نقوس المهدي
كاتب
مقدمة منهجية:
يرتكز هذا البحث على دراسة التنظيم السردي في القصة ومستوياته والعلاقات العاملة في البرامج السردية الاساسية. سنولي في ذلك أهمية خاصة للجهات التي تشكل كفاءات الفاعلين في النص وتتأسس عليها استراتيجيتهم المختلفة. ستمكننا هذه العملية من الكشف عن رهانات الصراع التي يبني عليها سرديته (2).
ينبني التنظيم السردي في النظرية السيميائية على الرسم القاعدي الاتي:
الايعاز التقويم
الفعل
الكفاءة الاداء (3)
يفترض التقويم على نحو ما يحدده اتجاه الأسهم، الفعل الحدثي الذي يتجزأ إلى كفاءة وأداء تقوم بينهما علاقة افتراض متبادلة. ويحيل الفعل الحدثي بدوره على الايجاز بوصفه هيئة حاسمة في تحويل الكفاءة. سيساعدنا هذا الجهاز النظري حصر القوى الفاعلة في النص وتحديد مقاصدها التداولية التي يؤطرها الفعل الحدثي. قبل أن نبدأ بتحليل القصة، يجدر بنا أن نعرض لقراءة عنوانها الذي يشكل مرتكزها الدلالي.
قراءة في عنوان النص:
إن عنوان هذه القصة يضع القارئ منذ البداية في صلب الحدث ووجها لوجه أمام وضع متأزم:
"أطلقوا النار على الكلمات"
يعبر العنوان عن تنفيذ برنامج عسكري يضطلع فيه بمهمة أساسية الفاعل المنفذ "أنتم" الذي يتلقى أمر بإطلاق النار من هيئة حاضرة على الصعيد اللساني بوصفها أثرا لفعل تلفظي (4) تملكها الرغبة في تصفية "معارض" نفترض أن / الكلمات / التي مارست عليها هذه الهيئة فعلها التقويمي تشكل "خطرا" على وجوده.
لتوضيح هذه الفكرة، نشمل العنوان بنهاية النص التي تعد، على المستوى الدلالي، مرجعه الداخلي:
"في غمرة ذلك اليوم الأكبر، خرج الشاعر !
سددت إليه البطاريات والرشاشات وصرخ قائد البندقيات:
أطلقوا النار على الكلمات ! "
قتل الشاعر
لكن لم تقتل الكلمات
صوتها كان أقوى من كل الطلقات" (5)
عندما نمعن النظر في هذه الملفوظات السردية، نلاحظ أن القوى الفاعلة تبدو محتلة لمواقعها العاملية، وأن رهان الصراع أخذ صورته النهائية بتشكل الهيئة الامرة في العنوان (القائد) التي تؤسس / الجيش / فاعلا منفذا لبرنامج سردي أساسي تكون الغاية منه قتل الكلمات. غير أن الفاعل سرعان ما يفشل في تحقيق الاداء فشلا نستشفه من خلال كلمات لازالت تفعل فعلها في هيئة عسكرية تسعى إلى تحقيق المعادلة الاتية عبر عملية القمع:
نفي الحياة = الموت
تظهر تجليات هذه المعادلة مقلوبة في نهاية النص:
"لكن لم تقتل الكلمات" نفي الحياة = الحياة ؟
ما هي التخريجات الدلالية التي يمكن أن نسندها لهذا الوضع المقلوب الطارئ ؟ وكيف يمكن أن يفرز نفي الحياة الحياة وتحتوي الكلمة الطلقة ؟
لصياغة أجوبة على هذه الاشكالات التي يطرحها عنوان القصة، سيرتكز تحليلنا الان على فحص البرامج السردية الاساسية وتحديد الفاعلين المنفذين فيها.
الرسم السردي في القصة:
نسجل في بداية هذه القصة حيرة الراوي الملاحظ والصعوبة التي يجدها في نقل ما جرى بالضبط:
"لست أدري أكان ذلك في حلم، أو في كابوس، أو في يقظة خاصة، من هذه اليقظات التي تحدد مصائر الامور" (6)
وتبقى معرفته (الدارية( مضطربة بين الخيال (حلم، كابوس) والحقيقة (يقظة خاصة). غير أن الراوي سرعان ما ينتقل من الشك إلى اليقين، من مستوى الحدث إلى المكان الذي احتوى الحدث / المدينة / :
"كل ما أدريه أن تلك المدينة كانت في مكان لا أعرفه وفي زمن يختلف عن أزمنة الناس العادية (...) إنما كان ذلك في زمان انمحت فيه الفوارق بين ليله ونهاره، بين ساعاته وأيامه ! كان أبدا لحظة ولحظة في أبد" (7)
إن الراوي لا يملك معرفة للموقع الجغرافي للمدينة، ولا يدرك المرتكز الزمني لحدث لا علاقة له بزمن موضوعي نقرأ حركته التاريخية واقعيا. لهذه الاعتبارات، تجري، في هذا المساق، عملية استخدام الزمن بشكل أخر يظهر بوضوح في هذه اللحظة الواحدة المتماهية مع الزمن الاسطوري. ويبدو أن الحدث كفيل بالتخفيف من أسطوريته ووضعه في سياقه التاريخي.
