نقوس المهدي
كاتب
"أنا رجل يحترف عشق النساء" نزار قباني
هوى الرجل
القَلبُ من التقلُّب عند أهل العرفان. وهذا هو أصلاً معنى القلب في الوضع اللغوي. ولهذا يرغب المرءُ في التنقل حيث يشاءُ من الهوى؛ ويهوى التقلب بين حالةٍ وحالة، وصورة وصورة، ووضعٍ ووضع. والرغبة في التقلب فطرة أصلية فُطِر عليها كل منا: فنحن نميل إلى الجمال ونحبه ونعجب به؛ فيكف إذا كان جمالهنَّ هو المقصود. ولا جمال يُكافئ جمالهن في عين أحدنا. فهو الشكل الذي نألفه ونهواه وننقاد لهُ ونتكيّف به. إنه الجمال الذي نذهل له ونفنى به وفيه وله عن ذوات أنفسنا. وجمالهنَّ، وإن كان متماثلاً في نوعه متفرداً عن سواه، فهو يتباين بين امرأةٍ وامرأة ويتفرد عند كل واحدة. إنه واحدٌ في جَمْعِهِ أحدٌ في مفرده. وكل جمال يلوح منهن يهز محب الجمال ويجذبه. فإن لاحَ له جمال أجمل، صرفه هذا عن الجمال الأول فمال إليه وافتتن به. وقد يتردد الشخص الذي ترد عليه صور الحسن من ربات الحسن، فيتوله ويحتار إزاء تنوعها، ولا يملك أن يختار بين صفات الجمال ومعانيه وألطافه. فكل ذات جمال وحسن هي نسيج وحدها في جمالها وبهائها، واحدة إحدى في حسنها وروعتها. وكل حسن يثير العجب والدهش، وكل جمال يمزق حجاباً كثيفا من حجب النفس. ولا عجب، فلكل جمال فريد غرابته وعذريته عند من يشهده لأول مرة. والإنسان إنما يعشق الأشياء البكر. والجمال الغريب يجرح الجسد ويحرك الرغبة ويهز النفس وينفذ إلى القلب.
ومن هنا أيضاً ينفرد كل واحد بأهوائه وميوله الغريبة. فقد يهوى أحدنا في الجمال ما لا يهواه غيره، ويحب فيمن يحبه صفات لا يحبها سواه، ويشتهي صورة يشتهيها غيره على غير معنى ورسم. فالصورة الجميلة المحبوبة المشتهاة توحي، لكل من يعجب بها أو يعشقها أو يشتهيها، بما لا توحيه لسواه. ذلك أن كل واحد يتعلق بمحبوبه تعلقاً رمزياً، ويحب من خلاله حباً ضائعاً، ويشتهيه اشتهاء سريالياً. وقد يفرط أحدنا في حبه، إذ يهوى شخصاً يصيب منه هواماً ويلأَم له جرحاً عميقاً، فيراه الأشهى والأجمل والألطف والآنس. ويفتتن به وتنطبع صورته في ذاته حتى لا تفارقهُ البتة. ومن يبلغ هذه الحال لا يعود قلبه يسع أحداً سوى محبوبه، فيتوحد به ولسان حاله يقول له: يا أنت أنا. وعندها يذهل كل صورة، فلا يدرك إلا محبوبه ولا يتحدث إلا عنه، بل لا يبصر ولا يسمع سواه. ولكن هذه حالة قصوى هي أقرب إلى الجنون. والعشق جنون كما قيل. ولهذا سمي العاشقون بالمجانين.
والأقرب إلى السوية أن يهوى المرء كل جمال يشهده. فلكل جمال أثره في الجوارح، ولكل جميل موقعه في القلب. وكل امرأة تجدد الشهوة كما تجدد كل زوجة الفراش. وإذا كان القلب لا يسع، فإنه يتقلب. وهذه رغبة تحدو الرجل. إنها صورة أصلية تتحكم بوعيه وتحكم تصرفاته إزاء الجنس الآخر. هكذا فطر سليل آدم: إنه يهوى التقلب ويرغب في التنوع.
إباحة التعدد والرغبة في التنوع هي التي تفسر ظاهرة تعدد الزوجات. وما التشريع الذي أجاز التعدد وقض بحده وحصره بأربع زيجات، ونعني به التشريع القرآني على وجه الخصوص، سوى تقنين لتلك الرغبة الأصلية، والتي هي واقعة محققة لا مجال لإنكارها. فكل رجل يرغب في التعدد ويتمناه ويتخيله، وإن كان لا يقدر عليه ولا يستطيعه، فكيف بأن يقوم بأوده ويعدل في تطبيقه. وهكذا فالرجولة والفحولة تقضيان بالتعدد، في حين أن المروءة والعدالة توجبان الإقتصار على زوجة واحدة.
