطات شخوصه من تلك الرؤية ، وفي هذه المجموعة على الرغم من أنه قد يبدو في الوهلة الأولي أن تلك الأسباب مختلفة ، إلا أن النظرة المتأملة تؤكد أن تلك الشخوص تعيش في مجتمع ، تتفاعل معه وبه ، وما يصيب هذا المجتمع ينعكس بالضرورة على الفرد ، لذا نرى تلك الرؤية المتدرجة مع قصص المجموعة الخمس من العام إلى الأقل عمومية إلى الخاص .
فالكاتب المتقوقع حول نفسه القابع في حجرته الذي رأيناه في آخر قصص المجموعة ، الذي انحصر اهتمامه بذاته ومشكلته الذاتية ، اتسعت دائرة اهتمامه قليلا لتشمل حي بولاق الدكرور الذي يعيش فيه في قصة نزهة المشتاق ، واتسعت الدائرة أكثر لتشمل الوطن بأكمله في قصتي العشة وسيد دعبس ، وتتسع الدئرة أكثر وأكثر لتشمل الكون كله في قصة المخطوط .
في أولي قصص المجموعة "العشة" يرتبط ميلاد البطل بالثورة المباركة التي كان لها كبير الأثر في العديد من التغييرات الاجتماعية التي انعكست – إن سلبا أو إيجابا – على حياة الأفراد ، وقد ربط الراوي نفسه بتلك الليلة ، ليلة الثالث والعشرين من يوليو 1952 ، وضعت الثورة لنفسها مبادئ ستة ، ووضع لنفسه مثلها ، ولم تحقق الثورة أيا من هذه المبادئ ، ولا هو ، ولما أراد التحقق بتلك الفكرة المبتكرة والساذجة في آن ، وضع فيها كل أحلامه وخبراته ، حشد للإحتفال بها كل مظاهر الاحتفال ، وكأننا في ليلة الثالث والعشرين من كل عام عندما يستعرض السيد الرئيس العرض العسكري ، وفي المساء ، تكون الاحتفالات الغنائية التي يحتشد لها كبار مطربي البلد ، غير أنه مع النسمات الأولي من صباح الرابع والعشرين من يوليو يتبخر كل شيء ، تحمل ذرات الهواء تلك العشة – على المستوي الفردي – تحمل كل الآمال والطموحات المعقودة على تلك الثورة الميمونة ، تتبخر في الهواء بين دهشة الجميع وذهولهم ، فالهم هنا عام ، هم الوطن لا هم الفرد .
وفي قصة "عفريت سيد دعبس" يسير أيضا سيد دعبس في ليلة الثالث والعشرين من يوليو ، يتأمل حياته ، لم يحقق شيئا من آماله وطموحاته ، ربما لقلة الإمكانيات ، ربما لقلة الثقافة المنهجية ، ربما لظروف البيئة والفقر والعوز ، وربما كل هذه العوامل مجتمعة خلقت شخصية سيد دعبس الحالم المتطلع الذي يعجز عن التحقيق والتحقق ، ويزيد الطين بلة ، ما آلت إليه شركة المياه الغازية التي يعمل بها ، حيث تم بيعها ، وكأنها الأثر الباقي من تلك الثورة المباركة ، حتي هذه ، تم ضياعها ، فماذا تبقي منها ؟ ! فعلى الرغم من تصور الهم هنا هو هم سيد دعبس ، إلا أن خيري عبد الجواد استطاع تضفير الهمين معا ، الهم الخاص والهم العام ، في نسيج متقن ، لا يستطيع الفصل فيه إلا مدقق متأمل.
وفي قصة "المخطوط" يستمر خيري عبد الجواد في التضفير بين الواقع والخيال ، في الإتيان بالمخلوقات العلوية لتسير بيننا وتتحدث إلينا ولتصير مألوفة لنا ، وهي تلك الخاصية التي تميز بها وعرفت به ، حتي باتت أمرا مسلما به ، لا عن طريق الإقحام ولكن استخدام الهلوسات البشرية المنطلقة والتي لا تحدها حدود ، تتحرك بلا قيود ، تصعد السماوات العلا ، وتهبط إلى الأراضين ، فتحيل المستحيل ممكنا ، ولكنه يوظفها في إنتاج قصة عصرية ، ولا يتوقف بها عند الحكايات العجائبية .
فنستطيع بيسر القول أن أهم ما يميز خيري عبد الجواد هو الأصالة في حكايات الجن والعفاريت التي اعتمدت عليها الحكايات التراثية ، والمعاصرة التي ينتج بها قصة حداثية معاصرة .