لقد سمع الناس – كما حكى الشاعر – صوتا يعرفونه ولا يرونه ! إنه اسم وحقيقة، لكن ليس مجسما في شخص معين يقول للشاعر:
"هذه السطور ممنوع نشرها"
"هذه ممنوع أن تكتب"
"هذه ممنوع التفكير فيها"(8)
يتدرج الراوي في طرح تناقضات الوضع المأساوي المحكوم بنتائجه، والصوت بوصفه هيئة أمرة يحتل على الصعيد العاملي موقع الفاعل / المرسل / المقو لتجليات التفكير في برنامج الكتابة:
الايعاز التقويم
فعل الكتابة
فهو مرسل لأنه "مكلف" بإشعار الشاعر بالممنوعات التي لا / يجب / اختراقها في فعل الكتابة. وبالتالي فإنه يلزمه ب / وجوب اللافعل / . ومقوم لأنه يقرأ (أو يسمع) ما كتب، فيستند فعله التأويلي إلى قائمة الممنوعات التي أصدرها جهاز الرقابة. الشاعر إزاء هذا الوضع، لا / يريد / أن يخضع لأوامر هذا الصوت الذي يعرفه ولا يراه، وهو صوت لهيئة تدير أمورها في الخفاء، ومع ذلك فهي حاضرة بقوة حضورا تظهر تجلياته في رقابة كل ما يكتب وينشر. هنا ينشأ التوتر الدائم بين السلطة والشاعر الذي يمارس رسالته في فضح مكامن السقوط في السلطة وإصدار صوت مضاد يلجأ فيه إلى التصريح العلني بالحقيقة التي تأخذ بعدا سياسيا. وهو بهذا المسعى، يخترق الممنوع بمجرد التفكير فيه وينسف الوضع المستقر:
"البلد مشوه، جدرانه، شوارعه، حقوله، رماله، أثاره القديمة،مشاريعه الجديدة. انسانه، ثقافته...مشوه، مشوه، مشوه ! (9)
إذا دققنا النظر في هذا الملفوظ، يتضح أن الشاعر الذي يستحوذ على الفعل الكلامي انطلاقا من كفاءته السياسية المجسدة على الصعيد المعرفي في درايته لحقيقة السلطة (الرقابة) وآليات تسييرها، والوضع العام للبلد، يتوجه بفعله الشعري إلى هيئتين متمايزتين في النص: السلطة والرعية.
فهو يعمل عبر هذا الفعل على إناع السلطة بأنها فقدت علة وجودها وأن انهيارها محصلة لانهيار العلاقات بينها وبين الرعية. ويحاول بذات الفعل ممارسة فعله الاقناعي على الرعية ليشعرها بخطورة الوضع (البلد مشوه على جميع الاصعدة). ويسعى في ذلك لإلى تحقيق أداءين ينصهران في أداء سياسي يهدف إلى قلب النظام الواحد وتأسيس نظام يعترف بصوت الأخر وحقه في تسيير شؤونه وفق ما / يريد/ و/ يعرف / وما / يجب / أن يفعله نبعا لدرجة / قدرته/.
في الملفوظات الواردة أعلاه يبدأ الشاعر في تقويم ظاهرة الفضاء المبني بشكل قبيح لينتهي إلى كينونة الانسان الذي يستوطنه، وهي كينونة مشوهة تعمل على انتاج الاشكال الثقافية القبيحة التي تمس جميع المستويات. ويصل الى قناعة مفادها أن تغيير الوضع المضطرب أضحى ضروة ملحة:
"لابد من فعل شيء"(10)
ويصير القيام بفعل مضاد "واجبا". ويتم حينئذ نقل البلد من وضع / قبيح / إلى وضع جميل / على نحو ما يظهر ذلك جليا في المربع السيميائي الاتي:
القبح الجميل
اللاجميل اللاقبيح
إن المظهر / القبيح / الذي أل إليه البلد مرفوض كليا بواسطة نفي قيمة / القبح / (اللاقبيح) وتثبيت الحدود التي تحمل قيمة / الجمال /. يأتي هذا المسار كرد فعل للمسار الاول الذي تم فيه نفي كل ما له علاقة بالجمال وتكريس قيم القبح على جميع الاصعدة. "هناك كل شيء مختل. أيد تعمل وأخرى تكتر! بطون تزداد اكتظاظا وأخرى تزداد طوى! (11)
يقيم الراوي مقارنة بين الهنا والهناك. في الهنا توازن، وفي الهناك اختلال. في الهنا حقوق المواطنة محفوظة وفي الهناك مخترقة. ويصل الوضع الى حالة التناقض القصوى بين الذي يعمل ويزداد طوى والذي لا يعمل ويزداد بطنه اكتظاظا.
ويعبر هذا التمثيل للعالم الاجتماعي عن المواجهة بين الذي يعمل ولا يملك والذي لا يعمل ويملك. فالعقد الاجتماعي المفروض مبني سلفا على أساس هذا التمييز. فعوض أن تعمل السلطة على تأسيس سلم قيم وتكريسه في العلاقات التي تنشأ بين الافراد فإنها خلقت هوة كبيرة بين الذي يعمل ويجوع والذي لا يعمل ويشبع. وتعد هذه الهوة دالة إذ تقود الشاعر الى الاقتناع بأن القيم منهارة وأن السبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع المأساوي هو نقل الوضع الى طبيعته الاولى:
"لابد أن يمشي كل انسان على رجليه"(12)
يدرك الراوي في هذا السياق ضرورة اسناد / وجوب الفعل / الى الانسان.
