نقوس المهدي
كاتب
محي الدين بن عربي من كبار صوفية الإسلام عند كثير من الناس لكنه يعد، عند عدد غير قليل من الناس أيضاً، دخيلاً على الصوفية المعتدلة واقرب إلى الفلسفة منه إلى التصوف.
أما تفسير ابن عربي للقرآن فهو تفسير خاص به وهو أكثر اتصالاً بالأخلاق والثقافة الإسلامية العامة منه بالنحو وفقه اللغة؛ وفيه إلى جانب ذلك طابع تفكير فلسفي يمتاز بالعمق والتجانس سواء رفضنا وجهات نظره أم قبلناها، فهو إذن منهج نفسي ومن الطبيعي أن تتسم نتائج هذا المنهج بمسحة ذاتية أو شخصية، وقد أرجع هذا المتصوف فهمه الخاص للقرآن إلى أنه كان يعد نفسه من ورثة الرسول، فقد قيل إن العلماء ورثة الأنبياء، وإنما قال انه من ورثة الرسول لأنه كان يسير على سنته فيقلده في أفعاله وألفاظه وأحواله مع التطهر من الأخلاق الرديئة، والتحلي بمكارم الأخلاق التي بعث الرسول لإتمامها، مع التأمل والتفكير في كل ما يقع تحت حواسه وقواه حتى يستشف حكم الله فيه، فبالورع والتقوى وتقليد الرسول يتهيأ القلب لفهم ما ينطوي عليه القرآن من معان، لكن النجاح في تقليد الرسول لا يتحقق إلا للنادر من الأفراد.
أما عن نفسه فإنه يخبرنا أنه كان يتلو القرآن من قلبه، لا من لسانه فحسب، وأنه عرف ذلك ذوقاً، أي عن تجربة خاصة، فوجد في هذه الحال، ما لم يجده لحفظ حروفه، وعلم من معانيه ما لم يكن يعلم. فتلاوة القرآن من القلب لا من طرف اللسان هي الوراثة الكاملة للرسول عليه الصلاة والسلام، ذلك أن القارئ يجد حلاوة القرآن في قلبه فكأنما أنزل إليه خاصة، فيكون القرآن جديداً "فإذا وجد هذه الحلاوة التي تفوق كل لذة، فذلك الذي نزل عليه القرآن الجديد" وفي رأيه "أن نزول القرآن في قلب المؤمن هو نزول الحق من سره في سره، وهو قولهم "حدثني قلبي عن ربي من غير واسطة" فيكون ذلك نوعاً من التعليم أو الأعلام الإلهي، فقد قال تعالى: "واتقوا الله ويعلمكم الله".
وبسبب هذه الوراثة الكاملة التي ينسبها ابن عربي إلى نفسه، أخذ فهمه للقرآن عن الرسول، وكان ذلك على حد قوله أمراً محققاً لأنه انتهى إليه عن طريق الذوق، وهو نوع من العلم المفاجئ الذي ينبثق في النفس دفعة واحدة، فيكشف لها عن أمور ا كانت أن تتوقعها وهو الذي يسميه أيضاً علم الضربة أو علم اللمحة، وهو أقرب الأشياء إلى إشراقة الخيال التي يحدثنا عنها كبار العلماء من أمثال "نيوتن" فتكون سبباً في الكشوف العلمية الكبرى.
أما عن تردد النفس بين طريق الخير والشر فإن نقطة البدء في الحديث عنده هي قوله تعالى:_
"فألهمها فجورها وتقواها" وقد اعتمد على هذه الآية ليعرض لنا نظريته الخاصة عن طبيعة الإنسان وعن موقفه بين الخير والشر، إنه يصرح بأن الإنسان ليس شريراً بطبعه، بل أنه خلق مجبولاً على الخير، فروحه لابد أن تكون طاهرة بحسب أصلها ما دامت من أمر الله، فإذا كان الله هو الذي ينفخها في الجسد فمن الضروري أن يكون الخير فيها أمراً ذاتياً لا عارضاً، أما الجسم الذي قبل التسوية والعدل لقوله تعالى: _
"الذي خلقك فسواك فعدلك" فمن الواجب أن يكون طاهراً هو الآخر، ولابد أن يكون خيراً لأنه قد قبل التسوية والعدل وقبول العدل من الخير.
