نقوس المهدي
كاتب
الفيكونت ب .. شاب مرح حسن المعشر كان يعيش فى سلام متمتعا بدخل سنوى يبلغ 30 ألف جنيه ، و فجأة لسوء حظه ، مات عمه .. هذا العم كان رجلا يكره إنفاق النقود ، و لذلك فقد ترك ثروة تقدر بمليونى جنيه لابن أخيه الفيكونت الشاب.
عندما كان الفيكونت يدرس أوراق التركة وجد أن من بينها بيتا فى شارع النصر (رى ديلا فيكتوار) يبلغ مجموع إيجاره السنوى بعد خصم العوائد 82 ألف فرنك.
فكر الفيكونت الكريم فى نفسه قائلا : هذا كثير جدا ، إن المرحوم عمى كان رجلا قاسيا .. إن الإيجارات مرتفعة للغاية ، لا ينبغى لإنسان يحمل لقبا عظيما مثلى أن يتصرف كلص ، سأبدأ من الغد فى تخفيض الأجرة ، إن السكان سوف يسعدون و يباركوننى !
و بهذا الغرض النبيل فى ذهنه استدعى الفيكونت على الفور بواب المنزل الذى حاء فى الحال و انحنى أمام المالك الجديد ..
قال الفيكونت :
- برنارد ، يا صديقى ، اذهب على الفور و أخبر السكان أننى خفضت لهم الأجرة بمقدار الثلث !
وقعت الكلمة غير المألوفة "خفضت " كقالب من الطوب فوق رأس برنارد ، و لكنه سرعان ما استرد أنفاسه معللا نفسه بأنه أخطأ السمع أو أخطأ الفهم و تمتم :
- خفضت الإيجار ؟ إن سيدى لابد أنه يمزح ، لا شك أنك فكرت فى رفع الإيجار ؟!
أجاب الفيكونت :
- إننى لا أمزح ، إننى جاد تماما يا صديقى أكرر "خفضت" .. أى قللت الإيجار.
دهش البواب إلى درجة أن أصابته دوخة و فقد كل مقدرة على التحكم فى نفسه ، فصاح
- لابد أنك يا سيدى لم تفكر فى الأمر جيدا ، سوف تلعن المساء الذى فكرت فيه فى هذا الأمر ، تخفيض إيجارات السكان ؟ لا أحد سمع بذلك من قبل ! يا سيدى ! إن السكان إذا سمعوا بذلك من يدرى ماذا يقولون ؟ و ماذا يقول الجيران فى المنطقة ؟
قاطعه الفيكونت :
- يا سيد برنارد ، يا صديقى ، أفضل أن أطاع عندما أصدر أمرا ، لقد سمعتنى جيدا .. اذهب !
خرج الرجل يترنح كالسكران ، كل أفكاره مضطربة ، هل كان ضحية حلم أو كابوس ؟ و هل هو حقا بيير برنارد أم ربما يكون شخصا آخر ؟
أخذ يردد فى نفسه : أخفض الإيجار ؟ أخفض الإيجار ؟ هذا لا يصدق ! لو كان السكان قد اشتكوا .. و لكنهم لم يشتكوا ، على العكس هم سكان طيبون يدفعون الإيجار بسهولة ، آه لو عرف عمه بذلك لكان قد قام من قبره ! هذا المالك الشاب يجب أن يمثل أمام مجلس عائلة، إن نهايته سيئة لا شك. من ذا الذى يعرف ما يمكن أن يفعل بعد ذلك ؟ ربما يكون قد تناول طعاما ثقيلا !
كان برنارد شاحبا كالأموات عندما وصل إلى مسكنه مما جعل زوجته و ابنته أماندا تصيحان فيه لدى رؤيته : سبحان الله ماذا حدث ؟ هل أصابك مكروه ؟
أجاب بصوت متغير : لا شيىء .. لا شيىء بالمرة !
قالت مدام برنارد : إنك تخدعنى .. إنك تخفى شيئا عنى ، لا تضللنى ، تحدث ! إننى قوية ، ماذا قال لك المالك الجديد ؟ هل يريد أن يتخلص منا ؟
- ليت الأمر كان يقتصر على ذلك .. تصورى ! لقد أبلغنى بشفتيه .. ابلغنى .. آه لن تصدقينى ...
- استمر من فضلك .. استمر..
- خذى أذن .. لقد أبلغنى .. بل أمرنى أن أبلغ كل السكان بأنه خفض الإيجار لكل منهم بمقدار الثلث ! هل سمعت ما قلته ؟ خفض الإيجار للسكان ..