وتقدم هذه الجهة هنا كشرط اساسي لنقل الانسان من وضع غير عاد الى وضع طبيعي، يعني أنه يصير ممتلكا لـ "الشروط الدنيا للفعل" (13) في المشي والنظر والتفكير والحديث والأكل.
"لابد أن يمشي كل انسان برجليه، أن ينظر كل واحد بعينيه. أن يفكر كل رجل برأسه. أن يتحدث بلسانه ثم لابد أن يأكل بيديه" (14).
بعبارة أخرى، يؤكد الراوي على ضرورة الانتقال من وضع تعد فيه الحرية معطلة إلى وضع تتحرر فيه الطاقات الفردية والرغبات في التعبير، من نظام واحدي الى نظام مغاير مبني على الاختلاف ويتعدد فيه التفكير. يتبنى الراوي في هذا المساق مجموعة من القيم هي في نهاية الامر المحصلة النهائية للتمفصل السيميائي للعالم الدلالي الجماعي (15) .
من هذا المنظور فقط، يمكن أن نتكلم على النموذج الايديولوجي الذي يسعى الى تكريسه شاعر لا يريد أن يتنازل على حساب قناعته ولا يرغب أن يحرم الناس من تحويل إيجابي.
"صار الناس يقرأون كلمات الشارع، مكتوبة، ومشطبة، وصامتة" (16)
يؤكد هذا الملفوظ نجاح الشاعر في التحرر من قيود الرقابة وفي إقامة وصلة سياسية مع العامل الجماعي (الناس) الذي تمكن من تحقيق أداء القراءة (التأويل) هذه العملية مرهونة في الواقع بما امتلكه من كفاءة مكنته من فك معاني الكلمات المكتوبة والمشطبة والصامتة. وهذا يقودنا للقول بأن الناس أصحوا يشكلون فاعلا جماعيا يملك كل الاستعداد لمباشرة عملية التحري عن موضوع القيمة المفقود الذي اغتصبته السلطة (الحقوق الطبيعية للإنسان).
ويقوم الشاعر في هذه العملية بدور قيادي يتجلى بشكل واضح في حرصه على اقناع الفاعل الجماعي (الناس) وتوعيته بضرورة برنامج يرى أنه يحقق له وجود ويكفل له حقه المشروع. غير أن هذه الرغبة سرعان ما تصطدم بالجهاز القمعي للسلطة الذي يمر عبر قنواته المحكمة قول الشاعر. وتبدو عملية في هذا الجهاز مبنية على تر واضحة في النص:
"نقلت الحاشية الى الباش شاويش نبطجي ما قال الشاعر ! ونقل الباش شاويش نبطجي الى الحاكم برأيه ما قال الشاعر" (17)
أمام هذا الوضع المضطرب يدعو الحاكم القيادة العسكرية الممثلة في العامل الجماعي الضديد (الباش عسكرجي والباش شطرنجي) الى اجتماع عاجل يهدف الى رسم خطة مضادة لبرنامج الشاعر:
"لابد من وضع برنامج عاجل للرد على كل شاعر وكل حائر، وكل مغامر" (18)
إن برنامج الحاكم واضح، فهو يرمي بالدرجة الاولى الى استمالة الرأي العام ومحاولة اقناعه بمشروعية فعله السياسي ودفعه الى سحب ثقته من الشاعر وإجهاض فعله التمردي بإحداث فصلة بينه وبين الرعية. فالحاكم يرغب في تأكيد قدرة السلطة، على الأقل، على تجديد الثقة والدعم لممارسة فعله السياسي الموجه نحو ارضاء مطالب الفاعلين الاجتماعيين. يشغل هذا الفعل الذي رسم معالمه الحاكم على الظاهر والكينونة ويهدف الى نسف الوضعية التي قدمها الشاعر على أنها صادقة (= البلد مشوه).
وإذا كان الشاعر يرى أن البلد مشوه انطلاقا من تقويمه للإطار الفضائي للمدينة والوضع الاجتماعي المزري للرعية، فإن عملية الترميم التي أمر الحاكم بتنفيذها تعتبر في حد ذاتها اقرارا بالتناقضات الاجتماعية الموجودة في المدينة. ومع ذلك، فهو يلعب ورقته الأخيرة، ويمارس فعله الاقناعي على العامل الجماعي عبر تغيير معالم المدينة بوضع عناصر ديكور عليها تجري مجرى "الاقنعة" المتماهية في / ظاهر / يحمل على الاعتقاد بأنه يعكس / كينونة / (صدق) النظام السياسي. وعلى هذا الاساس يدلل تماثل / الظاهر / و/ الكينونة/ على وجود السلطة في وضعية تتسم بالصدق، يعني أنها منسجمة تمام الانسجام مع طموحات الرعية. وهذا يلغي بطبيعة الحال مصداقية الشاعر ويؤدي الى نزع الثقة منه على صعيد التمثيل. هذه الرسالة التي يرغب الحاكم في تمريرها للرعية عبر رسم:
"جداريات تقام في الحدائق والساحات العمومية في زوايا الشوارع الرئيسية في المحطات البرية والبحرية والجوية. يراها كل عابر ومكابر. تمحو الصورة المشوهة تحل محلها. تمتع. تقدم للنظر صور مجتمع متطور مزدهر"(19)
وتلتقي هذه الرسالة بالأخبار السارة التي حرص على تبليغها الباش شاويش نبطجي للحاكم:
" لكن الباش شاويش نبطجي كان ينقل الى الحاكم برأيه ما يسر، متحاشيا كل ما قد يعكر صفوه" (20)
تعمل الحاشية جاهدة على تأكيد الوضعية الاتية:
ظاهر + كينونة = صدق
وهي حريصة في ذلك أيضا على أن تبقى : "الشبعة بالنظرة" وإذ اجتمعت المتعة بالشبعة فتكون عبر "الأحلام":
"...وبالليل تجهز (الابراج البلورية) بإنارة تجعل الليالي أحلاما سماوية! تمتع وتشبع!" (21) وتؤكد هذه الوضعية التي تسعى الى تثبيتها الحاشية رغبتها في إبقاء التواصل مع الحاكم على حساب الطموحات المشروعة للرعية وظاهرها وتقديم وضعيتها على أنها كاذبة من خلال حركتها التمردية التي تشتغل على صعيدين أساسيين.
