نقوس المهدي
كاتب
"لولا ثلاثة، لانقطع العلم بالمغرب في القرن الحادي عشر لكثرة الفتن التي ظهرت فيه، وهم : محمد بن ناصر في درعة،
وسيدي محمد بن أبي بكر الدلائي في الدلاء،
وسيدي عبد القادر الفاسي بفاس".
محمد بن الطيب القادري، " نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني "
الزاوية الدلائية :
العصر :
عرف المغرب أيام الدولة السعدية، وبالضبط في عهد أحمد المنصور الذهبي (986-1012 هـ/1578-1603 م) عهد استقرار وازدهار في السياسية الداخلية والخارجية على السواء. إذ كان من نتائج معركة وادي المخازن الشهيرة في عام (986 هـ/1578 م)، والإنتصار المغربي على البرتغاليين أن طارت للبلاغد شهرة في جميع الأقطار، مما جعل عديدا من الدول تغير نظرتها إلى المغرب. كما ازدادت مكانة السلطان أحمد المنصور رفعة في أعين الرعية بعد أن وصلت جيوشه بلاد السودان في مطلع القرن الحادي عشر الهجري، وتدفقت منها على المغرب سيول الذهب والرقيق ما نعكس إيجابا على الأوظاع الإقتصادية للمغرب، فساد الأمن في البلاد، وعاش الناس في رغد من العيش وطمأنينة، غير أنه بمجرد وفاة أحمد المنصور سنة (1012 هـ) دخل المغرب فترة حالكة في حياته، حيث انصرف أولاده عن أمور الرعية والجند والثغور إلى النزاع بينهم حول الملك، والمواجلة الحربية لتحقيق الأطماع الشخصية والنزوات الخاصة، فاستقل كل واح منهم بمنطقة وجزء من المغرب كما حدث بالأندلس أيام ملوك الطوائف، فاحتد الصراع والنزاع على الملك مدة طويلة بين أبناء المنصور زيدان والشيخ المامون بفاس، وأبو فارس بمراكش. دون أن يتم الأمر لواحد منهم، وعمت الاضطرابات أرجاء البلاد كلها.
أما على المستوى الاقتصاد، فقد كان هو الآخر متدهورا، ولا سيما أن بعض الكوارث الطبيعية والأمراض الفتاكة قد جاءت لتوسع من دائرته ورقيقته. إنها فترة قلق اقتصادي واضح، أو بالأخرى فترة معوقات اقتصادية متعددة، وهو ما انعكش سلبا على تمط العيش من جهة، وكذلك على المستوى الثقافي والأدبي من جهة ثانية.
وعلى المستوي الديني، فقد شهدت هذه الفترة ميلاد زوايا كثيرة. كانت كلها محطات دينية لتلاوة الأوراد والأذكار، وانتهاد الطرق الدينية المتعددة، بعضها في استقامة وصلاح، وبعضها الآخر في شعوذة ونفاق إلى درجة اختلط فيها الحابل بالثابل، كما انتشرت هذه الزوايا في حواضر المغرب وبواديه.
هذا، وقد شاهدت الزاوية الدلائية في بداية عهدها العصر الذهبي للسعديين، ثم أدركت زمن الفتنة والتدهور، غير أن مناعتها وموقعها الجغرافي داخل جبال الأطلس، ومكانة رجالها الصالحين "استطاعت أن تختضن الثقافة الإسلامية في عصر عصفت فيه الاضطرابات بالمراكز العالمية التقليدية مثل فاس ومراكش، وعمرت الزاوية الدلائية زهاء قرن ظلت فيه مركز اشعاع للعلوم والدين"[1].
مفهوم الزاوية :
يؤكد الأستاذ محمد حجي أن الزاوية "لم تظهر في تاريخ المسلمين كمركز ديني وعلمي إلا بعد الرباط والرابطة"[2].
والرباط لغة مصدر رابط يرابط بمعنى أقام ولازم المكان. ويطلق في اصطلاح الفقهاء على شيئين، أولهما البقعة التي يجتمع فيها المجاهدون لحراسة البلاد ورد هجوم العدو عينها. والثاني عبارة عن المكان الذي يلتقي فيه صالحو المؤمنين لعبادة الله وذكره والتفقه في أمور الدين، قال تعالى : {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ}[3]. وقال أيضا : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[4]. وقد عرف المغرب الربط مع الفتح الإسلامي، وتأتي الرابطة بمعنى الرباط سواء في الإطلاق على مكان الجهاد أو مكان العبادة، وإن كان بعضهم يسمى الجيش المقيم في الربط رابطة.
أما الزاوية "فهي عبارة عن مكان معد للعبادة، وإيواء الوادرين المعتاجين وإطعامهم، وتسمى في الشرق خانقاة، وهو لفظة أعجمي يجمع على خانقات أو خانقاوات أو خوانق". يؤكد ذلك قول اليوسي : "إن الزاوية المشتهر اسمها اليوم عند أهل الطريق من إطعام الطعام للوافدين والمساكين والملازمين على الدوام، حتى صارت عند العوام كأنها من الفروض أو الشروط لا يعلم لها من حيث خصوصها أصل، ولا يجري لها ذكر في الكتاب ولا السنة. وإنما مرجعها إلى القرى وإكرام الضيف"[5]. وقيل في تعريف الزاوية المغربية إنها : "مدرسة دينية، ودار مجانية للضيافية، وهني هذين الوصغين تشبه كثيرا الدير في العصور الوسطى"[6].
ولم تعرف الزاوية في المغرب الأبعد القرن الخامس الهجري، وسميت في بادئ الأمر (دار الكرامة) كالتي بناها يعقوب المنصور الموحدي في مراكش، وفي القرن الثامين الهجري (الرابع عشر الميلادي) تكاثرت الزوايا في المغرب، ونمت حولها مدارس استقر فيها طلبة العلم، إلا أن القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) شكل نقطة تحول في دور الزاوية في المغرب، فالهزيمة التي تلقهاها المسلمون بالأندلس على يد الناصري واحتلال بعض التغور المغربية جعل الزاوية تتدخل في شؤون البلاد السياسية بدعوتها إلى الجهاد، ومقاومة الأجنبي، وقد كان تأسيس الزاوية الدلائية في هذه الفترة بالذات.
تأسيس الزاوية الدلائية :
لايعرف بالضبط متى أسست الزاوية الدلائية، "غير أنه يمكن الإطمئنان إلى القول أن تأسيسها كان في الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري، حوالي عام (974 هـ/ 1566 م)". ويرجع تأسيسها إلى الشيخ أبي بكر بن محمد بن سعيد الدلائي بإشارة من شيخه أبي عمر القسطلي (974 هـ) لذلك تدعى أيضا الزاوية البكرية، نسبة إلى اسم مؤسسها.
وقد عمل مؤسسها في البداية على إطعام الطعام على نحو ما يفعله شيخه القسطلي بمراكش، حتى ذاع صيتها، وتزايد قاصدوها مما دفع مؤسسها إلى الإجتهاد، فعمل الشيخ أبو بكر الدلائي على تشييد المباني حول هذا المسجد الذي أسسه، وحفر العيون وأجرى ماءها، تووسع الأودية، واشترى الرباع في غالب البلاد وحبسها على الطلبة والضعفاء والمساكين، حتى كانت الزاوية في عداد المدائن التي يعجز اللسان عن وصفها. وعندما مات أبو بكر خلفه ابنه محمد في رياستها، فسلك نهج أبيه في رعاية شؤون الدين بهذه المنطقة، وجعل منها قبلة للعلماء والطلبة الذين كانوا يفدون عليها لحضور مجالس العلم التي كانت تعقدها.
