نقوس المهدي
كاتب
الكتاب الأول
1 - تمهيد
هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد لم بألفة الناس عندنا من قبل .
وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه وبأن فريقا آخر سيزورون عنه ازورار ولكني علي سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث أو بعبارة أصح أريد أن أقيده فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلي طلابي في الجامعة .
وليس سرا ما تتحدث به إلي أكثر من مائتين . ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعا ما أعرف أني شعرت بمثله في تلك الموقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي.
وهذا الاقتناع القوي هو الذي يحملني علي تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول غير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بازورار المزور .
وأنا مطمئن إلي أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق علي آخرين فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد .
وقد تناول الناس منذ حين مسألة القديم والجديد واشتد فيها اللجاجة بينهم وخيل إلي بعضهم أنة يستطيع أن يقضي فيها بين المختصمين .
ولكني أعتقد أن المختصمين أنفسهم لم يتناولوا المسألة من جميع أطرفها فهم لم يكادوا يتجاوزون فنون الأدب التي يتعاطاها الناس من نثر وشعر والأساليب التي تصطنع في هذه الفنون والمعاني والألفاظ التي يعمد إليها الكاتب أو الشاعر حين يريد أن يتحدث إلي الناس بعواطف نفسه أو نتائج عقله ولكن المسألة وجها آخر لا يتناول الفن الكتابي أو الشعري وإنما يتناول البحث العلمي عن الأدب وتاريخ فنونه .
نحن بين اثنتين : إما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قاله القدماء ، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو منه كل بحث والذي يطيح لنا أن نقول : أخطأ الأصمعي أو أصاب ووفق أبو عبيدة أو لم يوفق واهتدي ألكسائي أو ضل الطريق وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث .
لقد أنسيت ، فلست أريد أن أقول البحث وإنما أريد أن أقول الشك .
أريد ألا نقبل شيئا مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبيت إن لم ينتهيا إلي اليقين فقد ينتهيان إلي الرجحان .
والفرق بين هذين المذهبين في البحث عظيم فهو الفرق بين الإيمان الذي يبعث علي الاطمئنان والرضا والشك الذي يبعث علي القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان إلي الإنكار والجحود .
المذهب الأول يدع كل شيء حيث تركه القدماء لا يناله التغير ولا تبديل ولا يمسه في جملته وتفصيلة إلا مسا رفيقا.
أما المذهب الثاني فيقلب العلم القديم رأسا علي عقب .
وأخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئا كثيرا .
ولندع هذا النحو من الكلام العام ولنوضح ما نريد أن مقولة بشيء من الأمثلة : بين يدينا مسألة الشعر الجاهلي نريد أن ندرسها وننتهي فيها إلي الحق .
فأما أنصار القديم فالطريق أمامهم واضحة معبدة ، والأمر عليهم سهل يسير .
أليس قد أجمع القدماء من علماء الأمصار في العراق والشام وفارس ومصر والأندلس علي أن طائفة كثيرة من الشعراء قد عاشت قبل الإسلام وقالت كثيرا من الشعر ؟
أليس قد أجمع هؤلاء العلماء أنفسهم علي أن لهؤلاء الشعراء أسماء معروفة محفوظة مضبوطة بتناقلها الناس ولا يكادون يختلفون فيها ؟
أليس قد أجمع هؤلاء العلماء علي أن لهؤلاء الشعراء مقدارا من القصائد والمقطوعات حفظه عنهم رواتهم وتناقله عنهم الناس حتى جاء عصر التدوين فدون في الكتب وبقي منه ما شاء الله أن يبقي إلي لأيامنا ؟
وإذا كان العلماء قد أجمعوا علي هذا كله فرووا لنا أسماء الشعراء وضبطوها ونقلوا إلينا آثار الشعراء وفسروها فلم يبق إلا أن نأخذ عنهم ما قالوا راضين به مطمئنين إلية فإذا لم يكن لأحدنا بد من أن يبحث وينقد ويحقق فهو يستطيع هذا دون أن يجاوز مذهب أنصار القديم فالعلماء قد اختلفوا في الرواية بعض الاختلاف وتفاوتوا في الضبط بعض التفاوت فلنوازن بينهم ولنرجح رواية علي رواية ولنؤثر ضبطا علي ضبط ولنقل : أصاب البصريون وأخطأ الكوفيون أو وفق المبرد وأم يوفق ثعلب لنذهب في الأدب وفنونه مذهب الفقهاء في الفقه بعد أن أغلق باب الاجتهاد : هذا مذهب أنصار القديم وهو المذهب الذائع في مصر وهو المذهب الرسمي أيضا مضت علية مدارس الحكومات وكتبها ومناهجها علي ما بينها من تفاوت واختلاف .