أولها، خرق التواصل بين الحاكم والحاشية وإحداث فصلة بينهما:
"تقدم السكان في موكب رهيب أمامهم شعراؤهم ينشدون أغاني العاطلين والجائعين (...). تقرحت أذنا الحاكم برأيه من تلك الاصوات المبحوحة الجائعة!" (22). إن العامل الجماعي (الرعية) بقيادة الشعراء نجح في تبليغ الرسالة الى الحاكم بقلب الوضعية الصادقة "المزعومة" وبإسقاط الاقنعة "المموهة" ، وفي إقناعه بحقيقة تلاحم الرعية مع الطبقة المثقفة، وفي إحباط العملية التجميلية التي مورست على ظاهر المدينة مفصحة بذلك عن عمق المفارقات وحدة تناقصات المدينة التي لا يعكس ظاهرها كينونتها:
ظاهر + لا كينونة = وضعية كاذبة
ثانيهما، يمكن أن نعاين بانتقالنا الى الصعيد الخطابي مسارا صوريا في النص يلتقي بالصعيد السردي عبر مجموعة من الصور المتجانسة دلاليا:
"خرج المحرومون والمظلومون" (23)
"خرجت جماهير الجائعين" (24)
"أيتها المدينة التي ترزخ تحت وطأة القصور" (25)
إن تلاقي هذه الصور في الحرمان والجوع والقمع يعبر عن انهيار العلاقة بين الحاكم والمحكوم الي وصلت الى درجة لم يعد فيها ممكنا التراجع على التمرد على السلطة.
ويظهر ذلك جليا، على الصعيد السردي، في ثلاث برامج سردية. يبدأ البرنامج الاول بشعور فتاة بالحرمان وهي تتأمل واجهة المجوهرات. ويتم تعويض هذا الافتقار بتحطيم الواجهة والتحاقها بالفاعل الجماعي (الاخريات). ويتقدم العامل العاطل كفاعل منفذ في البرنامج الثاني الخاص بحرق السيارات الفخمة معوضا بذلك معاناته من الفقر والظلم. أما البرنامج الثالث الذي ينتهي بحرق المدرسة، فإنه يجسد معانات الشاب من الاخفاق المدرسي وإحساسه بغياب العدالة داخل المدرسة.
هذه القيم التي أدت الى تدهور الوضع هي محصلة لغياب الحوار وإلغاء الاخر بقمعه.
إن القمع كما يوحي بذلك عنوان القصة يمكن أن نؤوله سيميائيا كشكل من أشكال القهر والإذلال التي تمارسها السلطة السياسية المجسدة في العامل الجماعي / القصر / وما يحمله من رموز لمنع الرعية من التعبير عن رغباتها وتحقيقها على النحو الذي ترتضيه لنفسها.
الإحــــــــــــــــــــــــــــــــــــالات
هذه القصة التي كتبها عبد الحميد بن هدوقة مباشرة بعد أحداث اكتوبر 1988 مأخوذة من مجلة "الرواية"، العدد الاول، جانفي 1990، مطبعة دحلب، الجزائر، ص 80-86.
تستعمل "السردية" في النظرية السيميائية للدلالة على ظاهرة تتابع الحالات والتحويلات المتموضعة في الخطاب والمسؤولية على انتاج المعنى – انظر:
-Groupe d’entrevernes, analyse sémiotique des texts, PUL, Lyon, 1984, p14
3) Joseph Courtes, analyse sémiotique du discours Hachette, Paris, 1991, p 211.
4) إن التلفظ بوصفه تحقيقا فرديا يمكن أن يحدد من منظور لساني "بالنظر الى اللغة كعملية امتلاك. يستحوذ المتكلم على الجهاز الشكلي للغة (...) فيضع مباشرة الاخر قبالته تبعا لدرجة الحضور التي يسندها له". انظر:
-Emile benveniste, problèmes de linguistique générale, T2 Gallimard, Paris, 1974, P82
5) مجلة الرواية، ص 68
6) (7) (8) (9) المرجع نفسه، ص 80
(10) (11) (12) المرجع نفسه، ص 81
13) A.J.Greimas, J Courtes, dictionnaire raisonné de la théorie du langage, hachette, paris, 1979, p 95
14) مجلة الرواية ص 81
15) A.J.Greimas, J Courtes, OC, p 171
(16) (17) (18) (19) (20) (21) مجلة الرواية، ص84
(22) (23) (24) المرجع نفسه، 84
(25) المرجع نفسه، 83
الدكتور رشيد بن مالك من جامعة تلمسان
يرتكز هذا البحث على دراسة التنظيم السردي في القصة ومستوياته والعلاقات العاملة في البرامج السردية الاساسية. سنولي في ذلك أهمية خاصة للجهات التي تشكل كفاءات الفاعلين في النص وتتأسس عليها استراتيجيتهم المختلفة. ستمكننا هذه العملية من الكشف عن رهانات الصراع التي يبني عليها سرديته (2).