موقع الزاوية الدلائية :
لقد وقع اضطراب في تحديد موقع الزاوية الدلائية بسبب تخريبها وانطماس معالمها. فأشار إليها بعض المؤرخين إشارات عامة، كقولهم إنها تقع على ثلاث مراحل من فاس مكتنعة بين بجاناة وبسكورة وتادلا، وقال البعض الآخر "لا يعرف بالضبط وقع هذه الزاوية الآن، وإنما المحقق أنها كانت تقع بناحية وادي أم الربيع قريبا من تادلة، ولعلنا لا نخطئ إذا عينا لها بلاد ت.... المعروفة اليوم بالشاوية، ومن ثم شهر بعض الدلائيين بنسب المسناوي. وظل الغموض سيد الموقف إلى أن جاء محمد حجي الذي أكد أن هناك زاويتين قديمة وحديثة لا تزال أطلالها قائمة الذات، مائلة للعيان حتى اليوم، ويعرف سكان ناحية خنيفرة الزاوية القديمة باسم (أيت بدلا) أي أهل الدلاء، وتقع الزاوية الدلائية القديمة التي شاسسها أبو برلا الدلائي على ربوة في سفح جيبل (بو ثور) بينه وبين جبل (تاغوليت)، وتنفجر في شرقيها شعبة (أقا إيزم) أي شعبة الأسد... أما الزاوية الدلائية الحديثة التي بناها السلطان محمد الحاج الدلائي فهي التي تقوم على أنقاضها زاوية أيت اسحاق الحالية، في الطريق التي تربط بين خنيفرة وقصبة تادلا.
دور الزاوية الدلائية في إثراء الحركة الأدبية
يظهر من خلال ما سبق أن هذه الفترة من تاريخالمغرب لم تكن فترة استقرار وهدوء، وإنما كانت فترة اضطرابات متلاحقة، لتكاد تخمد أنفاس الواحد منها حتى تظهر مؤشرات الآخر معلنة عن جو من الفتنة والتذعر، خصوصا في الأوساط العلمية والثقافية التي كانت أكثر تأثرا بسلبيات هذه الاضطرابات والفتن.
وغير خاف أن الحروب التي شهدتها هذه الفترة كان لها أسوؤ الأثر على الوضع الإجتماعي، وخاصة في المدن (فاس، سلا، تارودانت...)، حيث كان الناس فيها معرضين لألوان من التعسف والظلم دفعتهم إلى الهجرة منها بحثا عن مواطن أكثر طمأنينة واستقرار. وطبيعي أن تكون لمثل هذه الأوضاع آثار وخيمة على الميدان العلمي والأدبي على السواء، حيث أفلت نجوم العلماء والمثقفين بالمدجن المغربية إلى درجة أصبح الجهل فيها متفشيا بشكل كبير. ما حدا ببعض الباحثين إلى اعتبار القرن الحادي عشر الهجري "عصر انحطاط في الهمم، وتقاعس في الغرائم، وإسفاق في الأفكار، وهو عصر عم فيه الجهل جميع الأنحاء المغربية، وكثرت فيه الفتن والقلاقل إلى حد أصبح عسيرا معه طلب العلم والجد فيه"[7]. وهكذا أخذ الناس يفرون من المدن إلى البادية، وكانت الزاوية الدلائية من أحسن البقاع التي يلتجئ إليها العلماءن حيث يجدون الطمأنينة وراحة البال، وينعمون بكرم ضيافة أهلها، فيتفرغون اللعم وتدارسه، وقد حصل أبناء أبي بكر علما بضاعة غير مزجاة، فتصدوا للتدريس في زاويتهم، وأقبل عليهم الطلاب من كل حرب وصوب إلى درجة اعتبر فيها عبد الله كنون "من الألطاف الخفية ظهرو الزاوية الدلائية... فكأنها بعها لله لحفظ تراث العلوم والآداب الذي كاد أن يضيع، فقامت عليه خير قيام، وما هي إلا مدة قليلة حتى صارت مركزا مهما لنشر الثقافة العربية بين قبائل المغرب ومأزرا حصينا للعلوم إلا سلامية بالبلاء، وقد تخرج فيها عدد لا يحصى من العلماء الفطاحل والأدباء الأمثل"[8].
لقد تطور أمر الزاوية الدلائية في الثلث الثاني من القرن الحجادي عشر الهجري وكثرت فيها المدارس التي ازدحمت بالطلاب، حتى كان يسكن في البيت الواحد طالبان فأكثر، ينفق محمد بن أبي بكر عليهم جميعا، وتكاثر عدد العلماء المشتغلين بالتدريس في مساجد الزاوية الدلائية سواء من أبناء الزاوية نفسها أو من العلماء الطارئين عليها، وتكونت فيها خزانة عظيمة شبهها بعضهم بخزانة الحكم المستنصر بالأندلس.
ومن الثابت تاريخيا أنالزاوية الدلائية كانت مركزا ثقافيا هاما تشد إليه رجال العلماء والطلبة من مختلف أنحاء المغرب، وتتداول فيه العلوم بكل أشكالها وأضافها. فقد أجمع كل من تحدث عن الناحية العلمية للزاوية الدلائية على أنها بلفت شاوا بعيدا في هذا المضمار، نظرا لما تميزت به من مميزات اقتصادية واجتماعية جعلتها تحتل مكان الصدارة في القرن الحادي عشر الهجري وتصبح مركز اشعاع علمي ببسط نوره على أرجاء المغرب التي كان معظمها إذ داك ءاجيا حالك الظلمة، يقةل عبد الله كنون في هذا الصدد : "إن الثقافة الأدبية واللغوية كانت في الناحية التي درس فيها اليوسي أقوى منها في فاس، بل إننا نقول : إن الثقافية اللغوية المتينة التي كانت موجودة في زاوية الدلاء، حيث درس اليوسي، هي التي أحيت دماء الأدب في المغرب بعد عدم"[9]. ومعروف أن اليوسي قضى ما يزيد عن عشرين سنة في الزاوية الدلائية تلميذا ثم مدرسا بعد ذلك. ولعلنا لهذا نجد جل الذين ترجموا للدلائيين، أو كتبوا عنهم متفقين حول مكانتهم العلمية المشهودة، وتضلعهم في كافة أنواع العلوم. وأضاف المعرفة، على غرار ما نقرأ في بعض المصادر حول ..... بن أبي بكر (1079 هـ) مثلا، الذي كان إلى جانب اهتمامه بعلم التجويد والقراءات متبحرا في غيره من العوم "حتى كانت تشهد إليه الرحال منكل وجهة في علم المعقول والمنقول والمنطق والبيان والأصول واللغة والتفسير والنحو والتصريف، حتى كان يضرب به المثل في زمانه في العلم"[10]. وكان المسناوي محمد بن أبي بكر (1059 هـ) "ىية من الله في دقائق المرسوم والمفهوم، بارعا في الفقه والأصلين (العقائد وأصول الفقه) والتفسير والحديث وعلم الكلام والمعاني والبيان والسير واللغة وعلم الأنساب والأدب والقراءات"[11]. وكان ابنه محمد من أكبر رجال الزاوية، حتى كانت : تهابه اللعماء ولا تقدر أن تتكلم أمامه لشدة فصاحته وعلمه، وفطنته لكل من لحن"[12]. كما كان حفيده محمد "ممن ملأ فاسا علما معقولا ومنقولا، وتفسيرا وحجديثا ومنطقا ولغة ونحوا وتصريفا"[13]، وكان الطيب المسناوي (1077 هـ) "من أكابر العلماء المشهورين بالعلم والصلاح، وقطب زمانه، وعالم أوانه، وكان يقال له كيمياء العلوم"[14] لشدة علمه وتبحر معارفه. وكان محمد الخريم بن أبي بكر (1059 هـ) "علامة محققا نحريرا، كان يدعى بشيخ الشيوخ العارف لا يحيط العقل بعلومه"[15].
