نقوس المهدي
كاتب
قصائده مشاريع مؤجلة، يحمل حلم كتابة قصيدة فريدة على أكتافه أينما يحلّ. قد يكون الشاعر الوحيد الذي يمثِّل غياب قصيدته الحضور الأكثر في المشهد الشعري العراقي من عشرات المجموعات التي تطبعها المطابع ودور النشر، إنّه جان دمّو (1942 – 2003) الذي يمطر شتائم تتناثر فوق كؤوس ندمائه، وينثر قصائد الشعراء زجاجاً مكسراً ويستلقي على ظهره من الضحك على الشاعر وقصيدته.
منتصف الستينيات، نشر دمّو، الذي تحل ذكرى رحيله اليوم، قصيدة في مجلة عراقية، كانت الأغرب وأثارت الكثير من اللغط حولها في الوسط الثقافي آنذاك. كان عنوان القصيدة "الجندي الذي سافر في القطار ونسي أن يقول للبروفيسور نعم" في حين أن القصيدة كانت مجرد رقم "3".
لا مكان لليقين في خرائط دمّو. ها هو يختزل مفهومه للقصيدة في رسالته إلى الشاعر عبد القادر الجنابي بالقول "القصيدة هي شكل المعاناة العفوية في لحظة من لحظات الاتفاق مع الذات والكون. وهي صرخة الكائن المهموم ضمن كون أخرس وعابث. لربما هي اتحاد المألوف مع الغامض؛ نافذة للشكل في استقصاءاتها الفريدة وفي عذاباتها المتوترة".
ولد الشاعر في كركوك، مدينة النفط والتعددية الدينية والقوميّة عام 1942، وكان ضمن "جماعة كركوك الأدبية" مع جليل القيسي ومؤيد الراوي وفاضل العزاوي وسركون بولص وأنور الغساني وقحطان الهرمزي.
ومثل معظم أفراد الجماعة، حمل دمّو أحلامه متوجهاً إلى بغداد، ليغدو حالة بوهيمية تشكّل في بعض تفاصيلها امتداداً للشاعرين الصعلوكين عبد الأمير الحصيري وحسين مردان. لكن بغداد كانت تحثّ خطاها مسرعة نحو نظام شمولي مهووس بالقمع والحروب، لم تتحمل بوهيمية هذا الشاعر القادم من الشمال، فلفظته طوعاً إلى بيروت، التي رغم تحرّرها واعتيادها على الظواهر البوهيمية، لم تتسع لجنون الشاعر وتمرده، فأعادته إلى بغداد بقرار رسمي عام 1975.
ظلت معادلة الصعلكة/الحرية زوادة الفارس القادم من جيل الستينيات الصاخب، المقذوف خارج أحلامه المرتبكة، حيث يخوض حروب التمرد وحيداً ممتطياً حصاناً من غيم وسيفاً من ورق، لا ظل له إلا في المقاهي والحانات، ولا سكينة إلا في غرفته الرثّة القابعة تحت سلّم بناية متهاوية في أحد أزقة الـ"حيدر خانة" وسط العاصمة.
لم يَصدر لدمّو في حياته كتاباً. فقد وُلدت مجموعته اليتيمة "أسمال" (1993) على يد بعض من أصدقاء الشاعر، وجمع حسين علي يونس، الذي شارك دمّو حياة الصعلكة في التسعينيات، كل ما أنتجه البوهيمي من شعر وترجمة في كتاب "جان دمّو: التركة والحياة" والذي صدر عن دار "نون" العام الماضي.
يرسم دمّو نهايته، أو لا نهايته كما يصفها، مبكراً: "إنهم رفاقك الخالدون/ فارغة الموائد/ كقلب الليل/ كمعادلات آينشتاين: وها أنت/ تركض باتجاه سراب اللحظات/ إنك ثمل. إنك ظمآن/ ثمل وظمآن أكثر مما ينبغي: وهذه الحياة/ هذه هي اللانهاية".
وحين فاضت به الطرقات، تأبّط أسراره وما تيسر من قصائده ورحل إلى العاصمة الأردنيّة عمّان التي كانت محطة في رحلته النهائية صوب مدينة سيدني الأسترالية، حيث أُدخل أحد مصحاتها بعد أن اختنق بتوقه لصعلكة بغداد وصحبه الموزَعين بين مسايرة النظام الشمولي والهرب منه. وفي لحظة ملتبسة من مساء الثامن من أيار/ مايو 2003، مات جان دمّو حاملاً معه أسماله وشتائمه وتمرده. حينها أعلن الوسط الثقافي رحيل آخر صعاليك الشعر العراقي.