لم تصبر زوجته و ابنته عليه حتى يتم حديثه .. و انفجرتا فى نوبة من الضحك الهستيرى .. و رددتا :
خفض الإيجار ؟ يا لها من نكتة ! يالك من رجل غريب ! خفض الإيجار للسكان !
فقد برنارد صوابه و طلب منهما أن تعاملاه باحترام فى مسكنه ، ثم فقدت الزوجة صوابها أيضا ، و نشب شجار بينهما ، و قالت الزوجة أن زوجها السيد برنارد لابد أنه تلقى هذا الأمر الغريب من قاع زجاجة نبيذ جرعها فى ركن البار المجاور !
و كاد الزوجان يتشابكان بالأيدى لو لم تقم المدموازيل أماندا بالتفريق بينهما ، و أخيرا قررت مدام برنارد ، التى لا تريد أن يظن بها الجنون ، أن تذهب بنفسها إلى منزل الفيكونت لتستطلع جلية الأمر.
و هناك تأكدت أن برنارد كان يتحدث الصواب ، فقد سمعت بأذنيها اللتين تعلق فيهما حلقين كبيرين الكلمة الغريبة يقولها المالك بلسانه ، و لكن لأنها امراءة فطنة أصرت على الحصول من المالك على الأمر كتابة فى " ورقة صغيرة " ، كى تعفى نفسها من المسئولية.
طيلة ذاك المساء ظل الأب و الزوجة و الابنة يتناقشون فى الأمر ، هل يجب عليهم أن يطيعوا ؟ أم يذهبوا لإبلاغ أقارب ذلك الشاب المجنون ؟ و أخيرا قرروا أن يطيعوا فالأمر على أى حال لا يتعلق بهم.
فى الصباح التالى ارتدى برنارد أحسن معطف لديه و ذهب لإبلاغ السكان بالنبأ الكبير.
خلال الدقائق العشر التالية تحول البناء القائم فى شارع النصر إلى حالة من الفوضى يستحيل وصفها ، فالناس الذين ظلوا أربعين سنة يعيشون فى نفس المبنى و لايلمس الواحد منهم قبعته لتحية جاره ، تجمعوا الآن سويا و أخذوا يتناقشون بحماس :
- هل سمعت يا سيدى ؟
- إنه أمر شاذ !
- لم يسمع أحد بمثل ذلك من قبل !
- لقد خفض المالك إيجار مسكنى !
- بمقدار الثلث ، أليس كذلك ؟ أنا ايضا !
- شيىء مدهش ! لابد أن هناك خطأ ما !
و بالرغم مما قالته أسرة برنارد لهم ، و بالرغم من إطلاعهم على الورقة التى حصلت عليها الزوجة من المالك بتخفيض الإيجار ، قرر ثلاثة منهم أن يرسلوا خطابا إلى المالك يبلغونه فيه أن البواب قد فقد صوابه ، و لكن المالك رد مؤكدا ما قاله البواب ،
و انتفت كل شبهة ، و بدأ الحديث الجاد :
- لماذا يخفض المالك الإيجار ؟
- أجل لماذا ؟
- عليه بكل تأكيد أن يعطى أسبابا قوية لمثل هذه الخطوة .. إن الرجل الذكى .. الرجل المدرك .. لايمكن أن يحرم نفسه من كمية كبيرة من المال لمجرد متعة حرمان النفس .. لابد أن هناك سببا ، لابد أن هناك ظروفا قوية مخيفة !
و أخذ كل واحد منهم يقول : لابد أن هناك شيئا ما وراء هذا كله !
و لكن ما هو هذا الشيىء ؟
راح الجميع يفكرون ما قد يكون السبب .. من أعلى البناء إلى أسفله أخذ كل ساكن يقدح فكره لحل هذا اللغز العويص ، و قال أحدهم لابد أن هذا الرجل ارتكب جريمة كبرى فى حق المجتمع و يحاول الآن التكفير عنها !
رد آخرون :
- هذه فكرة غير طيبة .. أن نعيش جنبا إلى جنب فى بيت مثل هذا النذل ، كلا ! ذلك غير ممكن ! حتى إذا كان آسفا لفعل خطأ ما ارتكبه فإن عليه أن يصلحه من نفس نوع الفعل ، أما أن يخفض الإيجار فكلا !