ويميل بعض المؤرخين إلى أن الدلائيين لم يغنوا الحركة العلمية في المغرب فقط، بل كانوا سببا في إحياء العلم ونهضته، ووسيلة بعثه من نهضته بعد طول كبوته، فهم : السادات الدلائيون البكريون، المواهب المرضيون، إذهم أحيوا العلم وأظهروه بزاوية الدلاء، بعد أن كان بالمغرب درس وضاع، وثلثهم وتبرقع وشد على رأسه ووجهه القناع، فأسفروا عن وجهه اللثام، وشمروا عن ساق الجد في طلبه، وشدوا الخرام، فأعربوا عنه كل الإعراب، وأملي عنهم في المدن والقرى والمداشر والخيم والأعراب، ومد لهم فيه الباع، فصار غيرهم إن ذكر بفاس إنما يذكر بعدهم يحسن الأتباع"[16]. بل يكاد الإجماع ينعقد على أن الناحية العلمية عند الدلائيين كانت في بلادهم أزهي منها في أي مكان آخر، بما في ذلك مدينة فاس، ولعل ما يؤك
هذا كثرة الكتب التي كانت تتوفر عليها خزانة الدلائيين، إذ كانت تبلغ عشرة ألاف سفر، كما يؤكده وفرة العلوم التي اشتغلوا فيها، وتنوع الكتب التي صنفوها. وقد حاول محمد حجي أن يضع جداول مفصلة للمؤلفات التي أنشأها الدلائيون، وهي مؤلفات متعددة الأبواب وختلفة المواضيع، من سيرة وحديث إلى فقه واصول، إلى نحو وعروض، إلى أنساب وتقاييد مختلفة، سواء في ذلك ما أبدعوه من مصنفات أو ما وضعوه كشروح وحواش على بعض مؤلفات غيرهم. يقول في حقهم الكردودي : "كانت هذه الزاوية من أعظم الزوايا، الحائزة في المغرب أشرف المزايا، إذ كان بها من معاطاة العلوم والذووب على التدريس في سائر الأوقات والأزمان، ما تخرج به كثير من جملة العلماء وصدور الأعيان"[17]. وليس غريبا في جو كهذا أن تصبح الزاوية الدلائية قبلة لطلاب العلم، تشد غليها للرجال من مختلف الأقطار طلبا للعلم والمعرفة، مما حدا بالقائمين على الزاوية إلى تشييد المدارس الكثيرة، وتوفير السكن لإيواء الطلبة المتوافدين عليهم.
ويشير الأستاذ عبد الكبير العلوي المدغيري في كتابه "الفقيه أبو علي اليوسي نموذج الفكر المغربي في فجر الدولة العلوية"[18] إلى أن سبب علو كعب اليوسي في العلوم على اعتباره من أبرز العلماء الذين أنتجتهم الزاوية الدلائية –يرجع إلى ما وفرته له الزاوية الدلائية من عوامل كثيرة ساعدته على الدرس والتحصيل، نذكر منها :
- هدوء الزاوية الدلائية وبعدها عن ضجيج الإضطرابات السياسية الحادة التي كانت تعاني منها الحواضر في تلك الفترة.
- ما وفرته له الزاوية من ضرورياتن حيث ضمنت له المأكل والمسكن، وقد بلغت مساكن الطلبة بالزاوية الدلائية ألفا واربعمائة مسكن، ولم تكن كافية، فكان يسكن في البيت الواحد طالبا فأكثر، كما يؤك
- ذلك الولالي أحمد بن يعقوب (1128 هـ) وهو أحد تلاميذ الزاوية الدلائية، ومن الذين أقاموا بإحدى غرفها المدرسية، مما يدل على أن عدد الطلبة كان كثيرأ.
- كرم رؤساء الزاوية الدلائية، وعادتهم التي نشأوا عليها من إطعام الطعام والإعتناء بالضيوفن وفتح أبوابهم لطلاب العلم، وهذا الكرم جلب للزاوية عددا من الأساتذة من مختلف أنحاء المغرب.
- وجود خزانة حافلة بنفائس الكتب بلغ وصيدها أكثر من عشرة آلاف سفر[19]. مما يفيد الطلبة والأساتذة جميعا في المذاكرة والمراجعة والتدريس والتىليف.
- ذلك الجو الصافي النقي الذي يرتقي ببول الغنسان، وبصرف همه عن الدنيا، ويهون عليه ما يلقاه من شظف العيش، ويساعده على القناعة بالقليل والرضى بالميسور، والانصراف غلى غرضه من علم أو عبادة انصرافا كليا لا تكدره وساوس النفس. وهواجس الطبع.
وتجدر الإشارة إلى أن احتفال الدلائيين بعيد المولد النبوي الشريف أيام الشيخ محمد نب أبي بكر اكسبها شهرة عظيمة، فكانت هذه المناسبة موعدا يقصدها الناس فيه سواء منهم العلماء والأدباء، ويقضون في تلك البعقة الطيبة أياما يظل المنشدون فيها يرددون القاصئد والمقطعات والموشحات في محد الرسول الكريم، خصوصا بردة الإمام البوصيري وهمزيته، ويقوم الشعراء بإلقاء قصائد ينظظمونها خصيصا لهذه المناسبة لاسيما منهم شاعر الزاوية أحمد الدغوغي الذي كان يدل مولدياته بمدح الشيخ محمد بن أبي بكر والدعاء له، فيرتاح لذلك الشيخ وتطيب نفسه، وقد شجع الشعراء على نظم القصائد والتفنن في صوغها ورفعها إلى محمد بن أبي بكر في هذه المناسبة، الذي كان بدوره لا يبخل عليهم بامكافآة وحزيل الصلاة، وكان لا شثيب منهم إلا من محد الرسول عليه السلام واشاد بمفاخر الإسلام، وقصته مع الأديب عمرو بن قاسم الأندلسي الرباطي في ذلك معروفة[20].
والدلائيون باحتفالهم بهذه المناسبة كأنهم بذلك يشجعون على قول الشعر ويرغبون الناس فيه. وإلى جانت احتفال الدلائيين بالمولود النبوي تنضاف مناسبة أخرى كانت تلقى فيها القصائد وتباري فيها الشعراء، وهي ختم المتون التي كانت تقرأ على طول السنة. فقد ثبت عن محمد بن أبي بكر (1046 هـ) أنه كان يختم صحيح البخاري كل سنة، تولذلك "يأتيه الناس للتبرك والاستفادة من بعيد الأمكنة، وتنطلق بالثناء عليه نثرا ونظما جميع الألسنة"[21]. كما جاء على لسان الدغوغي حيث يقول من إحدى قصائده بالمناسبة :
وقاء علاك من الأرض طرا = مميت الجهل محي العلم نصعا .
فأنت من الثقاء لهم وقاء = كما أحيا مميت القحط الماء .
ولا شك أن مثل هذه المناسبات واللقاءات تنتج عنها علاقات قوية ومتينة بين شيوخ الزاوية الدلائية وشعراء العصر وأعلامه. إذ كان الدلائيون يحرصون على توطيد علاقاتهم بكبار الشعراء عن طريق التوسيع لهم في زاويتهم قبل خرابها في نوع من التشجيع والرعاية، وهما العنصاران اللذان استمرا حتى بعد خراب الزاوية ورحيل أهلها عنها إلى فاس وتلمسان. فالمعروف عن الشاعر العربي بن يوسف الفاسي (1052 هـ) أنه أقام بالزاوية زمانا متصدرا للتدريس بها، ومجيزا لبعض أبنائها، أمثال الشرقي بن أبي بكر وأخيه أحمد الحارثي (1075 هـ)، وقد انطلق لسانه بالثناء على أهل الزاوية والإعتراف لهم بالجميل كما يظهر من خلال شهرع في مجح محمد بن أبي بكر وبنيه. والمعروف كذلك عن ابنه عبد الوهاب أنه كان متقربا من الزاوية ورجالها معجبا بما لهم من فضل وصلاح وعلم وأدب، مما أوحي له بإنشاء قصيدة في مدحهم، يقول في ثناياها :
تخالهم كالبدور وكالسيوف مضاء= وكالأسود ولكن وكالبحور ولكن .
