نقوس المهدي
كاتب
هذه المقالة مبنية على نص المحاضرة الرابعة في سلسلة المحاضرات السنوية التي تنطمها جامعة وورويك البريطانية تخليدا لذكرى إدوارد سعيد، و قد ألقيت في العشرين من نونبر 2007. نُشر النص الأصلي باللغة الإنجليزية في مجلة RADICAL PHILOSOPHY في عددها رقم 151 لشهري سبتمبر\ أكتوبر 2008. و يصر الكاتب على شكر صديقه الدكتور سماح إدريس على الجهد الذي بذله تحقيقا لهذه الترجمة الرائعة.
يشكل العامان 1978-1979 منعطفا في الدراسات الشرقية والإسلامية لكونهما قد شهدا ثلاثة أحداث بارزة. و أقصد بذلك أحداثا حصلت على مستويين مختلفين تماما، ومن ثم لا تمكن مقارنتهما، وإن كانت جميعها قد أثرت تأثيرا قويا في الحقل الأكاديمي. الحدثان الأولان حصلا على مستوى التاريخ العام. الأول هو إسقاط نظام الشاه في شباط ( فبراير) 1979، وتأسيس "الجمهورية الإسلامية" في إيران بعيد ذلك. والثاني هو نشوء انتفاضة إسلامية مسلحة، في العام نفسه، ضد الديكتاتورية "اليسارية" في أفغانستان، الأمر الذي أدى إلى اجتياح سوفياتي للبلاد في كانون الأول (ديسمبر) 1979. أما الحدث الثالث، الذي يقع على مستوى التاريخ الثقافي، فهو صدور كتاب إدوارد سعيد، الاستشراق، عام 1978.
ثم إن هذه الأحداث وقعت حين كانت الماركسية- التي سبق قبل عشر سنوات من ذلك أن اجتذبت قسما كبيرا من شباب العالم وأصبحت الحامل الأبرز لقيم التنوير والحداثة في العالم الإسلامي- (1) تواجه هجوما إيديولوجيا مضادا كبيرا راكم زخمه في أواخر السبعينيات من القرن العشرين. وكانت فرنسا هي أحد المواقع الأساسية لهذه الردة، حيث رمز لقب جديد إلى مجموعة من المثقفين المدعوين " الفلاسفة الجدد" (nouveaux philosophes ) ، وكثير منهم يساريون جذريون سابقون، وماويون بشكل خاص، انقلبوا على قناعاتهم السابقة وغدوا معادين للماركسية. و الحق أن هؤلاء الماركسيين السابقين المتحولين اظهروا حماسا وحسما لإيمانهم الجديد يساويان ما كان لديهم تجاه الماركسية، الأمر الذي خلق لدى وسائل الإعلام إثارة كبيرة. وكان هناك أيضا رافد لذلك الهجوم الإيديولوجي المعادي للماركسية، أكثر صقلا وتركيبا، ومن ثم أكثر هولا، وإن نبع في الغالب من مرتكزات يسارية، وقد تمثل هذا الرافد في انتقادات كتلك التي وجهها ميشيل فوكو، وبلغت نموذجها الأعلى في الإطلاق البالغ النجاح لما بعد الحداثة الفلسفية مع نشر بيان جان فرانسوا ليوتار عام 1979.
الأحداث الثلاثة التي ذكرتها في البداية التحمت بشكل لافت مع الردة المعادية للشيوعية. الثورة الإسلامية الإيرانية أشرت على العودة الهائلة، والثأرية، لـ"أفيون الشعوب" ذاك الذي كانت الماركسية اليقينية قد أقصته إلى المتحف قبل الأوان بزمن طويل. والغزو السوفياتي لأفغانستان أثر في الموقف الإيديولوجي لموسكو، قبلة " الشيوعية" بالقوة والسلبية نفسيهما تقريبا اللتين تأثرت بهما واشنطن بسبب غزوها لفيتنام. وكتاب إدوارد سعيد الأشهر، الاستشراق، نفى كارل ماركس نفسه، وبلا أدنى عطف، إلى قاعة الخزي والعار، قاعة "الاستشراق" الغربي التمركز- وهو ما اعتبره أمرا غير منصف عدد من النقاد الذين تبنوا، رغم ذلك الاعتبار، أطروحة الاستشراق المركزية.
"الاستشراق معكوسا"
كان إحدى أدهى نقاد إدوارد سعيد المفكر السوري الراديكالي المعروف صادق جلال العظم. والنسخة الانجليزية لمقالته "الاستشراق و الاستشراق معكوسا" الصادرة عام 1981 ما لبثت ان توسعت لتغدو في العام نفسه كتيبا بالعنوان نفسه. (2)
بنى العظم على ما أسماه واحدا من أبرز انجازات كتاب سعيد وأكثرها لفتا للانتباه، ألا وهو تعريته لإيمان الاستشراق الراسخ بوجود خلاف أونطولوجي جذري بين طبيعة الشرق وطبيعة الغرب. (3) وأشار، في المقابل، إلى وجود " استشراق معكوس" في الفكر العربي، ويتجسد في فئتين. الأولى، وقد سبق لسعيد نفسه أن عرف بها، تعيد إنتاج القطيعة الجوهرانية الاستشراقية، ولكن بتقييمات مقلوبة، بحيث يعتبر الشرق أو " العقل العربي" ( لأن المعنيين كانوا قوميين عربا في الأساس) متفوقا على الغرب. أما الفئة الثانية، وكانت آنذاك ظاهرة جديدة في البلدان العربية، وهي التي ستكون محط اهتمامنا هنا، فقد وصفها العظم كالتالي:
"... النموذج الديني السلفي المتجدد الذي تبلور ولاقى رواجا تحت تأثير الانجازات الكبيرة للثورة الإيرانية. يستمد هذا الاتجاه ابرز دعاته والمدافعين عنه من أوساط اليسار عموما: شيوعيين سابقين، راديكاليين متعبين، ماركسيين شعبويين، قوميين خابت آمالهم... وبالإمكان تلخيص أطروحتهم الأساسية على النحو التالي: لا يكمن الخلاص الوطني الذي ظل العرب يبحثون عنه منذ الحملة النابليونية على مصر في القومية العلمانية- بإشكالها الراديكالية أو الليبرالية أو المحافظة. كما أنه لا يكمن في الشيوعية أو الاشتراكية الثورية أو ما شابه ذلك من النظم والدعوات، بل في العودة إلى الأصالة الإسلامية، وبخاصة كما تتجلى في الإسلام الشعبي المسيس."(4)
ومضى العظم في كتابه، معززا حججه بكثير من الاقتباسات، ليصف ( ولينتقد بحدة) المعالم الرئيسية في هذه الحالة. وإذ أحتفظ بمفهوم صادق جلال العظم عن " الاستشراق المعكوس" فإنني أود ان ادمج الملامح المحددة لهذا النموذج، والتي يمكن أن تتخطى حوض المثقفين العرب الذين تفحصهم العظم، في المبادئ الستة التالية:
1- الشرق الإسلامي والغرب نقيضان. وليس الأمر، أو لا يقتصر فقط على أن الشعوب الشرقية تواجه الامبريالية الغربية، بل إن الإيديولوجيات الغربية ككل، بما فيها أكثرها نقدية كالماركسية، ليست ملائمة لهذه الشعوب.
2- إن مدى انبعاث الشرق ينبغي ألا يقاس، بل لا يمكن أن يقاس، بالمعايير والقيم الغربية، كالديمقراطية والعلمانية وتحرر المرأة.
3- إن الشرق الإسلامي لا يمكن فهمه بالأدوات المعرفية الخاصة بالعلوم الاجتماعية الغربية. وليس ثمة قياس بالظواهر الغربية يمكن أن يكون ذا صلة [ بالشرق الإسلامي].
4- إن المحرك الأساسي في التاريخ الإسلامي، أي العامل الأول لتحريك الجماهير المسلمة، ثقافي، أي ديني. وهو يتقدم على العوامل الاقتصادية والاجتماعية/ الطبقية التي تحدد الدناميات السياسية الغربية.
5- إن السبيل الوحيد للبلاد المسلمة نحو النهضة هو من خلال الإسلام. وبعبارة مستعارة من الكنيسة الكاثوليكية، مع شيء من التكييف،فإنه "لا خلاص خارج الإسلام".
6- إن الحركات التي ترفع لواء " العودة إلى الإسلام" ليست حركات رجعية ارتكاسية على ما تراه العدسات الغربية، وإنما هي في الحقيقة حركات تقدمية دفعتها إلى الوجود الهيمنة الثقافية الغربية.
هذا النسق من "الاستشراق المعكوس" كان في الواقع واسع الانتشار في أعقاب أحداث العامين 1978-1979. وقد تمدد بعيدا جدا عن أوساط المثقفين العرب والمسلمين بالولادة ليبلغ قلب بلاد الاستشراق الكلاسيكي. وهو بارز بشكل خاص في المشهد الاستشراقي الفرنسي، على ما سأحاول إثباته الآن.
فالواقع أن أشهر المفكرين اليساريين الذي خضعوا لإغواء " الثورة الإسلامية" لم يكن مسلما ولا من الشرق الأوسط، بل لم يكن إلا ميشيل فوكو في مرحلة معروفة من عمره. (5) على أنه ينبغي القول إن تحليلات فوكو لتطورات الثورة الإيرانية، وبقراءة استرجاعية، لافتة بشكل كبير بسبب توقدها الذهني العظيم إزاء الديناميات الاجتماعية والسياسية للعملية الثورية- وهو انجاز تزداد روعته في النفوس حين نعلم ان تلك الموضوعة لم تكن ضمن مجال خبرة فوكو بالتأكيد. ومع ذلك، يبقى أن فوكو كان مفتونا بما اعتبره بحثا عن " الروحانية" وخلط ما بين ما سمعه من الليبرالي نسبيا آية الله محمد كاظم شريعتمداي- الذي تحول لاحقا إلى خصم شرس لآية الله الخميني- وبين حقيقة الحركة [ الخمينية]. وهذا ما دفع فوكو إلى أن يعلن، وبسذاجة، أن المرتكزات الأساسية للديمقراطية يمكن العثور عليها في الإسلام الشيعي، وأن ذلك هو ما يعنيه فعلا برنامج "الحكومة الإسلامية" (6)
غير أن فوكو لم يكن مستشرقا محترفا. وقد دافع عن نفسه غير تواب، مبررا حماسه لثورة الجماهير الإيرانية، ومؤكدا ان حكومة الملالي، التي كان اشمأز منها، لم تكن محصلتها المقدرة [ بالضرورة] سلفا ولا تنزع الشرعية- بشكل استرجاعي- عن الدعم الذي كانت الحركة الشعبية الإيرانية تستحقه فعلا. كان فوكو يعلم جيدا ان المثقفين الفرنسيين هم أكثر المثقفين في العالم احتمالا لأن يتسامحوا إزاء "التجاوزات" القمعية للثورات، وذلك لسبب واضح يتعلق بتاريخ بلادهم، وبالعبادة الرسمية للثورة الفرنسية، بما في ذلك اليعاقبة- وهي عبادة كانت أشهر من تعرض لها، بالمناسبة، في سياق الردة المعادية للماركسية، فرانسوا فوريه (François Furet), ولذلك لم يشعر فوكو بأن عليه أن يعتذر [ عن خطأه في تقييم الثورة الإيرانية]، لكنه لم يسع أبدا إلى الدوس من جديد على مثل هذه الدرب غير المألوفة. ولقد ذكرت فوكو هنا فقط لأن ذلك الفصل الخاص به كان مثالا دالا على اتجاه أعرض.
الاستشراق الفرنسي بعد عام 1979
أهدف هنا إلى وضع رسم تخطيطي عام لتطور و تمعجات تلك المجموعة من المستشرقين الفرنسيين ما بعد العام 1979 الذين خضعوا لـ"الاستشراق المعكوس" وأعني هنا بالرسم التخطيطي العام أنني سأتناول أبرز شخصيات تلك المجموعة فحسب، وسأقتصر على أهم منشوراتهم في موضوع الإسلام، ويتضح من طبيعة النقطة التي أنطلق منها- أي نقد صادق جلال العظم للاستشراقيين العرب "المعكوسين"- أن النموذج ابعد من ان ينحصر في الباحثين الفرنسيين أو الغربيين أنفسهم. وعليه، فإنه ينبغي أن يكون واضحا أنني لا أقصد أن أرد على "المستشرقين المعكوسين" الفرنسيين أو الغربيين حججهم نفسها حول عجز العقول الغربية على فهم العقلية المسلمة. ولأوضح أخيرا أيضا، ومنذ البدء، أن الاستشراق الكلاسيكي، بالمعنى الذي بسطه إدوارد سعيد أمام الجمهور، أبعد من أن يكون منقرضا من الدراسات الإسلامية الفرنسية، ناهيكم بالمشهد "الثقافي" العام، بل هو في الواقع أقوى من أي وقت مضى. والحق أن ثمة تنقلات [انزياحات] بين النموذجين [الاستشراقي الكلاسيكي و الاستشراقي المعكوس]، على نحو ما قد يتوقع المرء حصوله في عالم الانتلجنسيا المتقلب، وعلى نحو ما سأبين. وأن أكرس هذه المقالة لـ"الاستشراق المعكوس" لا يعني أنه همي الأساس (فهو ليس كذلك بالتأكيد)، غير ان معارضتي للاستشراق الكلاسيكي وللامبريالية الغربية لا تدفعني إلى "التغطية" على ما اعتبره طرقا مضللة تذهب في الاتجاه المعاكس.
فلأحدد أولا، من الناحية السوسيولوجية، موقع جيل الباحثين الفرنسيين ما بعد العام 1979 في حقل الدراسات الإسلامية. هؤلاء نضجوا في الحقبة التي تلت عام 1968، وكثير منهم (شأن كثيرين آخرين من جيلهم) وسموا في شبابهم، إلى هذا الحد أو ذاك، بالولاء الملتزم لأفكار اليسار الراديكالي. بعضهم، ككثيرين آخرين أيضا، هجروا ما سوف يعتبرونه في النهاية نوعا من أمراض البلوغ (puberty )، وانتقل عدد منهم من "طوق ماو إلى نادي روتاري"، إن كان لنا أن نستعير العنوان المجازي لكتيب شهير نشره الناشط الفرنسي الراديكالي اليساري المثلي غي هوكنغم علم 1986، قبل عامين من موته المبكر.(7) هذا الجيل طور نشاطه البحثي في الفترة التي أعقبت "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979، وهي فترة شهدت جيشانا في الأصولية الإسلامية المعادية للغرب وارتقاء بها إلى أن تصبح أحد أبرز هموم القوى الغربية- وكانت فرنسا من بين أكثرها تأثرا مباشرا بتلك الأصولية.
ثلاثة ملامح أساسية تسم مجموعة الباحثين تلك، في حقل الدراسات الإسلامية ما بعد سنة 1968. وهذه الملامح قام بتحليلها تحليلا استبطانيا واحد من أبرز أعضاء تلك المجموعة، وهو أوليفييه روى (0 Roy ) في سجال جريء قبل سبع سنوات حول الدراسات الإسلامية الفرنسية. (8) الملمح الأول هو أن معظم أفراد جيل ما بعد 1968/ما بعد 1979 ينتمون إلى حقلي العلوم السياسية أو علم الاجتماع السياسي، في حين كان الجيل السابق ما يزال متجذرا أساسا في المناهج التقليدية المتعلقة بالدراسات الاستشراقية كالتاريخ و الاثنولوجيا ( علم الأعراق البشرية) أو الفيلولوجيا ( فقه اللغة). و معظمهم تناولوا الحركات الإسلامية السياسية الراديكالية بوصفها الشعار الواضح للمرحلة، وهو ما يؤشر على علاقة واضحة بتخصصهم في المجال السياسي.
في هذه الأثناء كانت الأكاديمية الفرنسية في السنوات التي أعقبت العام 1986 تشهد تدهورا حادا في مكانة أفرادها ودخلهم النسبي. وعليه، كما شرح أوليفييه روى بتعبير ملطف، كان أمام باحثي الجيل الجديد آنذاك حافز قوي على البحث عن مصادر دخل إضافية. وأحد المصادر- وهو الذي يشكل الملمح الثاني (الذي لا يشمل الجميع طبعا ولكنه كان من السعة بحيث يمكن عده ملمحا أساسيا)- هو أن يصبح الباحث "مستشارا" لمؤسسات الشؤون الخارجية والدفاع. ومثل هذه الفرص لم يكن، بالنسبة إلى ابرز "خبراء" هذه المجموعة، مقتصرا على فرنسا. أما احد المصادر البديلة الأخرى فكان العمل عبر وسائل الإعلام، سواء على شكل مكافآت شرفية مباشرة يتقاضاها هؤلاء الباحثون لقاء "خبرتهم" أو كوسيلة لزيادة مبيعات كتبهم. وهكذا، فإن الظهور المكثف في وسائل الإعلام (intensive médiatisation) هو الملمح الميز الثالث لباحثي اليوم [ من الفرنسيين] في شؤون الإسلام والعالم العربي. وبالإمكان تعميم هذا النموذج، فنقول إن ملامح شبيهة تسم حقل الدراسات الإسلامية اليوم في كل البلدان الغربية.
