نقوس المهدي
كاتب
خليفة أم سلطان؟
1-نلاحظ في الكتابات التاريخية والكلامية التي اهتمت بتسجيل تطور التجربة السياسية في الإسلام وبرصد القناعات النظرية المحركة لها، نقاشاً حول مشكلة تصنيف أنواع الحكم الممارس على المستوى الفعلي، منذ قيام الدولة الأموية، ودوران ذلك التصنيف بين مفاهيم ثلاثة: الخلافة، الملك، والسلطان. ونظن أن ذلك النقاش، وكذا الاختلاف الذي أفرزه، قد بقي غالباً في إطاره النظري في مستوى أخلاقيات الحاكم النموذجي، وقد دفعت الانقسامات السياسية، وظهور إمارات "التغلب" المنظرين السياسيين والفقهاء، الحريصين جميعاً على وحدة الكيان السياسي لأمة الإسلام، إلى الاعتراف بضرورة الاستمرار التاريخي "للخلافة"، المهيمنة نظرياً على تلك الإمارات والسلطنات المتغلبة؛ محاولين في ضوء هذا الاعتراف أو الاعتقاد وحده، فرض تمييز ـ ولو على مستوى التسمية والوصف ـ بين "الخليفة" المقيم في مركز الدولة وبين "الملوك" و"السلاطين" القائمين في الأطراف...
غير أننا نظن أنه ليس هناك كبير فائدة في هذا الحرص على استمرار هذا التمييز بين مفاهيم الخلافة والملك والسلطان، ما دام هذا التمييز يرتفع نهائياً على المستوى التاريخي الواقعي! والملاحظ بهذا الصدد، أنه بالرغم من مسايرة ابن خلدون للتمييز بين هذه المفاهيم، واعتقاده باستمرار نظام الخلافة1، فإنه يصر، مع ذلك، على الفصل والتمييز بين عصر الممارسة السياسية على عهد النبوة والخلافة الراشدة وبين عصر بداية تشكل السلطة الأموية التي يجعل "للعصبية" الدور الأكبر في بلورة الممارسة فيها2. وفي هذا ما يبعد الخلافة الأموية عن "الخلافة" النموذجية في رأي ابن خلدون، ومعه جل منظري السياسة الإسلامية. ولا يعني هذا سوى أن العنصر الطارئ على التجربة السياسية في الإسلام، يتمثل في إعطاء الأولوية لعنصر التغلب والقوة والعنف.
وحيث أن هذا العنصر الأخير سيصبح القاسم المشترك بين ما يسمى بدولة الخلافة، أموية وعباسية، وبين مختلف إمارات "التغلب" في الأطراف، والتي قام على رأسها ملوك وسلاطين، فإننا نعتقد أن استمرار فرض ذلك التمييز "النوعي" بين مفاهيم الخلافة والملك والسلطان، يفقد مصداقيته، غالباً على المستوى الواقعي والتاريخي، الذي هو مستوى الممارسة السياسية الفعلية والتي يجب أن تكون أساس التصنيف النظري. وعليه فلا يكون لاستمرار شيوع مصطلح الخلافة، بجانب مفهومي الملك والسلطان، إلا معنى واحد، هو معاندة الفقيه والمتكلم للتطور الفعلي والتاريخي الحاصل في أسلوب الممارسة السياسية، والذي أصبح قائماً على قوة السيف والاستئثار بالسلطة؛ تلك المعاندة التي يعلن من خلالها الفقيه والمتكلم ـ ومن ورائهما قاعدتهما العريضة من عامة الجمهور ـ أنهم لا زالوا متمسكين ب "أخلاقيات السياسة"، رافضين الخضوع لمنطق الواقع، متطلعين إلى "ما يجب أن يكون"!
2- كان لا بد من الاعتراف بهذا التطور على مستوى الممارسة الفعلية في التجربة السياسية في الإسلام، وقد عكس هذا الاعتراف أحد أقدم "الكتاب" المرتبطين بدواوين "الخلافة"، حينما قال بصيغة التعميم والإطلاق3: "ولم تزل العرب تفضل السيف على القلم ..." [حتى قال البحتري في السيف]: تعنو له وزراء الملك راغمة وعادة السيف أن يستعبد القلما"!