مكانة وورسامة وحدة وصرامة = مهابة وزعامة سماحة وضخامة .
غير أن المولى الرشيد عندما وقف على هذه القصيدة –وهو الذي هد معالم الزاوية وقوض أركانها- عاقب ناظمها وحرمه من أعطياته، وقال إن هذا المدح لا يليق إلا بأهل البيت.
ولابد أن نسجل كذلك في هذا المجال ما كان قائما من علاقة تربط الشاعر محمد ميارة (1072 هـ) بمحمد المسناوي بن محمد بن أبي بكر ومحمد المرابط الدلائيين، وتربط الشاعر التستاوتي بالطيب بن المسناوي...
وقد نتج عن ذهه لعلاقات المختلفة فيض غزير من القصائد الشعرية التي أبدعنها قرائح الشعراء في مدح الدلائيين والتقرب إليهم وبكاء من غيبه اللحد منهم. ولعل هذه العلاقات هي التي انتهت ببعض هؤلاء الشعراء ليصبحوا دلائيين من حيث احتكاكهم واتصالهم بالزاوية وأبنائها.
خاتمة.
لقد تعاقبت على الزاوية الدلائية أطوار الحياة الطبيعية من نشوؤ وترعرع وارتقاء، ثم تقهقر وفناء في أمد قريب لم يجاوز قرنا واحدا، وهو عمر قصير بالنسبة للمؤسسات الدينية والعلمية التي يفرض فيها أن تخلد خلود الدين والعلم.
لكن هذه الزاوية استطاعت رغم هذه الفترة القصيرة أن تساهم وبشكل كبير في النهوض بالحركة الأدبية في المغرب، إذ سارت بذكرها الركبان، واشتهر اسمها أمرها في المغرب كله. وقصدها الناس منجميع الجهات ومن بينهم علماء كبار استطابوا المقام فيها شهروا وأعواما، وازدهرت بهم المجالس العلمية ازجهار حلقات الأذكار بالمويدين، نظرا لما وفره شيوخ الزاوية ومن ظروف مواتية ومناسبة للعلماء والطلبة، حيث شيدوا المدارس التي بلغت حجرات طلبتها ألفا وأربعمائة. واتسعت المكتبة العلمية الدلائية التي كانت تستنسخ لها الكتب النادرة في المشرق والمغرب إلى أن بلغ عدد الكتب فيها عشرة آلاف مجلد. ويفكي الزاوية الدلائية مخرا أن يعد من تلاميذها الحسن اليوسي صاحب "المححاضرات" و "القانون"، وأحمد المقري صاحب "نفح الطيب"، ومحمد العربي الفاسي مؤلف "مرآة المحاسن"، وأضرابهم من فطاحل العلماء وأن تنجب من أبنائها عشرات الأعلام في مختلف ميادين المعرفة، مثل محمد بن أبي بكر الدلائي شيخ الحفاظ بالمغرب، وابنه محمد المرابط إمام اللغة والنحو في عصره، وأحمد بن عبد الله الدلائي أشعر قومه وأعلمهم بالآداب.
وكان ظهور السلطان الرشيد بن الشريف العلوي (1075 هـ/1082 هـ) في المغرب واستيلاؤه على فاس ومكناس بداية النهاية بالنسبة إلى الزاية الدلائية التي ظهر فيها رجل طموح يدعى محمد الحاج الدلائي (797 هـ +)، بهره بريق الجاه والسطلنان وأعماه حب الرياسة، فانعمر في ميدان السياسة، لكن المولى الرشيد سيتمكن من القضاء عليه في معركة بطن الرمان سنة (1079 هـ)، ليقوم بعد ذلك ينفي الدلائيين عن زاويتهم إلى فاس وتلمسان والحسرة تملأ أفئدتهم، والدموع تشرقوق في مآقيهم، وأعمل السلطان الرشيد معاول الهدم في الزاويتين القديمة والحديثة، فخر بهما وطمس معالمها وتركهما خاويتين على عروشهما، تعشعش فيها البوم وتنعق الغربان، إلا إن المجهود العلمي لهذه الزاوية لم يقتصر على الفترة التي كانت فيها قائمة المعالم شامخة البنيان، بل وأصلت طرقها حتى بعد خرابها ودمارها. فأدرك العلماء الدلائيون منزلة وفيعة في العاصمة الإدرسية، وزاحموا علماءها على منابر التدريس والخطابة في المساجد والمدارس إلى أن أصبحوا يقلون الصدارة في هذا الميدان، وتولى كثير من الفقهاء الدلائيين خطة القضاء والإفتقاء في فاس ومكناس وتارودانت، ودرس علماؤها في هذه المدن وفي غيرها كمراكش، وتتلمذ لهم كثير من الناس من جميع الطبقات، حتى الأمراء العلويون مثل محمد العالم بن السلطان إسماعيل، وعبد السلام بن السلطان محمد بن عبد الله، وخلف الدلائيون تراثا علميا هاما يتمثل في عشرات الكتب التي ألفوها في مختلف الفنون، وفي آثارهم الأدبية الرائعة.
وصفوة القول، إن الزاوية الدلائية ساهمت بشكل كبير في إثراء الحركة الأدبية بالمغرب، وظلت نبعا فياضا ينهل منه رجال العلم والدين طيلة قرن كامل.
المصادر والمراجع.
1. خل وبقل، عبد الله كنون، المبطبعة المهدية بتطوان، بدون تاريخ.
2. الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، محمد حجي، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثانية، 1409 هـ/1988 م.
3. الشعر الدلائي، عبد الجواد السقاط، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، 1985 م.
4. الفقيه أبو علي اليوسي، نموذح الفكر المغربي في فجر الدولة العلوية، عبد الكبير العلوي المدغري، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1409 هـ/1989 م.
5. المحاضرات في الأدب واللغة، الحسن اليوسي، تحقيق محمد حجي وأحمد الشرقاوي اقبال، دار الغرب الإسلامي بيروت، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، 1402 هـ/1982 م.
6. النبوغ المغربي في الأدب العربي، عبد الله كنون، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، بيروت، 1961 م.
[1] الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، محمد حجي، مطبعة النجاح الجديدة، ط : 2، 1409 هـ/1988 م، ص : 21.
[2] نفسه، ص : 21.
[3] سورة الأنفال، الآية : 60.
[4] سورة آل عمران، الآية : 200
[5] المحاضرات في الأدب واللغة، الحسن اليوسي، تحقيق محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، دار الغرب الإسلامي بيروت، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر،1402 هـ/1982 م. ص : 314.
[6] دائرة المعارف الإسلامية، المترجمة إلى العربية، العدد 9 من المجلد 10، ص : 332، نقلا عن "الزاوية الدلائية" لمحمد حجي.
[7] مجلة المغرب الجديد، السنة الأولى 1935، العدد الرابع، ص : 18، نقلا عن الزاوية الدلائية، والقول لعلال الفاسي.
[8] النبوغ المغربي، 1/274.
[9] خل وبقل، عبد الل كنون، المطبعة المهدية بتطوان، بدون تاريخ، ص : 275.
[10] الشعر الدلائي، عبد الجواس السقاط، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط : 1، 1985، ص : 48.
[11] نفسه، ص : 48.
[12] الشعر الدلائي، عبد الجواس السقاط، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط : 1، 1985، ص : 48.
[1] نفسه.
[14] نفسه، ص : 49.
[15] نفسه.
[16] نفسه.
[17] الشعر الدلائي، ص : 50.
[18] نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1409 هـ/1989 م.
[19] لمزيد من المعلومات عن المؤلفات الدلائيين، انظر "الزاوية الدلائية"، ص : 275.