على أن الملمحين الأخيرين- أي الميل إلى بيع الخبرة إلى المؤسسات الحكومية، والظهور المكثف في وسائل الإعلام- لم يطاولا كل عضو في مجموعة مثقفي ما بعد سنة 1979 في الفترة نفسها. فبعضهم قاوم الإغراء مدة من الزمن، وأحيانا إلى الأبد. وهذا ما يفسر الاختلاف المتزايد عبر السنين ضمن مجموعة "المستشرقين المعكوسين" على ما سأبين.
الاستشراق الفرنسي معكوسا
حرص الباحثون في الدراسات الإسلامية [الفرنسية] بعد العام 1979 على مواجهة ما اعتبر عداوة " استشراقية" مسبقة مصوبة إلى الثورة الإيرانية بسبب إيديولوجيتها الإسلامية وقيادتها الإسلامية، وعلى مواجهة ما اعتبروه عداوة " شيوعية" مسبقة مصوبة إلى "المجاهدين" الأفغان لأسباب مماثلة ولتبرير الاجتياح السوفياتي لأفغانستان. وقد مال أولئك الباحثون إلى رفض التصورات القدحية المعطاة للأصولية الإسلامية الناهضة التي اكتسبت زخما لافتا بتأثير من الثورة الإيرانية نفسها. وأدى ذلك بهم إلى رفض تسمية "الأصولية" (fundamentalism) ذاتها، وإلى رفض معادلها الفرنسي (intégrisme)، بذريعة أن هاتين التسميتين تتعلقان بالمسيحية: أي البروتستانتية في الحالة الأولى، وبالكاثوليكية في الحالة الثانية. ولم يهم أن التسميتين اكتسبتا منذ ولادتهما معنى أوسع بكثير، وأنهما باتتا تدلان فعلا على مجموعة تنطبق انطباقا كاملا على نمط إسلامي من الاستخدام الديني المماثل.(9) وحجتهم الأكثر إذهالا- بالنسبة إلى العلماء الاجتماعيين- هي ان الحركات المعنية تسمي نفسها "حركات إسلامية" بدلا من "مسلمة"! وبعبارات أخرى، فان المستشرقين الفرنسيين ما بعد 1979 تبنوا، إلى حد ما، وبلا دراية، ادعاء "الإسلاميين" المزعومين بالملكية الحصرية للتأويل الجهادي للإسلام.(10)
المفارقة المدهشة هي أن هؤلاء الباحثين الفرنسيين الجدد في الدراسات الإسلامية، إذا راعوا ألا يتعرضوا للجشب المخزي بأنهم جزء من "الاستشراق" بالمعنى التحقيري للكلمة، تبنوا منطقا نموذجيا في " استشراقيته" حين اعتبروا أن الأصولية الإسلامية لا يمكن اختزالها في أي تصنيف ذي منبع غربي. وهكذا انتهوا إلى تسمية الظاهرة [الأصولية] بـ"النزعة الإسلامية" (islamisme)، فحصروها بظاهرة خاصة بالإسلام، وذلك ضمن منطق "استشراقي" [كلاسيكي] بامتياز. إذن، حرصا على تجنب مصطلحي "الأصولية" بالانجليزية (fundamementalism) وبالفرنسية (intégrisme) لأنهما، على ما قالوا، مثقلان بالدلالة التحقيرية ( والحق أنها تحقيرية في عين العلمانيين وحدهم، ليبراليين أو راديكاليين)، فإنهم خلصوا إلى استخدام مصطلح يصف الدين الإسلامي ذاته، على ما تشهد بذلك المعجمات كلها [حيث تعبير islamisme مرادفا لـ Islam في الأصل]. وهم من خلال تقديم تشريع أكاديمي لاستخدام مصطلح " النزعة الإسلامية" لوصف حركات إسلامية مختلفة تحيل على الإسلام – وكثير منها عنيف ومتعصب- قد أسهموا، إذن، في الخلط الذي تعززه وسائل الإعلام غير المدققة، بين الدين الإسلامي بوجه عام وبعض الاستخدامات الخاصة والمقيتة له.(11)
أحد المؤثرين الأساسيين في صياغة النموذج الجديد المذكور باحث شكل – من الناحية الجيلية والثقافية والعلماجتماعية- جسرا بين المجموعة السابقة من المختصين الفرنسيين بالعالم الإسلامي( وكثيرون منهم ذوو ثقافة واسعة حقا) والمجموعة الجديدة الخاوية بشكل عام، وللأسباب الوجودية السابق ذكرها، التي ليس أقلها الخراب الذي سببته وسائل الإعلام [ راجع الملمح الثالث أعلاه]. هذا الباحث، عالم الاجتماع السياسي أوليفييه كاريه (Olivier Carré)، نشر عام 1979
بحثا عن كيفية استخدام القومية العربية(التي كانت محط اهتمامه الأبرز آنذاك) للتأويلات التقدمية للإسلام من أجل شرعنه ذاتها. (12) وإحدى الفرضيات الأساسية في كتابه هي أن انبثاق إسلام عربي تقدمي مميز في المستقبل أمر محتمل جدا – وهذه نظرة اتفق معها كموقف عام- وأن ذلك الانبثاق كان يجري على قدم وساق فعلا. وهو تقدير كان في زمنه أكثر مدعاة للسجال بالتأكيد، ولكن التاريخ في رأيي نسخه وأبطله منذ ذلك الزمن. (13)
وكان كاريه مهيأ قبليا لطمس التمايزات بين القومية العربية والأصولية الإسلامية . ففي العام 1982 شدد على الشبه بين ما بدأ آنذاك يسميه" النزعة الإسلامية" والقومية العربية، وهو شبه عززه في رأيه العقيد معمر القذافي- الذي هو كائن مولد من الاثنين كما بدا آنذاك. (14) غير أن مثل هذا الشبه لا يمكن الركون إليه إلا إذا نظر المرء إلى المسالة من زاوية تحليل الخطابات [لا الأفعال]، وهو ما كان كاريه يقوم به بشكل رئيس. فالحق أن القوميين احتاجوا( وهذا أمر طبيعي) أن يمنعوا خصومهم من السطو على الإسلام، في حين احتاج الأصوليون- ولا سيما في الستينات ، وهي حقبة "الاشتراكية العربية"- إلى إقناع الجماهير أن إسلامهم كان هو أيضا "اشتراكيا" على نحو ما، واحتاجوا من ثم إلى دحض التهمة بأنهم ينوون إعادة الطبقات الغنية القديمة إلى السلطة.
ومضى كاريه أبعد من ذلك في كتاب آخر نشر عام 1983، وهو في الأساس مجموعة من نصوص لفروع مصرية وسورية من الإخوان المسلمين، وقام بتحريره بالتعاون مع ميشال سورا(M Seurat). في هذا الكتاب بدأ ميزان التعاطف يميل نحو " الإسلاميين" على حساب القوميين الذي سماهم " توتاليتاريين" .(15) وفي عبارات تمثل" الاستشراق المعكوس" تمثيلا نموذجيا، راح كاريه الآن يصف " الإسلام السياسي" بأنه " الثقافة السياسية للعالم الإسلامي الذي يحاول أن يعبر عن نفسه أخيرا" بعد أن كُتم صوته تباعا من قبل الكولونيالية وأنظمة ما بعد الاستقلال (16)، وبأنه "الشكل الحديث المحتقر من أشكال الثقافة الشعبية العريقة في القدم"،(17) وبأنه "حقيقة دائمة دواما لافتا، في أهدافها ووسائلها، منذ فجر الاقتحام الصناعي الأوربي للعالم العربي" وهي نظرة تتلازم مع إيمان كاريه بأن " التدين ظاهرة دائمة وجوهرية في المجتمعات العربية".(18)
تُرى، هل كان سورا يقصد التحذير من انجراف شريكه في التأليف حين كتب [ أي سورا] في كتابهما المشترك:" على المرء ألا يقلب، ببساطة ونقاء، هذا الرسم البياني [لطبيعة الإخوان المسلمين الرجعية] إلى حد اعتبار الإخوان المسلمين رواد التحديث"(19). فالواقع هو أن كاريه فعل ذلك بالضبط ، وبتشديد كبير، في كتاب آخر نشر في العام نفسه،(20) وفيه أنهى تقديم مساهمته بالعبارات المتخيلة التالية لـ"إسلامي" من نسج الخيال:"الرجعية، الأصولية، الظلامية، حكم العلماء، العصور الوسطى! فلنكن جديين، يرد الناشط الإسلامي بعينين براقتين. ان التقدمية الحقيقية الوحيدة هي الخيار الإسلامي. التحديث الحقيقي الوحيد هو التحديث الأصلاني، المتجذر في ثقافتنا الشعبية، التي هي إسلامية حتى الأظافر". (21)
عبارات شبيهة وردت في كتاب كاريه نفسه من دون استخدام دمية إسلامية. فقد كتب أن التيار"الإسلامي" يحشد من أجل تطبيق، سبق أن بوشر به، لـ"التحديث الاصلاني" على الصعيد المحلي، وذلك في انسجام مباشر مع لغة الثقافة الشعبية" التي هي " إسلامية في الأساس والجوهر." (22) هذه العبارات تتضمن ثيمتين ستصبحان، عند جمعهما الواحدة إلى الأخرى، من مميزات النسخة الفرنسية للنموذج"الاستشراقي المعكوس": أن "الإسلامية" عامل تحديث، وأن الدين الإسلامي هو اللغة والثقافة الأساسيتان للشعوب المسلمة.
سنة 1984 ظهر معلم أساسي في تاريخ الاستشراق الفرنسي ما بعد 1979، وتمثل في نشر كتاب جيل كيبل عن المجموعات الأصولية الراديكالية في مصر ما بعد عبد الناصر.(23) لم يعتنق كيبل "الاستشراق المعكوس" حقا في أية لحظة، لكنه وقف في منتصف الطريق بينه وبين الاستشراق التقليدي [الكلاسيكي]. وهو تباهى بتقديم لكتابه الأول كتبه برنارد لويس (لا غيره!)، الذي هو أحد ابرز الأهداف التي صوب ادوارد سعيد سهامه إليها. وإذا تبنى كيبل نبرة محايدة نسبيا في وصف الأصوليين الراديكاليين المصريين، فقد أسهم في تثبيت لقب " إسلامي" وذلك عبر محاججة قدمها في خلاصة الكتاب وتخدم هذا الاتجاه. وكان موقفه المحايد من الارتياح بمكان بحيث انه تناول في الأساس أكثر الحالات المتطرفة في الأصولية تعصبا وعنفا.
ومن جهة أخرى أصبح كيبل، بسرعة، التمثيل الأكثر فقاعة على كل ملامح الجيل الجديد كما وصف أعلاه ( بما في ذلك المسار الذي ابتدأ من أقصى اليسار). فكتابه أظهر نسقا سيسم كل إنتاجه الغزير اللاحق: ثروة من المعلومات المفيدة ( التي سهلت الحصول عليها حظوة كيبل بالوصول إلى الوثائق الرسمية، مترافقة مع تنظير محدود يزداد سطحية كتابا إثر كتاب. لقد أصبح كيبل نجما لوسائل الإعلام، ومستشارا أيضا للحكومات الغربية وغير الغربية في قتالها ضد الأصولية الإسلامية الراديكالية. كما لعب في النهاية دورا ناشطا في الدفاع عن حظر الحجاب في المدارس الفرنسية.
بعد عام من صدور كتاب كيبل عن مصر، ظهر معلم آخر من معالم الاستشراقيين الفرنسيين ما بعد 1979، ولكنه أيضا في هذه الحالة إسهام صريح في نسق "الاستشراق المعكوس." إنه كتاب أوليفييه روَى عن أفغانستان.(24) فلقد أظهر روى، وهو ماوي سابق، تعاطفه المكشوف مع الحركات الإسلامية الأفغانية، وعداوة لمن يسميهم "الشيوعيين." وعلى الرغم من ظهوره وكأنه راعى تحذيرا في تقديم كتابه،(25)فان ما قام به فعلا هو توسيع وتضخيم تمجيد كاريه للأصولية الإسلامية إلى مرتبة غدت معها حاملة للحداثة.
قدم روَى تمييزا بين "الإسلامية" وما سماه " الأصولية" (fondamentalisme ) ، مستخدما النسخة المفرنسة للمصطلح الانكليزي (fundamentalism ) بدلا من لفظ intégrisme الذي استعمله الفرنسيون اليساريون حين وصفوا " المجاهدين" الأفغان بالقوى الرجعية وبالمعادل الأفغاني للقوى المعادية للثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر. فبحسب معجم روَى يحمل مصطلح " الأصولية" معناه المألوف : إنه الدعوة إلى الرجوع إلى القرآن والالتزام الدقيق بالشريعة. لكنه قارن الأصولية الإسلامية بالإصلاح البروتستانتي، بدلا من ان يقارنه بالأصولية البروتستانتية. و أوضح أن " الإسلامية" هي " الأصولية" حين تحولت محاربة ومعارضة، وبخاصة في سياق مديني أو في مجتمعات تم "تحديثها" بوحشية. (26)
وبعد أن شدد روَى على "حداثة الإسلام"(27) شرح أن "الإسلاميين" الأفغان – بتأثير من الإخوان المسلمين في مصر- كانوا يسعون إلى " تطوير إيديولوجية سياسية حديثة مستندة إلى الإسلام الذي يعتبرونه السبيل الوحيد للتصالح مع العالم الحديث" (28) وتابع يقول " إن الغرب (الليبرالي والماركسي معا) يحاول أن يطرد إلى عالم المهجور، والإقطاع، والعصور الوسطى، و الظلامية، أفكارا هي في الحقيقة من نتاجات الحداثة."(29) كما أن " العودة المنهجية إلى الشريعة" يحسب روَى " تخلق الظروف [ الملائمة] لبداية شكل معين من الحداثة، السياسية في الحد الأقل،" وذلك بالسماح للدين- كعامل توحيدي- بإبطال التجزئة التقليدية للمجتمع الأفغاني. فإذا
وضعنا جانيا ان تصور روَى "للإسلاميين" بأنهم يسعون فوق أشكال التجزئة المختلفة لمجتمعهم كان محض وهم، فإن ذلك نوع من " التحديث" قديم قدم انبثاق الأديان نفسها، وقد سبق لابن خلدون أن وصفه قبل ستمائة عام بعبارات مماثلة.