ينبني التنظيم السردي في النظرية السيميائية على الرسم القاعدي الاتي:
الايعاز التقويم
الفعل
الكفاءة الاداء (3)
يفترض التقويم على نحو ما يحدده اتجاه الأسهم، الفعل الحدثي الذي يتجزأ إلى كفاءة وأداء تقوم بينهما علاقة افتراض متبادلة. ويحيل الفعل الحدثي بدوره على الايجاز بوصفه هيئة حاسمة في تحويل الكفاءة. سيساعدنا هذا الجهاز النظري حصر القوى الفاعلة في النص وتحديد مقاصدها التداولية التي يؤطرها الفعل الحدثي. قبل أن نبدأ بتحليل القصة، يجدر بنا أن نعرض لقراءة عنوانها الذي يشكل مرتكزها الدلالي.
قراءة في عنوان النص:
إن عنوان هذه القصة يضع القارئ منذ البداية في صلب الحدث ووجها لوجه أمام وضع متأزم:
"أطلقوا النار على الكلمات"
يعبر العنوان عن تنفيذ برنامج عسكري يضطلع فيه بمهمة أساسية الفاعل المنفذ "أنتم" الذي يتلقى أمر بإطلاق النار من هيئة حاضرة على الصعيد اللساني بوصفها أثرا لفعل تلفظي (4) تملكها الرغبة في تصفية "معارض" نفترض أن / الكلمات / التي مارست عليها هذه الهيئة فعلها التقويمي تشكل "خطرا" على وجوده.
لتوضيح هذه الفكرة، نشمل العنوان بنهاية النص التي تعد، على المستوى الدلالي، مرجعه الداخلي:
"في غمرة ذلك اليوم الأكبر، خرج الشاعر !
سددت إليه البطاريات والرشاشات وصرخ قائد البندقيات:
أطلقوا النار على الكلمات ! "
قتل الشاعر
لكن لم تقتل الكلمات
صوتها كان أقوى من كل الطلقات" (5)
عندما نمعن النظر في هذه الملفوظات السردية، نلاحظ أن القوى الفاعلة تبدو محتلة لمواقعها العاملية، وأن رهان الصراع أخذ صورته النهائية بتشكل الهيئة الامرة في العنوان (القائد) التي تؤسس / الجيش / فاعلا منفذا لبرنامج سردي أساسي تكون الغاية منه قتل الكلمات. غير أن الفاعل سرعان ما يفشل في تحقيق الاداء فشلا نستشفه من خلال كلمات لازالت تفعل فعلها في هيئة عسكرية تسعى إلى تحقيق المعادلة الاتية عبر عملية القمع:
نفي الحياة = الموت
تظهر تجليات هذه المعادلة مقلوبة في نهاية النص:
"لكن لم تقتل الكلمات" نفي الحياة = الحياة ؟
ما هي التخريجات الدلالية التي يمكن أن نسندها لهذا الوضع المقلوب الطارئ ؟ وكيف يمكن أن يفرز نفي الحياة الحياة وتحتوي الكلمة الطلقة ؟
لصياغة أجوبة على هذه الاشكالات التي يطرحها عنوان القصة، سيرتكز تحليلنا الان على فحص البرامج السردية الاساسية وتحديد الفاعلين المنفذين فيها.
الرسم السردي في القصة:
نسجل في بداية هذه القصة حيرة الراوي الملاحظ والصعوبة التي يجدها في نقل ما جرى بالضبط:
"لست أدري أكان ذلك في حلم، أو في كابوس، أو في يقظة خاصة، من هذه اليقظات التي تحدد مصائر الامور" (6)
وتبقى معرفته (الدارية( مضطربة بين الخيال (حلم، كابوس) والحقيقة (يقظة خاصة). غير أن الراوي سرعان ما ينتقل من الشك إلى اليقين، من مستوى الحدث إلى المكان الذي احتوى الحدث / المدينة / :
"كل ما أدريه أن تلك المدينة كانت في مكان لا أعرفه وفي زمن يختلف عن أزمنة الناس العادية (...) إنما كان ذلك في زمان انمحت فيه الفوارق بين ليله ونهاره، بين ساعاته وأيامه ! كان أبدا لحظة ولحظة في أبد" (7)
إن الراوي لا يملك معرفة للموقع الجغرافي للمدينة، ولا يدرك المرتكز الزمني لحدث لا علاقة له بزمن موضوعي نقرأ حركته التاريخية واقعيا. لهذه الاعتبارات، تجري، في هذا المساق، عملية استخدام الزمن بشكل أخر يظهر بوضوح في هذه اللحظة الواحدة المتماهية مع الزمن الاسطوري. ويبدو أن الحدث كفيل بالتخفيف من أسطوريته ووضعه في سياقه التاريخي.