قال آخر مقترحا : ربما كان البيت آيلا للسقوط ؟
كان الجميع متأكدين من شيىء واحد .. أن البيت قديم جدا بالفعل ، و كاد أن ينهار عندما كانوا يحفرون للمجارى فى شهر مارس من العام الماضى.
و قال ساكن بالدور الخامس : ربما يكون السطح على وشك الانهيار !
و قال آخر : ربما كانت هناك آلة فى البدروم لإصدار عملة مزيفة .. أننى أسمع أصواتا غريبة أثناء الليل.
و كان رأى شخص آخر أن البيت ملىء بالجواسيس ، و أكد سيد فى الدور الأول أن المالك ينوى إحراق البيت للحصول على تعويض كبير من شركات التأمين.
ثم بدأت تحدث أشياء غريبة أثارت انتباههم جميعا ، ففى الطابق السادس و الأدوار العليا أخذت تسمع أصوات غير مألوفة لم يسمعوا بها من قبل و لا يجدون لها تفسيرا، و أكدت ممرضة السيدة العجوز فى الطابق الرابع أنها ذهبت مرة لتسرق بعض النبيذ من الكرار فالتقت بشبح المالك المتوفى و بيده الإيصال يطالبها بالأجرة !
و بدافع القلق تحولت مشاعرهم إلى خوف ، و تحول الخوف إلى ذعر ، و أقدم السيد ساكن الدور الأرضى ، و كانت لديه أشياء ثمينة يخشى عليها ، إلى إرسال مذكرة إلى البواب بأنه ينوى إخلاء الشقة.
و هرول برنارد لإبلاغ المالك فقال : حسنا ، دع ذلك الأحمق يغور !
و لكن فى اليوم التالى أقدم ساكن آخر فى الدور الثانى ، رغم أنه لم يكن لديه ما يخشى عليه ، على تقليد السيد ساكن الدور الأول ، و أعلن عزمه على العزال ، و تبعه سكان آخرون فى الدور الخامس.
و حدث بعد ذلك انهيار شامل ، فما كاد ينقضى الأسبوع حتى كان كل الساكنين قد أعطوا إشعارات بالإخلاء ، و كان كل منهم يتوقع كارثة تحل به فى الشقة ، فلم يعد فى استطاعتهم النوم ، و صاروا يقضون الليل جماعة يرهفون السمع لما قد يحدث فجأة ، أما الخدم المذعورون فقد أعلنوا أنهم سيتركون الخدمة فى هذا البيت الملعون ، و لكن البعض بقوا بعد أن رفع مستخدموهم أجرهم ثلاثة أضعاف.
أما برنارد البواب فقد حولته حمى الخوف إلى ما يشبه الخيال ، و لم تلبث أن ظهرت علي واجهة البيت ثلاث و عشرون يافطة تحمل كل منها كلمة "للإيجار" ..
و كان برنارد يأخذ الزائرين ليروا الشقق المختلفة و يقول لهم : لكم أن تختاروا ما تشاءون .. إن كل السكان عزلوا ، لا أحد يعرف لماذا بالضبط ، و لكن هناك أشياء قد حدثت ، أوه ، نعم "أشياء" !! هناك غموض لا يعرف كنهه أحد ، إن المالك خفض الإيجار !!
كان راغبو الاستئجار يسمعون ذلك و يهربون و لا يعودون.
غادر ثلاثة و عشرون مستأجرا شققهم تاركين أثاثهم وراءهم و أصبح البيت خاليا من أسفل إلى أعلى ، و حتى الفئران لم تجد ما تقتات به فهربت من المبنى ، و ظل برنارد مقيما فى مسكنه و قد ابيضّ شعر رأسه من الخوف و صارت الأحلام المخيفة تزعجه أثناء الليل و الأصوات المبهمة تجعل شعر رأسه يقف ، و لم تكن مدام برنارد أحسن حالا ، أما ابنتهما أماندا - لكى تهرب من مسكن أبيها المخيف- وافقت على الزواج من حلاق لم تكن تتحمله من قبل !
و أخيرا استيقظ البواب ذات صباح بعد حلم مخيف أكثر من المعتاد و اتخذ قراره الحاسم ، ذهب إلى الفيكونت و سلمه مفاتيح المنزل ، و هرب بجلده.
و الآن يقف المبنى العتيق فى شارع النصر خاليا تماما ، يكسوه التراب و تنمو فى فنائه الحشائش ، لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه ، و أصابت شهرته السيئة البيوت المجاورة من كل جانب فانخفضت قيمتها و بدأ سكانها يغادرون أيضا ..