المعلم الثالث للاستشراق الفرنسي ما بعد 1979، و به تكتمل اختياراتي للرموز البارزة من هذه المجموعة، كان نشر كتاب فرانسوا بورغا (F . Burgat) عن المغرب عام 1988.(30) و بورغا أكثر المستشرقين الفرنسيين المشهورين بعد عام 1979 حماسا لاعتناق "الاستشراق المعكوس." وإذا بنى بورغا عمله بشكل مباشر على عمل كاريه، وقد وصفه بأنه " أحد أساتذة التفكير في الإسلام السياسي، الذين لا خلاف عليهم،" (31) فإن نظرته يمكن اختصارها في الاقتباس التالي:
" تعبيرا عن استعادة الميزان الثقافي الناجم عن الانسحاب الاضطراري للغرب- وهو انسحاب بدأ على الصعيد السياسي بإزالة الاستعمار وتحقق الاستقلال، واستمر على الصعيد الاقتصادي من خلال التأميمات- فان عملية فك الارتباط [ بالغرب] تتمظهر اليوم ثقافيا من خلال النزعة الإسلامية. إن هذه النزعة ، بسماحها لمن خضعوا للسيطرة في الماضي بتأكيد هويتهم في مواجهة الغرب من دون اللجوء تحديدا إلى اللغة التي فرضها هذا الغرب من كابول إلى مراكش، إنما تسهم في تحقيق الحاجة نفسها إلى العودة إلى الجذور الثقافية." (32)
إن المرتكزين الأساسين "للاستشراق المعكوس" كما صاغه كاريه – وهما القول بأن "النزعة الإسلامية" عامل تحديث وبأن دين الإسلام هو اللغة والثقافة اللازمتان للشعوب المسلمة- وجدا تعبيرهما الأقصى في عمل بورغا. وقد امتزجا بفكرة ثالثة، ملهمة من كاريه أيضا، وهي الاستمرارية ( بدلا من الانقطاع) ما بين القومية و "الإسلامية" ، وهي استمرارية صارت مع بورغا استمرارية بين اللحظة القومية التاريخية وانبعاث الأصولية الإسلامية، وهكذا كتب يقول:"إن النزعة الإسلامية، لكونها استجابة تحديثية لمشاكل الحداثة، تعبر، إذن، عن حاجة إلى الاستمرار، بدلا من القطع."(33)
ويرمز بورغا على فكرة الاستمرار باستخدام مجاز، وهو عبارة عن صاروخ يعبر مراحل ثلاثا قبل التخلص النهائي من الاستعمار: المرحلة الأولى سياسية (الاستقلال)، والثانية اقتصادية (التأميمات)، والثالثة – وتمثلها "النزعة الإسلامية-" ثقافية/ إيديولوجية. إلا ان هذا المجاز يتجاهل تجاهلا تاما أن ما يسمى " النزعة الإسلامية" – في ما كان في حقيقة الأمر انبعاثا لها بعد طول تهميش – تزامنت مع تراجع هائل في الاستقلالين السياسي والاقتصادي. فالسبعينيات من القرن العشرين شهدت إعادة تثبيت ضخمة للهيمنة الأمريكية على العالم الإسلامي، وردة نيوليبرالية على مستوى العالم، وأفضل تمثيل على ذلك هو الارتداد عن الناصرية في مصر في ظل حكم أنور السادات. و إذا استخدمنا مجاز بورغا، فإنه لم يخطر في باله أن المرحلة الثالثة في رحلة الصاروخ قد تم تفعيلها في الواقع في حقبة انحدار – أي أن انتشار الأصولية الإسلامية كان احد التعبيرات عن انتكاسة مريعة وارتداد متعدد الوجوه في تاريخ التخلص من الاستعمار في الشرق.
الافتراض المسبق الأساس الذي ترتكز عليه نظرة كاريه وبورغا هو اعتبار النزعة الإسلامية مجرد خطاب، أو تحديثا يعبر عنه بلغة مختلفة [ عن المألوف]: ففي حين استعيرت لغة القوميين من الغرب، فان لغة "الإسلاميين" ( في رأي كاريه وبورغا) كما يبدو " أصلانية" [بلدية] بحسب مصطلح كاريه. والنتيجة النهائية لهذا الإدراك، كما خطه كاريه، هو اختزال "النزعة الإسلامية" إلى مجرد نمط من أنماط التعبير- " كلام مسلم" (Le Parler Musulman ) على ما سيسميه لاحقا- لبرنامج هو في الأساس مثل برنامج القومية/ فلنقتبس منه مجددا:
" النزعة الإسلامية، إذن لغة أكثر منها عقيدة، إنها طريقة لتمثيل الحقيقة لا ترضى بأن تستعير مما فرضه المسيطرون... وبشيء من المبالغة يستطيع المرء أن يفك النزعة الإسلامية من الدين، بحيث لا يرى في ذلك اللجوء إلى مفردات الإسلام من أجل التعبير عن برنامج سياسي بديل إلا اللوجستيات الإيديولوجية للاستقلال السياسي، أو الاستمرار الثقافي للقطائع الناجمة عن إزالة الاستعمار." (34)
أحد الأبعاد المشوقة في عمل بورغا هو اشتماله على تسجيلات خطية لأحاديث وحوارات أخرى أجريت بينه وبين رموز بارزة من المشهد "الإسلامي." ويحدث أن هذه التسجيلات أحيانا أكثر إضاءة من تفسيراته نفسها. وهكذا كان أوضح دحض لأفكاره هو ما جاء على لسان الشيخ عبد السلام ياسين، الأصولي الإسلامي المغربي الشهير ومؤسس " جماعة العدل والإحسان." فقد أخبر بورغا بما يلي:"
" انتم [و أعني] المراقبين من الخارج، حين تقرأون أدبيات الإسلاميين... حين تحللون خطابهم، لا تدركون إلا رأس جبل الجليد... وهو إدانة السيطرة الثقافية الغربية... وإدانة الحكم السيئ، ووجود هذا الظلم الاجتماعي... في مقالاتكم أقرأ تحليل غربي خاص يتعاطف مع الحركة الإسلامية... والحق... أنكم تتعاطفون مع الإسلام فعلا. ولكن هذا المجال الروحاني يبقى، بالنسبة إليكم، كتيما مغلقا بشكل إرادي. وأنتم لا تريدون أن تروه، لا تريدون أن تنظروا إليه. والحق أنني أرى عيب أولئك المثقفين الذين يركزون تركيزا كبيرا على وجهة نظرهم من دون أن يأخذوا في الاعتبار وجهة نظر الآخرين." (35)
تمعجات "الاستشراق [ الفرنسي] المعكوس"
فلأقدم الآن رسما تخطيطيا موجزا للتطور اللاحق الذي شهده الاستشراق الفرنسي"المقلوب". فلقد تأثر جيل المختصين الفرنسيين بالعالم الإسلامي بعد 1979 بحدث تراجيدي كبير: إنه قتل ميشيل سورا، أو موته أثناء الاعتقال، عام 1986، وذلك بعد خطفه في لبنان قبل عام على يد مجموعة تطلق على نفسها "الجهاد الإسلامي" وأشتبه في أنها واجهة أو غطاء لحزب الله وأنها تعمل لحساب إيران.(36)كانت تلك صدمة كاسحة للوسط الاستشراقي الفرنسي، وبشكل خاص لأوليفييه كاريه الذي سبق أن تعاون معه سورا بشكل وثيق. وتبعا لذلك اسودت صورة إيران في عيون أولئك المستشرقين بشكل كبير، ومثلها اسود مفهوم "النزعة الإسلامية" لدى معظمهم.
يعرض كاريه في تقديمه لأول كتاب نشره بعد موت سورا المأساوي – وهو كتاب يتضمن مجموعة من المقالات وصدر عام 1991- تقييما مختلفا جدا لما يسمى "النزعة الإسلامية" في ضوء التجربة الإيرانية:" ان المثال الإيراني، لا سيما منذ العام 1981، يقوض من صدقية "البديل الإسلامي... والمثال التراجيدي لما حدث لميشيل سورا، الذي عملت معه، ومنه استقي الإلهام، يؤكد بشكل لافت، ويا للأسف، اللعبة العدائية التي تؤديها الهمجيتان (الإسلاموية و "التقدمية العلمانية [كذا]..." (37) وهكذا أنجز كاريه قطعا جذريا مع "الاستشراق المعكوس": فقد عكسه، وأقصد بذلك انه رجع إلى الاستشراق الكلاسيكي القديم،"الحاف" بلا أي تزويق. وهذا الأخير ينقسم اليوم في المشهد الفرنسي (ولكن هذا النسق ينطبق على مجموعات استشراقية أخرى) إلى مدرستين. الأولى سماها فرهاد خوسروخافار (38) نيو استشراق (neo-orientalism ) مع أنه كان أحرى ان يسمى استشراقا تقليديا- وهو ، باختصار، يرى أن الإسلام لا ينسجم مع الحداثة. والمدرسة الثانية أسميتها"الاستشراق الجديد" (new orientalism)، فهي جديدة فعلا، وتعرف بأنها النظرة التي لا تكتفي بالقول إن الإسلام والحداثة منسجمان فحسب، بل إن الإسلام في واقع الأمر هو المعبر الوحيد واللازم إلى الحداثة في العالم الإسلامي. (39)
يشترك "الاستشراق المعكوس" و الاستشراق التقليدي في لب واحد، ألا وهو النظرة الجوهرانية التي يكون بموجبها " التدين ظاهرة دائمة وجوهرية" للشعوب المسلمة ( باستعادة لجملة كاريه المقتبسة سابقا), ومن المؤكد أن كاريه حين قطع مع أوهامه عن "النزعة الإسلامية" لم يبلغ حد رفض الإسلام في ذاته. وفي لحظة واضحة من التفكير الرغبي [ أي المستند إلى الرغبات لا الوقائع]، توصل كاريه إلى الإيمان بأن زمن " النزعة الإسلامية" يصل إلى خواتيمه في العالم الإسلامي، وأن "حقبة التسويات ما بعد النزعة الإسلامية يبدو أنها بدأت..."(40) بعد عامين نشر كتابا مشوقا جدا أعلن في عنوانه نفسه قدوم ما أسماه ( بشيء من المفارقة) " الإسلام العلماني،" وهو في الواقع عودة إلى ما أطلق عليه اسم "التراث العظيم" (La Grande Tradition) بالأحرف الاستهلالية الكبيرة.(41) وقد قصد كاريه بـ"التراث العظيم" التراث الإسلامي العريق الذي تأسس بعد القرن العاشر الميلادي حتى انبثاق "تسنن"
[*] إسلامي جديد في أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين، وهو تسنن يرتكز إلى الشروح الطهرانية للإسلام، أي شروح ابن حنبل وابن تيمية بشكل خاص، التي عبدت الطريق أمام الموجة "الإسلامية". إن كتاب كاريه اللافت هو دعوة من اجل إسلام ُمعلمَن نسبيا، وكان يمكن تقريبا أن يكتبه باحث إسلامي متنور. على أن الانحياز "الاستشراقي الجديد" عاد إلى الانبثاق في مستهل خلاصة الكتاب، إذ سلم كاريه بأن "التعلمن" (secularization ) لا يمكن أن يكون إسلاميا في المجتمعات والحضارة المسلمة". (42) وبكلمات أخرى، فإن كاريه اقترح أنه لا يمكن أن يحدث فصل تام في البلاد المسلمة بين الدين والدولة.
عام 1992 نشر أوليفييه روَى، بدوره، كتابا يبشر بـ" فشل الإسلام السياسي." (43) و إذ كرر تقويمه "الاستشراقي المقلوب" السابق بأن "النزعة الإسلامية" العصرية والعلمانية التي يتحدث عنها لم تكن إلا من بنات خياله وخيال زملائه – أي أن الفشل كان نصيب تحليله بالذات [ لا النزعة الإسلامية]- فقد نسب ذلك الفشل إلى موضوع أبحاثه. وهكذا راح يكتب الآن:
" بنظرة استرجاعية، يبدو أن فعل الإسلاميين السياسي، بعيدا من أن يؤدي إلى إنشاء دول أو مجتمعات إسلامية، إنما يندرج في منطق الدولة ( إيران) أو في التجزئة التقليدية وإن كانت متصورة من جديد ( أفغانستان) (44)، " لقد كانت النزعة الإسلامية لحظة، تركيبة هشة من الإسلام والحداثة السياسية، لم تتجذر في نهاية المطاف قط." (45)
أما سبب هذا الفشل المزعوم فمرده، بحسب روى، إلى مأزق ثقافي (aporie) في فكر " النزعة الإسلامية" حيث الأناس الفاضلون يعتبرون شرطا ضروريا لبناء مجتمع إسلامي، في حين أن هذا الأخير شرط ضروري لتربية أناس فاضلين . (46) فإذا نحينا جانبا الخواء البالغ في مثل هذا التفسير، فان السؤال هو: كيف استعصى أن يدرك روى هذا المأزق منذ البداية، وهو فشل لم يعترف به مجرد اعتراف؟ لقد قال روى إن استعصاء "النزعة الإسلامية الثورية " أدى إلى "تجولها الاشتراكي الديمقراطي"- وهذا استيراد مدهش لمفهوم يقوم به شخص ينتمي إلى مجموعة رفضت مصطلح intégrisme لأنه نبع من تاريخ دين آخر! ويقول روى إن "النزعة الإسلامية" التي فشلت تحولت إلى ما يسميه" نيو أصولية" (néofondamentalisme)- أي إلى تأويل "محافظ" للإسلام من الناحية الاجتماعية بدلا من ان يكون تأويلا " تحديثيا"- وكأن هذه السمة لم تكن في صميم "النزعة الإسلامية" مند بداية البداية !
لم يكد يمر عام على هجمات القاعدة عام 2001 حتى صدر كتاب أوليفييه روى التالي، بالفرنسية، ومعظمه كتب قبل هذه الأحداث. (47) إذن، لم يكن الكتاب في الأساس ردا على الصدمة التي سببتها هجمات 11 أيلول (سبتمبر) بقدر ما كان مرحلة تالية في تفكير هذا المؤلف. وقد صدرت الطبعة الانكليزية بعد عامين على ذلك، بترجمة وإعادة تأليف وإضافات من المؤلف نفسه.(48) ولهذا فإنها تتضمن إحالات أكثر على " الحرب على الإرهاب" التي شنتها إدارة بوش، غير ان جل الكتاب يبقى سعي المؤلف الأعم إلى تثبيت تحليلاته السابقة في مواجهة حقيقة لا تني تناقضها. ولعل التشوش النظري هو ما يفسر أن الكتاب يبدو احيانا تعليقا فلسفيا غائما على حال العالم، اكثر منه عملا في العلوم الاجتماعية.
قد يظن المرء ان التطور الأخير المهم في الكتاب الجديد جاء بالهام من كاريه لكون الكتاب يعنى بـ" ما بعد النزعة الإسلامية." غير أن أطروحة روى هي أن " النزعة الإسلامية" نفسها الآن قد تحولت إلى "ما بعد نزعة إسلامية" من خلال " التسييس المفرط للدين"، الأمر الذي أدى – ويا لمكر التاريخ- إلى ابتعاد المجال الديني عن المجال السياسي، بحيث صار كل منهما " مستقلا بذاته، على الرغم من رغبات الفاعلين أنفسهم،" و أدى إلى فرض "شروط للتعلمن." (49) وبحسب روى، فإن أحد أوجه " ما بعد النزعة الإسلامية" هو انتقال بعض التنظيمات "من النزعة الإسلامية إلى القومية": ذلك أن ثمة " تضبيبا [ تعمية] للفالق بين القوميين والإسلاميين في كل مكان من الشرق الأوسط العربي،" على ما يؤكد روى، وحزب الله (لبنان) وحماس (فلسطين) نموذجان رئيسان في هذا الصدد. (50) وأحد الأمثلة على ذلك، كما كتب روى عام 2004، هو "ازدياد صعوبة التمييز بين ناشط إسلامي من حماس وعضو في حركة فتح العلمانية افتراضا والتابعة لعرفات." والحال ان هذا تأكيد يصعب، في ضوء اتساع شقة الخلاف والصدام الآن بين فتح وحماس، ألا نعتبره اليوم سببا كافيا لنقض أطروحة روى.
أيا كان الأمر، فان تصوير حزب الله وحركة حماس وكأنهما يؤشران على انتقال "من النزعة الإسلامية إلى القومية" وعلى تحولهما إلى قوى هجين ة إسلامية –قومية" جديدة ليس أمرا مسلما به لسببين على الأقل. الأول ان كليهما منخرط، منذ نشأته، في الصراع ضد الاحتلال الأجنبي لأرضه، وهو صراع لم يكن يوما حكرا على القوى المسماة" قومية" ( وطنية) بل مارسه دوما عبر التاريخ في تلك المنطقة طيف واسع من القوى، وضمن هذه الأخيرة لعبت القوى الدينية دورا بارزا منذ المراحل الأولى. والثاني هو أن " تضبيب" [تعمية] الدلالة " الإسلامية" لذينك التنظيمين لمجرد انخراطهما في الكفاح الوطني ( القومي) بما يفوق انخراط منافسيهم "القوميين" (الوطنيين) أمر مضلل بشكل واضح، وهذا ما لا يكف التاريخ عن تبيانه بغزارة. فإلى جانب الخلافات الكيفية بين البرنامجين الرسميين لكل من حماس وحزب الله من جهة، والتنظيمات العلمانية المنخرطة في النضالات نفسها ضد الاحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية، فان طريقة تنظيمها للمكونات الشعبية التي يسيطران عليها تؤكد أن ممارساتهما الاجتماعية مبنية على رؤيتهما الدينية.
المثال الرئيس الثاني الذي يقدمه روى لدعم أطروحته عن "ما بعد النزعة الإسلامية" هو "الجمهورية الإسلامية" الإيرانية. والحق أن تعليقاته الطويلة عن " تعلمن" مزعوم و" إزالة دور رجال الدين" (décléricalisation) في الدولة الإيرانية(51)- ويزيد تلك التعليقات مفارقة أن ابرز من قدم النموذج على ذلك هو الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، الزعيم "الإصلاحي" لجمعية العلماء المكافحين (مجمع روحانيون مبارز)- استندت إلى وهم أن إيران كانت تنجز آنذاك( بين عامي 2002و 2004) " تطبيعها السياسي."(52) وبالطبع فإن الرئيس الإيراني الحالي المنتخب عام 2005، محمود أحمدي نجاد، هو الدحض الحي لذلك الزعم القاطع الحاسم، السابق لأوانه بكثير في أقل تقدير. وبمكر آخر من التاريخ، فان أحمدي نجاد لا ينتمي إلى فئة علماء الدين.