ولا ينبغي أن تخدعك هذه الألفاظ المستحدثة في الأدب ولا هذا النحو من التأليف الذي يقسم التاريخ الأدبي إلي عصور ويحاول أن يدخل فيه شيئا من الترتيب والتنظيم فذلك كله عناية بالقشور والأشكال لا يمس اللباب ولا الموضوع فما زال العرب ينقسمون إلي بائدة وباقية وإلي عارية ومستعربة ومازال أولئك من جرهم وهؤلاء من ولد إسماعيل ومازال امرؤ القيس صاحب " قفا نبك " وطرفة صاحب " لخولة أطلال " وعمرو بن كلثوم صاحب " ألا هبي " ومازال كلام العرب فغي جاهليتها وإسلامها ينقسم إلي شعر ونثر.
النثر ينقسم إلي مرسل ومسجو ع ألي آخر هذا الكلام الكثير الذي يفرغه أنصار القديم فيما يصنعون من كتب وما يلقون علي التلاميذ والطلاب من دروس هم لم يغيروا في الأدب شيئا وما كان لهم أن يغيروا فيه شيئا وقد أخذوا أنفسهم بالاطمئنان إلي ما قاله القدماء وأغلقوا علي أنفسهم في الأدب باب الاجتهاد كما أغلقه الفقهاء في افقه والمتكلمون في الكلام وأما أنصار الجديد فالطريق أمامهم معوجة ملتوية تقوم فيها عقاب لا تكاد تحصي وهم لا يكادون يمضون إلا في أناة وريث هما إلي البطء أقرب منهما إلي السرعة ذلك أنهم لا يأخذون أنفسهم بإيمان ولا اطمئنان أو هم لم يرزقوا هذا الإيمان والاطمئنان فقد خلق الله لهم عقولا تجد من الشك لذة وفي القلق والاضطراب رضا وهم لا يريدون أن يخطوا في تاريخ الأدب خطوة حتى يتبنوا موضعها وسواء عليهم وافقوا القدماء وأنصار القديم أم كان بينهم وبينهم أشد الخلاف هم لا يطمئنون إلي ما قال القدماء وإنما يلقون بالتحفظ والشك ولعل أشد ما يملكهم الشك حين يجدون من القدماء ثقة واطمئنانا هم يريدون أن يدوسوا مسألة الشعر الجاهلي فيتجاهلون إجماع القدماء علي ما اجمعوا علية ويتساءلون أهناك شعر جاهلي ؟
فإن كان هناك شعر جاهلي فما السبيل إلي معرفته ؟
وما هو ؟
وما مقداره ؟
وبم يمتاز من غيرة ويمضون في طائفة من الأسئلة يحتاج حلها إلي روية وأناة وإلي جهود الجماعات العلمية لا إلي جهود الأفراد هم لا يعرفون أن العرب ينقسمون إلي باقية وبائدة وعارية ومستعربة ولا أن لأولئك من جرهم وهؤلاء من ولد إسماعيل ولا أن امرأ القيس وطرفة وابن كلثوم قالوا هذه المطولات ولكنهم يعرفون أن القدماء كانوا يروون ذلك .
ويريدون أن يستبينوا أكان القدماء مصيبين أم مخطئين ؟
والنتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر فهي إلي الثورة الأدبية أقرب منها إلي أي شيء آخر وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرون يقينا وقد يجحدون ما أجمع الناس علي أنة حق لا شك فيه .