[20] لمزيد من المعلومات عن هذه القصة، انظر "الزاوية الدلائية" ص : 50.
[21] الشعر الدلائي، ص : 102
وسيدي محمد بن أبي بكر الدلائي في الدلاء،
وسيدي عبد القادر الفاسي بفاس".
محمد بن الطيب القادري، " نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني "
الزاوية الدلائية :
العصر :
عرف المغرب أيام الدولة السعدية، وبالضبط في عهد أحمد المنصور الذهبي (986-1012 هـ/1578-1603 م) عهد استقرار وازدهار في السياسية الداخلية والخارجية على السواء. إذ كان من نتائج معركة وادي المخازن الشهيرة في عام (986 هـ/1578 م)، والإنتصار المغربي على البرتغاليين أن طارت للبلاغد شهرة في جميع الأقطار، مما جعل عديدا من الدول تغير نظرتها إلى المغرب. كما ازدادت مكانة السلطان أحمد المنصور رفعة في أعين الرعية بعد أن وصلت جيوشه بلاد السودان في مطلع القرن الحادي عشر الهجري، وتدفقت منها على المغرب سيول الذهب والرقيق ما نعكس إيجابا على الأوظاع الإقتصادية للمغرب، فساد الأمن في البلاد، وعاش الناس في رغد من العيش وطمأنينة، غير أنه بمجرد وفاة أحمد المنصور سنة (1012 هـ) دخل المغرب فترة حالكة في حياته، حيث انصرف أولاده عن أمور الرعية والجند والثغور إلى النزاع بينهم حول الملك، والمواجلة الحربية لتحقيق الأطماع الشخصية والنزوات الخاصة، فاستقل كل واح منهم بمنطقة وجزء من المغرب كما حدث بالأندلس أيام ملوك الطوائف، فاحتد الصراع والنزاع على الملك مدة طويلة بين أبناء المنصور زيدان والشيخ المامون بفاس، وأبو فارس بمراكش. دون أن يتم الأمر لواحد منهم، وعمت الاضطرابات أرجاء البلاد كلها.
أما على المستوى الاقتصاد، فقد كان هو الآخر متدهورا، ولا سيما أن بعض الكوارث الطبيعية والأمراض الفتاكة قد جاءت لتوسع من دائرته ورقيقته. إنها فترة قلق اقتصادي واضح، أو بالأخرى فترة معوقات اقتصادية متعددة، وهو ما انعكش سلبا على تمط العيش من جهة، وكذلك على المستوى الثقافي والأدبي من جهة ثانية.
وعلى المستوي الديني، فقد شهدت هذه الفترة ميلاد زوايا كثيرة. كانت كلها محطات دينية لتلاوة الأوراد والأذكار، وانتهاد الطرق الدينية المتعددة، بعضها في استقامة وصلاح، وبعضها الآخر في شعوذة ونفاق إلى درجة اختلط فيها الحابل بالثابل، كما انتشرت هذه الزوايا في حواضر المغرب وبواديه.
هذا، وقد شاهدت الزاوية الدلائية في بداية عهدها العصر الذهبي للسعديين، ثم أدركت زمن الفتنة والتدهور، غير أن مناعتها وموقعها الجغرافي داخل جبال الأطلس، ومكانة رجالها الصالحين "استطاعت أن تختضن الثقافة الإسلامية في عصر عصفت فيه الاضطرابات بالمراكز العالمية التقليدية مثل فاس ومراكش، وعمرت الزاوية الدلائية زهاء قرن ظلت فيه مركز اشعاع للعلوم والدين"[1].
مفهوم الزاوية :
يؤكد الأستاذ محمد حجي أن الزاوية "لم تظهر في تاريخ المسلمين كمركز ديني وعلمي إلا بعد الرباط والرابطة"[2].
والرباط لغة مصدر رابط يرابط بمعنى أقام ولازم المكان. ويطلق في اصطلاح الفقهاء على شيئين، أولهما البقعة التي يجتمع فيها المجاهدون لحراسة البلاد ورد هجوم العدو عينها. والثاني عبارة عن المكان الذي يلتقي فيه صالحو المؤمنين لعبادة الله وذكره والتفقه في أمور الدين، قال تعالى : {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ}[3]. وقال أيضا : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[4]. وقد عرف المغرب الربط مع الفتح الإسلامي، وتأتي الرابطة بمعنى الرباط سواء في الإطلاق على مكان الجهاد أو مكان العبادة، وإن كان بعضهم يسمى الجيش المقيم في الربط رابطة.
أما الزاوية "فهي عبارة عن مكان معد للعبادة، وإيواء الوادرين المعتاجين وإطعامهم، وتسمى في الشرق خانقاة، وهو لفظة أعجمي يجمع على خانقات أو خانقاوات أو خوانق". يؤكد ذلك قول اليوسي : "إن الزاوية المشتهر اسمها اليوم عند أهل الطريق من إطعام الطعام للوافدين والمساكين والملازمين على الدوام، حتى صارت عند العوام كأنها من الفروض أو الشروط لا يعلم لها من حيث خصوصها أصل، ولا يجري لها ذكر في الكتاب ولا السنة. وإنما مرجعها إلى القرى وإكرام الضيف"[5]. وقيل في تعريف الزاوية المغربية إنها : "مدرسة دينية، ودار مجانية للضيافية، وهني هذين الوصغين تشبه كثيرا الدير في العصور الوسطى"[6].
ولم تعرف الزاوية في المغرب الأبعد القرن الخامس الهجري، وسميت في بادئ الأمر (دار الكرامة) كالتي بناها يعقوب المنصور الموحدي في مراكش، وفي القرن الثامين الهجري (الرابع عشر الميلادي) تكاثرت الزوايا في المغرب، ونمت حولها مدارس استقر فيها طلبة العلم، إلا أن القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) شكل نقطة تحول في دور الزاوية في المغرب، فالهزيمة التي تلقهاها المسلمون بالأندلس على يد الناصري واحتلال بعض التغور المغربية جعل الزاوية تتدخل في شؤون البلاد السياسية بدعوتها إلى الجهاد، ومقاومة الأجنبي، وقد كان تأسيس الزاوية الدلائية في هذه الفترة بالذات.
تأسيس الزاوية الدلائية :
لايعرف بالضبط متى أسست الزاوية الدلائية، "غير أنه يمكن الإطمئنان إلى القول أن تأسيسها كان في الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري، حوالي عام (974 هـ/ 1566 م)". ويرجع تأسيسها إلى الشيخ أبي بكر بن محمد بن سعيد الدلائي بإشارة من شيخه أبي عمر القسطلي (974 هـ) لذلك تدعى أيضا الزاوية البكرية، نسبة إلى اسم مؤسسها.
وقد عمل مؤسسها في البداية على إطعام الطعام على نحو ما يفعله شيخه القسطلي بمراكش، حتى ذاع صيتها، وتزايد قاصدوها مما دفع مؤسسها إلى الإجتهاد، فعمل الشيخ أبو بكر الدلائي على تشييد المباني حول هذا المسجد الذي أسسه، وحفر العيون وأجرى ماءها، تووسع الأودية، واشترى الرباع في غالب البلاد وحبسها على الطلبة والضعفاء والمساكين، حتى كانت الزاوية في عداد المدائن التي يعجز اللسان عن وصفها. وعندما مات أبو بكر خلفه ابنه محمد في رياستها، فسلك نهج أبيه في رعاية شؤون الدين بهذه المنطقة، وجعل منها قبلة للعلماء والطلبة الذين كانوا يفدون عليها لحضور مجالس العلم التي كانت تعقدها.