استطيع ان امضي في نقاش معظم المزاعم في كتاب روى: من قبيل إصراره المذهل على"الخصخصة في إعادة الأسلمة،" (53) كما مثلته في ظنه جماعة الإخوان المسلمين المصرية وتحالف المجموعات الأصولية الباكستانية، اللذان اعتقد روى إنهما لم يعودا مهتمين بتغيير الدولة... أو من قبيل زعمه الخاطئ من جديد" انه لو نظر المرء إلى التجذر الإسلامي في أوساط المسلمين الشباب ( والمتحولين إلى الإسلام) في الغرب، لوجد أن خلفيتهم لا علاقة لها بالنزاعات في الشرق الأوسط ...(54) والحال أن تفجيرات لندن في 7/7/ 2005 وضعت زعم روى الأخير على المحك، فعجل في دعم مسعى الحكومة البريطانية العقيم إلى إنكار العلاقة الواضحة بين النزاعات في الشرق الأوسط- ومشاركة بريطانيا في احتلال العراق بشكل رئيس- وهجمات لندن. وقد نشر روى مقالة رأي في نيويورك تايمز بعد أيام من تلك التفجيرات بعنوان "لماذا يكرهوننا؟ ليس بسبب العراق." (55) وفيها شرح أن المفجرين في لندن لم يكونوا يردون على حروب الولايات المتحدة وبريطانيا وإنما رأوا تلك الحروب " جزءا من ظاهرة كونية للسيطرة الثقافية." وبعد سنة، أثناء عدوان إسرائيل على لبنان صيف 2006، نشر روى في لوموند مقالة رأي قدم فيها إلى " الأنظمة السنية[كذا]" وإلى إسرائيل نصيحة في كيفية عزل حزب الله، وختم مقالته بالجملة التالية:" على الحل السياسي، وأكثر من أي وقت مضى، أن يسود. وهذا الحل لا يلزم ان يكون حلا دبلوماسيا، بل يكون بتكييف القوة العسكرية مع الأهداف السياسية [!]" (56)
وفي أيلول ( سبتمبر) 2006 نشر روى مقالة رأي في الصحافة العالمية بعنوان" إننا نكسب برغم الحرب." (60) وفيها يشرح أن "العالم أكثر أمانا" بسبب التعبئة الموسعة للبوليس والخبراء، و وكالات الاستخبارات والسلطات القضائية" (كان يستحيل ان ينسى "الخبراء"). ولذا، وخلال سحابة عشرين عاما، أكمل أوليفييه روى، الذي كان قد بدأ " استشراقيا معكوسا" تحوله إلى نوع من "الخبراء" الذين يقدمون النصائح إلى الحكومات الغربية، محتذيا في ذلك حذو جيل كيبل.
ومن بين " المستشرقين المقلوبين" المميزين الثلاثة الذين تناولناهم هنا (كاريه وروى وبورغا)، وحده بورغا ما زال يلتزم آراءه السابقة التزاما راسخا. وبالفعل، فان كتابيه اللاحقين عن "النزعة الإسلامية" يكرران في معظمهما الآراء التي خطها في الكتاب الأول، وأحيانا بتبسيط مفرط أكثر من ذي قبل، وذلك في حمأة الجدل الذي انغمس فيه ضد زملائه الفكريين السابقين. (61) إلا انه سلم بأن ثمة تيارات رجعية داخل "النزعة الإسلامية"- وهي تيارات لم يتردد بالمناسبة في تسميتها أصولية intégristes ( بالفرنسية) او fundamentalists ( في الترجمة الانكليزية). غير أن هذه التيارات لم تعد أن تكون استثناءات سيئة، لم يكن يريد أن تلتبس مع المجموع كله.
على أن بورغا لم ينخرط في جدال ضد زملائه السابقين " الاستشراقيين المعكوسين" فحسب، وإنما انخرط أيضا، بل أولا وبشجاعة ( على ما ينبغي التشديد) ضد موجة ُرهاب الإسلام (isamophobia ) التي غمرت بلاده في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001. فقد عارض سياسات حكومته والتيار الطاغي في وسائل الإعلام حول قضايا من قبيل حظر ارتداء الحجاب في المدارس الفرنسية، أو الدور الفرنسي في لبنان. وهذا الإقرار الضروري يقودني إلى النقطة التي أود ان اختم بها، وبالعودة إلى ما كنت بدأت به، أي مقالة صادق جلال العظم عام 1981.
فلقد ختم العظم مقالته تلك بالتأكيد أن " الاستشراق المعكوس" ليس في النهاية أقل رجعية من الاستشراق الكلاسيكي. (62) غير أنني أرى ان هذا النوع من التقييم لا يمكن تعميمه. أما بالنسبة إلى أي حكم قيمة، فإن على من يقيم أن يوضع في سياقه الصحيح ثم يقيم بالنسبة إلى هذا السياق. وعليه فإنه عند الانتقال من سياق غربي إلى سياق عربي، يتغير دور "الاستشراق المعكوس" تغيرا جذريا: ففي حين أنه في السياق الأول استسلام فعلي أمام الردة التاريخية الهائلة، فإنه في السياق الثاني غالبا ما يكون شكلا من أشكال مقاومة الايدولوجيا الامبريالية المهيمنة و شكلا من أشكال التعاطف مع ضحاياها. والحال أن بورغا تجسيد نموذجي لهذا التوجه الذي يحمل شبها كبيرا في واقع الأمر إلى " العالمثالثية" في الأيام الخوالي، وهي نزعة انغمست في تضليل الذات من خلال الوقوع في حب أعداء الأعداء حبا أعمى.
والواقع أن وصف مكسيم رودنسون عاك 1968 للمقاربة" العالمثالثية" للاسلام يشبه شبها لافتا ما وصفته في هذه المقالة. وهو ما يبين أن " الاستشراق المعكوس" ظاهرة مكرورة في الحقيقة:
"إن العمومية (universalisme) التي استقتها [الايدولوجيا اليسارية المعادية للاستعمار] من جذورها الليبرالية أو الاشتراكية مالت إلى أن تتحول إلى إقرار بالفردانية، بل إلى تمجيد لها في خاتمة المطاف. فقد باتت تلك العمومية تحيل على العالم الثالث، الآن، نظرتها إلى قوة بدائية وحشية خاضعة للاستغلال والاضطهاد سوف تزيح ، مرة وإلى الأبد، بؤس النظام القديم وسيطرته. وبالتالي باتت القيم المتأصلة في الشعوب التي استعمرت سابقا جديرة بأن تحظى بالمدح، ولو أدى سوء تفاهم طبيعي جدا إلى تصور امتلاكها، وإن بأشكال خاصة، القيم عينها التي تلهم المجموعات الأوربية المعنية. وبالنسبة إلى بعض من كانوا أعمق التزاما بهذا الاتجاه، فقد بات الإسلام نفسه- وفي حد ذاته- قوة تقدمية." (63)
ومع ذلك، فان هناك خلافا كيفيا واضحا في نظري بين "خبراء" يقدمون النصائح إلى الحكومات الغربية حيال تصرفها في سياساتها الامبريالية... وبين " استشراقيين معكوسين" يشجبون تلك السياسات، وإن بأوهام هائلة عن المستهدفين بتلك السياسات، ممهدين بذلك الطريق أمام انقشاعات أوهام الغد وآثارها المحبطة. على أنني، إذ أواصل الإسهام في النضال السياسي والثقافي ضد السياسات الامبريالية الغربية، أشعر ان من واجبي دائما أن انقد ما اعتبره أراء مضللة على الجانب السياسي الذي أقف عليه.
لندن
* ترجمة سماح إدريس
* جلبير الأشقر، أستاذ في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية SOAS في جامعة لندن. وقد اتفق المترجم والمؤلف على استخدام مصطلح" النزعة الإسلامية" مرادفا لـIslamism بدلا من "الإسلاموية".
- هوامش
1- سرعت حرب حزيران 1967 تحول " الماركسية الموضوعية" إلى " ماركسية ذاتية" في العالم العربي، على ما استشرف عبد الله العري عشية الحرب. انظر كتابه L idéologie arabe contemporaine ، تقديم ماكسيم رودنسون (باريس، ماسبرو،1967)
2-3- صادق جلال العظم، الاستشراق و الاستشراق معكوسا ( بيروت، دار الحداثة،1981).
4- المصدر السابق،ص 35.
5- انظر مقالاته ومقابلاته عن إيران بين عامين 1978-1979، مجموعة في كتاب:
Michel Foucault, Dits et écrits II, 1976 - 1988 (Paris: Gallimard, 2001), p. 662 - 754.
6- أسوأ مقالة لفوكو هي التي نشرتها المجلة الأسبوعية الفرنسية لونوفيل ابسيرفاتور في تشرين الأول ( أكتوبر) 1978 بعنوان " بماذا يحلم الإيرانيون؟". وعن "تهويمات" فوكو بخصوص إيران، انظر تعليق مكسيم رودنسون المر والقارص في كتابه:
L’Islam politique et croyance (Paris: Fayard, 1993), p. 301 - 327.
7 Guy Hocquenghem, Lettre ouverte à ceux qui sont passés du col Mao au Rotary (1986), Marseille, Agone, 2003,
preface by Serge Halimi
8- Olivier Roy, “Les Islamologues ont-ils inventé l’islamisme?,” Esprit, August-September 2001, pp. 116 - 136.
9- المحاججة حول الاستخدام المشروع جدا لمصطلح ومفهوم " الأصولية" (fundamentalism)، انظر مقالة العظم الممتازة:
“Islamic Fundamentalism Reconsidered: A Critical Outline of Problems, Ideas and Approaches, Part I and II,” in South
Asia Bulletin, XIII 1 & 2, 1993, pp. 93 - 121, and XIV 1, 1994, pp. 73-98.
10- إن تعبيرات من قبيل" الإسلام السياسي" و " الإسلام المقاتل" تشتركان في النقيصة ذاتها.
11- الاستخدام الأول الذي يمكن تسجيله لمصطلح " النزعة الإسلامية" (islamism) بالمعنى الجديد ورد عام 1979 في مقالة نشرت في لونوفيل اوبسرفاتور (12 آذار/مارس) بقلم حبيب بولارس، وهو قومي تونسي سبق أن كان وزيرا بين العامين 1970-1971 في حكومة أثناء عهد الحبيب بورقيبة، وعاد فشارك في وزارة جديدة في عهد زين العابدين بن علي. ولم يكن تقييمه لما يدعوه " النزعة الإسلامية" اعتذاريا بالطبع. وتم الاستخدام الأول لهذا المصطلح في مجالات الأبحاث الاستشراقية الفرنسية في مقال:
Jean-François Clément, “Pour une compréhension des mouvements islamistes,” in Esprit, January 1980, p. 30-51
وكان كليمان غير متعاطف أبدا، هو الآخر، مع المجموعات التي وصفها. وعليه، فثمة مفارقة أخرى، وهي أن تعبير" النزعة الإسلامية" نفسه، قبل أن يصبح التسمية المفضلة " للاستشراقيين المعكوسين" كان قد أطلقه أولا على الجيل الجديد من الأصوليين الإسلاميين مؤلفون يحتقرونهم. هؤلاء المؤلفون كانوا يريدون ، ببساطة، أن يشملوا بكلمة واحدة طيفا كاملا من التيارات السياسية التي ترفع لواء الإسلام وتمتد من أكثرهم تقدمية إلى أكثرهم ... أصولية/ سلفية (integriste) ( والأخير مصطلح لم يحجموا عن استخدامه).
12- Olivier Carré, La légitimation islamique des socialismes arabes. Analyse conceptuelle combinatoire des manuels scolaires égyptiens, syriens et irakiens, FNSP, Paris, 1979.
13- لمناقشة هذه المسألة انظر مقالتي:
“Religion and Politics Today from a Marxian Perspective,” in Global Flashpoints: Reactions to Imperialism and
Neoliberalism, Socialist Register 2008, Merlin Press, London, 2007, pp. 55-76.
14- Carré, “L’utopie islamiste au Moyen-Orient arabe et particulièrement en Egypte et en Syrie”
وقد نشر في كتاب حرره كاريه بعنوان:
L’Islam et l’Etat dans le monde d’aujourd’hui, PUF, Paris 1982, pp. 13-20 (Carré’s Section).
وشاركه في تأليفه ميشال سورا، رغم ان اسهام كل منهما متميز من الآخر. إذن، اعار كاريه سلطته كباحث لدعم استخدام مصطلح" النزعة الإسلامية" الذي كان مكسيم رودنسون قد جادل ضده.
15- Carré and Gérard Michaud, ed., Les Frères musulmans Egypte et Syrie (1928 - 1982), Gallimard/Julliard, Paris, 1983.
وجيرار ميشو هو اسم مستعار لميشال سورا.
16-17-18-19 –المصدر السابق، ص 205، 218،219 ، 203
20- Claire Brière, Olivier Carré, Islam: Guerre à l’Occident?, Autrement, Paris 1983.
وكانت كلير بريير، وهي صحافية فرنسية، قد اشتركت مع بيير بلانشيه (P Blanchet ) في تأليف كتاب عن الثورة الإيرانية اعتبر مفرطا في التحمس لها
©La révolution au nom de Dieu, Paris: Seuil, 1975
ويضم الكتاب مقابلة مشوقة مع ميشيل فوكو، لكنها اسهمت في ايقاعه في لحظة خزي حين بدأ النظام الايراني يظهر ملامحه السلطوية:
(Foucault, Dits et écrits II, p. 743 - 758).
21-
Carré, “L’Islam politique en Egypte,” in Brière and Carré, Islam: Guerre à l’Occident?, p. 138.
22-
Ibid., p. 172.
23-
Gilles Kepel, Le Prophète et Pharaon, Les mouvements islamistes dans l’Egypte contemporaire, La Découverte
Paris, 1984.
24-
Roy, L’Afghanistan, Islam et modernité politique, Seuil, Paris, 1985.
25-26-27-28 المصدر السابق، الصفحات 11، 12 ، 13 ، 17 ، 94
29- المصدر السابق، ص 214
30-
François Burgat, L’islamisme au Maghreb: La voix du Sud, Karthala, Paris, 1988.
31-
Burgat, “De la difficulté de nommer: intégrisme, fondamentalisme, islamisme,” Esprit, March 1988, p. 137.
32-
Burgat, L’islamisme au Maghreb, p. 80.
33- 34 : المصدر السابق، ص 68 ، 70
35- المصدر السابق، ص 71-72
36- كانت إيران آنذاك منخرطة في" حملة غير متكافئة" ( بالتعبير العسكري) ضد فرنسا انتقاما من التورط الفرنسي الكبير الداعم لبغداد في الحرب العراقية –الإيرانية.
37-
Carré, L’utopie islamique dans l’Orient arabe, FNSP, Paris, 1991 p. 16.
38-
Farhad Khosrokhavar, “Du néo-orientalisme de Badie: enjeux et méthodes,” Peuples méditerranéens, 50, January March 1990.
39-
Gilbert Achcar, The Clash of Barharisms, 2d augmented et., (London: Saqi), p. 167, no. 33.
40-
L’utopie islamique, p. 16.
41-
Carré, L’Islam laïque ou le retour à la Grande Tradition, Armand Colin, Paris, 1993.
[*]- أتبنى هنا ترجمة صديقي كمال أبوديب لـ"الارثودوكسية" وربما أفضل كلمة "سننية" (المترجم)
42-
Ibid., p. 136.
43-
Roy, L’ةchec de l’Islam politique, Paris, Seuil, 1992.
44-45-46- المصدر السابق، 39 ، 102 ، 10
47-
Roy, L’islam mondialisé, Seuil, Paris, 2002.
48-
Roy, Globalised Islam: The Search for a New Ummah (London: Hurst & Co., 2004).
49 – المصدر السابق، الصفحات 3- 34
50- 51-52-53-54-55-56-57: المصدر السابق، الصفحات، 64، 88، 1، 98، 52، 308، 48
58-
Roy, “Why Do They Hate Us? Not Because of Iraq,” New York Times, 22 July 2005.
59-
Roy, “L’Iran fait monter les enchères,” Le Monde, 21 July 2006.
60-
Roy, “We’re Winning, Despite the “War,” International Herald Tribune, 7 September 2006.
61-
Burgat, l’Islamisme en face, La Découverte, Paris, 1995; L’islamisme à l’heure d’Al-Qaida, La Découverte, Paris, 2005.