وليس حظ هذا المذهب منتهيا عند هذا الحد بل هو يجاوزه إلي حدود أخري أبعد منه مدي وأعظم أثرا فهم قد ينتهون إلي تغيير التاريخ أو ما اتفق الناس علي أنة تاريخ وهم قد ينتهون إلي الشن في أشياء لم يكن يباح الشك فيها وهم بين اثنتين : إما أن يجحدوا أنفسهم ويجحدوا العلم وحقوقه فيرخوا ويستريحوا وإما أن يعرفوا لأنفسهم حقها ويؤذوا للعلم واجبه فيتعرضوا لما ينبغي أن يتعرض له العلماء من الأذى ويحتملوا ما ينبغي أن يحتمله العلماء من سخط الساخطين .
ولست أزعم أني من العلماء ولست أتمدح بأني أحب أن أتعرض لللأذي وربما كان الحق أني أحب الحياة الهادئة المطمئنة وأريد أن أتذوق لذات العيش في دعة ورضا ولكني مع ذلك أحب أن أفكر وأحب أن أبحث وأحب أن أعلن إلي الناس متا أنتهي إلية بعد البحث والتفكير ولا أكره أن أحذ نصيبي من رضا الناس علي أو سخطهم علي حين أعلن إليهم ما يحبون أو ما يكرهون وإذن فلأعتمد علي الله ولأجتنب بما أحب أن أحدثك به في صراحة وأمانة وصدق ولأجتنب في هذا الحديث هذه الطرق التي يسلكها المهرة من الكتاب ليدخلوا علي الناس ما لم يألفوا في رفق وأناة وشيء من الاحتياط كثير.
وأول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك أو قل ألح علي الشك فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر حتى انتهي بي هذا كله إلي شيء إلا يكن يقينا فهو أقرب من اليقين ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين .
وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل علي شيء ولا ينبغي الاعتماد علية في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي .
وأنا أقدر النتائج الخطرة لهذه النظرية ولكني مع ذلك لا أتردد في أثباتها وإذاعتها ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلي غيرك من القراء أن ما تقرؤه علي أنة شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاف الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين .
وأنا أزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يصنع ,إنا نستطيع أن نتصوره تصورا واضحا قويا صحيحا .
ولكن بشرط ألا نعتمد علي الشعر بل علي القرآن من ناحية والتاريخ والأساطير من ناحية أخري .
وستسألني كيف انتهي بي البحث إلي هذه النظرية الخطرة ؟
ولست أكره أن أجيبك علي هذا السؤال بل أنا لا أكتب ما أكتب إلا لأجيبك علية ولأجل أن أجيبك علية إجابة مقنعة يجب أن أتحدث إليك في طائفة مختلفة من المسائل .
وستري أن هذه الطائفة المختلفة من المسائل تنتهي كلها إلي نتيجة واحدة هي هذه النظرية التي ذكرتها منذ حين .
يجب أن أحدثك عن الحياة السياسية الداخلية للأمة العربية قبل ظهور الإسلام ووقوف حركة الفتح وما بين هذه الحياة وبين الشعر من صلة .
ويجب أن أحدثك عن حال أولئك الناس الذين غلبوا علي أمرهم بعد الفتح في بلاد الفرس وفي الشام والجزيرة والعراق ومصر ، مابين هذه الحال وبين لغة العرب وآدابهم من صلة .ويجب أن أحدثك عن نشأة العلوم الدنية واللغوية وما بينها وبين اللغة و الأدب من صلة .
ثم يجب أن أحدثك عن اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام وبعده وما بين اليهود هؤلاء وبين الأدب العربي من صلة ويجب أن أحدثك بعد هذا عن المسيحية وما كان لها من الانتشار في بلاد العرب قبل الإسلام وما أحدثت من تأثير في حياة العرب العقلية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية وما بين هذا كله وبين الأدب العربي والشعر العربي من صلة ثم يجب أن أحدثك عن مؤثرات سياسية خارجية عملت في حياة العرب قبل الإسلام وكان لها أثر قوي جدا في الشعر العربي الجاهلي وفي الشعر العربي الذي أنتحل وأضيف إلي الجاهليين وهذه المباحث التي أشرت إليها ستنتهي كلها إلي تلك النظرية التي قدمتها : وهي أن الكثرة المطلقة من الشعر الجاهلي ليست من الشعر الجاهلي في شيء .