تخفيض إيجار ؟
من ذا الذى سمع بمثل هذا الهراء ؟!!
كاتب وقاص فرنسي 1832 - 1873
عندما كان الفيكونت يدرس أوراق التركة وجد أن من بينها بيتا فى شارع النصر (رى ديلا فيكتوار) يبلغ مجموع إيجاره السنوى بعد خصم العوائد 82 ألف فرنك.
فكر الفيكونت الكريم فى نفسه قائلا : هذا كثير جدا ، إن المرحوم عمى كان رجلا قاسيا .. إن الإيجارات مرتفعة للغاية ، لا ينبغى لإنسان يحمل لقبا عظيما مثلى أن يتصرف كلص ، سأبدأ من الغد فى تخفيض الأجرة ، إن السكان سوف يسعدون و يباركوننى !
و بهذا الغرض النبيل فى ذهنه استدعى الفيكونت على الفور بواب المنزل الذى حاء فى الحال و انحنى أمام المالك الجديد ..
قال الفيكونت :
- برنارد ، يا صديقى ، اذهب على الفور و أخبر السكان أننى خفضت لهم الأجرة بمقدار الثلث !
وقعت الكلمة غير المألوفة "خفضت " كقالب من الطوب فوق رأس برنارد ، و لكنه سرعان ما استرد أنفاسه معللا نفسه بأنه أخطأ السمع أو أخطأ الفهم و تمتم :
- خفضت الإيجار ؟ إن سيدى لابد أنه يمزح ، لا شك أنك فكرت فى رفع الإيجار ؟!
أجاب الفيكونت :
- إننى لا أمزح ، إننى جاد تماما يا صديقى أكرر "خفضت" .. أى قللت الإيجار.
دهش البواب إلى درجة أن أصابته دوخة و فقد كل مقدرة على التحكم فى نفسه ، فصاح
- لابد أنك يا سيدى لم تفكر فى الأمر جيدا ، سوف تلعن المساء الذى فكرت فيه فى هذا الأمر ، تخفيض إيجارات السكان ؟ لا أحد سمع بذلك من قبل ! يا سيدى ! إن السكان إذا سمعوا بذلك من يدرى ماذا يقولون ؟ و ماذا يقول الجيران فى المنطقة ؟
قاطعه الفيكونت :
- يا سيد برنارد ، يا صديقى ، أفضل أن أطاع عندما أصدر أمرا ، لقد سمعتنى جيدا .. اذهب !
خرج الرجل يترنح كالسكران ، كل أفكاره مضطربة ، هل كان ضحية حلم أو كابوس ؟ و هل هو حقا بيير برنارد أم ربما يكون شخصا آخر ؟
أخذ يردد فى نفسه : أخفض الإيجار ؟ أخفض الإيجار ؟ هذا لا يصدق ! لو كان السكان قد اشتكوا .. و لكنهم لم يشتكوا ، على العكس هم سكان طيبون يدفعون الإيجار بسهولة ، آه لو عرف عمه بذلك لكان قد قام من قبره ! هذا المالك الشاب يجب أن يمثل أمام مجلس عائلة، إن نهايته سيئة لا شك. من ذا الذى يعرف ما يمكن أن يفعل بعد ذلك ؟ ربما يكون قد تناول طعاما ثقيلا !
كان برنارد شاحبا كالأموات عندما وصل إلى مسكنه مما جعل زوجته و ابنته أماندا تصيحان فيه لدى رؤيته : سبحان الله ماذا حدث ؟ هل أصابك مكروه ؟
أجاب بصوت متغير : لا شيىء .. لا شيىء بالمرة !
قالت مدام برنارد : إنك تخدعنى .. إنك تخفى شيئا عنى ، لا تضللنى ، تحدث ! إننى قوية ، ماذا قال لك المالك الجديد ؟ هل يريد أن يتخلص منا ؟
- ليت الأمر كان يقتصر على ذلك .. تصورى ! لقد أبلغنى بشفتيه .. ابلغنى .. آه لن تصدقينى ...
- استمر من فضلك .. استمر..
- خذى أذن .. لقد أبلغنى .. بل أمرنى أن أبلغ كل السكان بأنه خفض الإيجار لكل منهم بمقدار الثلث ! هل سمعت ما قلته ؟ خفض الإيجار للسكان ..