62-
Burgat, L’islamisme en face, p. 100ئ
63-
Al-’Azm, “Orientalism and Orientalism in Reverse,” Khamsin, p. 25.
64-
Maxime Rodinson, La Fascination de l’Islam, Maspero, Paris, 1980, p. 100.
يشكل العامان 1978-1979 منعطفا في الدراسات الشرقية والإسلامية لكونهما قد شهدا ثلاثة أحداث بارزة. و أقصد بذلك أحداثا حصلت على مستويين مختلفين تماما، ومن ثم لا تمكن مقارنتهما، وإن كانت جميعها قد أثرت تأثيرا قويا في الحقل الأكاديمي. الحدثان الأولان حصلا على مستوى التاريخ العام. الأول هو إسقاط نظام الشاه في شباط ( فبراير) 1979، وتأسيس "الجمهورية الإسلامية" في إيران بعيد ذلك. والثاني هو نشوء انتفاضة إسلامية مسلحة، في العام نفسه، ضد الديكتاتورية "اليسارية" في أفغانستان، الأمر الذي أدى إلى اجتياح سوفياتي للبلاد في كانون الأول (ديسمبر) 1979. أما الحدث الثالث، الذي يقع على مستوى التاريخ الثقافي، فهو صدور كتاب إدوارد سعيد، الاستشراق، عام 1978.
ثم إن هذه الأحداث وقعت حين كانت الماركسية- التي سبق قبل عشر سنوات من ذلك أن اجتذبت قسما كبيرا من شباب العالم وأصبحت الحامل الأبرز لقيم التنوير والحداثة في العالم الإسلامي- (1) تواجه هجوما إيديولوجيا مضادا كبيرا راكم زخمه في أواخر السبعينيات من القرن العشرين. وكانت فرنسا هي أحد المواقع الأساسية لهذه الردة، حيث رمز لقب جديد إلى مجموعة من المثقفين المدعوين " الفلاسفة الجدد" (nouveaux philosophes ) ، وكثير منهم يساريون جذريون سابقون، وماويون بشكل خاص، انقلبوا على قناعاتهم السابقة وغدوا معادين للماركسية. و الحق أن هؤلاء الماركسيين السابقين المتحولين اظهروا حماسا وحسما لإيمانهم الجديد يساويان ما كان لديهم تجاه الماركسية، الأمر الذي خلق لدى وسائل الإعلام إثارة كبيرة. وكان هناك أيضا رافد لذلك الهجوم الإيديولوجي المعادي للماركسية، أكثر صقلا وتركيبا، ومن ثم أكثر هولا، وإن نبع في الغالب من مرتكزات يسارية، وقد تمثل هذا الرافد في انتقادات كتلك التي وجهها ميشيل فوكو، وبلغت نموذجها الأعلى في الإطلاق البالغ النجاح لما بعد الحداثة الفلسفية مع نشر بيان جان فرانسوا ليوتار عام 1979.
الأحداث الثلاثة التي ذكرتها في البداية التحمت بشكل لافت مع الردة المعادية للشيوعية. الثورة الإسلامية الإيرانية أشرت على العودة الهائلة، والثأرية، لـ"أفيون الشعوب" ذاك الذي كانت الماركسية اليقينية قد أقصته إلى المتحف قبل الأوان بزمن طويل. والغزو السوفياتي لأفغانستان أثر في الموقف الإيديولوجي لموسكو، قبلة " الشيوعية" بالقوة والسلبية نفسيهما تقريبا اللتين تأثرت بهما واشنطن بسبب غزوها لفيتنام. وكتاب إدوارد سعيد الأشهر، الاستشراق، نفى كارل ماركس نفسه، وبلا أدنى عطف، إلى قاعة الخزي والعار، قاعة "الاستشراق" الغربي التمركز- وهو ما اعتبره أمرا غير منصف عدد من النقاد الذين تبنوا، رغم ذلك الاعتبار، أطروحة الاستشراق المركزية.
"الاستشراق معكوسا"
كان إحدى أدهى نقاد إدوارد سعيد المفكر السوري الراديكالي المعروف صادق جلال العظم. والنسخة الانجليزية لمقالته "الاستشراق و الاستشراق معكوسا" الصادرة عام 1981 ما لبثت ان توسعت لتغدو في العام نفسه كتيبا بالعنوان نفسه. (2)
بنى العظم على ما أسماه واحدا من أبرز انجازات كتاب سعيد وأكثرها لفتا للانتباه، ألا وهو تعريته لإيمان الاستشراق الراسخ بوجود خلاف أونطولوجي جذري بين طبيعة الشرق وطبيعة الغرب. (3) وأشار، في المقابل، إلى وجود " استشراق معكوس" في الفكر العربي، ويتجسد في فئتين. الأولى، وقد سبق لسعيد نفسه أن عرف بها، تعيد إنتاج القطيعة الجوهرانية الاستشراقية، ولكن بتقييمات مقلوبة، بحيث يعتبر الشرق أو " العقل العربي" ( لأن المعنيين كانوا قوميين عربا في الأساس) متفوقا على الغرب. أما الفئة الثانية، وكانت آنذاك ظاهرة جديدة في البلدان العربية، وهي التي ستكون محط اهتمامنا هنا، فقد وصفها العظم كالتالي:
"... النموذج الديني السلفي المتجدد الذي تبلور ولاقى رواجا تحت تأثير الانجازات الكبيرة للثورة الإيرانية. يستمد هذا الاتجاه ابرز دعاته والمدافعين عنه من أوساط اليسار عموما: شيوعيين سابقين، راديكاليين متعبين، ماركسيين شعبويين، قوميين خابت آمالهم... وبالإمكان تلخيص أطروحتهم الأساسية على النحو التالي: لا يكمن الخلاص الوطني الذي ظل العرب يبحثون عنه منذ الحملة النابليونية على مصر في القومية العلمانية- بإشكالها الراديكالية أو الليبرالية أو المحافظة. كما أنه لا يكمن في الشيوعية أو الاشتراكية الثورية أو ما شابه ذلك من النظم والدعوات، بل في العودة إلى الأصالة الإسلامية، وبخاصة كما تتجلى في الإسلام الشعبي المسيس."(4)
ومضى العظم في كتابه، معززا حججه بكثير من الاقتباسات، ليصف ( ولينتقد بحدة) المعالم الرئيسية في هذه الحالة. وإذ أحتفظ بمفهوم صادق جلال العظم عن " الاستشراق المعكوس" فإنني أود ان ادمج الملامح المحددة لهذا النموذج، والتي يمكن أن تتخطى حوض المثقفين العرب الذين تفحصهم العظم، في المبادئ الستة التالية:
1- الشرق الإسلامي والغرب نقيضان. وليس الأمر، أو لا يقتصر فقط على أن الشعوب الشرقية تواجه الامبريالية الغربية، بل إن الإيديولوجيات الغربية ككل، بما فيها أكثرها نقدية كالماركسية، ليست ملائمة لهذه الشعوب.
2- إن مدى انبعاث الشرق ينبغي ألا يقاس، بل لا يمكن أن يقاس، بالمعايير والقيم الغربية، كالديمقراطية والعلمانية وتحرر المرأة.
3- إن الشرق الإسلامي لا يمكن فهمه بالأدوات المعرفية الخاصة بالعلوم الاجتماعية الغربية. وليس ثمة قياس بالظواهر الغربية يمكن أن يكون ذا صلة [ بالشرق الإسلامي].
4- إن المحرك الأساسي في التاريخ الإسلامي، أي العامل الأول لتحريك الجماهير المسلمة، ثقافي، أي ديني. وهو يتقدم على العوامل الاقتصادية والاجتماعية/ الطبقية التي تحدد الدناميات السياسية الغربية.
5- إن السبيل الوحيد للبلاد المسلمة نحو النهضة هو من خلال الإسلام. وبعبارة مستعارة من الكنيسة الكاثوليكية، مع شيء من التكييف،فإنه "لا خلاص خارج الإسلام".
6- إن الحركات التي ترفع لواء " العودة إلى الإسلام" ليست حركات رجعية ارتكاسية على ما تراه العدسات الغربية، وإنما هي في الحقيقة حركات تقدمية دفعتها إلى الوجود الهيمنة الثقافية الغربية.
هذا النسق من "الاستشراق المعكوس" كان في الواقع واسع الانتشار في أعقاب أحداث العامين 1978-1979. وقد تمدد بعيدا جدا عن أوساط المثقفين العرب والمسلمين بالولادة ليبلغ قلب بلاد الاستشراق الكلاسيكي. وهو بارز بشكل خاص في المشهد الاستشراقي الفرنسي، على ما سأحاول إثباته الآن.
فالواقع أن أشهر المفكرين اليساريين الذي خضعوا لإغواء " الثورة الإسلامية" لم يكن مسلما ولا من الشرق الأوسط، بل لم يكن إلا ميشيل فوكو في مرحلة معروفة من عمره. (5) على أنه ينبغي القول إن تحليلات فوكو لتطورات الثورة الإيرانية، وبقراءة استرجاعية، لافتة بشكل كبير بسبب توقدها الذهني العظيم إزاء الديناميات الاجتماعية والسياسية للعملية الثورية- وهو انجاز تزداد روعته في النفوس حين نعلم ان تلك الموضوعة لم تكن ضمن مجال خبرة فوكو بالتأكيد. ومع ذلك، يبقى أن فوكو كان مفتونا بما اعتبره بحثا عن " الروحانية" وخلط ما بين ما سمعه من الليبرالي نسبيا آية الله محمد كاظم شريعتمداي- الذي تحول لاحقا إلى خصم شرس لآية الله الخميني- وبين حقيقة الحركة [ الخمينية]. وهذا ما دفع فوكو إلى أن يعلن، وبسذاجة، أن المرتكزات الأساسية للديمقراطية يمكن العثور عليها في الإسلام الشيعي، وأن ذلك هو ما يعنيه فعلا برنامج "الحكومة الإسلامية" (6)
غير أن فوكو لم يكن مستشرقا محترفا. وقد دافع عن نفسه غير تواب، مبررا حماسه لثورة الجماهير الإيرانية، ومؤكدا ان حكومة الملالي، التي كان اشمأز منها، لم تكن محصلتها المقدرة [ بالضرورة] سلفا ولا تنزع الشرعية- بشكل استرجاعي- عن الدعم الذي كانت الحركة الشعبية الإيرانية تستحقه فعلا. كان فوكو يعلم جيدا ان المثقفين الفرنسيين هم أكثر المثقفين في العالم احتمالا لأن يتسامحوا إزاء "التجاوزات" القمعية للثورات، وذلك لسبب واضح يتعلق بتاريخ بلادهم، وبالعبادة الرسمية للثورة الفرنسية، بما في ذلك اليعاقبة- وهي عبادة كانت أشهر من تعرض لها، بالمناسبة، في سياق الردة المعادية للماركسية، فرانسوا فوريه (François Furet), ولذلك لم يشعر فوكو بأن عليه أن يعتذر [ عن خطأه في تقييم الثورة الإيرانية]، لكنه لم يسع أبدا إلى الدوس من جديد على مثل هذه الدرب غير المألوفة. ولقد ذكرت فوكو هنا فقط لأن ذلك الفصل الخاص به كان مثالا دالا على اتجاه أعرض.
الاستشراق الفرنسي بعد عام 1979
أهدف هنا إلى وضع رسم تخطيطي عام لتطور و تمعجات تلك المجموعة من المستشرقين الفرنسيين ما بعد العام 1979 الذين خضعوا لـ"الاستشراق المعكوس" وأعني هنا بالرسم التخطيطي العام أنني سأتناول أبرز شخصيات تلك المجموعة فحسب، وسأقتصر على أهم منشوراتهم في موضوع الإسلام، ويتضح من طبيعة النقطة التي أنطلق منها- أي نقد صادق جلال العظم للاستشراقيين العرب "المعكوسين"- أن النموذج ابعد من ان ينحصر في الباحثين الفرنسيين أو الغربيين أنفسهم. وعليه، فإنه ينبغي أن يكون واضحا أنني لا أقصد أن أرد على "المستشرقين المعكوسين" الفرنسيين أو الغربيين حججهم نفسها حول عجز العقول الغربية على فهم العقلية المسلمة. ولأوضح أخيرا أيضا، ومنذ البدء، أن الاستشراق الكلاسيكي، بالمعنى الذي بسطه إدوارد سعيد أمام الجمهور، أبعد من أن يكون منقرضا من الدراسات الإسلامية الفرنسية، ناهيكم بالمشهد "الثقافي" العام، بل هو في الواقع أقوى من أي وقت مضى. والحق أن ثمة تنقلات [انزياحات] بين النموذجين [الاستشراقي الكلاسيكي و الاستشراقي المعكوس]، على نحو ما قد يتوقع المرء حصوله في عالم الانتلجنسيا المتقلب، وعلى نحو ما سأبين. وأن أكرس هذه المقالة لـ"الاستشراق المعكوس" لا يعني أنه همي الأساس (فهو ليس كذلك بالتأكيد)، غير ان معارضتي للاستشراق الكلاسيكي وللامبريالية الغربية لا تدفعني إلى "التغطية" على ما اعتبره طرقا مضللة تذهب في الاتجاه المعاكس.
فلأحدد أولا، من الناحية السوسيولوجية، موقع جيل الباحثين الفرنسيين ما بعد العام 1979 في حقل الدراسات الإسلامية. هؤلاء نضجوا في الحقبة التي تلت عام 1968، وكثير منهم (شأن كثيرين آخرين من جيلهم) وسموا في شبابهم، إلى هذا الحد أو ذاك، بالولاء الملتزم لأفكار اليسار الراديكالي. بعضهم، ككثيرين آخرين أيضا، هجروا ما سوف يعتبرونه في النهاية نوعا من أمراض البلوغ (puberty )، وانتقل عدد منهم من "طوق ماو إلى نادي روتاري"، إن كان لنا أن نستعير العنوان المجازي لكتيب شهير نشره الناشط الفرنسي الراديكالي اليساري المثلي غي هوكنغم علم 1986، قبل عامين من موته المبكر.(7) هذا الجيل طور نشاطه البحثي في الفترة التي أعقبت "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979، وهي فترة شهدت جيشانا في الأصولية الإسلامية المعادية للغرب وارتقاء بها إلى أن تصبح أحد أبرز هموم القوى الغربية- وكانت فرنسا من بين أكثرها تأثرا مباشرا بتلك الأصولية.
ثلاثة ملامح أساسية تسم مجموعة الباحثين تلك، في حقل الدراسات الإسلامية ما بعد سنة 1968. وهذه الملامح قام بتحليلها تحليلا استبطانيا واحد من أبرز أعضاء تلك المجموعة، وهو أوليفييه روى (0 Roy ) في سجال جريء قبل سبع سنوات حول الدراسات الإسلامية الفرنسية. (8) الملمح الأول هو أن معظم أفراد جيل ما بعد 1968/ما بعد 1979 ينتمون إلى حقلي العلوم السياسية أو علم الاجتماع السياسي، في حين كان الجيل السابق ما يزال متجذرا أساسا في المناهج التقليدية المتعلقة بالدراسات الاستشراقية كالتاريخ و الاثنولوجيا ( علم الأعراق البشرية) أو الفيلولوجيا ( فقه اللغة). و معظمهم تناولوا الحركات الإسلامية السياسية الراديكالية بوصفها الشعار الواضح للمرحلة، وهو ما يؤشر على علاقة واضحة بتخصصهم في المجال السياسي.
في هذه الأثناء كانت الأكاديمية الفرنسية في السنوات التي أعقبت العام 1986 تشهد تدهورا حادا في مكانة أفرادها ودخلهم النسبي. وعليه، كما شرح أوليفييه روى بتعبير ملطف، كان أمام باحثي الجيل الجديد آنذاك حافز قوي على البحث عن مصادر دخل إضافية. وأحد المصادر- وهو الذي يشكل الملمح الثاني (الذي لا يشمل الجميع طبعا ولكنه كان من السعة بحيث يمكن عده ملمحا أساسيا)- هو أن يصبح الباحث "مستشارا" لمؤسسات الشؤون الخارجية والدفاع. ومثل هذه الفرص لم يكن، بالنسبة إلى ابرز "خبراء" هذه المجموعة، مقتصرا على فرنسا. أما احد المصادر البديلة الأخرى فكان العمل عبر وسائل الإعلام، سواء على شكل مكافآت شرفية مباشرة يتقاضاها هؤلاء الباحثون لقاء "خبرتهم" أو كوسيلة لزيادة مبيعات كتبهم. وهكذا، فإن الظهور المكثف في وسائل الإعلام (intensive médiatisation) هو الملمح الميز الثالث لباحثي اليوم [ من الفرنسيين] في شؤون الإسلام والعالم العربي. وبالإمكان تعميم هذا النموذج، فنقول إن ملامح شبيهة تسم حقل الدراسات الإسلامية اليوم في كل البلدان الغربية.