وفي الحقيقة إن أحكام التعدد تُشرّع لحالات قصوى، تحاشياً لقيام علاقات غير مشروعة بين الرجل والمرأة. فهي تشرّع لمن يضطر إلى الزواج من امرأة أخرى لضرورة من الضرورات، وللضرورة أحكام. وتشرع لمن يصرف الحسن قلبه عن زوجته إلى امرأة ذات حسن وجمال، وكل بشر مثلنا مصروف قلبه. ولهذا، قال النبي مرة لما رأى ذات حسن: سبحان مصرف القلوب.
ولهذا، فنحن إذا شئنا أن نقرأ أحكام التعدد قراءةً منفتحة علينا أن ننظر للعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة في سياق التشريع القرآني بمُجمله. والتشريع القرآني تختلف أحكامه وتتنوع حدوده وتتسع آفاقه، في الجانب من جوانب الحياة الزوجية. فهو يتراوح على مستوى أول بين حدّين: الأول هو الاقتصار على زيجة واحدة على طريقة النصارى، والثاني هو الجمع بين أربع نسوة في وقت واحد، أي تعدّد الزوجات التي اختص به أهل الإسلام وامتاز به الرجل في هذه الملة. ولكن التشريع المذكور هو أرحب من ذلك في هذا الخصوص، إذ هو يتراوح على مستوى آخر بين طرفي نقيض، أي بين التنسك على طريقة الرهبان الذين تفيض أعينهم بالدمع مما عرفوا من الحق، وبين زواج المتعة الذي يضفي طابع المشروعية على ضرب من النكاح يقرب من حدود الإباحة، على الأقل من جهة كون المتعة زواجاً مؤقتاً عابراً مدفوع الأجر، غرضه قضاء الوطر لا بناء الأسرة. وهكذا، يحق للرجل، وفقاً لأحكام التشريع القرآني، أن لا يتزوج البتة، إذا لم يجد من نفسه القدرة على ذلك، وهذا ما أجازه بعض العلماء الذين اعتبروا الزواج مستحباً وليس بواجب. وعليه أن يكتفي بزوجة واحدة مدى العمر إن خشي أن لا يعدل، وأن لا يكون مطلاقاً لأن أبغض الحلال هو الطلاق. ويجوز له أن يجمع بين أربع نسوة إذا آنس من نفسه القدرة على ذلك أو دعته الضرورة إليه. وبمستطاعه أن يتمتع بهن بعد أن يدفع لهن أجورهن على شروط محددة مبينة، كما بإمكانه أن "يقتني" منهن ما ملكت أيمانه. وعليه فالتشريع القرآني يؤلف مروحة تشريعية واسعة تشمل أكثر من حالة وظرف ووضع. إنه يتسع ولا يضيق، وينفتح ولا ينغلق. وليس في ذلك أي تعارض. وإنما هو انفتاح على الممكنات واستيعاب للهوامش والحالات القصوى. ولعلّ في هذا سره وبعض وجوه إعجازه.
تعدد الأزواج
طبعاً، إننا لا نتغافل هنا عن المبدأ المعاكس لتعدد الزوجات، ألا وهو تعدد الأزواج، الذي كان شائعاً عند بعض القبائل الوحشية وفي بعض المجتمعات البدائية. وقد عرف العرب في جاهليتهم ضروباً من النكاح يعد تطبيقاً لهذا المبدأ ومثاله "نكاح البُضْع". إذ كان الرجل منهم يطلب إلى زوجته وهي في عصمته أن تعاشر رجلاً آخر غيره، ممن هم أفضل منه ذرية وأحسن إنجاباً، وذلك طمعاً في تحسين نسله وحرصا على نجابة ولده. فكانت الزوجة تستبضع من غير زوجها ولداً لها وله.
إذن مورس، تعدد الأزواج، على الأقل في طور من أطوار الاجتماع الإنساني ولدى بعض الشعوب والقبائل. ولكن القرآن قد ألغى هذا الزواج وحرّمه وجبَّهُ من أصله. والقرآن، بما هو شرع، كتاب يحلل ويحرم، ويبيح ويحظر. ولقد حلل للرجل تعدد الزوجات وأعطاه حرية في استخدام متعه كما في زواج المتعة وغيره. ولكنه حرم، بالمقابل، تعدد الأزواج كما حرم الزنا بكل أشكاله. ومن البديهي أنه لا معنى للتحليل لو لم يكن ثمة تحريم. ومن البين أنه لا شريعة من دون محرمات وموانع. ولا شك أن تحريم الزواج من الأمهات والأخوات كان من أول قواعد التحريم وأقدمها في المجتمعات الإنسانية. ويشبه أن يكون تعدد الأزواج من قبيل زنا المحارم أي من الممارسات التي يبدو أنها لا تتفق مع بداهات الاجتماع. ولذا صير إلى إلغائها وتحريمها. صحيح أن تعدد الأزواج قد حصل فيما مضى، وقد يحصل في أي وقت، ولعله حاصل الآن بشكل أو بآخر، ولكنه لم يصمد ولم يقدر له الاستمرار والانتشار، ولم يصبح قاعدة سوية، بل هو لا يعد من الحالات القصوى التي يلجأ إليها عند الضرورة القصوى. فالمرأة تقبل في أن تشاركها امرأة أخرى في زوجها، كما يحصل عندما تتزوج امرأة من رجل متزوج من امرأة أخرى. نعم قد يعشق الرجل امرأة متزوجة. ولكنه يرفض قطعاً أن يتزوج معشوقته بالمشاركة مع زوجها الأول، كما يرفض أن يزوج امرأته لآخر. وهكذا فالرجل يرفض أن يشاركه آخر غيره في زوجته على نحو من الأنحاء.
مصلحة الرجل
لا شك في أن تعدّد الزوجات قد ألحق ظلماً بالمرأة. ففي التعدد هوى للرجل، حتى لا نقول له فيه مصلحة. وإن كان ثمة مصلحة لأحد الطرفين في التشريع له، ففيه للرجل مصلحة أكثر مما فيه للمرأة. ولا جدال في ذلك. ولن نأخذ بالرأي القائل بأن في التعدد مصلحة للمرأة نفسها، ونعني به رأي من يقولون بأن التعدد يحل مشكلة اجتماعية تنشأ عن الزيادة في عدد النساء المؤهلات للزواج على الرجال المؤهلين له. وملخص هذا الرأي أن التعدد يُنْصِف، والحالة هذه، النساء اللواتي لا يجدن أزواجاً لهن في ظل نظام الزوجة الواحدة، كما يمنع أسباب الانحراف والفساد إذ يحول دون قيام علاقات جنسية غير مشسروعة بين الرجال المتزوجين والنساء اللواتي لم يتزوجن، وينقذ بالتالي نظام الزوجة الواحدة ذاته من الاهتزاز والاختلال. ولكن مثل هذا الرأي إنما يعلل تجويز التعدد على نحو عرضي اتفاقي، فإرجاعه إلى ظرف اجتماعي طارئ ووضع إحصائي عارض أو غير ثابت. وهذه حجة لا تقنع. لأنه لو إنعكست الآية، وكان عدد الرجال المؤهلين للزواج، في مكان ما ولسبب ما، أكبر من عدد النساء المؤهلات له، وهذا ليس بعيداً حصوله، بل هو ممكن ومحتمل، لوجب عندئذ، وتبعاً للتعليل المذكور، إباحة تعدد الأزواج إنصافاً للرجال الذين لا يجدون نساءً يتزوجونهن في ظل نظام الزوجة الواحدة، وتحاشياً لتفشي صداقات ومعاشرات غير مشروعة من جراء ترك قسم من الرجال لا يستطيعون تلبية حاجاتهم الجنسية. وهذا ما لا يسلم به القائلون بتعدد الزوجات، عدا أنه لا ينسجم مع منطق الشريعة ومقاصدها. فتعدد الأزواج غير جائز من حيث المبدأ. إذ هو على الأقل، يؤدي إلى اختلاط الأنساب، فلا يعود أبٌ ولا أم يعرف ابنه أو ابنته، بل يمسي كل رجل ابن أبيه، وكل امرأة بنت أبيها، وفي هذا تفكيك للأسرة وتعارض مع بداهة العائلة. فالإنسان أكان رجلاً أم امرأة، مفطور على معرفة ولده. وحتى الذين أباحوا نكاح البضع إنما فعلوا ذلك لتحسين نسلهم ولو بخداع أنفسهم. وأما تعدد الزوجات فهو جائز من حيث المبدأ. وليس هو مجرد تعبير إيديولوجي أو تشريع لوضع عارض أو ظرف طارئ. إنه تقنين لرغبة الرجل في التنوع. والرجل يرغب في ذلك لأنه مؤثر عنده ولذيذ. وهذا هو معنى "الطيّب" كما ورد في آية النكاح: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء). فالطيب هنا هو المؤثر واللذيذ لا المحلل. لأن الآية لا تحلل المحلل، وإنما تحلل الطيبات، ولكن بشروط وعلى أحكام. والحديث النبوي يفسر لنا معنى هذه الآية، ونعني به الحديث القائل: "حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرّة عيني الصلاة".
مسؤولية المرأة
بالطبع قد يسأل هنا: أين مصلحة المرأة في ذلك؟ وفي الجواب نقول من يطلب المساواة في الحقوق فهو مخادع أو واهم. ولكن نقول مع ذلك بأنه إذا كان للرجل هوىً في التنوع أو مصلحة أو امتياز ولا يخلو الأمر من أحد هذه الوجوه، فالمروءة تقضي بأن يكون للمرء زوجة واحدة. وإذا كان الرجل مسؤولاً، فمسؤوليته أن لا يستغل سلطته وشرعه. ولكن مسؤولية المرأة مضاعفة في هذا الشأن. فعلى عاتقها تقع في الدرجة الأولى مناهضة تعدد الزوجات. إذ إن هذا المبدأ لا يطبق إلا على أيديهن بالذات. ومصداق ذلك كل امرأة تُقْدِمُ على الزواج من رجل متزوج. وهكذا، لا يطعن في حق المرأة سوى المرأة. وعلى اللواتي يستنكرن التعدد، أن يقنعن بنات جنسهنَّ بالامتناع عن الزواج من رجل متزوج من امرأة أخرى، كما يأبى الرجل الزواج من امرأة متزوجة من رجل آخر. وعندها تثبت المرأة أنها مكافئة للرجل ويفقد التعدد شرط إمكانه.
إن التعدد حالةٌ قصوى والتشريع له هو تشريع لواقع يقع على هامش نظام الزوجة الواحدة، ولنقل إنه تشريع يلائم بين الطبيعة والثقافة، وبين البداوة والحضارة، وبين التوحش والتأنس، وبين الرجولة والمروءة، وبين الشهوة والعفة. وإذا كان تعدد الأزواج يتعارض مع مصلحة المرأة ذاتها، كما يرى البعض، إذ ليس أشقى من النسوة اللواتي يمارسنهُ، فإنه من باب أولى أن يتعارض مع مصلحة الرجل، أن لم نقل إنه ينافي طبعه وبداهته. وبالمقابل، إن تعدد الزوجات الذي يرغب فيه الرجل هو حالة قصوى. فإن لم يكن فيه للرجل مصلحة، فمن باب أولى أن لا يكون فيه للمرأة مصلحة البتة. وإن كان له فيه مصلحة، فلا مصلحة للمرأة فيه. بل هي تكره التعدد ولا تطيقه. إذ هو ينافي طبعها وبداهتها. وإذا كانت نساء النبي الذي شرع للتعدد لم يطقن التعدد، وهن أم المؤمنات، فكيف بمن تحررن من هذه الصفة ولسن في هذه المكانة. فلا أحد يرضى بالتعدد رجلاً كان أم امرأة، إذ التعدد لا يكون إلا على حساب طرف ولمصلحة آخر.
الهامش
وأيا يكن الموقف من التعدد، وأيا تكن نتائجه، فهو هامش لا يخلو منه اجتماع. ولا مجال لإزالته بالكلية ما دام ثمة حاجات تسعى بالمرء وأهواء تميل به. والرجل المتحضر، وإن تخلى عن التعدد، فهو لم يخلص لنظام الزوجة الواحدة، ولقد دفع ثمن تخليه عن رغبته في التنوع توتراً وعصاباً، وفقداناً للمتعة، وعداء في التعامل بينه وبين المرأة، وانتهاكاً للمؤسسة الزوجية، وشذوذاً في العلاقات الجنسية.
فالرغبة في التعدد لا يمكن أن تستأصل، إذ هي رغبة أصلية. ولهذا، فهي محتاجة إلى تدبير ومعالجة، أو إلى تشريع وتقنين. وهي تعالج بمجاهدة النفس وترويضها. ولكن هذا حلاّ لا يطيقه إلا الأقلون بل النادرون، ولا يكون إلا على حساب الجسد وشهواته، إذ هو يؤدي إلى تصعيد الشهوة إلى المرأة باستبدال هواها بهوى آخر. إلا إذا كانت الزوجة فائقة في قدرتها على اجتذاب زوجها وعلى سوسه وتدبير حاجاته. وليس السعيد من يعدد وينوع، وإنما السعيد من يحظى بزوجة يشتاق إليها فلا يملها ولا تمله، وليس أجمل من المرأة إلا الشوق إليها.
وأيا يكن الحل، فالزواج الأحادي، وإن كان الأقرب والأدنى إلى بداهة الاجتماع، فإنه لا يغطي حقل المتع الجنسية ولا يلبي حاجات "الإنسان الإشتهائي"، أكان راغباً أو موضوعاً لرغبة، رجلاً أو امرأة. فهناك علاقات جنسية تنشأ على هامش الزواج الأحادي، وبسببه ومن جرائه. وهناك متعٌ جنسية لا تتحقق إلا خارج المؤسسة الزوجية. ذلك أن الرغبات هي عالم هواميّ ينتعش باشتهاء المحرم والغريب والوحشي، ويتحقق بالخروج على المألوف والسوي والمسيطر. والتعدد، وإن كان امتيازاً للرجل، فإن إلغاءه لا يفضي بالضرورة إلى استعادة المرأة حقوقها. أي لا يحل المشكل، هذا إذا لم نقل بأنه يخلق مشكلاً أكبر. ولا يعني ذلك أننا نقف مع التعدد أو ندعو إليه. فإنه إذا كان تعدد الأزواج لا يتفق مع بداهة العائلة، فإن تعدد الزوجات لا يتفق مع السوية العائلية. وما نريد قوله إن إلغاء التعدد يتطلب إعادة نظر في المؤسسة الجنسية برمتها، أي إعادة تصور الإنسان لذاته وجسده، وشهواته ومتعه. ولنقل إنه يتطلب إعادة تربية وتدبير. فلا إلغاء من دون تدبير أو معالجة
هوى الرجل
القَلبُ من التقلُّب عند أهل العرفان. وهذا هو أصلاً معنى القلب في الوضع اللغوي. ولهذا يرغب المرءُ في التنقل حيث يشاءُ من الهوى؛ ويهوى التقلب بين حالةٍ وحالة، وصورة وصورة، ووضعٍ ووضع. والرغبة في التقلب فطرة أصلية فُطِر عليها كل منا: فنحن نميل إلى الجمال ونحبه ونعجب به؛ فيكف إذا كان جمالهنَّ هو المقصود. ولا جمال يُكافئ جمالهن في عين أحدنا. فهو الشكل الذي نألفه ونهواه وننقاد لهُ ونتكيّف به. إنه الجمال الذي نذهل له ونفنى به وفيه وله عن ذوات أنفسنا. وجمالهنَّ، وإن كان متماثلاً في نوعه متفرداً عن سواه، فهو يتباين بين امرأةٍ وامرأة ويتفرد عند كل واحدة. إنه واحدٌ في جَمْعِهِ أحدٌ في مفرده. وكل جمال يلوح منهن يهز محب الجمال ويجذبه. فإن لاحَ له جمال أجمل، صرفه هذا عن الجمال الأول فمال إليه وافتتن به. وقد يتردد الشخص الذي ترد عليه صور الحسن من ربات الحسن، فيتوله ويحتار إزاء تنوعها، ولا يملك أن يختار بين صفات الجمال ومعانيه وألطافه. فكل ذات جمال وحسن هي نسيج وحدها في جمالها وبهائها، واحدة إحدى في حسنها وروعتها. وكل حسن يثير العجب والدهش، وكل جمال يمزق حجاباً كثيفا من حجب النفس. ولا عجب، فلكل جمال فريد غرابته وعذريته عند من يشهده لأول مرة. والإنسان إنما يعشق الأشياء البكر. والجمال الغريب يجرح الجسد ويحرك الرغبة ويهز النفس وينفذ إلى القلب.
ومن هنا أيضاً ينفرد كل واحد بأهوائه وميوله الغريبة. فقد يهوى أحدنا في الجمال ما لا يهواه غيره، ويحب فيمن يحبه صفات لا يحبها سواه، ويشتهي صورة يشتهيها غيره على غير معنى ورسم. فالصورة الجميلة المحبوبة المشتهاة توحي، لكل من يعجب بها أو يعشقها أو يشتهيها، بما لا توحيه لسواه. ذلك أن كل واحد يتعلق بمحبوبه تعلقاً رمزياً، ويحب من خلاله حباً ضائعاً، ويشتهيه اشتهاء سريالياً. وقد يفرط أحدنا في حبه، إذ يهوى شخصاً يصيب منه هواماً ويلأَم له جرحاً عميقاً، فيراه الأشهى والأجمل والألطف والآنس. ويفتتن به وتنطبع صورته في ذاته حتى لا تفارقهُ البتة. ومن يبلغ هذه الحال لا يعود قلبه يسع أحداً سوى محبوبه، فيتوحد به ولسان حاله يقول له: يا أنت أنا. وعندها يذهل كل صورة، فلا يدرك إلا محبوبه ولا يتحدث إلا عنه، بل لا يبصر ولا يسمع سواه. ولكن هذه حالة قصوى هي أقرب إلى الجنون. والعشق جنون كما قيل. ولهذا سمي العاشقون بالمجانين.
والأقرب إلى السوية أن يهوى المرء كل جمال يشهده. فلكل جمال أثره في الجوارح، ولكل جميل موقعه في القلب. وكل امرأة تجدد الشهوة كما تجدد كل زوجة الفراش. وإذا كان القلب لا يسع، فإنه يتقلب. وهذه رغبة تحدو الرجل. إنها صورة أصلية تتحكم بوعيه وتحكم تصرفاته إزاء الجنس الآخر. هكذا فطر سليل آدم: إنه يهوى التقلب ويرغب في التنوع.
إباحة التعدد والرغبة في التنوع هي التي تفسر ظاهرة تعدد الزوجات. وما التشريع الذي أجاز التعدد وقض بحده وحصره بأربع زيجات، ونعني به التشريع القرآني على وجه الخصوص، سوى تقنين لتلك الرغبة الأصلية، والتي هي واقعة محققة لا مجال لإنكارها. فكل رجل يرغب في التعدد ويتمناه ويتخيله، وإن كان لا يقدر عليه ولا يستطيعه، فكيف بأن يقوم بأوده ويعدل في تطبيقه. وهكذا فالرجولة والفحولة تقضيان بالتعدد، في حين أن المروءة والعدالة توجبان الإقتصار على زوجة واحدة.
وفي الحقيقة إن أحكام التعدد تُشرّع لحالات قصوى، تحاشياً لقيام علاقات غير مشروعة بين الرجل والمرأة. فهي تشرّع لمن يضطر إلى الزواج من امرأة أخرى لضرورة من الضرورات، وللضرورة أحكام. وتشرع لمن يصرف الحسن قلبه عن زوجته إلى امرأة ذات حسن وجمال، وكل بشر مثلنا مصروف قلبه. ولهذا، قال النبي مرة لما رأى ذات حسن: سبحان مصرف القلوب.
ولهذا، فنحن إذا شئنا أن نقرأ أحكام التعدد قراءةً منفتحة علينا أن ننظر للعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة في سياق التشريع القرآني بمُجمله. والتشريع القرآني تختلف أحكامه وتتنوع حدوده وتتسع آفاقه، في الجانب من جوانب الحياة الزوجية. فهو يتراوح على مستوى أول بين حدّين: الأول هو الاقتصار على زيجة واحدة على طريقة النصارى، والثاني هو الجمع بين أربع نسوة في وقت واحد، أي تعدّد الزوجات التي اختص به أهل الإسلام وامتاز به الرجل في هذه الملة. ولكن التشريع المذكور هو أرحب من ذلك في هذا الخصوص، إذ هو يتراوح على مستوى آخر بين طرفي نقيض، أي بين التنسك على طريقة الرهبان الذين تفيض أعينهم بالدمع مما عرفوا من الحق، وبين زواج المتعة الذي يضفي طابع المشروعية على ضرب من النكاح يقرب من حدود الإباحة، على الأقل من جهة كون المتعة زواجاً مؤقتاً عابراً مدفوع الأجر، غرضه قضاء الوطر لا بناء الأسرة. وهكذا، يحق للرجل، وفقاً لأحكام التشريع القرآني، أن لا يتزوج البتة، إذا لم يجد من نفسه القدرة على ذلك، وهذا ما أجازه بعض العلماء الذين اعتبروا الزواج مستحباً وليس بواجب. وعليه أن يكتفي بزوجة واحدة مدى العمر إن خشي أن لا يعدل، وأن لا يكون مطلاقاً لأن أبغض الحلال هو الطلاق. ويجوز له أن يجمع بين أربع نسوة إذا آنس من نفسه القدرة على ذلك أو دعته الضرورة إليه. وبمستطاعه أن يتمتع بهن بعد أن يدفع لهن أجورهن على شروط محددة مبينة، كما بإمكانه أن "يقتني" منهن ما ملكت أيمانه. وعليه فالتشريع القرآني يؤلف مروحة تشريعية واسعة تشمل أكثر من حالة وظرف ووضع. إنه يتسع ولا يضيق، وينفتح ولا ينغلق. وليس في ذلك أي تعارض. وإنما هو انفتاح على الممكنات واستيعاب للهوامش والحالات القصوى. ولعلّ في هذا سره وبعض وجوه إعجازه.
تعدد الأزواج
طبعاً، إننا لا نتغافل هنا عن المبدأ المعاكس لتعدد الزوجات، ألا وهو تعدد الأزواج، الذي كان شائعاً عند بعض القبائل الوحشية وفي بعض المجتمعات البدائية. وقد عرف العرب في جاهليتهم ضروباً من النكاح يعد تطبيقاً لهذا المبدأ ومثاله "نكاح البُضْع". إذ كان الرجل منهم يطلب إلى زوجته وهي في عصمته أن تعاشر رجلاً آخر غيره، ممن هم أفضل منه ذرية وأحسن إنجاباً، وذلك طمعاً في تحسين نسله وحرصا على نجابة ولده. فكانت الزوجة تستبضع من غير زوجها ولداً لها وله.
إذن مورس، تعدد الأزواج، على الأقل في طور من أطوار الاجتماع الإنساني ولدى بعض الشعوب والقبائل. ولكن القرآن قد ألغى هذا الزواج وحرّمه وجبَّهُ من أصله. والقرآن، بما هو شرع، كتاب يحلل ويحرم، ويبيح ويحظر. ولقد حلل للرجل تعدد الزوجات وأعطاه حرية في استخدام متعه كما في زواج المتعة وغيره. ولكنه حرم، بالمقابل، تعدد الأزواج كما حرم الزنا بكل أشكاله. ومن البديهي أنه لا معنى للتحليل لو لم يكن ثمة تحريم. ومن البين أنه لا شريعة من دون محرمات وموانع. ولا شك أن تحريم الزواج من الأمهات والأخوات كان من أول قواعد التحريم وأقدمها في المجتمعات الإنسانية. ويشبه أن يكون تعدد الأزواج من قبيل زنا المحارم أي من الممارسات التي يبدو أنها لا تتفق مع بداهات الاجتماع. ولذا صير إلى إلغائها وتحريمها. صحيح أن تعدد الأزواج قد حصل فيما مضى، وقد يحصل في أي وقت، ولعله حاصل الآن بشكل أو بآخر، ولكنه لم يصمد ولم يقدر له الاستمرار والانتشار، ولم يصبح قاعدة سوية، بل هو لا يعد من الحالات القصوى التي يلجأ إليها عند الضرورة القصوى. فالمرأة تقبل في أن تشاركها امرأة أخرى في زوجها، كما يحصل عندما تتزوج امرأة من رجل متزوج من امرأة أخرى. نعم قد يعشق الرجل امرأة متزوجة. ولكنه يرفض قطعاً أن يتزوج معشوقته بالمشاركة مع زوجها الأول، كما يرفض أن يزوج امرأته لآخر. وهكذا فالرجل يرفض أن يشاركه آخر غيره في زوجته على نحو من الأنحاء.