"فألهمها فجورها وتقواها" بأن الله جعل في طبيعة النفس استعداداً لقبول ما تلهمه من فجور أو تقوى وجعلها قادراً على التمييز بين هذين الأمرين. لكن هل يجوز لنا أن نزعم أن الله هو الذي يلهمنا الخير والشر معاً؟ يرى ابن عربي أنه من الأجدر أن نفهم هذه الآية في ضوء الحديث الذي روي عن الرسول من أنه للملك في الإنسان لمهَ وللشيطان لمهَ "فيكون الضمير في ألهمها للملك في التقوى وللشيطان في الفجور.. وكان بقضاء الله وقدره.. ولا يصح أن يقال في هذا الموضع أن الله هو الملهم لما في هذا من الجهل وسوء الأدب ولما في ذلك من غلبة أحد الخاطرين.. وأيضاً لقوله تعالى:
" ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك" فالسيئة نتيجة لميل النفس إلى خاطر الشر، وأما الحسنة فإنها بسبب ميل النفس بتوفيق من الله إلى خاطر الخير، أما سوء الأدب الذي يتحدث عنه ابن عربي فهو نتيجة للجمع " بين الله والشيطان في ضمير واحد وهذا غاية سوء الأدب مع الله" إذن من الأولى أن ينسب الإلهام بالفجور إلى الشيطان والإلهام بالتقوى إلى الملك "فمقابلة مخلوق بمخلوق أولى من مقابلة مخلوق بخالق" أي أنه المقابلة بين الملك والشيطان أحق من المقابلة بين الله والشيطان.
ونجد نموذجاً آخر لتفسير ابن عربي النفسي في فهمه أو تأويله لقوله تعالى: "الله نور السموات والأرض" فإنه يصف الله بأنه الخير المحض لأنه هو الوجود المطلق الذي يقابل العدم المحض وهو الشر المطلق، ولما كان العدم المحض لا وجود له إذن فلا وجود للشر المطلق، وقد طبق فكرته هذه على العالم فقال أن الخير فيه أصل وذاتي، أما ما نراه فيه من شر فليس إلا أمراً عارضاً، فالعالم الذي خرج إلى نور الوجود يجب أن يوصف بأنه خير ولو عرض فيه ما يوهم وجود الشر وإذا كان الله قد أعطى الوجود للعالم فليس من الممكن أن يحتوي هذا العالم على شر أصيل فيه، لكن إذا قلنا بأن هناك شراً عارضاً في الكون فإلى من ننسبه؟ أننسبه إلى الله أم إلى العالم؟ وليس من الجائز أن نرجع هذا الشر العارض إلى الوجود المحض وهو خير كله، كذلك لا يجوز أن ننسبه إلى العالم ما دام في قبضة الله وهو الخير المحض، فلم يبق إلا أن ننسبه إلى طبيعة الكائنات الممكنة التي وأن خرجت إلى الوجود فلابد من أن يدركها العدم الذي يترقبها متى انتهى الأجل الذي حدد لوجودها ما تنطوي عليه من عنصر العدم ينسب إليها الشر لأنها مقيدة ومحددة، لكن ما دامت هذه الكائنات موجودة بالفعل فإن الشر الذي تنطوي عليه ليس إلا شراً عارضاً.
ولما كان الشر عارضاً في هذا الكون فمن الواجب في رأي ابن عربي أن ننظر إلى الآخرين أحسنوا أم أساءوا بعين الرحمة، ولقد قال هو أنه قد تخلق بخلق الرحمة الذي كان يعشر به تجاه كل إنسان مؤمناً كان أم غير مؤمن، بل كان يشعر بالرحمة تجاه كل كائن إنساناً كان أم نباتاً أم حيواناً، وقد علل ذلك بأنه كان يأخذ نفسه بمحاولة التخلق بالأخلاق الإلهية فقد قال تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء" كذلك قال في كتابه " أن ربك لواسع المغفرة" هذا إلى أن الله يرزق المؤمن والكافر سواء بسواء فكيف للإنسان أن يضيق ما وسعته رحمة الله لقد قال أحد الأعراب "رب ارحمني ومحمداً" فقال له الرسول "يا هذا لقد حجوت واسعاً" يعني حجوته قولاً لا فعلاً أي أنك لا تستطيع أن تحجب رحمة الله عن الآخرين.