والمقابلة بين السيف والقلم إنما تعكس المقابلة بين السياسة والمعرفة أو "العلم"؛ بين حكم الواقع وما ينبغي أن يكون. إنها مقابلة تطرح أيضاً مفهوماً "للسياسة"، نجد توضيحاً له، هذه المرة، ليس لدى كاتب إداري مرتبط بالسلطة ومكتو بنارها في آن واحد، كما هي الحال مع الجهشياري، بل نجد ذلك لدى عالم ناقد، من العلماء المدققين الأفذاذ؛ وهو هذه المرة يقدم لنا فهماً لموضوع ومجال السياسة، ليس عند العرب فحسب، بل السياسة "كماهية" وكما تتمثل في الواقع اليومي في حياة الناس قرطبة. ففي رأي أبي الريحان البيروني (440ه) أن حال الهنود مثلاً "شبيه بحال النصرانية؛ فإنها مبنية على الخير وكف الشر... وهي لعمري سيرة فاضلة. ولكن أهل الدنيا ليسوا بفلاسفة كلهم [!] وإنما أكثرهم جهّال ضلال، لا يقوّمهم غير السيّف والسّوط. ومنذ تنصر قسطنطينوس المظفر، لم يسترح كلاهما [=السيف والسوط] من الحركة [!] فبغيرهما لا تتم السياسة4!
"أهل الدنيا ليسوا بفلاسفة كلهم"، حجة مركزية ردّد مثلها أوائل خلفاء بني أمية، كما سيرددها العديد من السلاطين لتبرير ضرورة اللجوء إلى العنف والتخويف، كَسْباً للاستقرار الاجتماعي، وجمعاً للكلمة، وحفاظاً على الوحدة... وهي غايات ضرورية تبرر "ضرورة" اللجوء إلى وسائل محظورة أو مستهجنة، غالباً، عند رجل العلم، كالعصبية والسيف والسَّوطي! أو ليس "الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"؟!
وأن شيوع مثل هذه المقولة الأخيرة في وقت مبكر من تاريخ الإسلام، يعكس صحة ما نود تقريره الآن، ألا وهو جواز وصف التجربة السياسة التي تمت في ظل ما يسمى بدولة الخلافة، بكونها بالفعل تجربة "دول سلطانية". وإذا كان ابن خلدون يلاحظ أن مراسيم الخلافة ووظائفها الأساسية قد ظلت قائمة خلال الفترة الأموية وشطراً من الدولة العباسية5، غير أن الواقع التاريخي يبرز التراجع المبكر لقيم دولة الخلافة "الراشدة"، وللقلم والكتاب، مقابل تنامي نفوذ العصبية والسيف والقوة؛ وهي ذات المعاني المتضمنة في مفهوم "السلطان" المستأثر بمثل هذه الأسلحة من التأثير السياسي والنفوذ الاجتماعي. وإن ذلك الواقع ليبرز، من جهة أخرى، أن الحكم الفعلي، خلال أغلب فترات تلك الدول، كان بأيدي البويهيين الفرس والسلاجقة الترك، وهم حكام عسكريون، كان للسيف في سياستهم المنزلة الأولى، قبل الرأي والكتاب. وقد لُقبوا جميعاً، من طرف الخليفة نفسه، بألقاب ونعوت تلتقي مفاهيمها حول معنى "السلطان"؛ ذلك الذي يستند في تدبيره السياسي على القوة والسيف والتغلب، قبل أن يستند على الكتاب والشرع. ولقد كان مصطلح الخلافة، في ظل هذا الوضع، لا يعدو كونه رمزاً لما ينبغي أن يكون عليه نظام الحكم في الإسلام! في حين كان ذلك المسمى "خليفة"، ومن ورائه جمهور المسلمين، مجرد تابعين، خاضعين في الأغلب لمالك السلطة الفعلية، الأمير والملك البويهي أو السلطان السلجوقي. فالتجربة إذن، في مجملها، تجربة دول سلطانية، لا تجربة خلافة إسلامية. خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أن أغلب أولئك "الخلفاء" حتى من أظهر منهم استقلالاً عن هؤلاء الملوك والسلاطين، لم يكن سلوكهم السياسي الفعلي متميّزاً عن سلوك السلاطين، ولم تكن قناعاتهم السياسية تتناقض والقناعات السلطانية الأخرى. إذ الكل كان يعتقد أنه يؤسس "مُلكاً طبيعياً" بتعبير ابن خلدون، ويساهم في إنشاء وحفظ "دولته" واضعاً في حسبانه أن هذا المفهوم الأخير، يقتضي بذاته استعمال القوة والغلبة والقهر، دفعاً لعوارض الزوال والانتقال و"التداول"6.