مصلحة الرجل
لا شك في أن تعدّد الزوجات قد ألحق ظلماً بالمرأة. ففي التعدد هوى للرجل، حتى لا نقول له فيه مصلحة. وإن كان ثمة مصلحة لأحد الطرفين في التشريع له، ففيه للرجل مصلحة أكثر مما فيه للمرأة. ولا جدال في ذلك. ولن نأخذ بالرأي القائل بأن في التعدد مصلحة للمرأة نفسها، ونعني به رأي من يقولون بأن التعدد يحل مشكلة اجتماعية تنشأ عن الزيادة في عدد النساء المؤهلات للزواج على الرجال المؤهلين له. وملخص هذا الرأي أن التعدد يُنْصِف، والحالة هذه، النساء اللواتي لا يجدن أزواجاً لهن في ظل نظام الزوجة الواحدة، كما يمنع أسباب الانحراف والفساد إذ يحول دون قيام علاقات جنسية غير مشسروعة بين الرجال المتزوجين والنساء اللواتي لم يتزوجن، وينقذ بالتالي نظام الزوجة الواحدة ذاته من الاهتزاز والاختلال. ولكن مثل هذا الرأي إنما يعلل تجويز التعدد على نحو عرضي اتفاقي، فإرجاعه إلى ظرف اجتماعي طارئ ووضع إحصائي عارض أو غير ثابت. وهذه حجة لا تقنع. لأنه لو إنعكست الآية، وكان عدد الرجال المؤهلين للزواج، في مكان ما ولسبب ما، أكبر من عدد النساء المؤهلات له، وهذا ليس بعيداً حصوله، بل هو ممكن ومحتمل، لوجب عندئذ، وتبعاً للتعليل المذكور، إباحة تعدد الأزواج إنصافاً للرجال الذين لا يجدون نساءً يتزوجونهن في ظل نظام الزوجة الواحدة، وتحاشياً لتفشي صداقات ومعاشرات غير مشروعة من جراء ترك قسم من الرجال لا يستطيعون تلبية حاجاتهم الجنسية. وهذا ما لا يسلم به القائلون بتعدد الزوجات، عدا أنه لا ينسجم مع منطق الشريعة ومقاصدها. فتعدد الأزواج غير جائز من حيث المبدأ. إذ هو على الأقل، يؤدي إلى اختلاط الأنساب، فلا يعود أبٌ ولا أم يعرف ابنه أو ابنته، بل يمسي كل رجل ابن أبيه، وكل امرأة بنت أبيها، وفي هذا تفكيك للأسرة وتعارض مع بداهة العائلة. فالإنسان أكان رجلاً أم امرأة، مفطور على معرفة ولده. وحتى الذين أباحوا نكاح البضع إنما فعلوا ذلك لتحسين نسلهم ولو بخداع أنفسهم. وأما تعدد الزوجات فهو جائز من حيث المبدأ. وليس هو مجرد تعبير إيديولوجي أو تشريع لوضع عارض أو ظرف طارئ. إنه تقنين لرغبة الرجل في التنوع. والرجل يرغب في ذلك لأنه مؤثر عنده ولذيذ. وهذا هو معنى "الطيّب" كما ورد في آية النكاح: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء). فالطيب هنا هو المؤثر واللذيذ لا المحلل. لأن الآية لا تحلل المحلل، وإنما تحلل الطيبات، ولكن بشروط وعلى أحكام. والحديث النبوي يفسر لنا معنى هذه الآية، ونعني به الحديث القائل: "حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرّة عيني الصلاة".
مسؤولية المرأة
بالطبع قد يسأل هنا: أين مصلحة المرأة في ذلك؟ وفي الجواب نقول من يطلب المساواة في الحقوق فهو مخادع أو واهم. ولكن نقول مع ذلك بأنه إذا كان للرجل هوىً في التنوع أو مصلحة أو امتياز ولا يخلو الأمر من أحد هذه الوجوه، فالمروءة تقضي بأن يكون للمرء زوجة واحدة. وإذا كان الرجل مسؤولاً، فمسؤوليته أن لا يستغل سلطته وشرعه. ولكن مسؤولية المرأة مضاعفة في هذا الشأن. فعلى عاتقها تقع في الدرجة الأولى مناهضة تعدد الزوجات. إذ إن هذا المبدأ لا يطبق إلا على أيديهن بالذات. ومصداق ذلك كل امرأة تُقْدِمُ على الزواج من رجل متزوج. وهكذا، لا يطعن في حق المرأة سوى المرأة. وعلى اللواتي يستنكرن التعدد، أن يقنعن بنات جنسهنَّ بالامتناع عن الزواج من رجل متزوج من امرأة أخرى، كما يأبى الرجل الزواج من امرأة متزوجة من رجل آخر. وعندها تثبت المرأة أنها مكافئة للرجل ويفقد التعدد شرط إمكانه.