لقد سمع الناس – كما حكى الشاعر – صوتا يعرفونه ولا يرونه ! إنه اسم وحقيقة، لكن ليس مجسما في شخص معين يقول للشاعر:
"هذه السطور ممنوع نشرها"
"هذه ممنوع أن تكتب"
"هذه ممنوع التفكير فيها"(8)
يتدرج الراوي في طرح تناقضات الوضع المأساوي المحكوم بنتائجه، والصوت بوصفه هيئة أمرة يحتل على الصعيد العاملي موقع الفاعل / المرسل / المقو لتجليات التفكير في برنامج الكتابة:
الايعاز التقويم
فعل الكتابة
فهو مرسل لأنه "مكلف" بإشعار الشاعر بالممنوعات التي لا / يجب / اختراقها في فعل الكتابة. وبالتالي فإنه يلزمه ب / وجوب اللافعل / . ومقوم لأنه يقرأ (أو يسمع) ما كتب، فيستند فعله التأويلي إلى قائمة الممنوعات التي أصدرها جهاز الرقابة. الشاعر إزاء هذا الوضع، لا / يريد / أن يخضع لأوامر هذا الصوت الذي يعرفه ولا يراه، وهو صوت لهيئة تدير أمورها في الخفاء، ومع ذلك فهي حاضرة بقوة حضورا تظهر تجلياته في رقابة كل ما يكتب وينشر. هنا ينشأ التوتر الدائم بين السلطة والشاعر الذي يمارس رسالته في فضح مكامن السقوط في السلطة وإصدار صوت مضاد يلجأ فيه إلى التصريح العلني بالحقيقة التي تأخذ بعدا سياسيا. وهو بهذا المسعى، يخترق الممنوع بمجرد التفكير فيه وينسف الوضع المستقر:
"البلد مشوه، جدرانه، شوارعه، حقوله، رماله، أثاره القديمة،مشاريعه الجديدة. انسانه، ثقافته...مشوه، مشوه، مشوه ! (9)
إذا دققنا النظر في هذا الملفوظ، يتضح أن الشاعر الذي يستحوذ على الفعل الكلامي انطلاقا من كفاءته السياسية المجسدة على الصعيد المعرفي في درايته لحقيقة السلطة (الرقابة) وآليات تسييرها، والوضع العام للبلد، يتوجه بفعله الشعري إلى هيئتين متمايزتين في النص: السلطة والرعية.
فهو يعمل عبر هذا الفعل على إناع السلطة بأنها فقدت علة وجودها وأن انهيارها محصلة لانهيار العلاقات بينها وبين الرعية. ويحاول بذات الفعل ممارسة فعله الاقناعي على الرعية ليشعرها بخطورة الوضع (البلد مشوه على جميع الاصعدة). ويسعى في ذلك لإلى تحقيق أداءين ينصهران في أداء سياسي يهدف إلى قلب النظام الواحد وتأسيس نظام يعترف بصوت الأخر وحقه في تسيير شؤونه وفق ما / يريد/ و/ يعرف / وما / يجب / أن يفعله نبعا لدرجة / قدرته/.
في الملفوظات الواردة أعلاه يبدأ الشاعر في تقويم ظاهرة الفضاء المبني بشكل قبيح لينتهي إلى كينونة الانسان الذي يستوطنه، وهي كينونة مشوهة تعمل على انتاج الاشكال الثقافية القبيحة التي تمس جميع المستويات. ويصل الى قناعة مفادها أن تغيير الوضع المضطرب أضحى ضروة ملحة:
"لابد من فعل شيء"(10)
ويصير القيام بفعل مضاد "واجبا". ويتم حينئذ نقل البلد من وضع / قبيح / إلى وضع جميل / على نحو ما يظهر ذلك جليا في المربع السيميائي الاتي:
القبح الجميل
اللاجميل اللاقبيح
إن المظهر / القبيح / الذي أل إليه البلد مرفوض كليا بواسطة نفي قيمة / القبح / (اللاقبيح) وتثبيت الحدود التي تحمل قيمة / الجمال /. يأتي هذا المسار كرد فعل للمسار الاول الذي تم فيه نفي كل ما له علاقة بالجمال وتكريس قيم القبح على جميع الاصعدة. "هناك كل شيء مختل. أيد تعمل وأخرى تكتر! بطون تزداد اكتظاظا وأخرى تزداد طوى! (11)
يقيم الراوي مقارنة بين الهنا والهناك. في الهنا توازن، وفي الهناك اختلال. في الهنا حقوق المواطنة محفوظة وفي الهناك مخترقة. ويصل الوضع الى حالة التناقض القصوى بين الذي يعمل ويزداد طوى والذي لا يعمل ويزداد بطنه اكتظاظا.
ويعبر هذا التمثيل للعالم الاجتماعي عن المواجهة بين الذي يعمل ولا يملك والذي لا يعمل ويملك. فالعقد الاجتماعي المفروض مبني سلفا على أساس هذا التمييز. فعوض أن تعمل السلطة على تأسيس سلم قيم وتكريسه في العلاقات التي تنشأ بين الافراد فإنها خلقت هوة كبيرة بين الذي يعمل ويجوع والذي لا يعمل ويشبع. وتعد هذه الهوة دالة إذ تقود الشاعر الى الاقتناع بأن القيم منهارة وأن السبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع المأساوي هو نقل الوضع الى طبيعته الاولى:
"لابد أن يمشي كل انسان على رجليه"(12)
يدرك الراوي في هذا السياق ضرورة اسناد / وجوب الفعل / الى الانسان.