نعم! إن ابن خلدون، شأنه شأن جلّ المؤرخين في الإسلام، كان يملك وعياً بمبلغ ذلك التغيير المشار إليه، والذي يكاد يكون جذرياً في المفاهيم والممارسات السياسية، التي صاحبت قيام وتطور السلطة الأموية والعباسية. وهو ما جعله يشير إلى ما يمكن اعتباره رأياً قديماً للمتكلم وللفقيه في مرتبة الملك والسلطان، باعتبارها "استبداداً على الخلافة، وهو معنى السلطان"7.ولهذا نراه يعقب على هذا التمييز المتداول حول التجربة السياسة في الإسلام، مزكياً له مبرراً إياه، حسب نظريته في العصبية، بالقول: "وإنما تكلّمنا عن الوظائف الخلافية، وأفردناها لنميّز بينها وبين الوظائف السلطانية فقط"8. ومعلوم أن أساس هذا التمييز قد لمسناه بوضوح في الخطاب الكلامي، وسنقف عليه لدى العديد من الفقهاء. غير أن وعي ابن خلدون بذلك التمييز لم يكن أقل درجة حينما عنون أحد فصول "مقدمته" ب"انقلاب الخلافة إلى ملك"9. وهو ما حمله على القول بأن "أكثر الأحكام السلطانية جائرة في الغالب؛ إذ العدل المحض هو في الخلافة الشرعية، وهي قليلة اللّبث"!10. وهو أثناء الإقرار بهذا التحول السريع لا يجد بدا من الاستناد إلى الأثر القائل: "الخلافة بعدى ثلاثون سنة، ثم تعود مُلكاً عضوداً". ولهذا يعتبر ابن خلدون مفهوم "الملك ـ على الحقيقة ـ لمن يستعبد الرعية... ولا يكون فوق يده قاهرة"، أو سلطة يضبط سياسته وفقها. وما ذلك إلا لأن من مستلزمات الملك "التغلّب والقهر". وهذا، رأيه، سرّ ذم القرآن للملك وللمرتبطين به، لما يتميزون به من "الإسراف في غير قصد، والتنكّب عن صراط الله"!11.
--------------------------------
عن (الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام)
1 ابن خلدون، المقدمة، الباب الثالث، الفصل، 31-32.
2 المقدمة، نفس الباب، الفصل: 25-28.
3 الجهشياري (أبو عبد الله محمد ابن عبدوس)، كتاب الوزراء والكتاب، القاهرة: مصطفى بابي الحلبي، 1357ه 1983م، ص28[تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري]. وقد اكتوى الجهشياري بنار السلطة وذاق مرارة السجن والمصادرة، وكان "من أرباب السيوف.. كما كان من أرباب الأقلام". انظر مقدمة الكتاب للمحققين. وقد توفي الجهشياري سنة 331ه.
4 البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقول أو مرذولة، حيدر آباد، دائرة المعارف العثمانية، 1377ه 1985م، ص474.
5 المقدمة، ص369.
6 في الترجمات الهيللينيستية "الدولة: سلطان تحجبه السنّة..."، فمن شأن السنة (=العدل) أن تمنع عن الدولة طابعها الأصلي المتمثل في القوة والقهر. انظر أيضاً: أين منظور، لسان العرب، مادة "دولة" ج11.
7 المقدمة، ص 418.
8 نفس المصدر والصفحة.
9 المقدمة، الفصل 28.
10 نفس المصدر، ص655-656.
11 نفس المصدر، ص358.