ولقد قيل أن ابن عربي يؤمن بالحتمية المطلقة أو بالجبر المحض، لكن إذا نحن أردنا معرفة وجه الحق في موقفه من مسألة القضاء والقدر وجدنا أنه يفسر الآيات القرآنية التي تتصل بهذه المسألة تفسيراً خاصاً ينتهي به إلى هذه الصيغة المركزة التي تقول أن الإنسان مجبور في اختياره وإذا تعمقنا في فهم هذه الصيغة التي تجمع بين الضدين رأينا أنه أقرب إلى تأكيد حرية الإنسان واختياره ومسئوليته عن أفعاله مما يبرر فكرة الثواب والعقاب. فهو يرى أن الطبيعة الخاصة لكل إنسان وهي تلك الطبيعة التي علمها الله منذ الأزل وهي التي تحدد اختياره بمعنى أنه لا يقهره شيء من خارج هذه الطبيعة، وليس هذا في التحليل الأخير شيئاً أخر سوى الاعتراف للإنسان بالتلقائية التامة ما دامت جميع أفعاله تنبع من ذاته.
أن القول بالجبر المحض يتعارض مع فّكرة الثواب والعقاب في حين أن حرية الإنسان تؤكد شرفه ومسئوليته، حقاً أن القرآن يحتوي على آيات تشهد في صالح حرية اختيار الإنسان فإذا قال الله " والله خلقكم وما تعلمون" فهناك آيات أخرى تنسب الأفعال إلى الإنسان كقوله جزاء وفاقاً جزاء بما كنتم تعملون "جزاء بما كنتم تكسبون" ومن ثم فأعمال المرء هي التي تكون سبباً في نعيمه وفي عذابه وليس له إلا أن يلوم نفسه إذا هو استحق العذاب بدليل ما جاء في القرآن من موقف إبليس تجاه هؤلاء الذين استجابوا لدعوته مختارين، فأنه لما قضي الأمر قال لهم " أن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي" وكان في استطاعة هؤلاء أن يرفضوا الاستماع إلى إغراء ابليس " إذ ليس كل من دعا تلزم إجابته" وأياً ما كان الأمر فإن إبليس نفسه لا يستطيع أن يحتج بالقضاء والقدر فلقد كان مختاراً عندما تكبر وأبى أن يسجد لآدم، ولم يكن علم الله السابق بأنه سيتكبر ويأبى هو الذي أجبره، بل كانت طبيعته هي التي مالت به نحو الطريق الذي اختاره لنفسه فقد عصى دون أن يقف على ما علمه الله من أمره لأن علم الله لا يؤثر في طبائع الكائنات بل يراها على ما هي عليه، كذلك استجاب له كثير من الناس دون أن يكون العلم الإلهي هو الذي أجبرهم بدليل أن هناك كثيرين منهم لم يستجيبوا لدعوة إبليس فعلم الله ليس هو الذي يدفع الشرير إلى ارتكاب شره بل طبيعة الإنسان والظروف التي يوجد فيها هي التي تحدد ميله إلى الشر دون الخير، فالله لا يرضى لعباده الكفر لكن الإنسان هو الذي يختاره لنفسه وأن كان لا يختار إلا ما علم الله منذ الأزل أنه سيختاره.