إن التعدد حالةٌ قصوى والتشريع له هو تشريع لواقع يقع على هامش نظام الزوجة الواحدة، ولنقل إنه تشريع يلائم بين الطبيعة والثقافة، وبين البداوة والحضارة، وبين التوحش والتأنس، وبين الرجولة والمروءة، وبين الشهوة والعفة. وإذا كان تعدد الأزواج يتعارض مع مصلحة المرأة ذاتها، كما يرى البعض، إذ ليس أشقى من النسوة اللواتي يمارسنهُ، فإنه من باب أولى أن يتعارض مع مصلحة الرجل، أن لم نقل إنه ينافي طبعه وبداهته. وبالمقابل، إن تعدد الزوجات الذي يرغب فيه الرجل هو حالة قصوى. فإن لم يكن فيه للرجل مصلحة، فمن باب أولى أن لا يكون فيه للمرأة مصلحة البتة. وإن كان له فيه مصلحة، فلا مصلحة للمرأة فيه. بل هي تكره التعدد ولا تطيقه. إذ هو ينافي طبعها وبداهتها. وإذا كانت نساء النبي الذي شرع للتعدد لم يطقن التعدد، وهن أم المؤمنات، فكيف بمن تحررن من هذه الصفة ولسن في هذه المكانة. فلا أحد يرضى بالتعدد رجلاً كان أم امرأة، إذ التعدد لا يكون إلا على حساب طرف ولمصلحة آخر.
الهامش
وأيا يكن الموقف من التعدد، وأيا تكن نتائجه، فهو هامش لا يخلو منه اجتماع. ولا مجال لإزالته بالكلية ما دام ثمة حاجات تسعى بالمرء وأهواء تميل به. والرجل المتحضر، وإن تخلى عن التعدد، فهو لم يخلص لنظام الزوجة الواحدة، ولقد دفع ثمن تخليه عن رغبته في التنوع توتراً وعصاباً، وفقداناً للمتعة، وعداء في التعامل بينه وبين المرأة، وانتهاكاً للمؤسسة الزوجية، وشذوذاً في العلاقات الجنسية.
فالرغبة في التعدد لا يمكن أن تستأصل، إذ هي رغبة أصلية. ولهذا، فهي محتاجة إلى تدبير ومعالجة، أو إلى تشريع وتقنين. وهي تعالج بمجاهدة النفس وترويضها. ولكن هذا حلاّ لا يطيقه إلا الأقلون بل النادرون، ولا يكون إلا على حساب الجسد وشهواته، إذ هو يؤدي إلى تصعيد الشهوة إلى المرأة باستبدال هواها بهوى آخر. إلا إذا كانت الزوجة فائقة في قدرتها على اجتذاب زوجها وعلى سوسه وتدبير حاجاته. وليس السعيد من يعدد وينوع، وإنما السعيد من يحظى بزوجة يشتاق إليها فلا يملها ولا تمله، وليس أجمل من المرأة إلا الشوق إليها.
وأيا يكن الحل، فالزواج الأحادي، وإن كان الأقرب والأدنى إلى بداهة الاجتماع، فإنه لا يغطي حقل المتع الجنسية ولا يلبي حاجات "الإنسان الإشتهائي"، أكان راغباً أو موضوعاً لرغبة، رجلاً أو امرأة. فهناك علاقات جنسية تنشأ على هامش الزواج الأحادي، وبسببه ومن جرائه. وهناك متعٌ جنسية لا تتحقق إلا خارج المؤسسة الزوجية. ذلك أن الرغبات هي عالم هواميّ ينتعش باشتهاء المحرم والغريب والوحشي، ويتحقق بالخروج على المألوف والسوي والمسيطر. والتعدد، وإن كان امتيازاً للرجل، فإن إلغاءه لا يفضي بالضرورة إلى استعادة المرأة حقوقها. أي لا يحل المشكل، هذا إذا لم نقل بأنه يخلق مشكلاً أكبر. ولا يعني ذلك أننا نقف مع التعدد أو ندعو إليه. فإنه إذا كان تعدد الأزواج لا يتفق مع بداهة العائلة، فإن تعدد الزوجات لا يتفق مع السوية العائلية. وما نريد قوله إن إلغاء التعدد يتطلب إعادة نظر في المؤسسة الجنسية برمتها، أي إعادة تصور الإنسان لذاته وجسده، وشهواته ومتعه. ولنقل إنه يتطلب إعادة تربية وتدبير. فلا إلغاء من دون تدبير أو معالجة