ولكني مع ذلك لن أقف عند هذه المباحث لأني أقف عندها فيما بيني وبين نفسي بل جاوزتها .
وأريد أن أجاوزها معك إلي نحو آخر من البحث أظنه أقوي دلالة وأنهض حجة من المباحث الماضية كلها ذلك هو المبحث الفني واللغوي , فسينتهي بنا هذا المبحث إلي أن هذا الشعر الذي ينسب إلي امرئ القيس أو إلي الأعشي أو إلي غيرهما من ا لشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء ولا أن يكون قد قيل وأذيع فبل أن يظهر القرآن .
نعم ؟
وسينتهي بنا هذا البحث إلي نتيجة غريبة وهي أنة لا ينبغي أن يستشهد بهذا الشعر علي تفسير القرآن وتأويل الحديث وإنما ينبغي أن يستشهد بالقرآن والحديث علي تفسير هذا الشعر و تأويله أريد أن أقوال إن هذه الأشعار لا تثبت شيئا ولا تدل علي شيء ولا ينبغي أن تتخذ وسيلة إلي ما اتخذت إلية من علم القرآن والحديث فهي إنما تكلفت واخترعت اختراعا ليستشهد بها العلماء علي ما كانوا يريدون أن يستشهدوا علية .
فإذا انتهينا من هذه الطرق كلها إلي غاية واحدة هي هذه النظرية التي قدمتها فسنجتهد في أن نبحث عما يمكن أن يكون شعرا جاهليا حقا وأنا أعترف منذ الآن بأن هذا البحث عسير كل العسر وبأني أشك شكا شديدا في أنة قد ينتهي بنا إلي نتيجة مرضية ومع ذلك فسنحاوله
.../...
طه حسين
1 - تمهيد
هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد لم بألفة الناس عندنا من قبل .
وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه وبأن فريقا آخر سيزورون عنه ازورار ولكني علي سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث أو بعبارة أصح أريد أن أقيده فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلي طلابي في الجامعة .
وليس سرا ما تتحدث به إلي أكثر من مائتين . ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعا ما أعرف أني شعرت بمثله في تلك الموقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي.
وهذا الاقتناع القوي هو الذي يحملني علي تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول غير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بازورار المزور .
وأنا مطمئن إلي أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق علي آخرين فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد .
وقد تناول الناس منذ حين مسألة القديم والجديد واشتد فيها اللجاجة بينهم وخيل إلي بعضهم أنة يستطيع أن يقضي فيها بين المختصمين .
ولكني أعتقد أن المختصمين أنفسهم لم يتناولوا المسألة من جميع أطرفها فهم لم يكادوا يتجاوزون فنون الأدب التي يتعاطاها الناس من نثر وشعر والأساليب التي تصطنع في هذه الفنون والمعاني والألفاظ التي يعمد إليها الكاتب أو الشاعر حين يريد أن يتحدث إلي الناس بعواطف نفسه أو نتائج عقله ولكن المسألة وجها آخر لا يتناول الفن الكتابي أو الشعري وإنما يتناول البحث العلمي عن الأدب وتاريخ فنونه .
نحن بين اثنتين : إما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قاله القدماء ، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو منه كل بحث والذي يطيح لنا أن نقول : أخطأ الأصمعي أو أصاب ووفق أبو عبيدة أو لم يوفق واهتدي ألكسائي أو ضل الطريق وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث .
لقد أنسيت ، فلست أريد أن أقول البحث وإنما أريد أن أقول الشك .
أريد ألا نقبل شيئا مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبيت إن لم ينتهيا إلي اليقين فقد ينتهيان إلي الرجحان .