منتصف الستينيات، نشر دمّو، الذي تحل ذكرى رحيله اليوم، قصيدة في مجلة عراقية، كانت الأغرب وأثارت الكثير من اللغط حولها في الوسط الثقافي آنذاك. كان عنوان القصيدة "الجندي الذي سافر في القطار ونسي أن يقول للبروفيسور نعم" في حين أن القصيدة كانت مجرد رقم "3".
لا مكان لليقين في خرائط دمّو. ها هو يختزل مفهومه للقصيدة في رسالته إلى الشاعر عبد القادر الجنابي بالقول "القصيدة هي شكل المعاناة العفوية في لحظة من لحظات الاتفاق مع الذات والكون. وهي صرخة الكائن المهموم ضمن كون أخرس وعابث. لربما هي اتحاد المألوف مع الغامض؛ نافذة للشكل في استقصاءاتها الفريدة وفي عذاباتها المتوترة".
ولد الشاعر في كركوك، مدينة النفط والتعددية الدينية والقوميّة عام 1942، وكان ضمن "جماعة كركوك الأدبية" مع جليل القيسي ومؤيد الراوي وفاضل العزاوي وسركون بولص وأنور الغساني وقحطان الهرمزي.
ومثل معظم أفراد الجماعة، حمل دمّو أحلامه متوجهاً إلى بغداد، ليغدو حالة بوهيمية تشكّل في بعض تفاصيلها امتداداً للشاعرين الصعلوكين عبد الأمير الحصيري وحسين مردان. لكن بغداد كانت تحثّ خطاها مسرعة نحو نظام شمولي مهووس بالقمع والحروب، لم تتحمل بوهيمية هذا الشاعر القادم من الشمال، فلفظته طوعاً إلى بيروت، التي رغم تحرّرها واعتيادها على الظواهر البوهيمية، لم تتسع لجنون الشاعر وتمرده، فأعادته إلى بغداد بقرار رسمي عام 1975.
ظلت معادلة الصعلكة/الحرية زوادة الفارس القادم من جيل الستينيات الصاخب، المقذوف خارج أحلامه المرتبكة، حيث يخوض حروب التمرد وحيداً ممتطياً حصاناً من غيم وسيفاً من ورق، لا ظل له إلا في المقاهي والحانات، ولا سكينة إلا في غرفته الرثّة القابعة تحت سلّم بناية متهاوية في أحد أزقة الـ"حيدر خانة" وسط العاصمة.
لم يَصدر لدمّو في حياته كتاباً. فقد وُلدت مجموعته اليتيمة "أسمال" (1993) على يد بعض من أصدقاء الشاعر، وجمع حسين علي يونس، الذي شارك دمّو حياة الصعلكة في التسعينيات، كل ما أنتجه البوهيمي من شعر وترجمة في كتاب "جان دمّو: التركة والحياة" والذي صدر عن دار "نون" العام الماضي.
يرسم دمّو نهايته، أو لا نهايته كما يصفها، مبكراً: "إنهم رفاقك الخالدون/ فارغة الموائد/ كقلب الليل/ كمعادلات آينشتاين: وها أنت/ تركض باتجاه سراب اللحظات/ إنك ثمل. إنك ظمآن/ ثمل وظمآن أكثر مما ينبغي: وهذه الحياة/ هذه هي اللانهاية".
وحين فاضت به الطرقات، تأبّط أسراره وما تيسر من قصائده ورحل إلى العاصمة الأردنيّة عمّان التي كانت محطة في رحلته النهائية صوب مدينة سيدني الأسترالية، حيث أُدخل أحد مصحاتها بعد أن اختنق بتوقه لصعلكة بغداد وصحبه الموزَعين بين مسايرة النظام الشمولي والهرب منه. وفي لحظة ملتبسة من مساء الثامن من أيار/ مايو 2003، مات جان دمّو حاملاً معه أسماله وشتائمه وتمرده. حينها أعلن الوسط الثقافي رحيل آخر صعاليك الشعر العراقي.