ولا نريد أن نفيض في عرض نماذج كثيرة من التفسير النفسي والأخلاقي والفلسفي الذي وجدناه عند محي الدين بن عربي وذلك لأننا لا نرغب في تجاوز الحدود التي رأينا أن نلتزمها، ولذا فسنكتفي من تفسيره مما يكشف لنا عن تنوع حالاته النفسية وعن عمق ثقافته تفسيره لهزائم المسلمين على الرغم من أن الله يقول " وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" أنه يفرق بين نوعين من الإيمان إيمان بالحق وإيمان بالباطل فالمؤمنون بالحق هم الذين قال الله فيهم:" أن ينصركم الله فلا غالب لكم وأن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده " أما المؤمنون بالباطل فهم الذين آمنوا بالطاغوت وانصرفوا عن الإيمان بالحق, وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن المسلمين لا يهزمون إذا بالباطل وكفروا بالحق,فقد هزموا في أحد عندما عصوا الرسول وتركوا أماكنهم لكي يظفروا بالغنائم فانصرفوا عن الحق إلى الباطل, وكذلك هزموا في حنين يوم أن أعجبتهم كثرتهم وكثيراً ما يهزم المسلمون بسبب خوفهم من الموت وتكذيبهم لما جاء في القرآن من قوله :
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون "
فالخوف من الموت هو الذي يدعمهم إلى الفرار حرصاً على حياتهم وضناً بها على التضحية في سبيل ما يعتقدون أنه حق, وهكذا فسرعان ما ينتقل الواحد منهم مباشرة إلى فريق الذين يؤمنون بالباطل ,أما إذا أنتصر غير المسلمين فإنما ينصرون لانهزام المسلمين لا تكذيباً لما جاء به القرآن, ويشهد التاريخ بصدق وجهة نظر ابن عربي فهزيمة المسلمين في بعض حروبهم ليس نتيجة خلف الله لوعده بل هي في نظر ابن عربي نتيجة لخلف المسلمين وعدهم بنصرة الحق .
ونقول في نهاية الأمر أن منهج ابن عربي في التفسير منهج مختلف عن المناهج السائدة لدى كثير من المفسرين القدماء والمحدثين وأنه يمتاز بالطرافة وبالنظرة الشخصية، وهو يتسق إلى جانب ذلك مع فكرته القائلة بأن القرآن سيظل متجدداً في قلب هؤلاء الذين يشعرون بأنه يتدفق من قلوبهم فلا يقرؤنه بخيالهم أو بأطراف ألسنتهم.
د. محمود قاسم
----------------------------
المصدر : القرآن _ نظرة عصرية جديدة
أما تفسير ابن عربي للقرآن فهو تفسير خاص به وهو أكثر اتصالاً بالأخلاق والثقافة الإسلامية العامة منه بالنحو وفقه اللغة؛ وفيه إلى جانب ذلك طابع تفكير فلسفي يمتاز بالعمق والتجانس سواء رفضنا وجهات نظره أم قبلناها، فهو إذن منهج نفسي ومن الطبيعي أن تتسم نتائج هذا المنهج بمسحة ذاتية أو شخصية، وقد أرجع هذا المتصوف فهمه الخاص للقرآن إلى أنه كان يعد نفسه من ورثة الرسول، فقد قيل إن العلماء ورثة الأنبياء، وإنما قال انه من ورثة الرسول لأنه كان يسير على سنته فيقلده في أفعاله وألفاظه وأحواله مع التطهر من الأخلاق الرديئة، والتحلي بمكارم الأخلاق التي بعث الرسول لإتمامها، مع التأمل والتفكير في كل ما يقع تحت حواسه وقواه حتى يستشف حكم الله فيه، فبالورع والتقوى وتقليد الرسول يتهيأ القلب لفهم ما ينطوي عليه القرآن من معان، لكن النجاح في تقليد الرسول لا يتحقق إلا للنادر من الأفراد.
أما عن نفسه فإنه يخبرنا أنه كان يتلو القرآن من قلبه، لا من لسانه فحسب، وأنه عرف ذلك ذوقاً، أي عن تجربة خاصة، فوجد في هذه الحال، ما لم يجده لحفظ حروفه، وعلم من معانيه ما لم يكن يعلم. فتلاوة القرآن من القلب لا من طرف اللسان هي الوراثة الكاملة للرسول عليه الصلاة والسلام، ذلك أن القارئ يجد حلاوة القرآن في قلبه فكأنما أنزل إليه خاصة، فيكون القرآن جديداً "فإذا وجد هذه الحلاوة التي تفوق كل لذة، فذلك الذي نزل عليه القرآن الجديد" وفي رأيه "أن نزول القرآن في قلب المؤمن هو نزول الحق من سره في سره، وهو قولهم "حدثني قلبي عن ربي من غير واسطة" فيكون ذلك نوعاً من التعليم أو الأعلام الإلهي، فقد قال تعالى: "واتقوا الله ويعلمكم الله".