لم تصبر زوجته و ابنته عليه حتى يتم حديثه .. و انفجرتا فى نوبة من الضحك الهستيرى .. و رددتا :
خفض الإيجار ؟ يا لها من نكتة ! يالك من رجل غريب ! خفض الإيجار للسكان !
فقد برنارد صوابه و طلب منهما أن تعاملاه باحترام فى مسكنه ، ثم فقدت الزوجة صوابها أيضا ، و نشب شجار بينهما ، و قالت الزوجة أن زوجها السيد برنارد لابد أنه تلقى هذا الأمر الغريب من قاع زجاجة نبيذ جرعها فى ركن البار المجاور !
و كاد الزوجان يتشابكان بالأيدى لو لم تقم المدموازيل أماندا بالتفريق بينهما ، و أخيرا قررت مدام برنارد ، التى لا تريد أن يظن بها الجنون ، أن تذهب بنفسها إلى منزل الفيكونت لتستطلع جلية الأمر.
و هناك تأكدت أن برنارد كان يتحدث الصواب ، فقد سمعت بأذنيها اللتين تعلق فيهما حلقين كبيرين الكلمة الغريبة يقولها المالك بلسانه ، و لكن لأنها امراءة فطنة أصرت على الحصول من المالك على الأمر كتابة فى " ورقة صغيرة " ، كى تعفى نفسها من المسئولية.
طيلة ذاك المساء ظل الأب و الزوجة و الابنة يتناقشون فى الأمر ، هل يجب عليهم أن يطيعوا ؟ أم يذهبوا لإبلاغ أقارب ذلك الشاب المجنون ؟ و أخيرا قرروا أن يطيعوا فالأمر على أى حال لا يتعلق بهم.
فى الصباح التالى ارتدى برنارد أحسن معطف لديه و ذهب لإبلاغ السكان بالنبأ الكبير.
خلال الدقائق العشر التالية تحول البناء القائم فى شارع النصر إلى حالة من الفوضى يستحيل وصفها ، فالناس الذين ظلوا أربعين سنة يعيشون فى نفس المبنى و لايلمس الواحد منهم قبعته لتحية جاره ، تجمعوا الآن سويا و أخذوا يتناقشون بحماس :
- هل سمعت يا سيدى ؟
- إنه أمر شاذ !
- لم يسمع أحد بمثل ذلك من قبل !
- لقد خفض المالك إيجار مسكنى !
- بمقدار الثلث ، أليس كذلك ؟ أنا ايضا !
- شيىء مدهش ! لابد أن هناك خطأ ما !
و بالرغم مما قالته أسرة برنارد لهم ، و بالرغم من إطلاعهم على الورقة التى حصلت عليها الزوجة من المالك بتخفيض الإيجار ، قرر ثلاثة منهم أن يرسلوا خطابا إلى المالك يبلغونه فيه أن البواب قد فقد صوابه ، و لكن المالك رد مؤكدا ما قاله البواب ،
و انتفت كل شبهة ، و بدأ الحديث الجاد :
- لماذا يخفض المالك الإيجار ؟
- أجل لماذا ؟
- عليه بكل تأكيد أن يعطى أسبابا قوية لمثل هذه الخطوة .. إن الرجل الذكى .. الرجل المدرك .. لايمكن أن يحرم نفسه من كمية كبيرة من المال لمجرد متعة حرمان النفس .. لابد أن هناك سببا ، لابد أن هناك ظروفا قوية مخيفة !
و أخذ كل واحد منهم يقول : لابد أن هناك شيئا ما وراء هذا كله !
و لكن ما هو هذا الشيىء ؟
راح الجميع يفكرون ما قد يكون السبب .. من أعلى البناء إلى أسفله أخذ كل ساكن يقدح فكره لحل هذا اللغز العويص ، و قال أحدهم لابد أن هذا الرجل ارتكب جريمة كبرى فى حق المجتمع و يحاول الآن التكفير عنها !
رد آخرون :
- هذه فكرة غير طيبة .. أن نعيش جنبا إلى جنب فى بيت مثل هذا النذل ، كلا ! ذلك غير ممكن ! حتى إذا كان آسفا لفعل خطأ ما ارتكبه فإن عليه أن يصلحه من نفس نوع الفعل ، أما أن يخفض الإيجار فكلا !
قال آخر مقترحا : ربما كان البيت آيلا للسقوط ؟
كان الجميع متأكدين من شيىء واحد .. أن البيت قديم جدا بالفعل ، و كاد أن ينهار عندما كانوا يحفرون للمجارى فى شهر مارس من العام الماضى.