----------------------------------
المصدر: الفكر الاصولي واشكالية السلطة العلمية في الاسلام
1-نلاحظ في الكتابات التاريخية والكلامية التي اهتمت بتسجيل تطور التجربة السياسية في الإسلام وبرصد القناعات النظرية المحركة لها، نقاشاً حول مشكلة تصنيف أنواع الحكم الممارس على المستوى الفعلي، منذ قيام الدولة الأموية، ودوران ذلك التصنيف بين مفاهيم ثلاثة: الخلافة، الملك، والسلطان. ونظن أن ذلك النقاش، وكذا الاختلاف الذي أفرزه، قد بقي غالباً في إطاره النظري في مستوى أخلاقيات الحاكم النموذجي، وقد دفعت الانقسامات السياسية، وظهور إمارات "التغلب" المنظرين السياسيين والفقهاء، الحريصين جميعاً على وحدة الكيان السياسي لأمة الإسلام، إلى الاعتراف بضرورة الاستمرار التاريخي "للخلافة"، المهيمنة نظرياً على تلك الإمارات والسلطنات المتغلبة؛ محاولين في ضوء هذا الاعتراف أو الاعتقاد وحده، فرض تمييز ـ ولو على مستوى التسمية والوصف ـ بين "الخليفة" المقيم في مركز الدولة وبين "الملوك" و"السلاطين" القائمين في الأطراف...
غير أننا نظن أنه ليس هناك كبير فائدة في هذا الحرص على استمرار هذا التمييز بين مفاهيم الخلافة والملك والسلطان، ما دام هذا التمييز يرتفع نهائياً على المستوى التاريخي الواقعي! والملاحظ بهذا الصدد، أنه بالرغم من مسايرة ابن خلدون للتمييز بين هذه المفاهيم، واعتقاده باستمرار نظام الخلافة1، فإنه يصر، مع ذلك، على الفصل والتمييز بين عصر الممارسة السياسية على عهد النبوة والخلافة الراشدة وبين عصر بداية تشكل السلطة الأموية التي يجعل "للعصبية" الدور الأكبر في بلورة الممارسة فيها2. وفي هذا ما يبعد الخلافة الأموية عن "الخلافة" النموذجية في رأي ابن خلدون، ومعه جل منظري السياسة الإسلامية. ولا يعني هذا سوى أن العنصر الطارئ على التجربة السياسية في الإسلام، يتمثل في إعطاء الأولوية لعنصر التغلب والقوة والعنف.
وحيث أن هذا العنصر الأخير سيصبح القاسم المشترك بين ما يسمى بدولة الخلافة، أموية وعباسية، وبين مختلف إمارات "التغلب" في الأطراف، والتي قام على رأسها ملوك وسلاطين، فإننا نعتقد أن استمرار فرض ذلك التمييز "النوعي" بين مفاهيم الخلافة والملك والسلطان، يفقد مصداقيته، غالباً على المستوى الواقعي والتاريخي، الذي هو مستوى الممارسة السياسية الفعلية والتي يجب أن تكون أساس التصنيف النظري. وعليه فلا يكون لاستمرار شيوع مصطلح الخلافة، بجانب مفهومي الملك والسلطان، إلا معنى واحد، هو معاندة الفقيه والمتكلم للتطور الفعلي والتاريخي الحاصل في أسلوب الممارسة السياسية، والذي أصبح قائماً على قوة السيف والاستئثار بالسلطة؛ تلك المعاندة التي يعلن من خلالها الفقيه والمتكلم ـ ومن ورائهما قاعدتهما العريضة من عامة الجمهور ـ أنهم لا زالوا متمسكين ب "أخلاقيات السياسة"، رافضين الخضوع لمنطق الواقع، متطلعين إلى "ما يجب أن يكون"!
2- كان لا بد من الاعتراف بهذا التطور على مستوى الممارسة الفعلية في التجربة السياسية في الإسلام، وقد عكس هذا الاعتراف أحد أقدم "الكتاب" المرتبطين بدواوين "الخلافة"، حينما قال بصيغة التعميم والإطلاق3: "ولم تزل العرب تفضل السيف على القلم ..." [حتى قال البحتري في السيف]: تعنو له وزراء الملك راغمة وعادة السيف أن يستعبد القلما"!