وبسبب هذه الوراثة الكاملة التي ينسبها ابن عربي إلى نفسه، أخذ فهمه للقرآن عن الرسول، وكان ذلك على حد قوله أمراً محققاً لأنه انتهى إليه عن طريق الذوق، وهو نوع من العلم المفاجئ الذي ينبثق في النفس دفعة واحدة، فيكشف لها عن أمور ا كانت أن تتوقعها وهو الذي يسميه أيضاً علم الضربة أو علم اللمحة، وهو أقرب الأشياء إلى إشراقة الخيال التي يحدثنا عنها كبار العلماء من أمثال "نيوتن" فتكون سبباً في الكشوف العلمية الكبرى.
أما عن تردد النفس بين طريق الخير والشر فإن نقطة البدء في الحديث عنده هي قوله تعالى:_
"فألهمها فجورها وتقواها" وقد اعتمد على هذه الآية ليعرض لنا نظريته الخاصة عن طبيعة الإنسان وعن موقفه بين الخير والشر، إنه يصرح بأن الإنسان ليس شريراً بطبعه، بل أنه خلق مجبولاً على الخير، فروحه لابد أن تكون طاهرة بحسب أصلها ما دامت من أمر الله، فإذا كان الله هو الذي ينفخها في الجسد فمن الضروري أن يكون الخير فيها أمراً ذاتياً لا عارضاً، أما الجسم الذي قبل التسوية والعدل لقوله تعالى: _
"الذي خلقك فسواك فعدلك" فمن الواجب أن يكون طاهراً هو الآخر، ولابد أن يكون خيراً لأنه قد قبل التسوية والعدل وقبول العدل من الخير.
"فألهمها فجورها وتقواها" بأن الله جعل في طبيعة النفس استعداداً لقبول ما تلهمه من فجور أو تقوى وجعلها قادراً على التمييز بين هذين الأمرين. لكن هل يجوز لنا أن نزعم أن الله هو الذي يلهمنا الخير والشر معاً؟ يرى ابن عربي أنه من الأجدر أن نفهم هذه الآية في ضوء الحديث الذي روي عن الرسول من أنه للملك في الإنسان لمهَ وللشيطان لمهَ "فيكون الضمير في ألهمها للملك في التقوى وللشيطان في الفجور.. وكان بقضاء الله وقدره.. ولا يصح أن يقال في هذا الموضع أن الله هو الملهم لما في هذا من الجهل وسوء الأدب ولما في ذلك من غلبة أحد الخاطرين.. وأيضاً لقوله تعالى:
" ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك" فالسيئة نتيجة لميل النفس إلى خاطر الشر، وأما الحسنة فإنها بسبب ميل النفس بتوفيق من الله إلى خاطر الخير، أما سوء الأدب الذي يتحدث عنه ابن عربي فهو نتيجة للجمع " بين الله والشيطان في ضمير واحد وهذا غاية سوء الأدب مع الله" إذن من الأولى أن ينسب الإلهام بالفجور إلى الشيطان والإلهام بالتقوى إلى الملك "فمقابلة مخلوق بمخلوق أولى من مقابلة مخلوق بخالق" أي أنه المقابلة بين الملك والشيطان أحق من المقابلة بين الله والشيطان.