وتقدم هذه الجهة هنا كشرط اساسي لنقل الانسان من وضع غير عاد الى وضع طبيعي، يعني أنه يصير ممتلكا لـ "الشروط الدنيا للفعل" (13) في المشي والنظر والتفكير والحديث والأكل.
"لابد أن يمشي كل انسان برجليه، أن ينظر كل واحد بعينيه. أن يفكر كل رجل برأسه. أن يتحدث بلسانه ثم لابد أن يأكل بيديه" (14).
بعبارة أخرى، يؤكد الراوي على ضرورة الانتقال من وضع تعد فيه الحرية معطلة إلى وضع تتحرر فيه الطاقات الفردية والرغبات في التعبير، من نظام واحدي الى نظام مغاير مبني على الاختلاف ويتعدد فيه التفكير. يتبنى الراوي في هذا المساق مجموعة من القيم هي في نهاية الامر المحصلة النهائية للتمفصل السيميائي للعالم الدلالي الجماعي (15) .
من هذا المنظور فقط، يمكن أن نتكلم على النموذج الايديولوجي الذي يسعى الى تكريسه شاعر لا يريد أن يتنازل على حساب قناعته ولا يرغب أن يحرم الناس من تحويل إيجابي.
"صار الناس يقرأون كلمات الشارع، مكتوبة، ومشطبة، وصامتة" (16)
يؤكد هذا الملفوظ نجاح الشاعر في التحرر من قيود الرقابة وفي إقامة وصلة سياسية مع العامل الجماعي (الناس) الذي تمكن من تحقيق أداء القراءة (التأويل) هذه العملية مرهونة في الواقع بما امتلكه من كفاءة مكنته من فك معاني الكلمات المكتوبة والمشطبة والصامتة. وهذا يقودنا للقول بأن الناس أصحوا يشكلون فاعلا جماعيا يملك كل الاستعداد لمباشرة عملية التحري عن موضوع القيمة المفقود الذي اغتصبته السلطة (الحقوق الطبيعية للإنسان).
ويقوم الشاعر في هذه العملية بدور قيادي يتجلى بشكل واضح في حرصه على اقناع الفاعل الجماعي (الناس) وتوعيته بضرورة برنامج يرى أنه يحقق له وجود ويكفل له حقه المشروع. غير أن هذه الرغبة سرعان ما تصطدم بالجهاز القمعي للسلطة الذي يمر عبر قنواته المحكمة قول الشاعر. وتبدو عملية في هذا الجهاز مبنية على تر واضحة في النص:
"نقلت الحاشية الى الباش شاويش نبطجي ما قال الشاعر ! ونقل الباش شاويش نبطجي الى الحاكم برأيه ما قال الشاعر" (17)
أمام هذا الوضع المضطرب يدعو الحاكم القيادة العسكرية الممثلة في العامل الجماعي الضديد (الباش عسكرجي والباش شطرنجي) الى اجتماع عاجل يهدف الى رسم خطة مضادة لبرنامج الشاعر:
"لابد من وضع برنامج عاجل للرد على كل شاعر وكل حائر، وكل مغامر" (18)
إن برنامج الحاكم واضح، فهو يرمي بالدرجة الاولى الى استمالة الرأي العام ومحاولة اقناعه بمشروعية فعله السياسي ودفعه الى سحب ثقته من الشاعر وإجهاض فعله التمردي بإحداث فصلة بينه وبين الرعية. فالحاكم يرغب في تأكيد قدرة السلطة، على الأقل، على تجديد الثقة والدعم لممارسة فعله السياسي الموجه نحو ارضاء مطالب الفاعلين الاجتماعيين. يشغل هذا الفعل الذي رسم معالمه الحاكم على الظاهر والكينونة ويهدف الى نسف الوضعية التي قدمها الشاعر على أنها صادقة (= البلد مشوه).
وإذا كان الشاعر يرى أن البلد مشوه انطلاقا من تقويمه للإطار الفضائي للمدينة والوضع الاجتماعي المزري للرعية، فإن عملية الترميم التي أمر الحاكم بتنفيذها تعتبر في حد ذاتها اقرارا بالتناقضات الاجتماعية الموجودة في المدينة. ومع ذلك، فهو يلعب ورقته الأخيرة، ويمارس فعله الاقناعي على العامل الجماعي عبر تغيير معالم المدينة بوضع عناصر ديكور عليها تجري مجرى "الاقنعة" المتماهية في / ظاهر / يحمل على الاعتقاد بأنه يعكس / كينونة / (صدق) النظام السياسي. وعلى هذا الاساس يدلل تماثل / الظاهر / و/ الكينونة/ على وجود السلطة في وضعية تتسم بالصدق، يعني أنها منسجمة تمام الانسجام مع طموحات الرعية. وهذا يلغي بطبيعة الحال مصداقية الشاعر ويؤدي الى نزع الثقة منه على صعيد التمثيل. هذه الرسالة التي يرغب الحاكم في تمريرها للرعية عبر رسم:
"جداريات تقام في الحدائق والساحات العمومية في زوايا الشوارع الرئيسية في المحطات البرية والبحرية والجوية. يراها كل عابر ومكابر. تمحو الصورة المشوهة تحل محلها. تمتع. تقدم للنظر صور مجتمع متطور مزدهر"(19)
وتلتقي هذه الرسالة بالأخبار السارة التي حرص على تبليغها الباش شاويش نبطجي للحاكم:
" لكن الباش شاويش نبطجي كان ينقل الى الحاكم برأيه ما يسر، متحاشيا كل ما قد يعكر صفوه" (20)
تعمل الحاشية جاهدة على تأكيد الوضعية الاتية:
ظاهر + كينونة = صدق
وهي حريصة في ذلك أيضا على أن تبقى : "الشبعة بالنظرة" وإذ اجتمعت المتعة بالشبعة فتكون عبر "الأحلام":
"...وبالليل تجهز (الابراج البلورية) بإنارة تجعل الليالي أحلاما سماوية! تمتع وتشبع!" (21) وتؤكد هذه الوضعية التي تسعى الى تثبيتها الحاشية رغبتها في إبقاء التواصل مع الحاكم على حساب الطموحات المشروعة للرعية وظاهرها وتقديم وضعيتها على أنها كاذبة من خلال حركتها التمردية التي تشتغل على صعيدين أساسيين.