والفرق بين هذين المذهبين في البحث عظيم فهو الفرق بين الإيمان الذي يبعث علي الاطمئنان والرضا والشك الذي يبعث علي القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان إلي الإنكار والجحود .
المذهب الأول يدع كل شيء حيث تركه القدماء لا يناله التغير ولا تبديل ولا يمسه في جملته وتفصيلة إلا مسا رفيقا.
أما المذهب الثاني فيقلب العلم القديم رأسا علي عقب .
وأخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئا كثيرا .
ولندع هذا النحو من الكلام العام ولنوضح ما نريد أن مقولة بشيء من الأمثلة : بين يدينا مسألة الشعر الجاهلي نريد أن ندرسها وننتهي فيها إلي الحق .
فأما أنصار القديم فالطريق أمامهم واضحة معبدة ، والأمر عليهم سهل يسير .
أليس قد أجمع القدماء من علماء الأمصار في العراق والشام وفارس ومصر والأندلس علي أن طائفة كثيرة من الشعراء قد عاشت قبل الإسلام وقالت كثيرا من الشعر ؟
أليس قد أجمع هؤلاء العلماء أنفسهم علي أن لهؤلاء الشعراء أسماء معروفة محفوظة مضبوطة بتناقلها الناس ولا يكادون يختلفون فيها ؟
أليس قد أجمع هؤلاء العلماء علي أن لهؤلاء الشعراء مقدارا من القصائد والمقطوعات حفظه عنهم رواتهم وتناقله عنهم الناس حتى جاء عصر التدوين فدون في الكتب وبقي منه ما شاء الله أن يبقي إلي لأيامنا ؟
وإذا كان العلماء قد أجمعوا علي هذا كله فرووا لنا أسماء الشعراء وضبطوها ونقلوا إلينا آثار الشعراء وفسروها فلم يبق إلا أن نأخذ عنهم ما قالوا راضين به مطمئنين إلية فإذا لم يكن لأحدنا بد من أن يبحث وينقد ويحقق فهو يستطيع هذا دون أن يجاوز مذهب أنصار القديم فالعلماء قد اختلفوا في الرواية بعض الاختلاف وتفاوتوا في الضبط بعض التفاوت فلنوازن بينهم ولنرجح رواية علي رواية ولنؤثر ضبطا علي ضبط ولنقل : أصاب البصريون وأخطأ الكوفيون أو وفق المبرد وأم يوفق ثعلب لنذهب في الأدب وفنونه مذهب الفقهاء في الفقه بعد أن أغلق باب الاجتهاد : هذا مذهب أنصار القديم وهو المذهب الذائع في مصر وهو المذهب الرسمي أيضا مضت علية مدارس الحكومات وكتبها ومناهجها علي ما بينها من تفاوت واختلاف .
ولا ينبغي أن تخدعك هذه الألفاظ المستحدثة في الأدب ولا هذا النحو من التأليف الذي يقسم التاريخ الأدبي إلي عصور ويحاول أن يدخل فيه شيئا من الترتيب والتنظيم فذلك كله عناية بالقشور والأشكال لا يمس اللباب ولا الموضوع فما زال العرب ينقسمون إلي بائدة وباقية وإلي عارية ومستعربة ومازال أولئك من جرهم وهؤلاء من ولد إسماعيل ومازال امرؤ القيس صاحب " قفا نبك " وطرفة صاحب " لخولة أطلال " وعمرو بن كلثوم صاحب " ألا هبي " ومازال كلام العرب فغي جاهليتها وإسلامها ينقسم إلي شعر ونثر.