ونجد نموذجاً آخر لتفسير ابن عربي النفسي في فهمه أو تأويله لقوله تعالى: "الله نور السموات والأرض" فإنه يصف الله بأنه الخير المحض لأنه هو الوجود المطلق الذي يقابل العدم المحض وهو الشر المطلق، ولما كان العدم المحض لا وجود له إذن فلا وجود للشر المطلق، وقد طبق فكرته هذه على العالم فقال أن الخير فيه أصل وذاتي، أما ما نراه فيه من شر فليس إلا أمراً عارضاً، فالعالم الذي خرج إلى نور الوجود يجب أن يوصف بأنه خير ولو عرض فيه ما يوهم وجود الشر وإذا كان الله قد أعطى الوجود للعالم فليس من الممكن أن يحتوي هذا العالم على شر أصيل فيه، لكن إذا قلنا بأن هناك شراً عارضاً في الكون فإلى من ننسبه؟ أننسبه إلى الله أم إلى العالم؟ وليس من الجائز أن نرجع هذا الشر العارض إلى الوجود المحض وهو خير كله، كذلك لا يجوز أن ننسبه إلى العالم ما دام في قبضة الله وهو الخير المحض، فلم يبق إلا أن ننسبه إلى طبيعة الكائنات الممكنة التي وأن خرجت إلى الوجود فلابد من أن يدركها العدم الذي يترقبها متى انتهى الأجل الذي حدد لوجودها ما تنطوي عليه من عنصر العدم ينسب إليها الشر لأنها مقيدة ومحددة، لكن ما دامت هذه الكائنات موجودة بالفعل فإن الشر الذي تنطوي عليه ليس إلا شراً عارضاً.
ولما كان الشر عارضاً في هذا الكون فمن الواجب في رأي ابن عربي أن ننظر إلى الآخرين أحسنوا أم أساءوا بعين الرحمة، ولقد قال هو أنه قد تخلق بخلق الرحمة الذي كان يعشر به تجاه كل إنسان مؤمناً كان أم غير مؤمن، بل كان يشعر بالرحمة تجاه كل كائن إنساناً كان أم نباتاً أم حيواناً، وقد علل ذلك بأنه كان يأخذ نفسه بمحاولة التخلق بالأخلاق الإلهية فقد قال تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء" كذلك قال في كتابه " أن ربك لواسع المغفرة" هذا إلى أن الله يرزق المؤمن والكافر سواء بسواء فكيف للإنسان أن يضيق ما وسعته رحمة الله لقد قال أحد الأعراب "رب ارحمني ومحمداً" فقال له الرسول "يا هذا لقد حجوت واسعاً" يعني حجوته قولاً لا فعلاً أي أنك لا تستطيع أن تحجب رحمة الله عن الآخرين.
ولقد قيل أن ابن عربي يؤمن بالحتمية المطلقة أو بالجبر المحض، لكن إذا نحن أردنا معرفة وجه الحق في موقفه من مسألة القضاء والقدر وجدنا أنه يفسر الآيات القرآنية التي تتصل بهذه المسألة تفسيراً خاصاً ينتهي به إلى هذه الصيغة المركزة التي تقول أن الإنسان مجبور في اختياره وإذا تعمقنا في فهم هذه الصيغة التي تجمع بين الضدين رأينا أنه أقرب إلى تأكيد حرية الإنسان واختياره ومسئوليته عن أفعاله مما يبرر فكرة الثواب والعقاب. فهو يرى أن الطبيعة الخاصة لكل إنسان وهي تلك الطبيعة التي علمها الله منذ الأزل وهي التي تحدد اختياره بمعنى أنه لا يقهره شيء من خارج هذه الطبيعة، وليس هذا في التحليل الأخير شيئاً أخر سوى الاعتراف للإنسان بالتلقائية التامة ما دامت جميع أفعاله تنبع من ذاته.
أن القول بالجبر المحض يتعارض مع فّكرة الثواب والعقاب في حين أن حرية الإنسان تؤكد شرفه ومسئوليته، حقاً أن القرآن يحتوي على آيات تشهد في صالح حرية اختيار الإنسان فإذا قال الله " والله خلقكم وما تعلمون" فهناك آيات أخرى تنسب الأفعال إلى الإنسان كقوله جزاء وفاقاً جزاء بما كنتم تعملون "جزاء بما كنتم تكسبون" ومن ثم فأعمال المرء هي التي تكون سبباً في نعيمه وفي عذابه وليس له إلا أن يلوم نفسه إذا هو استحق العذاب بدليل ما جاء في القرآن من موقف إبليس تجاه هؤلاء الذين استجابوا لدعوته مختارين، فأنه لما قضي الأمر قال لهم " أن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي" وكان في استطاعة هؤلاء أن يرفضوا الاستماع إلى إغراء ابليس " إذ ليس كل من دعا تلزم إجابته" وأياً ما كان الأمر فإن إبليس نفسه لا يستطيع أن يحتج بالقضاء والقدر فلقد كان مختاراً عندما تكبر وأبى أن يسجد لآدم، ولم يكن علم الله السابق بأنه سيتكبر ويأبى هو الذي أجبره، بل كانت طبيعته هي التي مالت به نحو الطريق الذي اختاره لنفسه فقد عصى دون أن يقف على ما علمه الله من أمره لأن علم الله لا يؤثر في طبائع الكائنات بل يراها على ما هي عليه، كذلك استجاب له كثير من الناس دون أن يكون العلم الإلهي هو الذي أجبرهم بدليل أن هناك كثيرين منهم لم يستجيبوا لدعوة إبليس فعلم الله ليس هو الذي يدفع الشرير إلى ارتكاب شره بل طبيعة الإنسان والظروف التي يوجد فيها هي التي تحدد ميله إلى الشر دون الخير، فالله لا يرضى لعباده الكفر لكن الإنسان هو الذي يختاره لنفسه وأن كان لا يختار إلا ما علم الله منذ الأزل أنه سيختاره.
ولا نريد أن نفيض في عرض نماذج كثيرة من التفسير النفسي والأخلاقي والفلسفي الذي وجدناه عند محي الدين بن عربي وذلك لأننا لا نرغب في تجاوز الحدود التي رأينا أن نلتزمها، ولذا فسنكتفي من تفسيره مما يكشف لنا عن تنوع حالاته النفسية وعن عمق ثقافته تفسيره لهزائم المسلمين على الرغم من أن الله يقول " وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" أنه يفرق بين نوعين من الإيمان إيمان بالحق وإيمان بالباطل فالمؤمنون بالحق هم الذين قال الله فيهم:" أن ينصركم الله فلا غالب لكم وأن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده " أما المؤمنون بالباطل فهم الذين آمنوا بالطاغوت وانصرفوا عن الإيمان بالحق, وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن المسلمين لا يهزمون إذا بالباطل وكفروا بالحق,فقد هزموا في أحد عندما عصوا الرسول وتركوا أماكنهم لكي يظفروا بالغنائم فانصرفوا عن الحق إلى الباطل, وكذلك هزموا في حنين يوم أن أعجبتهم كثرتهم وكثيراً ما يهزم المسلمون بسبب خوفهم من الموت وتكذيبهم لما جاء في القرآن من قوله :
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون "
فالخوف من الموت هو الذي يدعمهم إلى الفرار حرصاً على حياتهم وضناً بها على التضحية في سبيل ما يعتقدون أنه حق, وهكذا فسرعان ما ينتقل الواحد منهم مباشرة إلى فريق الذين يؤمنون بالباطل ,أما إذا أنتصر غير المسلمين فإنما ينصرون لانهزام المسلمين لا تكذيباً لما جاء به القرآن, ويشهد التاريخ بصدق وجهة نظر ابن عربي فهزيمة المسلمين في بعض حروبهم ليس نتيجة خلف الله لوعده بل هي في نظر ابن عربي نتيجة لخلف المسلمين وعدهم بنصرة الحق .
ونقول في نهاية الأمر أن منهج ابن عربي في التفسير منهج مختلف عن المناهج السائدة لدى كثير من المفسرين القدماء والمحدثين وأنه يمتاز بالطرافة وبالنظرة الشخصية، وهو يتسق إلى جانب ذلك مع فكرته القائلة بأن القرآن سيظل متجدداً في قلب هؤلاء الذين يشعرون بأنه يتدفق من قلوبهم فلا يقرؤنه بخيالهم أو بأطراف ألسنتهم.
د. محمود قاسم
----------------------------
المصدر : القرآن _ نظرة عصرية جديدة