ففي بدايات القرن الواحد والعشرين يفتح "عم سيد" مكتبة لبيع وشراء واستبدال الكتب القديمة التي يعشقها هو شخصيا وينتشي لرائحتها ، يذوب حبا لمجرد مرآها مرصوصة على الأرفف أمامه ، يخيل إليه أن شخصا غريب المنظر والمظهر يسأله عن مخطوط باسم "قمر الأقمار" ويؤكد له أن المخطوط موجود لديه وأنه ليس على الأرفف ، ثم يتبخر الرجل ، ويعاوده مرة أخرى بشكل مختلف ويسأله عن المخطوط ثم يختفي ، ويجد "عم سيد" المخطوط بأحد الكراتين التي لم تكن قد فُتحت بعد ، فيضعه على أحد الأرفف وحينها ، وحينها فقط : [ .. عرف كل شيء .. ورأى كل شيء ، رأى ما فوق السماء وما تحت الأرض وعالم الظلام والجبال والبحار وما تقول الطيور في السماء والسمك في البحار ورباعيات الأرجل في الجبال، ودورة الأفلاك في كامل بهائها وتعاقب الأزمنة ومصائر البشر المهددة بالفناء ..إلخ ] أي أنه توصل إلى المعرفة ، وليس من مكان بعيد ، فلم يبحث عنها في الهند أو في الصين ، وإنما وجدها لديه ، غير أنه لم يكن يعرف ، وكأن خيري عبد الجواد يتمثل الآية القائلة {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} وإذا كان الإنسان مجذوب دوما للبحث عن المجهول ، في الظلام وفي الجبال وفي البحار ، ففي بطون الكتب وفي النفس البشرية يجد ما يسعى إليه ، والبحث عن المجهول في الحكايات القديمة أحد أهم شواغل خيري عبد الجواد ، ركز عليها في هذه القصة ، واستفاض فيها في روايته "مسالك الأحبة" التي تمحورت حول ذات الفكرة ، وهي فكرة بشرية أزلية ، لذا فهو هنا يركز على الهم الإنساني العام.
وفي قصة "نزهة المشتاق إلى فضائل بولاق" والتي تستدعي إلى الذاكرة قصة خورخي لويس بورخس "الاقتراب من المعتصم" في مختاراته بترجمة د. محمد أبو العطا تحت عنوان "الألف" حيث تدور القصتان حول تحقيق كتاب في طبعاته المختلفة . تدور قصة بورخس حول رواية مختلقة لمؤلف مختلق ، وتدور قصة خيري عبد الجواد حول فضائل ونشأة بولاق الدكرور ، وهي أيضا مختلقة ولمؤلف مختلق كذلك .
وينحصر هم الكاتب هنا في هم عام وإن كان محدودا نسبيا ، حيث الإحساس بالفقر والتخلف في هذه البقة من الأرض المصرية لا يمكن قبوله في بدايات القرن الواحد والعشرين ، فيخترع الكاتب تاريخا لهذه البقعة من خلال العثور على مخطوط نادر يؤصل لهذه البقعة ، وليثبت الكاتب أنه مصري مائة بالمائة ، فعندما تعييه الحيلة في الحاضر ، يلجأ إلى التاريخ وإلى الماضي ، ليستعيض به عن الحاضر ، وكأني به يقول نحن أبناء حضارة عمرها سبعة آلاف سنة .
وإن كانت هذه القصة تحديدا تتطلب وقفة ، حيث يسعى خيري عبد الجواد دائما لمحاولة التجديد والتجريب ، وهذا من حقه وواجبه ، ولنا أيضا حقنا في الحكم على ما يقدمه .
فإذا كانت القصة القصيرة ، في أبسط صورها ، تعتمد على التركيز ، وعلي عدد محدود قدر الإمكان من الشخوص تتحاور وتتفاعل حول حدث واحد مركز ، فماذا نجد من ذلك في قصة "نزهة المشتاق" ؟
القصة أقرب إلى المقال منها إلى القصة القصيرة ، لا تحمل منها إلا خيط رفيع جدا يتمثل في استدعاء أحدهم للراوي لإبلاغه بعثوره على مخطوط نادر ، ويطلب منه إعداد مقدمة لنشر هذا المخطوط ، وما عدا ذلك فهو تحقيقات مختلقة لطبعات هذا المخطوط الوهمي ، وعديد من التواريخ والشروح والطبعات المتعددة لأف ليلة وليلة مما أدى إلى تصدع البناء المحكم الذي رأيناه في العشة وعفريت سيد دعبس والمخطوط ، فأدى بالتبعية إلى تشتيت الذهن وانهيار التركيز وغياب المتعة التي يتفق معي خيري عبد الجواد في أنها عنصر أساسي في أي عمل إبداعي جيد.
فالتجريب مشروع للمبدع ، وتكسير القواعد في بعض الأحيان له شروط ، وقد وجدت نماذج عديدة من القصة القصيرة استخدمت بعض طرائق الشعر ، أو الفن التشكيلي ، أو الموسيقي ، بقدر ، فاستفادت منها وطورت فيها وخلقت منهجا جديدا لها ، أما أن تصبح القصة القصيرة مجرد مقال ، أو تصبح رواية أو أن تصبح غيرها من الأجناس الأدبية .. فهذا محل نظر .
كما تأتي قصة "تمارين على الكتابة" ، يتمحور الراوي فيها حول ذاته ، يعيش في حجرته منعزلا في الليلة الأخيرة من القرن العشرين ، يحاسب نفسه ماذا قدم وماذا حدث له ، فرغ مخزون التجربة ، وضعفت الذاكرة وخبا الحبر في أقلامه ، منذ أعوام لم يقدم جديدا من إبداع الشخوص على الورق ، أو إبداع البشر في الحياة ، لم يعد القلمان يقويان على الكتابة ، ويزيد من إحباطاته ووحدته وقوفه عاجزا أمام ما يدور حوله من أحداث جسام مثل: [ .. إنهيار الإتحاد السوفيتي ، وتفتت الكتلة الشرقية وانتصار الرأسمالية وحصار ليبيا وضرب العراق .. إلخ ..] . ولو لم يذكر خيري عبد الجواد أن كاتبه يعيش الليلة الأخيرة من القرن العشرين ، لقلت أن هذه القصة كُتبت في بداياته الأولى ، حيث تخلو من العمق الجميل المحبب والثراء الموجود في كل أعماله السابقة وحتي في القصص الأولى بذات المجموعة ، فضلا عن لجوئه للحيل القديمة – ولا أقول الساذجة – لخلق المفارقة بين اسم الراوي (سعيد فرحان) وبين ما يشعر به وما يخطه على الورق (أنا وحيد وتعيس) ، (أنا وحيد وتعيس وخائب الرجاء) .
إلا أن قدرة خيري عبد الجواد في تغليف مضامينه الإجتماعية والسياسية لم يتوقف فقط على استخدام العجائبي وتطويعه ليصبح واقعا ملموسا فيشعرنا بالحميمية تجاه ما هو مرعب ومخيف ، وإنما في خلق لغة أستطيع بارتياح أن أقول أنها خاصة به ، تزيد من تلك الحميمية والمعايشة مع العمل ، تلك اللغة المنسربة بنعومة وسلاسة من بيئة الحدث والجارية بعادية على ألسنة شخوصه . فعلي سبيل المثال:
"عندما يشتد الحر وتزداد لزوجة العرق على الأجساد فلا يطيق المرء نفسه ، وبينما زوجة الراوي تمسح حبات عرق انزلق إلى صدرها ، يصيح الزوج (وجدتها) ، فترد عليه : فيه إيه ؟ وهذه الكلمات البيسطة جدا التي تقولها الزوجة (فيه إيه؟) كم تحمل من شحنات ، ففيها من الطبيعية التي تكون الزوجة عليها في مثل هذا الجو الخانق ، فيها شحنات ذلك الجو ، فيها مدى التباعد الذي بين الزوجين ، خاصة في ذلك الجو الذي أراد خيري عبد الجواد أن يستخدمه (كفرشة) لفكرة عشته ، إذ بينما الزوج مهموم بذلك الجو وبكيفية الخروج منه ، وبعد تفكير طويل وبحث للخلاص يجد المخرج ، وبفرحة الوصول والانتصار يصيح (وجدتها) ، بينما الزوجة تقابل تلك الفرحة وذلك الانتصار بهذه الكلمة الصادة الرادة ، لتوحي مدى الانعزالية والانفرادية غير المشجعة . ويؤكد الكاتب هذا المعنى بعد ذلك حين يصف نظرة الدهشة والإعجاب في نظرة الجيران [ .. كان يلمح الجيران يقفون على أسطح المنازل المجاورة يقضون الساعات في تأمل هذا البناء المبهم بانبهار ودهشة ، أما زوجته ، فلم تكلف نفسها عناء إلقاء نظرة واحدة على ما يفعله] .
وفي (فالأنسب هو الحصير المعمول من البوص) فكلمة المعمول تختلف اختلافا كبيرا جدا من كلمة المصنوع مثلا ، إذ توحي الأخيرة بالعلمية والدراسة والقوانين واللوائح وغيرها كثير من الصنعة ، أما كلمة المعمول فهي مشحونة بالفطرية والبداءة والعشوائية التي تتناسب مع الجو العام للمحيط وللشخصية .