النثر ينقسم إلي مرسل ومسجو ع ألي آخر هذا الكلام الكثير الذي يفرغه أنصار القديم فيما يصنعون من كتب وما يلقون علي التلاميذ والطلاب من دروس هم لم يغيروا في الأدب شيئا وما كان لهم أن يغيروا فيه شيئا وقد أخذوا أنفسهم بالاطمئنان إلي ما قاله القدماء وأغلقوا علي أنفسهم في الأدب باب الاجتهاد كما أغلقه الفقهاء في افقه والمتكلمون في الكلام وأما أنصار الجديد فالطريق أمامهم معوجة ملتوية تقوم فيها عقاب لا تكاد تحصي وهم لا يكادون يمضون إلا في أناة وريث هما إلي البطء أقرب منهما إلي السرعة ذلك أنهم لا يأخذون أنفسهم بإيمان ولا اطمئنان أو هم لم يرزقوا هذا الإيمان والاطمئنان فقد خلق الله لهم عقولا تجد من الشك لذة وفي القلق والاضطراب رضا وهم لا يريدون أن يخطوا في تاريخ الأدب خطوة حتى يتبنوا موضعها وسواء عليهم وافقوا القدماء وأنصار القديم أم كان بينهم وبينهم أشد الخلاف هم لا يطمئنون إلي ما قال القدماء وإنما يلقون بالتحفظ والشك ولعل أشد ما يملكهم الشك حين يجدون من القدماء ثقة واطمئنانا هم يريدون أن يدوسوا مسألة الشعر الجاهلي فيتجاهلون إجماع القدماء علي ما اجمعوا علية ويتساءلون أهناك شعر جاهلي ؟
فإن كان هناك شعر جاهلي فما السبيل إلي معرفته ؟
وما هو ؟
وما مقداره ؟
وبم يمتاز من غيرة ويمضون في طائفة من الأسئلة يحتاج حلها إلي روية وأناة وإلي جهود الجماعات العلمية لا إلي جهود الأفراد هم لا يعرفون أن العرب ينقسمون إلي باقية وبائدة وعارية ومستعربة ولا أن لأولئك من جرهم وهؤلاء من ولد إسماعيل ولا أن امرأ القيس وطرفة وابن كلثوم قالوا هذه المطولات ولكنهم يعرفون أن القدماء كانوا يروون ذلك .
ويريدون أن يستبينوا أكان القدماء مصيبين أم مخطئين ؟
والنتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر فهي إلي الثورة الأدبية أقرب منها إلي أي شيء آخر وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرون يقينا وقد يجحدون ما أجمع الناس علي أنة حق لا شك فيه .
وليس حظ هذا المذهب منتهيا عند هذا الحد بل هو يجاوزه إلي حدود أخري أبعد منه مدي وأعظم أثرا فهم قد ينتهون إلي تغيير التاريخ أو ما اتفق الناس علي أنة تاريخ وهم قد ينتهون إلي الشن في أشياء لم يكن يباح الشك فيها وهم بين اثنتين : إما أن يجحدوا أنفسهم ويجحدوا العلم وحقوقه فيرخوا ويستريحوا وإما أن يعرفوا لأنفسهم حقها ويؤذوا للعلم واجبه فيتعرضوا لما ينبغي أن يتعرض له العلماء من الأذى ويحتملوا ما ينبغي أن يحتمله العلماء من سخط الساخطين .
ولست أزعم أني من العلماء ولست أتمدح بأني أحب أن أتعرض لللأذي وربما كان الحق أني أحب الحياة الهادئة المطمئنة وأريد أن أتذوق لذات العيش في دعة ورضا ولكني مع ذلك أحب أن أفكر وأحب أن أبحث وأحب أن أعلن إلي الناس متا أنتهي إلية بعد البحث والتفكير ولا أكره أن أحذ نصيبي من رضا الناس علي أو سخطهم علي حين أعلن إليهم ما يحبون أو ما يكرهون وإذن فلأعتمد علي الله ولأجتنب بما أحب أن أحدثك به في صراحة وأمانة وصدق ولأجتنب في هذا الحديث هذه الطرق التي يسلكها المهرة من الكتاب ليدخلوا علي الناس ما لم يألفوا في رفق وأناة وشيء من الاحتياط كثير.
وأول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك أو قل ألح علي الشك فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر حتى انتهي بي هذا كله إلي شيء إلا يكن يقينا فهو أقرب من اليقين ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين .
وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل علي شيء ولا ينبغي الاعتماد علية في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي .
وأنا أقدر النتائج الخطرة لهذه النظرية ولكني مع ذلك لا أتردد في أثباتها وإذاعتها ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلي غيرك من القراء أن ما تقرؤه علي أنة شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاف الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين .
وأنا أزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يصنع ,إنا نستطيع أن نتصوره تصورا واضحا قويا صحيحا .
ولكن بشرط ألا نعتمد علي الشعر بل علي القرآن من ناحية والتاريخ والأساطير من ناحية أخري .
وستسألني كيف انتهي بي البحث إلي هذه النظرية الخطرة ؟
ولست أكره أن أجيبك علي هذا السؤال بل أنا لا أكتب ما أكتب إلا لأجيبك علية ولأجل أن أجيبك علية إجابة مقنعة يجب أن أتحدث إليك في طائفة مختلفة من المسائل .
وستري أن هذه الطائفة المختلفة من المسائل تنتهي كلها إلي نتيجة واحدة هي هذه النظرية التي ذكرتها منذ حين .
يجب أن أحدثك عن الحياة السياسية الداخلية للأمة العربية قبل ظهور الإسلام ووقوف حركة الفتح وما بين هذه الحياة وبين الشعر من صلة .
ويجب أن أحدثك عن حال أولئك الناس الذين غلبوا علي أمرهم بعد الفتح في بلاد الفرس وفي الشام والجزيرة والعراق ومصر ، مابين هذه الحال وبين لغة العرب وآدابهم من صلة .ويجب أن أحدثك عن نشأة العلوم الدنية واللغوية وما بينها وبين اللغة و الأدب من صلة .
ثم يجب أن أحدثك عن اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام وبعده وما بين اليهود هؤلاء وبين الأدب العربي من صلة ويجب أن أحدثك بعد هذا عن المسيحية وما كان لها من الانتشار في بلاد العرب قبل الإسلام وما أحدثت من تأثير في حياة العرب العقلية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية وما بين هذا كله وبين الأدب العربي والشعر العربي من صلة ثم يجب أن أحدثك عن مؤثرات سياسية خارجية عملت في حياة العرب قبل الإسلام وكان لها أثر قوي جدا في الشعر العربي الجاهلي وفي الشعر العربي الذي أنتحل وأضيف إلي الجاهليين وهذه المباحث التي أشرت إليها ستنتهي كلها إلي تلك النظرية التي قدمتها : وهي أن الكثرة المطلقة من الشعر الجاهلي ليست من الشعر الجاهلي في شيء .
ولكني مع ذلك لن أقف عند هذه المباحث لأني أقف عندها فيما بيني وبين نفسي بل جاوزتها .
وأريد أن أجاوزها معك إلي نحو آخر من البحث أظنه أقوي دلالة وأنهض حجة من المباحث الماضية كلها ذلك هو المبحث الفني واللغوي , فسينتهي بنا هذا المبحث إلي أن هذا الشعر الذي ينسب إلي امرئ القيس أو إلي الأعشي أو إلي غيرهما من ا لشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء ولا أن يكون قد قيل وأذيع فبل أن يظهر القرآن .
نعم ؟
وسينتهي بنا هذا البحث إلي نتيجة غريبة وهي أنة لا ينبغي أن يستشهد بهذا الشعر علي تفسير القرآن وتأويل الحديث وإنما ينبغي أن يستشهد بالقرآن والحديث علي تفسير هذا الشعر و تأويله أريد أن أقوال إن هذه الأشعار لا تثبت شيئا ولا تدل علي شيء ولا ينبغي أن تتخذ وسيلة إلي ما اتخذت إلية من علم القرآن والحديث فهي إنما تكلفت واخترعت اختراعا ليستشهد بها العلماء علي ما كانوا يريدون أن يستشهدوا علية .
فإذا انتهينا من هذه الطرق كلها إلي غاية واحدة هي هذه النظرية التي قدمتها فسنجتهد في أن نبحث عما يمكن أن يكون شعرا جاهليا حقا وأنا أعترف منذ الآن بأن هذا البحث عسير كل العسر وبأني أشك شكا شديدا في أنة قد ينتهي بنا إلي نتيجة مرضية ومع ذلك فسنحاوله
.../...
طه حسين