موقع الزاوية الدلائية :
لقد وقع اضطراب في تحديد موقع الزاوية الدلائية بسبب تخريبها وانطماس معالمها. فأشار إليها بعض المؤرخين إشارات عامة، كقولهم إنها تقع على ثلاث مراحل من فاس مكتنعة بين بجاناة وبسكورة وتادلا، وقال البعض الآخر "لا يعرف بالضبط وقع هذه الزاوية الآن، وإنما المحقق أنها كانت تقع بناحية وادي أم الربيع قريبا من تادلة، ولعلنا لا نخطئ إذا عينا لها بلاد ت.... المعروفة اليوم بالشاوية، ومن ثم شهر بعض الدلائيين بنسب المسناوي. وظل الغموض سيد الموقف إلى أن جاء محمد حجي الذي أكد أن هناك زاويتين قديمة وحديثة لا تزال أطلالها قائمة الذات، مائلة للعيان حتى اليوم، ويعرف سكان ناحية خنيفرة الزاوية القديمة باسم (أيت بدلا) أي أهل الدلاء، وتقع الزاوية الدلائية القديمة التي شاسسها أبو برلا الدلائي على ربوة في سفح جيبل (بو ثور) بينه وبين جبل (تاغوليت)، وتنفجر في شرقيها شعبة (أقا إيزم) أي شعبة الأسد... أما الزاوية الدلائية الحديثة التي بناها السلطان محمد الحاج الدلائي فهي التي تقوم على أنقاضها زاوية أيت اسحاق الحالية، في الطريق التي تربط بين خنيفرة وقصبة تادلا.
دور الزاوية الدلائية في إثراء الحركة الأدبية
يظهر من خلال ما سبق أن هذه الفترة من تاريخالمغرب لم تكن فترة استقرار وهدوء، وإنما كانت فترة اضطرابات متلاحقة، لتكاد تخمد أنفاس الواحد منها حتى تظهر مؤشرات الآخر معلنة عن جو من الفتنة والتذعر، خصوصا في الأوساط العلمية والثقافية التي كانت أكثر تأثرا بسلبيات هذه الاضطرابات والفتن.
وغير خاف أن الحروب التي شهدتها هذه الفترة كان لها أسوؤ الأثر على الوضع الإجتماعي، وخاصة في المدن (فاس، سلا، تارودانت...)، حيث كان الناس فيها معرضين لألوان من التعسف والظلم دفعتهم إلى الهجرة منها بحثا عن مواطن أكثر طمأنينة واستقرار. وطبيعي أن تكون لمثل هذه الأوضاع آثار وخيمة على الميدان العلمي والأدبي على السواء، حيث أفلت نجوم العلماء والمثقفين بالمدجن المغربية إلى درجة أصبح الجهل فيها متفشيا بشكل كبير. ما حدا ببعض الباحثين إلى اعتبار القرن الحادي عشر الهجري "عصر انحطاط في الهمم، وتقاعس في الغرائم، وإسفاق في الأفكار، وهو عصر عم فيه الجهل جميع الأنحاء المغربية، وكثرت فيه الفتن والقلاقل إلى حد أصبح عسيرا معه طلب العلم والجد فيه"[7]. وهكذا أخذ الناس يفرون من المدن إلى البادية، وكانت الزاوية الدلائية من أحسن البقاع التي يلتجئ إليها العلماءن حيث يجدون الطمأنينة وراحة البال، وينعمون بكرم ضيافة أهلها، فيتفرغون اللعم وتدارسه، وقد حصل أبناء أبي بكر علما بضاعة غير مزجاة، فتصدوا للتدريس في زاويتهم، وأقبل عليهم الطلاب من كل حرب وصوب إلى درجة اعتبر فيها عبد الله كنون "من الألطاف الخفية ظهرو الزاوية الدلائية... فكأنها بعها لله لحفظ تراث العلوم والآداب الذي كاد أن يضيع، فقامت عليه خير قيام، وما هي إلا مدة قليلة حتى صارت مركزا مهما لنشر الثقافة العربية بين قبائل المغرب ومأزرا حصينا للعلوم إلا سلامية بالبلاء، وقد تخرج فيها عدد لا يحصى من العلماء الفطاحل والأدباء الأمثل"[8].
لقد تطور أمر الزاوية الدلائية في الثلث الثاني من القرن الحجادي عشر الهجري وكثرت فيها المدارس التي ازدحمت بالطلاب، حتى كان يسكن في البيت الواحد طالبان فأكثر، ينفق محمد بن أبي بكر عليهم جميعا، وتكاثر عدد العلماء المشتغلين بالتدريس في مساجد الزاوية الدلائية سواء من أبناء الزاوية نفسها أو من العلماء الطارئين عليها، وتكونت فيها خزانة عظيمة شبهها بعضهم بخزانة الحكم المستنصر بالأندلس.
ومن الثابت تاريخيا أنالزاوية الدلائية كانت مركزا ثقافيا هاما تشد إليه رجال العلماء والطلبة من مختلف أنحاء المغرب، وتتداول فيه العلوم بكل أشكالها وأضافها. فقد أجمع كل من تحدث عن الناحية العلمية للزاوية الدلائية على أنها بلفت شاوا بعيدا في هذا المضمار، نظرا لما تميزت به من مميزات اقتصادية واجتماعية جعلتها تحتل مكان الصدارة في القرن الحادي عشر الهجري وتصبح مركز اشعاع علمي ببسط نوره على أرجاء المغرب التي كان معظمها إذ داك ءاجيا حالك الظلمة، يقةل عبد الله كنون في هذا الصدد : "إن الثقافة الأدبية واللغوية كانت في الناحية التي درس فيها اليوسي أقوى منها في فاس، بل إننا نقول : إن الثقافية اللغوية المتينة التي كانت موجودة في زاوية الدلاء، حيث درس اليوسي، هي التي أحيت دماء الأدب في المغرب بعد عدم"[9]. ومعروف أن اليوسي قضى ما يزيد عن عشرين سنة في الزاوية الدلائية تلميذا ثم مدرسا بعد ذلك. ولعلنا لهذا نجد جل الذين ترجموا للدلائيين، أو كتبوا عنهم متفقين حول مكانتهم العلمية المشهودة، وتضلعهم في كافة أنواع العلوم. وأضاف المعرفة، على غرار ما نقرأ في بعض المصادر حول ..... بن أبي بكر (1079 هـ) مثلا، الذي كان إلى جانب اهتمامه بعلم التجويد والقراءات متبحرا في غيره من العوم "حتى كانت تشهد إليه الرحال منكل وجهة في علم المعقول والمنقول والمنطق والبيان والأصول واللغة والتفسير والنحو والتصريف، حتى كان يضرب به المثل في زمانه في العلم"[10]. وكان المسناوي محمد بن أبي بكر (1059 هـ) "ىية من الله في دقائق المرسوم والمفهوم، بارعا في الفقه والأصلين (العقائد وأصول الفقه) والتفسير والحديث وعلم الكلام والمعاني والبيان والسير واللغة وعلم الأنساب والأدب والقراءات"[11]. وكان ابنه محمد من أكبر رجال الزاوية، حتى كانت : تهابه اللعماء ولا تقدر أن تتكلم أمامه لشدة فصاحته وعلمه، وفطنته لكل من لحن"[12]. كما كان حفيده محمد "ممن ملأ فاسا علما معقولا ومنقولا، وتفسيرا وحجديثا ومنطقا ولغة ونحوا وتصريفا"[13]، وكان الطيب المسناوي (1077 هـ) "من أكابر العلماء المشهورين بالعلم والصلاح، وقطب زمانه، وعالم أوانه، وكان يقال له كيمياء العلوم"[14] لشدة علمه وتبحر معارفه. وكان محمد الخريم بن أبي بكر (1059 هـ) "علامة محققا نحريرا، كان يدعى بشيخ الشيوخ العارف لا يحيط العقل بعلومه"[15].