أولها، خرق التواصل بين الحاكم والحاشية وإحداث فصلة بينهما:
"تقدم السكان في موكب رهيب أمامهم شعراؤهم ينشدون أغاني العاطلين والجائعين (...). تقرحت أذنا الحاكم برأيه من تلك الاصوات المبحوحة الجائعة!" (22). إن العامل الجماعي (الرعية) بقيادة الشعراء نجح في تبليغ الرسالة الى الحاكم بقلب الوضعية الصادقة "المزعومة" وبإسقاط الاقنعة "المموهة" ، وفي إقناعه بحقيقة تلاحم الرعية مع الطبقة المثقفة، وفي إحباط العملية التجميلية التي مورست على ظاهر المدينة مفصحة بذلك عن عمق المفارقات وحدة تناقصات المدينة التي لا يعكس ظاهرها كينونتها:
ظاهر + لا كينونة = وضعية كاذبة
ثانيهما، يمكن أن نعاين بانتقالنا الى الصعيد الخطابي مسارا صوريا في النص يلتقي بالصعيد السردي عبر مجموعة من الصور المتجانسة دلاليا:
"خرج المحرومون والمظلومون" (23)
"خرجت جماهير الجائعين" (24)
"أيتها المدينة التي ترزخ تحت وطأة القصور" (25)
إن تلاقي هذه الصور في الحرمان والجوع والقمع يعبر عن انهيار العلاقة بين الحاكم والمحكوم الي وصلت الى درجة لم يعد فيها ممكنا التراجع على التمرد على السلطة.
ويظهر ذلك جليا، على الصعيد السردي، في ثلاث برامج سردية. يبدأ البرنامج الاول بشعور فتاة بالحرمان وهي تتأمل واجهة المجوهرات. ويتم تعويض هذا الافتقار بتحطيم الواجهة والتحاقها بالفاعل الجماعي (الاخريات). ويتقدم العامل العاطل كفاعل منفذ في البرنامج الثاني الخاص بحرق السيارات الفخمة معوضا بذلك معاناته من الفقر والظلم. أما البرنامج الثالث الذي ينتهي بحرق المدرسة، فإنه يجسد معانات الشاب من الاخفاق المدرسي وإحساسه بغياب العدالة داخل المدرسة.
هذه القيم التي أدت الى تدهور الوضع هي محصلة لغياب الحوار وإلغاء الاخر بقمعه.
إن القمع كما يوحي بذلك عنوان القصة يمكن أن نؤوله سيميائيا كشكل من أشكال القهر والإذلال التي تمارسها السلطة السياسية المجسدة في العامل الجماعي / القصر / وما يحمله من رموز لمنع الرعية من التعبير عن رغباتها وتحقيقها على النحو الذي ترتضيه لنفسها.
الإحــــــــــــــــــــــــــــــــــــالات
هذه القصة التي كتبها عبد الحميد بن هدوقة مباشرة بعد أحداث اكتوبر 1988 مأخوذة من مجلة "الرواية"، العدد الاول، جانفي 1990، مطبعة دحلب، الجزائر، ص 80-86.
تستعمل "السردية" في النظرية السيميائية للدلالة على ظاهرة تتابع الحالات والتحويلات المتموضعة في الخطاب والمسؤولية على انتاج المعنى – انظر:
-Groupe d’entrevernes, analyse sémiotique des texts, PUL, Lyon, 1984, p14
3) Joseph Courtes, analyse sémiotique du discours Hachette, Paris, 1991, p 211.
4) إن التلفظ بوصفه تحقيقا فرديا يمكن أن يحدد من منظور لساني "بالنظر الى اللغة كعملية امتلاك. يستحوذ المتكلم على الجهاز الشكلي للغة (...) فيضع مباشرة الاخر قبالته تبعا لدرجة الحضور التي يسندها له". انظر:
-Emile benveniste, problèmes de linguistique générale, T2 Gallimard, Paris, 1974, P82
5) مجلة الرواية، ص 68
6) (7) (8) (9) المرجع نفسه، ص 80
(10) (11) (12) المرجع نفسه، ص 81
13) A.J.Greimas, J Courtes, dictionnaire raisonné de la théorie du langage, hachette, paris, 1979, p 95
14) مجلة الرواية ص 81
15) A.J.Greimas, J Courtes, OC, p 171
(16) (17) (18) (19) (20) (21) مجلة الرواية، ص84
(22) (23) (24) المرجع نفسه، 84
(25) المرجع نفسه، 83
الدكتور رشيد بن مالك من جامعة تلمسان