و قال ساكن بالدور الخامس : ربما يكون السطح على وشك الانهيار !
و قال آخر : ربما كانت هناك آلة فى البدروم لإصدار عملة مزيفة .. أننى أسمع أصواتا غريبة أثناء الليل.
و كان رأى شخص آخر أن البيت ملىء بالجواسيس ، و أكد سيد فى الدور الأول أن المالك ينوى إحراق البيت للحصول على تعويض كبير من شركات التأمين.
ثم بدأت تحدث أشياء غريبة أثارت انتباههم جميعا ، ففى الطابق السادس و الأدوار العليا أخذت تسمع أصوات غير مألوفة لم يسمعوا بها من قبل و لا يجدون لها تفسيرا، و أكدت ممرضة السيدة العجوز فى الطابق الرابع أنها ذهبت مرة لتسرق بعض النبيذ من الكرار فالتقت بشبح المالك المتوفى و بيده الإيصال يطالبها بالأجرة !
و بدافع القلق تحولت مشاعرهم إلى خوف ، و تحول الخوف إلى ذعر ، و أقدم السيد ساكن الدور الأرضى ، و كانت لديه أشياء ثمينة يخشى عليها ، إلى إرسال مذكرة إلى البواب بأنه ينوى إخلاء الشقة.
و هرول برنارد لإبلاغ المالك فقال : حسنا ، دع ذلك الأحمق يغور !
و لكن فى اليوم التالى أقدم ساكن آخر فى الدور الثانى ، رغم أنه لم يكن لديه ما يخشى عليه ، على تقليد السيد ساكن الدور الأول ، و أعلن عزمه على العزال ، و تبعه سكان آخرون فى الدور الخامس.
و حدث بعد ذلك انهيار شامل ، فما كاد ينقضى الأسبوع حتى كان كل الساكنين قد أعطوا إشعارات بالإخلاء ، و كان كل منهم يتوقع كارثة تحل به فى الشقة ، فلم يعد فى استطاعتهم النوم ، و صاروا يقضون الليل جماعة يرهفون السمع لما قد يحدث فجأة ، أما الخدم المذعورون فقد أعلنوا أنهم سيتركون الخدمة فى هذا البيت الملعون ، و لكن البعض بقوا بعد أن رفع مستخدموهم أجرهم ثلاثة أضعاف.
أما برنارد البواب فقد حولته حمى الخوف إلى ما يشبه الخيال ، و لم تلبث أن ظهرت علي واجهة البيت ثلاث و عشرون يافطة تحمل كل منها كلمة "للإيجار" ..
و كان برنارد يأخذ الزائرين ليروا الشقق المختلفة و يقول لهم : لكم أن تختاروا ما تشاءون .. إن كل السكان عزلوا ، لا أحد يعرف لماذا بالضبط ، و لكن هناك أشياء قد حدثت ، أوه ، نعم "أشياء" !! هناك غموض لا يعرف كنهه أحد ، إن المالك خفض الإيجار !!
كان راغبو الاستئجار يسمعون ذلك و يهربون و لا يعودون.
غادر ثلاثة و عشرون مستأجرا شققهم تاركين أثاثهم وراءهم و أصبح البيت خاليا من أسفل إلى أعلى ، و حتى الفئران لم تجد ما تقتات به فهربت من المبنى ، و ظل برنارد مقيما فى مسكنه و قد ابيضّ شعر رأسه من الخوف و صارت الأحلام المخيفة تزعجه أثناء الليل و الأصوات المبهمة تجعل شعر رأسه يقف ، و لم تكن مدام برنارد أحسن حالا ، أما ابنتهما أماندا - لكى تهرب من مسكن أبيها المخيف- وافقت على الزواج من حلاق لم تكن تتحمله من قبل !
و أخيرا استيقظ البواب ذات صباح بعد حلم مخيف أكثر من المعتاد و اتخذ قراره الحاسم ، ذهب إلى الفيكونت و سلمه مفاتيح المنزل ، و هرب بجلده.
و الآن يقف المبنى العتيق فى شارع النصر خاليا تماما ، يكسوه التراب و تنمو فى فنائه الحشائش ، لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه ، و أصابت شهرته السيئة البيوت المجاورة من كل جانب فانخفضت قيمتها و بدأ سكانها يغادرون أيضا ..
تخفيض إيجار ؟
من ذا الذى سمع بمثل هذا الهراء ؟!!
كاتب وقاص فرنسي 1832 - 1873