ويقابل سيد دعبس الجني بعد ليلة طويلة يحلم بعدها بالراحة ، لا يصدق أنه جني ، وعندما يجادله الجني ويشعر سيد دعبس (بطققان الروح) يريد أن يغير الحديث لينهي المسألة ، وعلي طريقة ابن البلد الكريم يفاجئ الجني وسط الحديث عن الموت [ تاكل بلح ؟ ] فمجرد ذكر هذا السؤال بهذه اللهجة يوحي بشخصية ابن البلد الفكاهية العفوية الكريمة الطيبة الساذجة المفضلة للصلح والتراضي غير الراغبة في المشاكل ، وكأنها (تدلق) جردل مياه على النار فتخمده .
وعندما يتفقان على المهلة التي طلبها سيد دعبس ، على أن يعود بعدها ليسلم نفسه للجني ، يسارع الجني : (يا حلاوتك ....) فتأتي هذه الكلمة العفوية كذلك لتحيل الجني إلى بشري ، وتعطي الإحساس بالألفة والاقتراب ، وكأن من يتحدث إن هو إلا ابن آدم من بولاق الدكرور .
وحتي الكلمة الغريبة على الأسماع العادية التي يستخدمها "عم سيد" في المخطوط وهي كلمة "الزبن" وعلى الرغم من غرابتها هذه إلا أنها تولد شحنات من العتاقة التي يعيشها عم سيد بين الكتب القديمة الفواحة برائحة الزمن ، كما توحي بدراية الكاتب بمصطلحات أهل المهنة ، الأمر الذي يخلق الحميمية والرضى من المتلقي وتقرب المسافة بينه وبين العمل .
وهناك خاصية من خصائص كتابات خيري عبد الجواد ، تسري في كل أعماله – تقريبا – وتتضح بصورة جلية واضحة في كل قصص هذه المجموعة بصفة خاصة ، وهي السخرية المريرة التي قد توحي بقناعة الكاتب بعدم جدوى الكتابة ، وبالصيرورة إلى العدم ، وما دام الأمر كذلك فما جدوى كل شيء ، إذ كثيرة هي الكتابة ، ولكن من يقرأ ، والتي قد تبدو في أن الكاتب في نهاية كل قصة يخرج لسانه لقارئه قائلا : هيه وضكت عليك . ولكن القارئ يبتسم ، وفي رضى يقول أبد لم تضحك عليّ ، وإنما أضحكتني من نفسي ، حيث لم يضع وقتي هباء ، ولا كانت قراءتي عبثا .
فانظر إلى قصة العشة ، بعد أن يحتشد الراوي لبناء العشة بكل الحماس ، وبعد أن يحشد الأهل والجيران ليشهدوا افتتاح ذلك العمل المبهر ، ووسط كل مظاهر الاحتفال والاحتفاء ، يتبخر كل شيء وكأن شيئا لم يكن .
وكذلك يحتشد سيد دعبس ليحقق حلم حياته ، لكنه في النهاية يتبخر وكأن شيئا لم يكن .
كما يصل إلى ذلك صراحة في نهاية المخطوط :
[ .. وللحظة خاطفة أدرك أنه هو شخصيا سوف يموت في يوم ما ليس ببعيد ، وأنه لا جدوى من أي شيء طالما المصير المحتوم واقع لا محالة ... ] .
وفي نهاية نزهة المشتاق وبعد أن يجهد الراوي نفسه في البحث والتقصي نراه يقول :
[ .. مما يجعلنا نشك في صحة نسبة هذا الكتاب إلى عصره ، وأنه من الكتب الكثيرة المنتحلة كتبتها أيدٍ معاصرة بغرض تشويه وجه التاريخ .. ] (ص65) وكأنه يقول أن العملية من أولها هي تأليف في تأليف ولا علاقة لها بالحقيقة في شيء .
وفي نهاية قصة تمارين على الكتابة بعد أن أجهد نفسه في البحث عن الوصايا التي بها يمكن كتابة قصة : - [ .. كانت الصفحات قد امتلأت فتوقف قليلا ، وأخذ يقرأ ما كتبه وهز رأسه وأمسك القلم مرة أخرى وكتب أسفل الصفحة جملة أخيرة : كل هذا هراء .. ] (ص78) ليختم بها القصة ويختم بها المجموعة كلها .
ولتبقي "قرن غزال" في النهاية بصمة واضحة المعالم في القصة القصيرة المصرية .