والمقابلة بين السيف والقلم إنما تعكس المقابلة بين السياسة والمعرفة أو "العلم"؛ بين حكم الواقع وما ينبغي أن يكون. إنها مقابلة تطرح أيضاً مفهوماً "للسياسة"، نجد توضيحاً له، هذه المرة، ليس لدى كاتب إداري مرتبط بالسلطة ومكتو بنارها في آن واحد، كما هي الحال مع الجهشياري، بل نجد ذلك لدى عالم ناقد، من العلماء المدققين الأفذاذ؛ وهو هذه المرة يقدم لنا فهماً لموضوع ومجال السياسة، ليس عند العرب فحسب، بل السياسة "كماهية" وكما تتمثل في الواقع اليومي في حياة الناس قرطبة. ففي رأي أبي الريحان البيروني (440ه) أن حال الهنود مثلاً "شبيه بحال النصرانية؛ فإنها مبنية على الخير وكف الشر... وهي لعمري سيرة فاضلة. ولكن أهل الدنيا ليسوا بفلاسفة كلهم [!] وإنما أكثرهم جهّال ضلال، لا يقوّمهم غير السيّف والسّوط. ومنذ تنصر قسطنطينوس المظفر، لم يسترح كلاهما [=السيف والسوط] من الحركة [!] فبغيرهما لا تتم السياسة4!
"أهل الدنيا ليسوا بفلاسفة كلهم"، حجة مركزية ردّد مثلها أوائل خلفاء بني أمية، كما سيرددها العديد من السلاطين لتبرير ضرورة اللجوء إلى العنف والتخويف، كَسْباً للاستقرار الاجتماعي، وجمعاً للكلمة، وحفاظاً على الوحدة... وهي غايات ضرورية تبرر "ضرورة" اللجوء إلى وسائل محظورة أو مستهجنة، غالباً، عند رجل العلم، كالعصبية والسيف والسَّوطي! أو ليس "الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"؟!
وأن شيوع مثل هذه المقولة الأخيرة في وقت مبكر من تاريخ الإسلام، يعكس صحة ما نود تقريره الآن، ألا وهو جواز وصف التجربة السياسة التي تمت في ظل ما يسمى بدولة الخلافة، بكونها بالفعل تجربة "دول سلطانية". وإذا كان ابن خلدون يلاحظ أن مراسيم الخلافة ووظائفها الأساسية قد ظلت قائمة خلال الفترة الأموية وشطراً من الدولة العباسية5، غير أن الواقع التاريخي يبرز التراجع المبكر لقيم دولة الخلافة "الراشدة"، وللقلم والكتاب، مقابل تنامي نفوذ العصبية والسيف والقوة؛ وهي ذات المعاني المتضمنة في مفهوم "السلطان" المستأثر بمثل هذه الأسلحة من التأثير السياسي والنفوذ الاجتماعي. وإن ذلك الواقع ليبرز، من جهة أخرى، أن الحكم الفعلي، خلال أغلب فترات تلك الدول، كان بأيدي البويهيين الفرس والسلاجقة الترك، وهم حكام عسكريون، كان للسيف في سياستهم المنزلة الأولى، قبل الرأي والكتاب. وقد لُقبوا جميعاً، من طرف الخليفة نفسه، بألقاب ونعوت تلتقي مفاهيمها حول معنى "السلطان"؛ ذلك الذي يستند في تدبيره السياسي على القوة والسيف والتغلب، قبل أن يستند على الكتاب والشرع. ولقد كان مصطلح الخلافة، في ظل هذا الوضع، لا يعدو كونه رمزاً لما ينبغي أن يكون عليه نظام الحكم في الإسلام! في حين كان ذلك المسمى "خليفة"، ومن ورائه جمهور المسلمين، مجرد تابعين، خاضعين في الأغلب لمالك السلطة الفعلية، الأمير والملك البويهي أو السلطان السلجوقي. فالتجربة إذن، في مجملها، تجربة دول سلطانية، لا تجربة خلافة إسلامية. خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أن أغلب أولئك "الخلفاء" حتى من أظهر منهم استقلالاً عن هؤلاء الملوك والسلاطين، لم يكن سلوكهم السياسي الفعلي متميّزاً عن سلوك السلاطين، ولم تكن قناعاتهم السياسية تتناقض والقناعات السلطانية الأخرى. إذ الكل كان يعتقد أنه يؤسس "مُلكاً طبيعياً" بتعبير ابن خلدون، ويساهم في إنشاء وحفظ "دولته" واضعاً في حسبانه أن هذا المفهوم الأخير، يقتضي بذاته استعمال القوة والغلبة والقهر، دفعاً لعوارض الزوال والانتقال و"التداول"6.