ويميل بعض المؤرخين إلى أن الدلائيين لم يغنوا الحركة العلمية في المغرب فقط، بل كانوا سببا في إحياء العلم ونهضته، ووسيلة بعثه من نهضته بعد طول كبوته، فهم : السادات الدلائيون البكريون، المواهب المرضيون، إذهم أحيوا العلم وأظهروه بزاوية الدلاء، بعد أن كان بالمغرب درس وضاع، وثلثهم وتبرقع وشد على رأسه ووجهه القناع، فأسفروا عن وجهه اللثام، وشمروا عن ساق الجد في طلبه، وشدوا الخرام، فأعربوا عنه كل الإعراب، وأملي عنهم في المدن والقرى والمداشر والخيم والأعراب، ومد لهم فيه الباع، فصار غيرهم إن ذكر بفاس إنما يذكر بعدهم يحسن الأتباع"[16]. بل يكاد الإجماع ينعقد على أن الناحية العلمية عند الدلائيين كانت في بلادهم أزهي منها في أي مكان آخر، بما في ذلك مدينة فاس، ولعل ما يؤك
هذا كثرة الكتب التي كانت تتوفر عليها خزانة الدلائيين، إذ كانت تبلغ عشرة ألاف سفر، كما يؤكده وفرة العلوم التي اشتغلوا فيها، وتنوع الكتب التي صنفوها. وقد حاول محمد حجي أن يضع جداول مفصلة للمؤلفات التي أنشأها الدلائيون، وهي مؤلفات متعددة الأبواب وختلفة المواضيع، من سيرة وحديث إلى فقه واصول، إلى نحو وعروض، إلى أنساب وتقاييد مختلفة، سواء في ذلك ما أبدعوه من مصنفات أو ما وضعوه كشروح وحواش على بعض مؤلفات غيرهم. يقول في حقهم الكردودي : "كانت هذه الزاوية من أعظم الزوايا، الحائزة في المغرب أشرف المزايا، إذ كان بها من معاطاة العلوم والذووب على التدريس في سائر الأوقات والأزمان، ما تخرج به كثير من جملة العلماء وصدور الأعيان"[17]. وليس غريبا في جو كهذا أن تصبح الزاوية الدلائية قبلة لطلاب العلم، تشد غليها للرجال من مختلف الأقطار طلبا للعلم والمعرفة، مما حدا بالقائمين على الزاوية إلى تشييد المدارس الكثيرة، وتوفير السكن لإيواء الطلبة المتوافدين عليهم.
ويشير الأستاذ عبد الكبير العلوي المدغيري في كتابه "الفقيه أبو علي اليوسي نموذج الفكر المغربي في فجر الدولة العلوية"[18] إلى أن سبب علو كعب اليوسي في العلوم على اعتباره من أبرز العلماء الذين أنتجتهم الزاوية الدلائية –يرجع إلى ما وفرته له الزاوية الدلائية من عوامل كثيرة ساعدته على الدرس والتحصيل، نذكر منها :
- هدوء الزاوية الدلائية وبعدها عن ضجيج الإضطرابات السياسية الحادة التي كانت تعاني منها الحواضر في تلك الفترة.
- ما وفرته له الزاوية من ضرورياتن حيث ضمنت له المأكل والمسكن، وقد بلغت مساكن الطلبة بالزاوية الدلائية ألفا واربعمائة مسكن، ولم تكن كافية، فكان يسكن في البيت الواحد طالبا فأكثر، كما يؤك
- ذلك الولالي أحمد بن يعقوب (1128 هـ) وهو أحد تلاميذ الزاوية الدلائية، ومن الذين أقاموا بإحدى غرفها المدرسية، مما يدل على أن عدد الطلبة كان كثيرأ.
- كرم رؤساء الزاوية الدلائية، وعادتهم التي نشأوا عليها من إطعام الطعام والإعتناء بالضيوفن وفتح أبوابهم لطلاب العلم، وهذا الكرم جلب للزاوية عددا من الأساتذة من مختلف أنحاء المغرب.
- وجود خزانة حافلة بنفائس الكتب بلغ وصيدها أكثر من عشرة آلاف سفر[19]. مما يفيد الطلبة والأساتذة جميعا في المذاكرة والمراجعة والتدريس والتىليف.
- ذلك الجو الصافي النقي الذي يرتقي ببول الغنسان، وبصرف همه عن الدنيا، ويهون عليه ما يلقاه من شظف العيش، ويساعده على القناعة بالقليل والرضى بالميسور، والانصراف غلى غرضه من علم أو عبادة انصرافا كليا لا تكدره وساوس النفس. وهواجس الطبع.
وتجدر الإشارة إلى أن احتفال الدلائيين بعيد المولد النبوي الشريف أيام الشيخ محمد نب أبي بكر اكسبها شهرة عظيمة، فكانت هذه المناسبة موعدا يقصدها الناس فيه سواء منهم العلماء والأدباء، ويقضون في تلك البعقة الطيبة أياما يظل المنشدون فيها يرددون القاصئد والمقطعات والموشحات في محد الرسول الكريم، خصوصا بردة الإمام البوصيري وهمزيته، ويقوم الشعراء بإلقاء قصائد ينظظمونها خصيصا لهذه المناسبة لاسيما منهم شاعر الزاوية أحمد الدغوغي الذي كان يدل مولدياته بمدح الشيخ محمد بن أبي بكر والدعاء له، فيرتاح لذلك الشيخ وتطيب نفسه، وقد شجع الشعراء على نظم القصائد والتفنن في صوغها ورفعها إلى محمد بن أبي بكر في هذه المناسبة، الذي كان بدوره لا يبخل عليهم بامكافآة وحزيل الصلاة، وكان لا شثيب منهم إلا من محد الرسول عليه السلام واشاد بمفاخر الإسلام، وقصته مع الأديب عمرو بن قاسم الأندلسي الرباطي في ذلك معروفة[20].
والدلائيون باحتفالهم بهذه المناسبة كأنهم بذلك يشجعون على قول الشعر ويرغبون الناس فيه. وإلى جانت احتفال الدلائيين بالمولود النبوي تنضاف مناسبة أخرى كانت تلقى فيها القصائد وتباري فيها الشعراء، وهي ختم المتون التي كانت تقرأ على طول السنة. فقد ثبت عن محمد بن أبي بكر (1046 هـ) أنه كان يختم صحيح البخاري كل سنة، تولذلك "يأتيه الناس للتبرك والاستفادة من بعيد الأمكنة، وتنطلق بالثناء عليه نثرا ونظما جميع الألسنة"[21]. كما جاء على لسان الدغوغي حيث يقول من إحدى قصائده بالمناسبة :
وقاء علاك من الأرض طرا = مميت الجهل محي العلم نصعا .
فأنت من الثقاء لهم وقاء = كما أحيا مميت القحط الماء .
ولا شك أن مثل هذه المناسبات واللقاءات تنتج عنها علاقات قوية ومتينة بين شيوخ الزاوية الدلائية وشعراء العصر وأعلامه. إذ كان الدلائيون يحرصون على توطيد علاقاتهم بكبار الشعراء عن طريق التوسيع لهم في زاويتهم قبل خرابها في نوع من التشجيع والرعاية، وهما العنصاران اللذان استمرا حتى بعد خراب الزاوية ورحيل أهلها عنها إلى فاس وتلمسان. فالمعروف عن الشاعر العربي بن يوسف الفاسي (1052 هـ) أنه أقام بالزاوية زمانا متصدرا للتدريس بها، ومجيزا لبعض أبنائها، أمثال الشرقي بن أبي بكر وأخيه أحمد الحارثي (1075 هـ)، وقد انطلق لسانه بالثناء على أهل الزاوية والإعتراف لهم بالجميل كما يظهر من خلال شهرع في مجح محمد بن أبي بكر وبنيه. والمعروف كذلك عن ابنه عبد الوهاب أنه كان متقربا من الزاوية ورجالها معجبا بما لهم من فضل وصلاح وعلم وأدب، مما أوحي له بإنشاء قصيدة في مدحهم، يقول في ثناياها :
تخالهم كالبدور وكالسيوف مضاء= وكالأسود ولكن وكالبحور ولكن .