على أن الملمحين الأخيرين- أي الميل إلى بيع الخبرة إلى المؤسسات الحكومية، والظهور المكثف في وسائل الإعلام- لم يطاولا كل عضو في مجموعة مثقفي ما بعد سنة 1979 في الفترة نفسها. فبعضهم قاوم الإغراء مدة من الزمن، وأحيانا إلى الأبد. وهذا ما يفسر الاختلاف المتزايد عبر السنين ضمن مجموعة "المستشرقين المعكوسين" على ما سأبين.
الاستشراق الفرنسي معكوسا
حرص الباحثون في الدراسات الإسلامية [الفرنسية] بعد العام 1979 على مواجهة ما اعتبر عداوة " استشراقية" مسبقة مصوبة إلى الثورة الإيرانية بسبب إيديولوجيتها الإسلامية وقيادتها الإسلامية، وعلى مواجهة ما اعتبروه عداوة " شيوعية" مسبقة مصوبة إلى "المجاهدين" الأفغان لأسباب مماثلة ولتبرير الاجتياح السوفياتي لأفغانستان. وقد مال أولئك الباحثون إلى رفض التصورات القدحية المعطاة للأصولية الإسلامية الناهضة التي اكتسبت زخما لافتا بتأثير من الثورة الإيرانية نفسها. وأدى ذلك بهم إلى رفض تسمية "الأصولية" (fundamentalism) ذاتها، وإلى رفض معادلها الفرنسي (intégrisme)، بذريعة أن هاتين التسميتين تتعلقان بالمسيحية: أي البروتستانتية في الحالة الأولى، وبالكاثوليكية في الحالة الثانية. ولم يهم أن التسميتين اكتسبتا منذ ولادتهما معنى أوسع بكثير، وأنهما باتتا تدلان فعلا على مجموعة تنطبق انطباقا كاملا على نمط إسلامي من الاستخدام الديني المماثل.(9) وحجتهم الأكثر إذهالا- بالنسبة إلى العلماء الاجتماعيين- هي ان الحركات المعنية تسمي نفسها "حركات إسلامية" بدلا من "مسلمة"! وبعبارات أخرى، فان المستشرقين الفرنسيين ما بعد 1979 تبنوا، إلى حد ما، وبلا دراية، ادعاء "الإسلاميين" المزعومين بالملكية الحصرية للتأويل الجهادي للإسلام.(10)
المفارقة المدهشة هي أن هؤلاء الباحثين الفرنسيين الجدد في الدراسات الإسلامية، إذا راعوا ألا يتعرضوا للجشب المخزي بأنهم جزء من "الاستشراق" بالمعنى التحقيري للكلمة، تبنوا منطقا نموذجيا في " استشراقيته" حين اعتبروا أن الأصولية الإسلامية لا يمكن اختزالها في أي تصنيف ذي منبع غربي. وهكذا انتهوا إلى تسمية الظاهرة [الأصولية] بـ"النزعة الإسلامية" (islamisme)، فحصروها بظاهرة خاصة بالإسلام، وذلك ضمن منطق "استشراقي" [كلاسيكي] بامتياز. إذن، حرصا على تجنب مصطلحي "الأصولية" بالانجليزية (fundamementalism) وبالفرنسية (intégrisme) لأنهما، على ما قالوا، مثقلان بالدلالة التحقيرية ( والحق أنها تحقيرية في عين العلمانيين وحدهم، ليبراليين أو راديكاليين)، فإنهم خلصوا إلى استخدام مصطلح يصف الدين الإسلامي ذاته، على ما تشهد بذلك المعجمات كلها [حيث تعبير islamisme مرادفا لـ Islam في الأصل]. وهم من خلال تقديم تشريع أكاديمي لاستخدام مصطلح " النزعة الإسلامية" لوصف حركات إسلامية مختلفة تحيل على الإسلام – وكثير منها عنيف ومتعصب- قد أسهموا، إذن، في الخلط الذي تعززه وسائل الإعلام غير المدققة، بين الدين الإسلامي بوجه عام وبعض الاستخدامات الخاصة والمقيتة له.(11)
أحد المؤثرين الأساسيين في صياغة النموذج الجديد المذكور باحث شكل – من الناحية الجيلية والثقافية والعلماجتماعية- جسرا بين المجموعة السابقة من المختصين الفرنسيين بالعالم الإسلامي( وكثيرون منهم ذوو ثقافة واسعة حقا) والمجموعة الجديدة الخاوية بشكل عام، وللأسباب الوجودية السابق ذكرها، التي ليس أقلها الخراب الذي سببته وسائل الإعلام [ راجع الملمح الثالث أعلاه]. هذا الباحث، عالم الاجتماع السياسي أوليفييه كاريه (Olivier Carré)، نشر عام 1979
بحثا عن كيفية استخدام القومية العربية(التي كانت محط اهتمامه الأبرز آنذاك) للتأويلات التقدمية للإسلام من أجل شرعنه ذاتها. (12) وإحدى الفرضيات الأساسية في كتابه هي أن انبثاق إسلام عربي تقدمي مميز في المستقبل أمر محتمل جدا – وهذه نظرة اتفق معها كموقف عام- وأن ذلك الانبثاق كان يجري على قدم وساق فعلا. وهو تقدير كان في زمنه أكثر مدعاة للسجال بالتأكيد، ولكن التاريخ في رأيي نسخه وأبطله منذ ذلك الزمن. (13)
وكان كاريه مهيأ قبليا لطمس التمايزات بين القومية العربية والأصولية الإسلامية . ففي العام 1982 شدد على الشبه بين ما بدأ آنذاك يسميه" النزعة الإسلامية" والقومية العربية، وهو شبه عززه في رأيه العقيد معمر القذافي- الذي هو كائن مولد من الاثنين كما بدا آنذاك. (14) غير أن مثل هذا الشبه لا يمكن الركون إليه إلا إذا نظر المرء إلى المسالة من زاوية تحليل الخطابات [لا الأفعال]، وهو ما كان كاريه يقوم به بشكل رئيس. فالحق أن القوميين احتاجوا( وهذا أمر طبيعي) أن يمنعوا خصومهم من السطو على الإسلام، في حين احتاج الأصوليون- ولا سيما في الستينات ، وهي حقبة "الاشتراكية العربية"- إلى إقناع الجماهير أن إسلامهم كان هو أيضا "اشتراكيا" على نحو ما، واحتاجوا من ثم إلى دحض التهمة بأنهم ينوون إعادة الطبقات الغنية القديمة إلى السلطة.
ومضى كاريه أبعد من ذلك في كتاب آخر نشر عام 1983، وهو في الأساس مجموعة من نصوص لفروع مصرية وسورية من الإخوان المسلمين، وقام بتحريره بالتعاون مع ميشال سورا(M Seurat). في هذا الكتاب بدأ ميزان التعاطف يميل نحو " الإسلاميين" على حساب القوميين الذي سماهم " توتاليتاريين" .(15) وفي عبارات تمثل" الاستشراق المعكوس" تمثيلا نموذجيا، راح كاريه الآن يصف " الإسلام السياسي" بأنه " الثقافة السياسية للعالم الإسلامي الذي يحاول أن يعبر عن نفسه أخيرا" بعد أن كُتم صوته تباعا من قبل الكولونيالية وأنظمة ما بعد الاستقلال (16)، وبأنه "الشكل الحديث المحتقر من أشكال الثقافة الشعبية العريقة في القدم"،(17) وبأنه "حقيقة دائمة دواما لافتا، في أهدافها ووسائلها، منذ فجر الاقتحام الصناعي الأوربي للعالم العربي" وهي نظرة تتلازم مع إيمان كاريه بأن " التدين ظاهرة دائمة وجوهرية في المجتمعات العربية".(18)
تُرى، هل كان سورا يقصد التحذير من انجراف شريكه في التأليف حين كتب [ أي سورا] في كتابهما المشترك:" على المرء ألا يقلب، ببساطة ونقاء، هذا الرسم البياني [لطبيعة الإخوان المسلمين الرجعية] إلى حد اعتبار الإخوان المسلمين رواد التحديث"(19). فالواقع هو أن كاريه فعل ذلك بالضبط ، وبتشديد كبير، في كتاب آخر نشر في العام نفسه،(20) وفيه أنهى تقديم مساهمته بالعبارات المتخيلة التالية لـ"إسلامي" من نسج الخيال:"الرجعية، الأصولية، الظلامية، حكم العلماء، العصور الوسطى! فلنكن جديين، يرد الناشط الإسلامي بعينين براقتين. ان التقدمية الحقيقية الوحيدة هي الخيار الإسلامي. التحديث الحقيقي الوحيد هو التحديث الأصلاني، المتجذر في ثقافتنا الشعبية، التي هي إسلامية حتى الأظافر". (21)
عبارات شبيهة وردت في كتاب كاريه نفسه من دون استخدام دمية إسلامية. فقد كتب أن التيار"الإسلامي" يحشد من أجل تطبيق، سبق أن بوشر به، لـ"التحديث الاصلاني" على الصعيد المحلي، وذلك في انسجام مباشر مع لغة الثقافة الشعبية" التي هي " إسلامية في الأساس والجوهر." (22) هذه العبارات تتضمن ثيمتين ستصبحان، عند جمعهما الواحدة إلى الأخرى، من مميزات النسخة الفرنسية للنموذج"الاستشراقي المعكوس": أن "الإسلامية" عامل تحديث، وأن الدين الإسلامي هو اللغة والثقافة الأساسيتان للشعوب المسلمة.
سنة 1984 ظهر معلم أساسي في تاريخ الاستشراق الفرنسي ما بعد 1979، وتمثل في نشر كتاب جيل كيبل عن المجموعات الأصولية الراديكالية في مصر ما بعد عبد الناصر.(23) لم يعتنق كيبل "الاستشراق المعكوس" حقا في أية لحظة، لكنه وقف في منتصف الطريق بينه وبين الاستشراق التقليدي [الكلاسيكي]. وهو تباهى بتقديم لكتابه الأول كتبه برنارد لويس (لا غيره!)، الذي هو أحد ابرز الأهداف التي صوب ادوارد سعيد سهامه إليها. وإذا تبنى كيبل نبرة محايدة نسبيا في وصف الأصوليين الراديكاليين المصريين، فقد أسهم في تثبيت لقب " إسلامي" وذلك عبر محاججة قدمها في خلاصة الكتاب وتخدم هذا الاتجاه. وكان موقفه المحايد من الارتياح بمكان بحيث انه تناول في الأساس أكثر الحالات المتطرفة في الأصولية تعصبا وعنفا.
ومن جهة أخرى أصبح كيبل، بسرعة، التمثيل الأكثر فقاعة على كل ملامح الجيل الجديد كما وصف أعلاه ( بما في ذلك المسار الذي ابتدأ من أقصى اليسار). فكتابه أظهر نسقا سيسم كل إنتاجه الغزير اللاحق: ثروة من المعلومات المفيدة ( التي سهلت الحصول عليها حظوة كيبل بالوصول إلى الوثائق الرسمية، مترافقة مع تنظير محدود يزداد سطحية كتابا إثر كتاب. لقد أصبح كيبل نجما لوسائل الإعلام، ومستشارا أيضا للحكومات الغربية وغير الغربية في قتالها ضد الأصولية الإسلامية الراديكالية. كما لعب في النهاية دورا ناشطا في الدفاع عن حظر الحجاب في المدارس الفرنسية.
بعد عام من صدور كتاب كيبل عن مصر، ظهر معلم آخر من معالم الاستشراقيين الفرنسيين ما بعد 1979، ولكنه أيضا في هذه الحالة إسهام صريح في نسق "الاستشراق المعكوس." إنه كتاب أوليفييه روَى عن أفغانستان.(24) فلقد أظهر روى، وهو ماوي سابق، تعاطفه المكشوف مع الحركات الإسلامية الأفغانية، وعداوة لمن يسميهم "الشيوعيين." وعلى الرغم من ظهوره وكأنه راعى تحذيرا في تقديم كتابه،(25)فان ما قام به فعلا هو توسيع وتضخيم تمجيد كاريه للأصولية الإسلامية إلى مرتبة غدت معها حاملة للحداثة.
قدم روَى تمييزا بين "الإسلامية" وما سماه " الأصولية" (fondamentalisme ) ، مستخدما النسخة المفرنسة للمصطلح الانكليزي (fundamentalism ) بدلا من لفظ intégrisme الذي استعمله الفرنسيون اليساريون حين وصفوا " المجاهدين" الأفغان بالقوى الرجعية وبالمعادل الأفغاني للقوى المعادية للثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر. فبحسب معجم روَى يحمل مصطلح " الأصولية" معناه المألوف : إنه الدعوة إلى الرجوع إلى القرآن والالتزام الدقيق بالشريعة. لكنه قارن الأصولية الإسلامية بالإصلاح البروتستانتي، بدلا من ان يقارنه بالأصولية البروتستانتية. و أوضح أن " الإسلامية" هي " الأصولية" حين تحولت محاربة ومعارضة، وبخاصة في سياق مديني أو في مجتمعات تم "تحديثها" بوحشية. (26)
وبعد أن شدد روَى على "حداثة الإسلام"(27) شرح أن "الإسلاميين" الأفغان – بتأثير من الإخوان المسلمين في مصر- كانوا يسعون إلى " تطوير إيديولوجية سياسية حديثة مستندة إلى الإسلام الذي يعتبرونه السبيل الوحيد للتصالح مع العالم الحديث" (28) وتابع يقول " إن الغرب (الليبرالي والماركسي معا) يحاول أن يطرد إلى عالم المهجور، والإقطاع، والعصور الوسطى، و الظلامية، أفكارا هي في الحقيقة من نتاجات الحداثة."(29) كما أن " العودة المنهجية إلى الشريعة" يحسب روَى " تخلق الظروف [ الملائمة] لبداية شكل معين من الحداثة، السياسية في الحد الأقل،" وذلك بالسماح للدين- كعامل توحيدي- بإبطال التجزئة التقليدية للمجتمع الأفغاني. فإذا
وضعنا جانيا ان تصور روَى "للإسلاميين" بأنهم يسعون فوق أشكال التجزئة المختلفة لمجتمعهم كان محض وهم، فإن ذلك نوع من " التحديث" قديم قدم انبثاق الأديان نفسها، وقد سبق لابن خلدون أن وصفه قبل ستمائة عام بعبارات مماثلة.
المعلم الثالث للاستشراق الفرنسي ما بعد 1979، و به تكتمل اختياراتي للرموز البارزة من هذه المجموعة، كان نشر كتاب فرانسوا بورغا (F . Burgat) عن المغرب عام 1988.(30) و بورغا أكثر المستشرقين الفرنسيين المشهورين بعد عام 1979 حماسا لاعتناق "الاستشراق المعكوس." وإذا بنى بورغا عمله بشكل مباشر على عمل كاريه، وقد وصفه بأنه " أحد أساتذة التفكير في الإسلام السياسي، الذين لا خلاف عليهم،" (31) فإن نظرته يمكن اختصارها في الاقتباس التالي:
" تعبيرا عن استعادة الميزان الثقافي الناجم عن الانسحاب الاضطراري للغرب- وهو انسحاب بدأ على الصعيد السياسي بإزالة الاستعمار وتحقق الاستقلال، واستمر على الصعيد الاقتصادي من خلال التأميمات- فان عملية فك الارتباط [ بالغرب] تتمظهر اليوم ثقافيا من خلال النزعة الإسلامية. إن هذه النزعة ، بسماحها لمن خضعوا للسيطرة في الماضي بتأكيد هويتهم في مواجهة الغرب من دون اللجوء تحديدا إلى اللغة التي فرضها هذا الغرب من كابول إلى مراكش، إنما تسهم في تحقيق الحاجة نفسها إلى العودة إلى الجذور الثقافية." (32)
إن المرتكزين الأساسين "للاستشراق المعكوس" كما صاغه كاريه – وهما القول بأن "النزعة الإسلامية" عامل تحديث وبأن دين الإسلام هو اللغة والثقافة اللازمتان للشعوب المسلمة- وجدا تعبيرهما الأقصى في عمل بورغا. وقد امتزجا بفكرة ثالثة، ملهمة من كاريه أيضا، وهي الاستمرارية ( بدلا من الانقطاع) ما بين القومية و "الإسلامية" ، وهي استمرارية صارت مع بورغا استمرارية بين اللحظة القومية التاريخية وانبعاث الأصولية الإسلامية، وهكذا كتب يقول:"إن النزعة الإسلامية، لكونها استجابة تحديثية لمشاكل الحداثة، تعبر، إذن، عن حاجة إلى الاستمرار، بدلا من القطع."(33)
ويرمز بورغا على فكرة الاستمرار باستخدام مجاز، وهو عبارة عن صاروخ يعبر مراحل ثلاثا قبل التخلص النهائي من الاستعمار: المرحلة الأولى سياسية (الاستقلال)، والثانية اقتصادية (التأميمات)، والثالثة – وتمثلها "النزعة الإسلامية-" ثقافية/ إيديولوجية. إلا ان هذا المجاز يتجاهل تجاهلا تاما أن ما يسمى " النزعة الإسلامية" – في ما كان في حقيقة الأمر انبعاثا لها بعد طول تهميش – تزامنت مع تراجع هائل في الاستقلالين السياسي والاقتصادي. فالسبعينيات من القرن العشرين شهدت إعادة تثبيت ضخمة للهيمنة الأمريكية على العالم الإسلامي، وردة نيوليبرالية على مستوى العالم، وأفضل تمثيل على ذلك هو الارتداد عن الناصرية في مصر في ظل حكم أنور السادات. و إذا استخدمنا مجاز بورغا، فإنه لم يخطر في باله أن المرحلة الثالثة في رحلة الصاروخ قد تم تفعيلها في الواقع في حقبة انحدار – أي أن انتشار الأصولية الإسلامية كان احد التعبيرات عن انتكاسة مريعة وارتداد متعدد الوجوه في تاريخ التخلص من الاستعمار في الشرق.