نعم! إن ابن خلدون، شأنه شأن جلّ المؤرخين في الإسلام، كان يملك وعياً بمبلغ ذلك التغيير المشار إليه، والذي يكاد يكون جذرياً في المفاهيم والممارسات السياسية، التي صاحبت قيام وتطور السلطة الأموية والعباسية. وهو ما جعله يشير إلى ما يمكن اعتباره رأياً قديماً للمتكلم وللفقيه في مرتبة الملك والسلطان، باعتبارها "استبداداً على الخلافة، وهو معنى السلطان"7.ولهذا نراه يعقب على هذا التمييز المتداول حول التجربة السياسة في الإسلام، مزكياً له مبرراً إياه، حسب نظريته في العصبية، بالقول: "وإنما تكلّمنا عن الوظائف الخلافية، وأفردناها لنميّز بينها وبين الوظائف السلطانية فقط"8. ومعلوم أن أساس هذا التمييز قد لمسناه بوضوح في الخطاب الكلامي، وسنقف عليه لدى العديد من الفقهاء. غير أن وعي ابن خلدون بذلك التمييز لم يكن أقل درجة حينما عنون أحد فصول "مقدمته" ب"انقلاب الخلافة إلى ملك"9. وهو ما حمله على القول بأن "أكثر الأحكام السلطانية جائرة في الغالب؛ إذ العدل المحض هو في الخلافة الشرعية، وهي قليلة اللّبث"!10. وهو أثناء الإقرار بهذا التحول السريع لا يجد بدا من الاستناد إلى الأثر القائل: "الخلافة بعدى ثلاثون سنة، ثم تعود مُلكاً عضوداً". ولهذا يعتبر ابن خلدون مفهوم "الملك ـ على الحقيقة ـ لمن يستعبد الرعية... ولا يكون فوق يده قاهرة"، أو سلطة يضبط سياسته وفقها. وما ذلك إلا لأن من مستلزمات الملك "التغلّب والقهر". وهذا، رأيه، سرّ ذم القرآن للملك وللمرتبطين به، لما يتميزون به من "الإسراف في غير قصد، والتنكّب عن صراط الله"!11.
--------------------------------
عن (الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام)
1 ابن خلدون، المقدمة، الباب الثالث، الفصل، 31-32.
2 المقدمة، نفس الباب، الفصل: 25-28.
3 الجهشياري (أبو عبد الله محمد ابن عبدوس)، كتاب الوزراء والكتاب، القاهرة: مصطفى بابي الحلبي، 1357ه 1983م، ص28[تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري]. وقد اكتوى الجهشياري بنار السلطة وذاق مرارة السجن والمصادرة، وكان "من أرباب السيوف.. كما كان من أرباب الأقلام". انظر مقدمة الكتاب للمحققين. وقد توفي الجهشياري سنة 331ه.
4 البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقول أو مرذولة، حيدر آباد، دائرة المعارف العثمانية، 1377ه 1985م، ص474.
5 المقدمة، ص369.
6 في الترجمات الهيللينيستية "الدولة: سلطان تحجبه السنّة..."، فمن شأن السنة (=العدل) أن تمنع عن الدولة طابعها الأصلي المتمثل في القوة والقهر. انظر أيضاً: أين منظور، لسان العرب، مادة "دولة" ج11.
7 المقدمة، ص 418.
8 نفس المصدر والصفحة.
9 المقدمة، الفصل 28.
10 نفس المصدر، ص655-656.
11 نفس المصدر، ص358.
----------------------------------
المصدر: الفكر الاصولي واشكالية السلطة العلمية في الاسلام