مكانة وورسامة وحدة وصرامة = مهابة وزعامة سماحة وضخامة .
غير أن المولى الرشيد عندما وقف على هذه القصيدة –وهو الذي هد معالم الزاوية وقوض أركانها- عاقب ناظمها وحرمه من أعطياته، وقال إن هذا المدح لا يليق إلا بأهل البيت.
ولابد أن نسجل كذلك في هذا المجال ما كان قائما من علاقة تربط الشاعر محمد ميارة (1072 هـ) بمحمد المسناوي بن محمد بن أبي بكر ومحمد المرابط الدلائيين، وتربط الشاعر التستاوتي بالطيب بن المسناوي...
وقد نتج عن ذهه لعلاقات المختلفة فيض غزير من القصائد الشعرية التي أبدعنها قرائح الشعراء في مدح الدلائيين والتقرب إليهم وبكاء من غيبه اللحد منهم. ولعل هذه العلاقات هي التي انتهت ببعض هؤلاء الشعراء ليصبحوا دلائيين من حيث احتكاكهم واتصالهم بالزاوية وأبنائها.
خاتمة.
لقد تعاقبت على الزاوية الدلائية أطوار الحياة الطبيعية من نشوؤ وترعرع وارتقاء، ثم تقهقر وفناء في أمد قريب لم يجاوز قرنا واحدا، وهو عمر قصير بالنسبة للمؤسسات الدينية والعلمية التي يفرض فيها أن تخلد خلود الدين والعلم.
لكن هذه الزاوية استطاعت رغم هذه الفترة القصيرة أن تساهم وبشكل كبير في النهوض بالحركة الأدبية في المغرب، إذ سارت بذكرها الركبان، واشتهر اسمها أمرها في المغرب كله. وقصدها الناس منجميع الجهات ومن بينهم علماء كبار استطابوا المقام فيها شهروا وأعواما، وازدهرت بهم المجالس العلمية ازجهار حلقات الأذكار بالمويدين، نظرا لما وفره شيوخ الزاوية ومن ظروف مواتية ومناسبة للعلماء والطلبة، حيث شيدوا المدارس التي بلغت حجرات طلبتها ألفا وأربعمائة. واتسعت المكتبة العلمية الدلائية التي كانت تستنسخ لها الكتب النادرة في المشرق والمغرب إلى أن بلغ عدد الكتب فيها عشرة آلاف مجلد. ويفكي الزاوية الدلائية مخرا أن يعد من تلاميذها الحسن اليوسي صاحب "المححاضرات" و "القانون"، وأحمد المقري صاحب "نفح الطيب"، ومحمد العربي الفاسي مؤلف "مرآة المحاسن"، وأضرابهم من فطاحل العلماء وأن تنجب من أبنائها عشرات الأعلام في مختلف ميادين المعرفة، مثل محمد بن أبي بكر الدلائي شيخ الحفاظ بالمغرب، وابنه محمد المرابط إمام اللغة والنحو في عصره، وأحمد بن عبد الله الدلائي أشعر قومه وأعلمهم بالآداب.
وكان ظهور السلطان الرشيد بن الشريف العلوي (1075 هـ/1082 هـ) في المغرب واستيلاؤه على فاس ومكناس بداية النهاية بالنسبة إلى الزاية الدلائية التي ظهر فيها رجل طموح يدعى محمد الحاج الدلائي (797 هـ +)، بهره بريق الجاه والسطلنان وأعماه حب الرياسة، فانعمر في ميدان السياسة، لكن المولى الرشيد سيتمكن من القضاء عليه في معركة بطن الرمان سنة (1079 هـ)، ليقوم بعد ذلك ينفي الدلائيين عن زاويتهم إلى فاس وتلمسان والحسرة تملأ أفئدتهم، والدموع تشرقوق في مآقيهم، وأعمل السلطان الرشيد معاول الهدم في الزاويتين القديمة والحديثة، فخر بهما وطمس معالمها وتركهما خاويتين على عروشهما، تعشعش فيها البوم وتنعق الغربان، إلا إن المجهود العلمي لهذه الزاوية لم يقتصر على الفترة التي كانت فيها قائمة المعالم شامخة البنيان، بل وأصلت طرقها حتى بعد خرابها ودمارها. فأدرك العلماء الدلائيون منزلة وفيعة في العاصمة الإدرسية، وزاحموا علماءها على منابر التدريس والخطابة في المساجد والمدارس إلى أن أصبحوا يقلون الصدارة في هذا الميدان، وتولى كثير من الفقهاء الدلائيين خطة القضاء والإفتقاء في فاس ومكناس وتارودانت، ودرس علماؤها في هذه المدن وفي غيرها كمراكش، وتتلمذ لهم كثير من الناس من جميع الطبقات، حتى الأمراء العلويون مثل محمد العالم بن السلطان إسماعيل، وعبد السلام بن السلطان محمد بن عبد الله، وخلف الدلائيون تراثا علميا هاما يتمثل في عشرات الكتب التي ألفوها في مختلف الفنون، وفي آثارهم الأدبية الرائعة.
وصفوة القول، إن الزاوية الدلائية ساهمت بشكل كبير في إثراء الحركة الأدبية بالمغرب، وظلت نبعا فياضا ينهل منه رجال العلم والدين طيلة قرن كامل.
المصادر والمراجع.
1. خل وبقل، عبد الله كنون، المبطبعة المهدية بتطوان، بدون تاريخ.
2. الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، محمد حجي، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثانية، 1409 هـ/1988 م.
3. الشعر الدلائي، عبد الجواد السقاط، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، 1985 م.
4. الفقيه أبو علي اليوسي، نموذح الفكر المغربي في فجر الدولة العلوية، عبد الكبير العلوي المدغري، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1409 هـ/1989 م.
5. المحاضرات في الأدب واللغة، الحسن اليوسي، تحقيق محمد حجي وأحمد الشرقاوي اقبال، دار الغرب الإسلامي بيروت، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، 1402 هـ/1982 م.
6. النبوغ المغربي في الأدب العربي، عبد الله كنون، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، بيروت، 1961 م.
[1] الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، محمد حجي، مطبعة النجاح الجديدة، ط : 2، 1409 هـ/1988 م، ص : 21.
[2] نفسه، ص : 21.
[3] سورة الأنفال، الآية : 60.
[4] سورة آل عمران، الآية : 200
[5] المحاضرات في الأدب واللغة، الحسن اليوسي، تحقيق محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، دار الغرب الإسلامي بيروت، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر،1402 هـ/1982 م. ص : 314.
[6] دائرة المعارف الإسلامية، المترجمة إلى العربية، العدد 9 من المجلد 10، ص : 332، نقلا عن "الزاوية الدلائية" لمحمد حجي.
[7] مجلة المغرب الجديد، السنة الأولى 1935، العدد الرابع، ص : 18، نقلا عن الزاوية الدلائية، والقول لعلال الفاسي.
[8] النبوغ المغربي، 1/274.
[9] خل وبقل، عبد الل كنون، المطبعة المهدية بتطوان، بدون تاريخ، ص : 275.
[10] الشعر الدلائي، عبد الجواس السقاط، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط : 1، 1985، ص : 48.
[11] نفسه، ص : 48.
[12] الشعر الدلائي، عبد الجواس السقاط، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط : 1، 1985، ص : 48.
[1] نفسه.
[14] نفسه، ص : 49.
[15] نفسه.
[16] نفسه.
[17] الشعر الدلائي، ص : 50.
[18] نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1409 هـ/1989 م.
[19] لمزيد من المعلومات عن المؤلفات الدلائيين، انظر "الزاوية الدلائية"، ص : 275.
[20] لمزيد من المعلومات عن هذه القصة، انظر "الزاوية الدلائية" ص : 50.
[21] الشعر الدلائي، ص : 102