الافتراض المسبق الأساس الذي ترتكز عليه نظرة كاريه وبورغا هو اعتبار النزعة الإسلامية مجرد خطاب، أو تحديثا يعبر عنه بلغة مختلفة [ عن المألوف]: ففي حين استعيرت لغة القوميين من الغرب، فان لغة "الإسلاميين" ( في رأي كاريه وبورغا) كما يبدو " أصلانية" [بلدية] بحسب مصطلح كاريه. والنتيجة النهائية لهذا الإدراك، كما خطه كاريه، هو اختزال "النزعة الإسلامية" إلى مجرد نمط من أنماط التعبير- " كلام مسلم" (Le Parler Musulman ) على ما سيسميه لاحقا- لبرنامج هو في الأساس مثل برنامج القومية/ فلنقتبس منه مجددا:
" النزعة الإسلامية، إذن لغة أكثر منها عقيدة، إنها طريقة لتمثيل الحقيقة لا ترضى بأن تستعير مما فرضه المسيطرون... وبشيء من المبالغة يستطيع المرء أن يفك النزعة الإسلامية من الدين، بحيث لا يرى في ذلك اللجوء إلى مفردات الإسلام من أجل التعبير عن برنامج سياسي بديل إلا اللوجستيات الإيديولوجية للاستقلال السياسي، أو الاستمرار الثقافي للقطائع الناجمة عن إزالة الاستعمار." (34)
أحد الأبعاد المشوقة في عمل بورغا هو اشتماله على تسجيلات خطية لأحاديث وحوارات أخرى أجريت بينه وبين رموز بارزة من المشهد "الإسلامي." ويحدث أن هذه التسجيلات أحيانا أكثر إضاءة من تفسيراته نفسها. وهكذا كان أوضح دحض لأفكاره هو ما جاء على لسان الشيخ عبد السلام ياسين، الأصولي الإسلامي المغربي الشهير ومؤسس " جماعة العدل والإحسان." فقد أخبر بورغا بما يلي:"
" انتم [و أعني] المراقبين من الخارج، حين تقرأون أدبيات الإسلاميين... حين تحللون خطابهم، لا تدركون إلا رأس جبل الجليد... وهو إدانة السيطرة الثقافية الغربية... وإدانة الحكم السيئ، ووجود هذا الظلم الاجتماعي... في مقالاتكم أقرأ تحليل غربي خاص يتعاطف مع الحركة الإسلامية... والحق... أنكم تتعاطفون مع الإسلام فعلا. ولكن هذا المجال الروحاني يبقى، بالنسبة إليكم، كتيما مغلقا بشكل إرادي. وأنتم لا تريدون أن تروه، لا تريدون أن تنظروا إليه. والحق أنني أرى عيب أولئك المثقفين الذين يركزون تركيزا كبيرا على وجهة نظرهم من دون أن يأخذوا في الاعتبار وجهة نظر الآخرين." (35)
تمعجات "الاستشراق [ الفرنسي] المعكوس"
فلأقدم الآن رسما تخطيطيا موجزا للتطور اللاحق الذي شهده الاستشراق الفرنسي"المقلوب". فلقد تأثر جيل المختصين الفرنسيين بالعالم الإسلامي بعد 1979 بحدث تراجيدي كبير: إنه قتل ميشيل سورا، أو موته أثناء الاعتقال، عام 1986، وذلك بعد خطفه في لبنان قبل عام على يد مجموعة تطلق على نفسها "الجهاد الإسلامي" وأشتبه في أنها واجهة أو غطاء لحزب الله وأنها تعمل لحساب إيران.(36)كانت تلك صدمة كاسحة للوسط الاستشراقي الفرنسي، وبشكل خاص لأوليفييه كاريه الذي سبق أن تعاون معه سورا بشكل وثيق. وتبعا لذلك اسودت صورة إيران في عيون أولئك المستشرقين بشكل كبير، ومثلها اسود مفهوم "النزعة الإسلامية" لدى معظمهم.
يعرض كاريه في تقديمه لأول كتاب نشره بعد موت سورا المأساوي – وهو كتاب يتضمن مجموعة من المقالات وصدر عام 1991- تقييما مختلفا جدا لما يسمى "النزعة الإسلامية" في ضوء التجربة الإيرانية:" ان المثال الإيراني، لا سيما منذ العام 1981، يقوض من صدقية "البديل الإسلامي... والمثال التراجيدي لما حدث لميشيل سورا، الذي عملت معه، ومنه استقي الإلهام، يؤكد بشكل لافت، ويا للأسف، اللعبة العدائية التي تؤديها الهمجيتان (الإسلاموية و "التقدمية العلمانية [كذا]..." (37) وهكذا أنجز كاريه قطعا جذريا مع "الاستشراق المعكوس": فقد عكسه، وأقصد بذلك انه رجع إلى الاستشراق الكلاسيكي القديم،"الحاف" بلا أي تزويق. وهذا الأخير ينقسم اليوم في المشهد الفرنسي (ولكن هذا النسق ينطبق على مجموعات استشراقية أخرى) إلى مدرستين. الأولى سماها فرهاد خوسروخافار (38) نيو استشراق (neo-orientalism ) مع أنه كان أحرى ان يسمى استشراقا تقليديا- وهو ، باختصار، يرى أن الإسلام لا ينسجم مع الحداثة. والمدرسة الثانية أسميتها"الاستشراق الجديد" (new orientalism)، فهي جديدة فعلا، وتعرف بأنها النظرة التي لا تكتفي بالقول إن الإسلام والحداثة منسجمان فحسب، بل إن الإسلام في واقع الأمر هو المعبر الوحيد واللازم إلى الحداثة في العالم الإسلامي. (39)
يشترك "الاستشراق المعكوس" و الاستشراق التقليدي في لب واحد، ألا وهو النظرة الجوهرانية التي يكون بموجبها " التدين ظاهرة دائمة وجوهرية" للشعوب المسلمة ( باستعادة لجملة كاريه المقتبسة سابقا), ومن المؤكد أن كاريه حين قطع مع أوهامه عن "النزعة الإسلامية" لم يبلغ حد رفض الإسلام في ذاته. وفي لحظة واضحة من التفكير الرغبي [ أي المستند إلى الرغبات لا الوقائع]، توصل كاريه إلى الإيمان بأن زمن " النزعة الإسلامية" يصل إلى خواتيمه في العالم الإسلامي، وأن "حقبة التسويات ما بعد النزعة الإسلامية يبدو أنها بدأت..."(40) بعد عامين نشر كتابا مشوقا جدا أعلن في عنوانه نفسه قدوم ما أسماه ( بشيء من المفارقة) " الإسلام العلماني،" وهو في الواقع عودة إلى ما أطلق عليه اسم "التراث العظيم" (La Grande Tradition) بالأحرف الاستهلالية الكبيرة.(41) وقد قصد كاريه بـ"التراث العظيم" التراث الإسلامي العريق الذي تأسس بعد القرن العاشر الميلادي حتى انبثاق "تسنن"
[*] إسلامي جديد في أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين، وهو تسنن يرتكز إلى الشروح الطهرانية للإسلام، أي شروح ابن حنبل وابن تيمية بشكل خاص، التي عبدت الطريق أمام الموجة "الإسلامية". إن كتاب كاريه اللافت هو دعوة من اجل إسلام ُمعلمَن نسبيا، وكان يمكن تقريبا أن يكتبه باحث إسلامي متنور. على أن الانحياز "الاستشراقي الجديد" عاد إلى الانبثاق في مستهل خلاصة الكتاب، إذ سلم كاريه بأن "التعلمن" (secularization ) لا يمكن أن يكون إسلاميا في المجتمعات والحضارة المسلمة". (42) وبكلمات أخرى، فإن كاريه اقترح أنه لا يمكن أن يحدث فصل تام في البلاد المسلمة بين الدين والدولة.
عام 1992 نشر أوليفييه روَى، بدوره، كتابا يبشر بـ" فشل الإسلام السياسي." (43) و إذ كرر تقويمه "الاستشراقي المقلوب" السابق بأن "النزعة الإسلامية" العصرية والعلمانية التي يتحدث عنها لم تكن إلا من بنات خياله وخيال زملائه – أي أن الفشل كان نصيب تحليله بالذات [ لا النزعة الإسلامية]- فقد نسب ذلك الفشل إلى موضوع أبحاثه. وهكذا راح يكتب الآن:
" بنظرة استرجاعية، يبدو أن فعل الإسلاميين السياسي، بعيدا من أن يؤدي إلى إنشاء دول أو مجتمعات إسلامية، إنما يندرج في منطق الدولة ( إيران) أو في التجزئة التقليدية وإن كانت متصورة من جديد ( أفغانستان) (44)، " لقد كانت النزعة الإسلامية لحظة، تركيبة هشة من الإسلام والحداثة السياسية، لم تتجذر في نهاية المطاف قط." (45)
أما سبب هذا الفشل المزعوم فمرده، بحسب روى، إلى مأزق ثقافي (aporie) في فكر " النزعة الإسلامية" حيث الأناس الفاضلون يعتبرون شرطا ضروريا لبناء مجتمع إسلامي، في حين أن هذا الأخير شرط ضروري لتربية أناس فاضلين . (46) فإذا نحينا جانبا الخواء البالغ في مثل هذا التفسير، فان السؤال هو: كيف استعصى أن يدرك روى هذا المأزق منذ البداية، وهو فشل لم يعترف به مجرد اعتراف؟ لقد قال روى إن استعصاء "النزعة الإسلامية الثورية " أدى إلى "تجولها الاشتراكي الديمقراطي"- وهذا استيراد مدهش لمفهوم يقوم به شخص ينتمي إلى مجموعة رفضت مصطلح intégrisme لأنه نبع من تاريخ دين آخر! ويقول روى إن "النزعة الإسلامية" التي فشلت تحولت إلى ما يسميه" نيو أصولية" (néofondamentalisme)- أي إلى تأويل "محافظ" للإسلام من الناحية الاجتماعية بدلا من ان يكون تأويلا " تحديثيا"- وكأن هذه السمة لم تكن في صميم "النزعة الإسلامية" مند بداية البداية !
لم يكد يمر عام على هجمات القاعدة عام 2001 حتى صدر كتاب أوليفييه روى التالي، بالفرنسية، ومعظمه كتب قبل هذه الأحداث. (47) إذن، لم يكن الكتاب في الأساس ردا على الصدمة التي سببتها هجمات 11 أيلول (سبتمبر) بقدر ما كان مرحلة تالية في تفكير هذا المؤلف. وقد صدرت الطبعة الانكليزية بعد عامين على ذلك، بترجمة وإعادة تأليف وإضافات من المؤلف نفسه.(48) ولهذا فإنها تتضمن إحالات أكثر على " الحرب على الإرهاب" التي شنتها إدارة بوش، غير ان جل الكتاب يبقى سعي المؤلف الأعم إلى تثبيت تحليلاته السابقة في مواجهة حقيقة لا تني تناقضها. ولعل التشوش النظري هو ما يفسر أن الكتاب يبدو احيانا تعليقا فلسفيا غائما على حال العالم، اكثر منه عملا في العلوم الاجتماعية.
قد يظن المرء ان التطور الأخير المهم في الكتاب الجديد جاء بالهام من كاريه لكون الكتاب يعنى بـ" ما بعد النزعة الإسلامية." غير أن أطروحة روى هي أن " النزعة الإسلامية" نفسها الآن قد تحولت إلى "ما بعد نزعة إسلامية" من خلال " التسييس المفرط للدين"، الأمر الذي أدى – ويا لمكر التاريخ- إلى ابتعاد المجال الديني عن المجال السياسي، بحيث صار كل منهما " مستقلا بذاته، على الرغم من رغبات الفاعلين أنفسهم،" و أدى إلى فرض "شروط للتعلمن." (49) وبحسب روى، فإن أحد أوجه " ما بعد النزعة الإسلامية" هو انتقال بعض التنظيمات "من النزعة الإسلامية إلى القومية": ذلك أن ثمة " تضبيبا [ تعمية] للفالق بين القوميين والإسلاميين في كل مكان من الشرق الأوسط العربي،" على ما يؤكد روى، وحزب الله (لبنان) وحماس (فلسطين) نموذجان رئيسان في هذا الصدد. (50) وأحد الأمثلة على ذلك، كما كتب روى عام 2004، هو "ازدياد صعوبة التمييز بين ناشط إسلامي من حماس وعضو في حركة فتح العلمانية افتراضا والتابعة لعرفات." والحال ان هذا تأكيد يصعب، في ضوء اتساع شقة الخلاف والصدام الآن بين فتح وحماس، ألا نعتبره اليوم سببا كافيا لنقض أطروحة روى.
أيا كان الأمر، فان تصوير حزب الله وحركة حماس وكأنهما يؤشران على انتقال "من النزعة الإسلامية إلى القومية" وعلى تحولهما إلى قوى هجين ة إسلامية –قومية" جديدة ليس أمرا مسلما به لسببين على الأقل. الأول ان كليهما منخرط، منذ نشأته، في الصراع ضد الاحتلال الأجنبي لأرضه، وهو صراع لم يكن يوما حكرا على القوى المسماة" قومية" ( وطنية) بل مارسه دوما عبر التاريخ في تلك المنطقة طيف واسع من القوى، وضمن هذه الأخيرة لعبت القوى الدينية دورا بارزا منذ المراحل الأولى. والثاني هو أن " تضبيب" [تعمية] الدلالة " الإسلامية" لذينك التنظيمين لمجرد انخراطهما في الكفاح الوطني ( القومي) بما يفوق انخراط منافسيهم "القوميين" (الوطنيين) أمر مضلل بشكل واضح، وهذا ما لا يكف التاريخ عن تبيانه بغزارة. فإلى جانب الخلافات الكيفية بين البرنامجين الرسميين لكل من حماس وحزب الله من جهة، والتنظيمات العلمانية المنخرطة في النضالات نفسها ضد الاحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية، فان طريقة تنظيمها للمكونات الشعبية التي يسيطران عليها تؤكد أن ممارساتهما الاجتماعية مبنية على رؤيتهما الدينية.
المثال الرئيس الثاني الذي يقدمه روى لدعم أطروحته عن "ما بعد النزعة الإسلامية" هو "الجمهورية الإسلامية" الإيرانية. والحق أن تعليقاته الطويلة عن " تعلمن" مزعوم و" إزالة دور رجال الدين" (décléricalisation) في الدولة الإيرانية(51)- ويزيد تلك التعليقات مفارقة أن ابرز من قدم النموذج على ذلك هو الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، الزعيم "الإصلاحي" لجمعية العلماء المكافحين (مجمع روحانيون مبارز)- استندت إلى وهم أن إيران كانت تنجز آنذاك( بين عامي 2002و 2004) " تطبيعها السياسي."(52) وبالطبع فإن الرئيس الإيراني الحالي المنتخب عام 2005، محمود أحمدي نجاد، هو الدحض الحي لذلك الزعم القاطع الحاسم، السابق لأوانه بكثير في أقل تقدير. وبمكر آخر من التاريخ، فان أحمدي نجاد لا ينتمي إلى فئة علماء الدين.
استطيع ان امضي في نقاش معظم المزاعم في كتاب روى: من قبيل إصراره المذهل على"الخصخصة في إعادة الأسلمة،" (53) كما مثلته في ظنه جماعة الإخوان المسلمين المصرية وتحالف المجموعات الأصولية الباكستانية، اللذان اعتقد روى إنهما لم يعودا مهتمين بتغيير الدولة... أو من قبيل زعمه الخاطئ من جديد" انه لو نظر المرء إلى التجذر الإسلامي في أوساط المسلمين الشباب ( والمتحولين إلى الإسلام) في الغرب، لوجد أن خلفيتهم لا علاقة لها بالنزاعات في الشرق الأوسط ...(54) والحال أن تفجيرات لندن في 7/7/ 2005 وضعت زعم روى الأخير على المحك، فعجل في دعم مسعى الحكومة البريطانية العقيم إلى إنكار العلاقة الواضحة بين النزاعات في الشرق الأوسط- ومشاركة بريطانيا في احتلال العراق بشكل رئيس- وهجمات لندن. وقد نشر روى مقالة رأي في نيويورك تايمز بعد أيام من تلك التفجيرات بعنوان "لماذا يكرهوننا؟ ليس بسبب العراق." (55) وفيها شرح أن المفجرين في لندن لم يكونوا يردون على حروب الولايات المتحدة وبريطانيا وإنما رأوا تلك الحروب " جزءا من ظاهرة كونية للسيطرة الثقافية." وبعد سنة، أثناء عدوان إسرائيل على لبنان صيف 2006، نشر روى في لوموند مقالة رأي قدم فيها إلى " الأنظمة السنية[كذا]" وإلى إسرائيل نصيحة في كيفية عزل حزب الله، وختم مقالته بالجملة التالية:" على الحل السياسي، وأكثر من أي وقت مضى، أن يسود. وهذا الحل لا يلزم ان يكون حلا دبلوماسيا، بل يكون بتكييف القوة العسكرية مع الأهداف السياسية [!]" (56)
وفي أيلول ( سبتمبر) 2006 نشر روى مقالة رأي في الصحافة العالمية بعنوان" إننا نكسب برغم الحرب." (60) وفيها يشرح أن "العالم أكثر أمانا" بسبب التعبئة الموسعة للبوليس والخبراء، و وكالات الاستخبارات والسلطات القضائية" (كان يستحيل ان ينسى "الخبراء"). ولذا، وخلال سحابة عشرين عاما، أكمل أوليفييه روى، الذي كان قد بدأ " استشراقيا معكوسا" تحوله إلى نوع من "الخبراء" الذين يقدمون النصائح إلى الحكومات الغربية، محتذيا في ذلك حذو جيل كيبل.
ومن بين " المستشرقين المقلوبين" المميزين الثلاثة الذين تناولناهم هنا (كاريه وروى وبورغا)، وحده بورغا ما زال يلتزم آراءه السابقة التزاما راسخا. وبالفعل، فان كتابيه اللاحقين عن "النزعة الإسلامية" يكرران في معظمهما الآراء التي خطها في الكتاب الأول، وأحيانا بتبسيط مفرط أكثر من ذي قبل، وذلك في حمأة الجدل الذي انغمس فيه ضد زملائه الفكريين السابقين. (61) إلا انه سلم بأن ثمة تيارات رجعية داخل "النزعة الإسلامية"- وهي تيارات لم يتردد بالمناسبة في تسميتها أصولية intégristes ( بالفرنسية) او fundamentalists ( في الترجمة الانكليزية). غير أن هذه التيارات لم تعد أن تكون استثناءات سيئة، لم يكن يريد أن تلتبس مع المجموع كله.
على أن بورغا لم ينخرط في جدال ضد زملائه السابقين " الاستشراقيين المعكوسين" فحسب، وإنما انخرط أيضا، بل أولا وبشجاعة ( على ما ينبغي التشديد) ضد موجة ُرهاب الإسلام (isamophobia ) التي غمرت بلاده في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001. فقد عارض سياسات حكومته والتيار الطاغي في وسائل الإعلام حول قضايا من قبيل حظر ارتداء الحجاب في المدارس الفرنسية، أو الدور الفرنسي في لبنان. وهذا الإقرار الضروري يقودني إلى النقطة التي أود ان اختم بها، وبالعودة إلى ما كنت بدأت به، أي مقالة صادق جلال العظم عام 1981.
فلقد ختم العظم مقالته تلك بالتأكيد أن " الاستشراق المعكوس" ليس في النهاية أقل رجعية من الاستشراق الكلاسيكي. (62) غير أنني أرى ان هذا النوع من التقييم لا يمكن تعميمه. أما بالنسبة إلى أي حكم قيمة، فإن على من يقيم أن يوضع في سياقه الصحيح ثم يقيم بالنسبة إلى هذا السياق. وعليه فإنه عند الانتقال من سياق غربي إلى سياق عربي، يتغير دور "الاستشراق المعكوس" تغيرا جذريا: ففي حين أنه في السياق الأول استسلام فعلي أمام الردة التاريخية الهائلة، فإنه في السياق الثاني غالبا ما يكون شكلا من أشكال مقاومة الايدولوجيا الامبريالية المهيمنة و شكلا من أشكال التعاطف مع ضحاياها. والحال أن بورغا تجسيد نموذجي لهذا التوجه الذي يحمل شبها كبيرا في واقع الأمر إلى " العالمثالثية" في الأيام الخوالي، وهي نزعة انغمست في تضليل الذات من خلال الوقوع في حب أعداء الأعداء حبا أعمى.
والواقع أن وصف مكسيم رودنسون عاك 1968 للمقاربة" العالمثالثية" للاسلام يشبه شبها لافتا ما وصفته في هذه المقالة. وهو ما يبين أن " الاستشراق المعكوس" ظاهرة مكرورة في الحقيقة:
"إن العمومية (universalisme) التي استقتها [الايدولوجيا اليسارية المعادية للاستعمار] من جذورها الليبرالية أو الاشتراكية مالت إلى أن تتحول إلى إقرار بالفردانية، بل إلى تمجيد لها في خاتمة المطاف. فقد باتت تلك العمومية تحيل على العالم الثالث، الآن، نظرتها إلى قوة بدائية وحشية خاضعة للاستغلال والاضطهاد سوف تزيح ، مرة وإلى الأبد، بؤس النظام القديم وسيطرته. وبالتالي باتت القيم المتأصلة في الشعوب التي استعمرت سابقا جديرة بأن تحظى بالمدح، ولو أدى سوء تفاهم طبيعي جدا إلى تصور امتلاكها، وإن بأشكال خاصة، القيم عينها التي تلهم المجموعات الأوربية المعنية. وبالنسبة إلى بعض من كانوا أعمق التزاما بهذا الاتجاه، فقد بات الإسلام نفسه- وفي حد ذاته- قوة تقدمية." (63)
ومع ذلك، فان هناك خلافا كيفيا واضحا في نظري بين "خبراء" يقدمون النصائح إلى الحكومات الغربية حيال تصرفها في سياساتها الامبريالية... وبين " استشراقيين معكوسين" يشجبون تلك السياسات، وإن بأوهام هائلة عن المستهدفين بتلك السياسات، ممهدين بذلك الطريق أمام انقشاعات أوهام الغد وآثارها المحبطة. على أنني، إذ أواصل الإسهام في النضال السياسي والثقافي ضد السياسات الامبريالية الغربية، أشعر ان من واجبي دائما أن انقد ما اعتبره أراء مضللة على الجانب السياسي الذي أقف عليه.
لندن
* ترجمة سماح إدريس
* جلبير الأشقر، أستاذ في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية SOAS في جامعة لندن. وقد اتفق المترجم والمؤلف على استخدام مصطلح" النزعة الإسلامية" مرادفا لـIslamism بدلا من "الإسلاموية".
- هوامش
1- سرعت حرب حزيران 1967 تحول " الماركسية الموضوعية" إلى " ماركسية ذاتية" في العالم العربي، على ما استشرف عبد الله العري عشية الحرب. انظر كتابه L idéologie arabe contemporaine ، تقديم ماكسيم رودنسون (باريس، ماسبرو،1967)
2-3- صادق جلال العظم، الاستشراق و الاستشراق معكوسا ( بيروت، دار الحداثة،1981).
4- المصدر السابق،ص 35.
5- انظر مقالاته ومقابلاته عن إيران بين عامين 1978-1979، مجموعة في كتاب:
Michel Foucault, Dits et écrits II, 1976 - 1988 (Paris: Gallimard, 2001), p. 662 - 754.
6- أسوأ مقالة لفوكو هي التي نشرتها المجلة الأسبوعية الفرنسية لونوفيل ابسيرفاتور في تشرين الأول ( أكتوبر) 1978 بعنوان " بماذا يحلم الإيرانيون؟". وعن "تهويمات" فوكو بخصوص إيران، انظر تعليق مكسيم رودنسون المر والقارص في كتابه:
L’Islam politique et croyance (Paris: Fayard, 1993), p. 301 - 327.
7 Guy Hocquenghem, Lettre ouverte à ceux qui sont passés du col Mao au Rotary (1986), Marseille, Agone, 2003,
preface by Serge Halimi
8- Olivier Roy, “Les Islamologues ont-ils inventé l’islamisme?,” Esprit, August-September 2001, pp. 116 - 136.
9- المحاججة حول الاستخدام المشروع جدا لمصطلح ومفهوم " الأصولية" (fundamentalism)، انظر مقالة العظم الممتازة:
“Islamic Fundamentalism Reconsidered: A Critical Outline of Problems, Ideas and Approaches, Part I and II,” in South
Asia Bulletin, XIII 1 & 2, 1993, pp. 93 - 121, and XIV 1, 1994, pp. 73-98.
10- إن تعبيرات من قبيل" الإسلام السياسي" و " الإسلام المقاتل" تشتركان في النقيصة ذاتها.
11- الاستخدام الأول الذي يمكن تسجيله لمصطلح " النزعة الإسلامية" (islamism) بالمعنى الجديد ورد عام 1979 في مقالة نشرت في لونوفيل اوبسرفاتور (12 آذار/مارس) بقلم حبيب بولارس، وهو قومي تونسي سبق أن كان وزيرا بين العامين 1970-1971 في حكومة أثناء عهد الحبيب بورقيبة، وعاد فشارك في وزارة جديدة في عهد زين العابدين بن علي. ولم يكن تقييمه لما يدعوه " النزعة الإسلامية" اعتذاريا بالطبع. وتم الاستخدام الأول لهذا المصطلح في مجالات الأبحاث الاستشراقية الفرنسية في مقال:
Jean-François Clément, “Pour une compréhension des mouvements islamistes,” in Esprit, January 1980, p. 30-51
وكان كليمان غير متعاطف أبدا، هو الآخر، مع المجموعات التي وصفها. وعليه، فثمة مفارقة أخرى، وهي أن تعبير" النزعة الإسلامية" نفسه، قبل أن يصبح التسمية المفضلة " للاستشراقيين المعكوسين" كان قد أطلقه أولا على الجيل الجديد من الأصوليين الإسلاميين مؤلفون يحتقرونهم. هؤلاء المؤلفون كانوا يريدون ، ببساطة، أن يشملوا بكلمة واحدة طيفا كاملا من التيارات السياسية التي ترفع لواء الإسلام وتمتد من أكثرهم تقدمية إلى أكثرهم ... أصولية/ سلفية (integriste) ( والأخير مصطلح لم يحجموا عن استخدامه).
12- Olivier Carré, La légitimation islamique des socialismes arabes. Analyse conceptuelle combinatoire des manuels scolaires égyptiens, syriens et irakiens, FNSP, Paris, 1979.
13- لمناقشة هذه المسألة انظر مقالتي:
“Religion and Politics Today from a Marxian Perspective,” in Global Flashpoints: Reactions to Imperialism and
Neoliberalism, Socialist Register 2008, Merlin Press, London, 2007, pp. 55-76.
14- Carré, “L’utopie islamiste au Moyen-Orient arabe et particulièrement en Egypte et en Syrie”
وقد نشر في كتاب حرره كاريه بعنوان:
L’Islam et l’Etat dans le monde d’aujourd’hui, PUF, Paris 1982, pp. 13-20 (Carré’s Section).
وشاركه في تأليفه ميشال سورا، رغم ان اسهام كل منهما متميز من الآخر. إذن، اعار كاريه سلطته كباحث لدعم استخدام مصطلح" النزعة الإسلامية" الذي كان مكسيم رودنسون قد جادل ضده.
15- Carré and Gérard Michaud, ed., Les Frères musulmans Egypte et Syrie (1928 - 1982), Gallimard/Julliard, Paris, 1983.
وجيرار ميشو هو اسم مستعار لميشال سورا.
16-17-18-19 –المصدر السابق، ص 205، 218،219 ، 203
20- Claire Brière, Olivier Carré, Islam: Guerre à l’Occident?, Autrement, Paris 1983.
وكانت كلير بريير، وهي صحافية فرنسية، قد اشتركت مع بيير بلانشيه (P Blanchet ) في تأليف كتاب عن الثورة الإيرانية اعتبر مفرطا في التحمس لها
©La révolution au nom de Dieu, Paris: Seuil, 1975
ويضم الكتاب مقابلة مشوقة مع ميشيل فوكو، لكنها اسهمت في ايقاعه في لحظة خزي حين بدأ النظام الايراني يظهر ملامحه السلطوية:
(Foucault, Dits et écrits II, p. 743 - 758).
21-
Carré, “L’Islam politique en Egypte,” in Brière and Carré, Islam: Guerre à l’Occident?, p. 138.
22-
Ibid., p. 172.
23-
Gilles Kepel, Le Prophète et Pharaon, Les mouvements islamistes dans l’Egypte contemporaire, La Découverte
Paris, 1984.
24-
Roy, L’Afghanistan, Islam et modernité politique, Seuil, Paris, 1985.
25-26-27-28 المصدر السابق، الصفحات 11، 12 ، 13 ، 17 ، 94
29- المصدر السابق، ص 214
30-
François Burgat, L’islamisme au Maghreb: La voix du Sud, Karthala, Paris, 1988.
31-
Burgat, “De la difficulté de nommer: intégrisme, fondamentalisme, islamisme,” Esprit, March 1988, p. 137.
32-
Burgat, L’islamisme au Maghreb, p. 80.
33- 34 : المصدر السابق، ص 68 ، 70
35- المصدر السابق، ص 71-72
36- كانت إيران آنذاك منخرطة في" حملة غير متكافئة" ( بالتعبير العسكري) ضد فرنسا انتقاما من التورط الفرنسي الكبير الداعم لبغداد في الحرب العراقية –الإيرانية.
37-
Carré, L’utopie islamique dans l’Orient arabe, FNSP, Paris, 1991 p. 16.
38-
Farhad Khosrokhavar, “Du néo-orientalisme de Badie: enjeux et méthodes,” Peuples méditerranéens, 50, January March 1990.
39-
Gilbert Achcar, The Clash of Barharisms, 2d augmented et., (London: Saqi), p. 167, no. 33.
40-
L’utopie islamique, p. 16.
41-
Carré, L’Islam laïque ou le retour à la Grande Tradition, Armand Colin, Paris, 1993.
[*]- أتبنى هنا ترجمة صديقي كمال أبوديب لـ"الارثودوكسية" وربما أفضل كلمة "سننية" (المترجم)
42-
Ibid., p. 136.
43-
Roy, L’ةchec de l’Islam politique, Paris, Seuil, 1992.
44-45-46- المصدر السابق، 39 ، 102 ، 10
47-
Roy, L’islam mondialisé, Seuil, Paris, 2002.
48-
Roy, Globalised Islam: The Search for a New Ummah (London: Hurst & Co., 2004).
49 – المصدر السابق، الصفحات 3- 34
50- 51-52-53-54-55-56-57: المصدر السابق، الصفحات، 64، 88، 1، 98، 52، 308، 48
58-
Roy, “Why Do They Hate Us? Not Because of Iraq,” New York Times, 22 July 2005.
59-
Roy, “L’Iran fait monter les enchères,” Le Monde, 21 July 2006.
60-
Roy, “We’re Winning, Despite the “War,” International Herald Tribune, 7 September 2006.
61-
Burgat, l’Islamisme en face, La Découverte, Paris, 1995; L’islamisme à l’heure d’Al-Qaida, La Découverte, Paris, 2005.
62-
Burgat, L’islamisme en face, p. 100ئ
63-
Al-’Azm, “Orientalism and Orientalism in Reverse,” Khamsin, p. 25.
64-
Maxime Rodinson, La Fascination de l’Islam, Maspero, Paris, 1980, p. 100.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: