نقوس المهدي
كاتب
ألقى أبو القاسم الشابي (1909 - 1934) في "النادي الأدبي التونسي"، سنة 1929، محاضرة نشرت في طبعة محدودة الكمية في العام نفسه تحت عنوان " الخيال الشعري عند العرب ".. وهي محاضرة تكشف إلى أي مدى كان الشابي، وهو يناهز العشرين عاما، طليعيا ذا رؤية حديثة ومتطورة في قراءته النقدية للتراث العربي التي تكاد تتفق مع طروحات كتبها المستشرق الألماني غرونباوم في مطلع ثلاثينات القرن الماضي (علما ان الشابي كان يجهل اللغات الأجنبية)، وإلى أي حد كان يريد تخليص مفهوم الشعر من كل التعاريف العربية الكلاسيكية له. لذا، وجدنا أن أفضل احتفال بذكرى ميلاده المئوية، هو أن نقدم لقارئ الانترنت اليوم مقتطفات من هذه المحاضرة الرائعة والملهمة، على أمل أن نقدمها كاملة في المستقبل القريب:
... إن كل ما أنتجه الذهن العربي في مختلف عصوره، قد كان على وتيرة واحدة، ليس له من الخيال الشعري حظ ولا نصيب. وإن الروح السائدة في ذلك هي النظرة القصيرة الساذجة التي لا تنفذ إلى جوهر الأشياء وصميم الحقائق، وإنما همها أن تنصرف إلى الشكل والوضع، واللون، والقالب، أو ما هو إلى ظواهر الأشياء أدنى من دخائلها، فهي لا تتحدث عن الطبيعة إلا بألوانها وأشكالها، ولا يهمها من المرأة إلا الجسد البادي، وهي في القصة لا تتعرف إلى طبائع الإنسان وآلام البشر، وفي الأساطير لا تعبر عن فكر سام وخيال فياض، وإنما هي أوهام طائشة وأنصاب جامدة. كل هذا علمتموه من قبل حينما عرضت له في شيء من التحليل والإطناب والاستقراء. أما الذي يهمني الآن بعد أن علمتم أن كل ما أنتجه العقل العربي كان مطبوعا على غرار واحد ومصطبغا بصبغة واحدة، فهو أن نعرف طبع الروح العربية التي صقلت منتجاتها هذا الصقال. وأرسلت عليها من هذا اللون الذي عرفتموه. وأن نعرف العوامل التي عملت على خلقها هذا الخلق الذي وسم كل ما جادت به قريحتها بوسم خاص.
إذن فما هذه الروح العربية وما هو طبعها الخاص؟
الروح العربية خطابية مشتعلة. لا تعرف الأناة في الفكر فضلا عن الاستغراق فيه. ومادية محضة لا تستطيع الإلمام بغير الظواهر مما يدعو إلى الاسترسال مع الخيال إلى أبعد شوط وأقصى مدى، ومن هاتين النزعتين - الخطابية والمادية – التين ذهبا بها في الحياة مذهبا خاصا، كان لها ذلك الطبع الشبيه بالنحلة المرحة لا تطمئن إلى زهرة حتى تغادرها إلى أخرى من زهور الربيع، ولذلك فهي أبدا متنقلة وهي أبدا حائمة. تلك هي الروح العربية وذلك هو طبعها وإن فيما رأيتم من آثارها العقلية لصداق لما قلته.
وقد كان لهاتين النزعتين الأثر الكبير في إضعاف مَلَكة الخيال الشعري في النفسية العربية حتى كانت آثارها على ما رأيتم... وقد كان لهاتين النزعتين آثار أخرى في آراء العرب وأذواقهم منها أنهم كانوا لا ينظرون إلى الشاعر كما ننظر نحن له الآن من أنه رسول الحياة لأبنائها الضائعين بين مسالك الدهر، بل كانوا لا يفرقون بينه وبين الخطيب من أنه حامي ذمار القبيلة، والمناضل عن أعراضها بلسانه. والمستفز لنخوة الحمية في أبنائها حينما تأزف الآزفة ويجد الجد، إلا أن الشاعر ينظم خطبته والآخر ينثرها نثرا. حتى أنهم لما جعلوا لشعرائهم أرواحا تملي عليهم الشعر، لم يجعلوا تلك الأرواح ملائكة أو آلهة تسمعهم الوحي وتملأ قلوبَهم بالأناشيد الخالدة... كما كان في أساطير غيرهم، وإنما جلوها شياطين تصقل لسان الشاعر وتجعله أدنى إلى بلاغة القول وجزالة الخطاب، وما ذلك إلا لأنهم لا يرون في الشاعر إلا خطيبا ينظم ما يقول...
ولكنكم حريون بعدئذ أن تقولوا: إن هاته العوامل لا يمكن أن تؤثر إلا في العصر الجاهلي، إذ فيه وحده يمكن توفر هاته العلل والأسباب. أما العصر الأموي والعصر العباسي والعصر الأندلسي فهي بمعزل عن مثل هاته العوامل التي ألقت على الروح العربية ذلك الرداء حيث قد تغيّرت في مثل هاته العصور الأوساط الطبيعية والمعنوية التي عاش فيها العرب وألفوها. فما السبب إذن في أن الأدب العربي قد ظلت تسود عليه روح واحدة في جميع هاته العصور، وقد ظلت نظرته إلى الحياة هي النظرة الأولى البسيطة الساذجة التي لا تقلق بغير الظاهر المحسوس؟
والجواب هو: أن هاته العصور الثلاثة قد أثرت على آدابها عوامل أخرى قربت بينها وبين الأدب الجاهلي في الروح والفكر والخيال وإن لم تقو على رد مفعول الزمن في الأسلوب، فاختلفت بينها الأساليب اختلافا بعيدا...
العامل الأول: الوراثة، فقد كان العصر الأموي عصرا عربيا صراحا في طبعه، منزعه وشعوره، لم تختلط فيه الأمة العربية بغيرها من شعوب الأرض اختلاطا كبيرا يدخل في نفسيتها عناصر أخرى غريبة عنها، ولا تبدل عليها الوسط الطبيعي الذي عاش فيه العرب الأولون، فظلت لذلك حافظة لميراثها الروحي الذي ورثته عن آبائها الأقدمين، معتزة به لا تبغي عنه حولا ولا ترضي غيره.
وظلت آداب هذا العصر شبيهة كل الشبه بآداب الجاهلية الأولى، لا أثر للتجديد فيها إلا هذا الشعر القصصي الذي انفرد به ابن ابي ربيعة من بين شعراء عصره أجمعين وإن كان جديرا أن يُسمّى توسعا لا تجديدا لأن الشعر الجاهلي لم يخل من مثل هذا الفن خلوا تاما ولكن ابن ابي ربيعة قد بلغ فيه شأوا لم يصلوه. وإلا هذا الشعر هذا الشعر السياسي الذي ادخله الزعماء ادخالا وأوجدته حالة الأمة العربية في ذلك العصر الحافل بأسباب التنافس والأحقاد. على أن هذا النوع من الشعر أيضا قد كان معروفا في أدب الجاهلية ولكن باسم غير هذا الاسم الذي عرف به في العصر الأموي، ولغرض غير الذي يراد منه فيه. وأعني به ذلك النوع الذي يتمثل واضحا جليا في معلقتي عمرو ابن كلثوم والحارث بن حلزه. هذا النوع الذي كان الشعراء يندفعون فيه اندفاعا منشؤه تنازع القبائل لا على العرش والسلطان كما كان في أكثر المنازعات الشعرية في العصر الأموي – ولكن على الشهرة بين العرب بما يكسب الحمد ويجلب المجد...
العامل الثاني: ما كان يفهم من الأدب نقدة الإسلام. فإن هؤلاء النقدة كانوا لا يفهمون الأدب على حقيقته التي ينبغي أن يفهم عليها من أنه صوت الحياة الذي يهب الإنسانية العزاء والأمل ويرافقها في رحلة الحياة المملة المضنية المتعسفة في صحراء الزمن، وأنه المعزف الحساس الذي توقع عليه البشرية مراثيها الباكية في ظلمة الليل وأناشيدها الفرحة في نور النهار. وإنما كانوا يفهمون منه فهما معكوسا يختلفون في تأويله ويتفقون على مدلوله. فهم يتفقون على انه لا يقصد لنفسه كفن جدّي من فنون الحياة له روحه وأطواره ونزعاته ولكنهم يختلفون في الغرض من استعماله. أما القدماء كعمرو بن العلاء وطبقته فقد كانوا ينظرون الى الأدب كوسيلة من وسائل الدين والسنّة وهذا الفهم الذي فهموا به الأدب قد جعلهم لا يفهمون من الأدب إلا أنه ألفاظ وتراكيب وجمل وأساليب ليس وراءها روح ولا فكر. وهو الذي جعلهم يعتقدون أن الأدب الجاهلي هو من خير المنتجات العقلية التي عرفها العالم كأن العرب هم كل ما برأ الله من قرائح وعقول. وقد ولج بهم هذا الفكر حتى تعصبوا للأدب الجاهلي وازدراد ما انتجه الذهن الإسلامي. وحسبكم دليلا ما ذكره الأصمعي من أنه جلس بمجلس عمرو بن العلاء ثماني حجاج ما سمعه استدل ببيت إسلامي قط. فكان إذا سئل عن ذلك أجاب: "ما كان من حسن فقد سبقوا اليه. وما كان من قبيح فمن عندهم. ليس النمط واحدا. ترى قطعة من الديباج وقطعة مسح وقطعة نطع" ولماذا هذا؟ لأن الشعر الجاهلي أمتن أو أغرب؟كلا فإن في شعر الأخطل والفرزدق ما يعجز عنه شعراء الجاهلية. ولكن لأن الشعر الجاهلي هو الذي يثقون بما فيه من لغة يتخذون منها مادة صالحة لتفسير القرآن وشرح الحديث ومعرفة ما فيهما من بلاغة واعجاز.
وعلى هذه الفكرة الدينية في فهم الأدب، هذه الفكرة التي لا تفهم منه إلا أنه ألفاظ فخمة جاهلية بنوا لهم منطقا خاصا غريبا لا يخلو من شواذ. وهو أن الخير كل الخير – إذا أراد الشعراء أن ينظموا الشعر!- هو أن يتابعوا العرب في الطريقة التي ساروا عليها في شعرهم من بدء القصائد بالنسيب والتشبيب ووصف ترحلها وآثارها الباقية من دمنة مسودة ونوى حفيف. أو وتد مضروب وخباء منصوب وماشية راعية وإبل راغية حتى لو كان الشاعر من سكان الحواضر الذين لا يعرفون البادية ولا يفقهون الخباء! وحتى لو كان شيخا متهدما لا يخفق قلبه بالحب ولا تطربه نغمات الغزل. ومن التويل إلى المدح بامتطاء الإبل الضوامر وقطع الفلوات المترامية وخوض المرامي القاحلة التي يرقص في اطرافها الآل ويلتمع السراب. حتى ولو كان سميرا من سمار الملك الذين لم يتجشموا لرؤيته غير قطع شارع او منعرج! ولمَ لا يكون ذلك خيرا ولِمَ لا يكون واجبا.
أليس امرؤ القيس قد كان لا يبدأ القصيدة إلا بالتحدث عن محبوبته، أليس النابغة أو الأعشى قد كان يمدح الملك إلا بعد أن يصف ما اعترضه في سبيله من الفلوات المقفرة التي جابها بأعمال المطايا؟ كأنهم يحسبون – سامحهم الله – أن مجرد كون امرئ القيس أو غيره من شعراء الجاهلية قد قال الشعر هلى نحو خاص يلائم طبعه وحياته، يلزم الشعراء من بعد باتباعه واقتفاء خطاه وبأن لا يخرجوا على ما سنّه لهم أميرهم الظليل من قانون وشرع، ألا ساء ما يحكمون!...
وأما الطائفة الثانية من النقدة فهي سليلة الأولى وربيبتها وقد كان رأيها في الأدب أنه وسيلة من وسائل اللهو وتزجية الفراغ، وعلى عهد هؤلاء انتشرت تلك الأفكار المسموموة، التي لا تفهم من الشعر إلا انه نوع من أنواع الشحاذة المنظمة وضرب من ضروب الاستجداء لا غير، والتي تجأر بكل قحة ورقاعة أن أعذب الشعر اكذبه ومن أيمة هاته الطائفة – بكل الأسف – وطنينا ابن رشيق، فقد كان يصرح بمثل هاته الآراء في غير موضع من مواضع "العمدة". وكان من آثار هاتين الطائفتين في الأدب العربي أن أصبح لا يعنى فيه إلا باللفظ باللفظ وما مت إليه من مجاز واستعارة وجناس ومقابلة. وإن كثرت ثروته اللفظية وتنويقها، وتجديد الأساليب المتباينة دون أن يجدوا شيئا في جوهر الشعر وروحه، بل ظل كما عهده العرب في الروح والفكر والخيال. وإن كان الشعر العربي كذبا أكثره، وكيف لا يكون كذلك وقد أصبح من الفرض على الشاعر أن يستهل القصيدة بالغزل والنسيب عند إرادة المدح وأن يصرف همّه في المدح إلى المبالغات الكاذبة والاطراء البغيض؟
العامل الثالث: عدم اطلاع العرب في جميع العصور الماضية على آداب المم الأخرى، فإن العرب بالرغم من انهم ترجموا من مختلف العلوم العقلية ما احدث الأثر الجميل في تالذهن العربي لم يترجموا من آداب الأمم الأخرى ما يحدث انقلابا في الروح العربي. فهم قد ترجموا فلسفة اليونان وحكمة فارس وعلومها، اما آداب اليونان والرومان فإنهم لم يترجموا منها شيئا، واحسب انهم لم يترجموا هاته الآداب لما فيها من النزعة الوثنية ولكن هذا لايمنع الشك والتساؤل. فما لهم لم يترجموا أدب فارس والهند وقد ترجموا حكمتها واطلعوا عليها؟ هذا سؤال لم يجب عليه التاريخ. وما أخال السبب في ذلك إلا الغرور. فقد كان العرب معتزين بأدبهم يحسبونه أنه هو كل شيء في العالم فلم يجدوا حاجة تدفعهم الى ترجمة الآداب الأخرى وظل المثل الأعلى الذي تحتذيه العصور الإسلامية في روحه وأسلوبه هو الشعر الجاهلي.
فكان لعدم اطلاع العرب على ’داب الأمم الأخرى أثر كبير في إبقاء الروح الشعرية العربية على حالها في جميع الأجيال زيادة على تلك الدعايات المتكررة التي قام بها طوائف النقدة في جميع العصور. وعلاوة على ما حمل التاريخ هاته الأمم والشعوب من ذلك الميراث الروحي الذي خلفه العرب لأحفادهم.
وقد تآلفت هاته العوامل الثلاثة على إبقاء ذلك المزاج العربي الصميم في نفسيات الأمم الإسلامية وعلى طبع آدابها بالطابع الذي انطبع به الأدب الجاهلي من قبل...
(من الطبعة الرابعة 1989، الدار التونسية للنشر)
... إن كل ما أنتجه الذهن العربي في مختلف عصوره، قد كان على وتيرة واحدة، ليس له من الخيال الشعري حظ ولا نصيب. وإن الروح السائدة في ذلك هي النظرة القصيرة الساذجة التي لا تنفذ إلى جوهر الأشياء وصميم الحقائق، وإنما همها أن تنصرف إلى الشكل والوضع، واللون، والقالب، أو ما هو إلى ظواهر الأشياء أدنى من دخائلها، فهي لا تتحدث عن الطبيعة إلا بألوانها وأشكالها، ولا يهمها من المرأة إلا الجسد البادي، وهي في القصة لا تتعرف إلى طبائع الإنسان وآلام البشر، وفي الأساطير لا تعبر عن فكر سام وخيال فياض، وإنما هي أوهام طائشة وأنصاب جامدة. كل هذا علمتموه من قبل حينما عرضت له في شيء من التحليل والإطناب والاستقراء. أما الذي يهمني الآن بعد أن علمتم أن كل ما أنتجه العقل العربي كان مطبوعا على غرار واحد ومصطبغا بصبغة واحدة، فهو أن نعرف طبع الروح العربية التي صقلت منتجاتها هذا الصقال. وأرسلت عليها من هذا اللون الذي عرفتموه. وأن نعرف العوامل التي عملت على خلقها هذا الخلق الذي وسم كل ما جادت به قريحتها بوسم خاص.
إذن فما هذه الروح العربية وما هو طبعها الخاص؟
الروح العربية خطابية مشتعلة. لا تعرف الأناة في الفكر فضلا عن الاستغراق فيه. ومادية محضة لا تستطيع الإلمام بغير الظواهر مما يدعو إلى الاسترسال مع الخيال إلى أبعد شوط وأقصى مدى، ومن هاتين النزعتين - الخطابية والمادية – التين ذهبا بها في الحياة مذهبا خاصا، كان لها ذلك الطبع الشبيه بالنحلة المرحة لا تطمئن إلى زهرة حتى تغادرها إلى أخرى من زهور الربيع، ولذلك فهي أبدا متنقلة وهي أبدا حائمة. تلك هي الروح العربية وذلك هو طبعها وإن فيما رأيتم من آثارها العقلية لصداق لما قلته.
وقد كان لهاتين النزعتين الأثر الكبير في إضعاف مَلَكة الخيال الشعري في النفسية العربية حتى كانت آثارها على ما رأيتم... وقد كان لهاتين النزعتين آثار أخرى في آراء العرب وأذواقهم منها أنهم كانوا لا ينظرون إلى الشاعر كما ننظر نحن له الآن من أنه رسول الحياة لأبنائها الضائعين بين مسالك الدهر، بل كانوا لا يفرقون بينه وبين الخطيب من أنه حامي ذمار القبيلة، والمناضل عن أعراضها بلسانه. والمستفز لنخوة الحمية في أبنائها حينما تأزف الآزفة ويجد الجد، إلا أن الشاعر ينظم خطبته والآخر ينثرها نثرا. حتى أنهم لما جعلوا لشعرائهم أرواحا تملي عليهم الشعر، لم يجعلوا تلك الأرواح ملائكة أو آلهة تسمعهم الوحي وتملأ قلوبَهم بالأناشيد الخالدة... كما كان في أساطير غيرهم، وإنما جلوها شياطين تصقل لسان الشاعر وتجعله أدنى إلى بلاغة القول وجزالة الخطاب، وما ذلك إلا لأنهم لا يرون في الشاعر إلا خطيبا ينظم ما يقول...
ولكنكم حريون بعدئذ أن تقولوا: إن هاته العوامل لا يمكن أن تؤثر إلا في العصر الجاهلي، إذ فيه وحده يمكن توفر هاته العلل والأسباب. أما العصر الأموي والعصر العباسي والعصر الأندلسي فهي بمعزل عن مثل هاته العوامل التي ألقت على الروح العربية ذلك الرداء حيث قد تغيّرت في مثل هاته العصور الأوساط الطبيعية والمعنوية التي عاش فيها العرب وألفوها. فما السبب إذن في أن الأدب العربي قد ظلت تسود عليه روح واحدة في جميع هاته العصور، وقد ظلت نظرته إلى الحياة هي النظرة الأولى البسيطة الساذجة التي لا تقلق بغير الظاهر المحسوس؟
والجواب هو: أن هاته العصور الثلاثة قد أثرت على آدابها عوامل أخرى قربت بينها وبين الأدب الجاهلي في الروح والفكر والخيال وإن لم تقو على رد مفعول الزمن في الأسلوب، فاختلفت بينها الأساليب اختلافا بعيدا...
العامل الأول: الوراثة، فقد كان العصر الأموي عصرا عربيا صراحا في طبعه، منزعه وشعوره، لم تختلط فيه الأمة العربية بغيرها من شعوب الأرض اختلاطا كبيرا يدخل في نفسيتها عناصر أخرى غريبة عنها، ولا تبدل عليها الوسط الطبيعي الذي عاش فيه العرب الأولون، فظلت لذلك حافظة لميراثها الروحي الذي ورثته عن آبائها الأقدمين، معتزة به لا تبغي عنه حولا ولا ترضي غيره.
وظلت آداب هذا العصر شبيهة كل الشبه بآداب الجاهلية الأولى، لا أثر للتجديد فيها إلا هذا الشعر القصصي الذي انفرد به ابن ابي ربيعة من بين شعراء عصره أجمعين وإن كان جديرا أن يُسمّى توسعا لا تجديدا لأن الشعر الجاهلي لم يخل من مثل هذا الفن خلوا تاما ولكن ابن ابي ربيعة قد بلغ فيه شأوا لم يصلوه. وإلا هذا الشعر هذا الشعر السياسي الذي ادخله الزعماء ادخالا وأوجدته حالة الأمة العربية في ذلك العصر الحافل بأسباب التنافس والأحقاد. على أن هذا النوع من الشعر أيضا قد كان معروفا في أدب الجاهلية ولكن باسم غير هذا الاسم الذي عرف به في العصر الأموي، ولغرض غير الذي يراد منه فيه. وأعني به ذلك النوع الذي يتمثل واضحا جليا في معلقتي عمرو ابن كلثوم والحارث بن حلزه. هذا النوع الذي كان الشعراء يندفعون فيه اندفاعا منشؤه تنازع القبائل لا على العرش والسلطان كما كان في أكثر المنازعات الشعرية في العصر الأموي – ولكن على الشهرة بين العرب بما يكسب الحمد ويجلب المجد...
العامل الثاني: ما كان يفهم من الأدب نقدة الإسلام. فإن هؤلاء النقدة كانوا لا يفهمون الأدب على حقيقته التي ينبغي أن يفهم عليها من أنه صوت الحياة الذي يهب الإنسانية العزاء والأمل ويرافقها في رحلة الحياة المملة المضنية المتعسفة في صحراء الزمن، وأنه المعزف الحساس الذي توقع عليه البشرية مراثيها الباكية في ظلمة الليل وأناشيدها الفرحة في نور النهار. وإنما كانوا يفهمون منه فهما معكوسا يختلفون في تأويله ويتفقون على مدلوله. فهم يتفقون على انه لا يقصد لنفسه كفن جدّي من فنون الحياة له روحه وأطواره ونزعاته ولكنهم يختلفون في الغرض من استعماله. أما القدماء كعمرو بن العلاء وطبقته فقد كانوا ينظرون الى الأدب كوسيلة من وسائل الدين والسنّة وهذا الفهم الذي فهموا به الأدب قد جعلهم لا يفهمون من الأدب إلا أنه ألفاظ وتراكيب وجمل وأساليب ليس وراءها روح ولا فكر. وهو الذي جعلهم يعتقدون أن الأدب الجاهلي هو من خير المنتجات العقلية التي عرفها العالم كأن العرب هم كل ما برأ الله من قرائح وعقول. وقد ولج بهم هذا الفكر حتى تعصبوا للأدب الجاهلي وازدراد ما انتجه الذهن الإسلامي. وحسبكم دليلا ما ذكره الأصمعي من أنه جلس بمجلس عمرو بن العلاء ثماني حجاج ما سمعه استدل ببيت إسلامي قط. فكان إذا سئل عن ذلك أجاب: "ما كان من حسن فقد سبقوا اليه. وما كان من قبيح فمن عندهم. ليس النمط واحدا. ترى قطعة من الديباج وقطعة مسح وقطعة نطع" ولماذا هذا؟ لأن الشعر الجاهلي أمتن أو أغرب؟كلا فإن في شعر الأخطل والفرزدق ما يعجز عنه شعراء الجاهلية. ولكن لأن الشعر الجاهلي هو الذي يثقون بما فيه من لغة يتخذون منها مادة صالحة لتفسير القرآن وشرح الحديث ومعرفة ما فيهما من بلاغة واعجاز.
وعلى هذه الفكرة الدينية في فهم الأدب، هذه الفكرة التي لا تفهم منه إلا أنه ألفاظ فخمة جاهلية بنوا لهم منطقا خاصا غريبا لا يخلو من شواذ. وهو أن الخير كل الخير – إذا أراد الشعراء أن ينظموا الشعر!- هو أن يتابعوا العرب في الطريقة التي ساروا عليها في شعرهم من بدء القصائد بالنسيب والتشبيب ووصف ترحلها وآثارها الباقية من دمنة مسودة ونوى حفيف. أو وتد مضروب وخباء منصوب وماشية راعية وإبل راغية حتى لو كان الشاعر من سكان الحواضر الذين لا يعرفون البادية ولا يفقهون الخباء! وحتى لو كان شيخا متهدما لا يخفق قلبه بالحب ولا تطربه نغمات الغزل. ومن التويل إلى المدح بامتطاء الإبل الضوامر وقطع الفلوات المترامية وخوض المرامي القاحلة التي يرقص في اطرافها الآل ويلتمع السراب. حتى ولو كان سميرا من سمار الملك الذين لم يتجشموا لرؤيته غير قطع شارع او منعرج! ولمَ لا يكون ذلك خيرا ولِمَ لا يكون واجبا.
أليس امرؤ القيس قد كان لا يبدأ القصيدة إلا بالتحدث عن محبوبته، أليس النابغة أو الأعشى قد كان يمدح الملك إلا بعد أن يصف ما اعترضه في سبيله من الفلوات المقفرة التي جابها بأعمال المطايا؟ كأنهم يحسبون – سامحهم الله – أن مجرد كون امرئ القيس أو غيره من شعراء الجاهلية قد قال الشعر هلى نحو خاص يلائم طبعه وحياته، يلزم الشعراء من بعد باتباعه واقتفاء خطاه وبأن لا يخرجوا على ما سنّه لهم أميرهم الظليل من قانون وشرع، ألا ساء ما يحكمون!...
وأما الطائفة الثانية من النقدة فهي سليلة الأولى وربيبتها وقد كان رأيها في الأدب أنه وسيلة من وسائل اللهو وتزجية الفراغ، وعلى عهد هؤلاء انتشرت تلك الأفكار المسموموة، التي لا تفهم من الشعر إلا انه نوع من أنواع الشحاذة المنظمة وضرب من ضروب الاستجداء لا غير، والتي تجأر بكل قحة ورقاعة أن أعذب الشعر اكذبه ومن أيمة هاته الطائفة – بكل الأسف – وطنينا ابن رشيق، فقد كان يصرح بمثل هاته الآراء في غير موضع من مواضع "العمدة". وكان من آثار هاتين الطائفتين في الأدب العربي أن أصبح لا يعنى فيه إلا باللفظ باللفظ وما مت إليه من مجاز واستعارة وجناس ومقابلة. وإن كثرت ثروته اللفظية وتنويقها، وتجديد الأساليب المتباينة دون أن يجدوا شيئا في جوهر الشعر وروحه، بل ظل كما عهده العرب في الروح والفكر والخيال. وإن كان الشعر العربي كذبا أكثره، وكيف لا يكون كذلك وقد أصبح من الفرض على الشاعر أن يستهل القصيدة بالغزل والنسيب عند إرادة المدح وأن يصرف همّه في المدح إلى المبالغات الكاذبة والاطراء البغيض؟
العامل الثالث: عدم اطلاع العرب في جميع العصور الماضية على آداب المم الأخرى، فإن العرب بالرغم من انهم ترجموا من مختلف العلوم العقلية ما احدث الأثر الجميل في تالذهن العربي لم يترجموا من آداب الأمم الأخرى ما يحدث انقلابا في الروح العربي. فهم قد ترجموا فلسفة اليونان وحكمة فارس وعلومها، اما آداب اليونان والرومان فإنهم لم يترجموا منها شيئا، واحسب انهم لم يترجموا هاته الآداب لما فيها من النزعة الوثنية ولكن هذا لايمنع الشك والتساؤل. فما لهم لم يترجموا أدب فارس والهند وقد ترجموا حكمتها واطلعوا عليها؟ هذا سؤال لم يجب عليه التاريخ. وما أخال السبب في ذلك إلا الغرور. فقد كان العرب معتزين بأدبهم يحسبونه أنه هو كل شيء في العالم فلم يجدوا حاجة تدفعهم الى ترجمة الآداب الأخرى وظل المثل الأعلى الذي تحتذيه العصور الإسلامية في روحه وأسلوبه هو الشعر الجاهلي.
فكان لعدم اطلاع العرب على ’داب الأمم الأخرى أثر كبير في إبقاء الروح الشعرية العربية على حالها في جميع الأجيال زيادة على تلك الدعايات المتكررة التي قام بها طوائف النقدة في جميع العصور. وعلاوة على ما حمل التاريخ هاته الأمم والشعوب من ذلك الميراث الروحي الذي خلفه العرب لأحفادهم.
وقد تآلفت هاته العوامل الثلاثة على إبقاء ذلك المزاج العربي الصميم في نفسيات الأمم الإسلامية وعلى طبع آدابها بالطابع الذي انطبع به الأدب الجاهلي من قبل...
(من الطبعة الرابعة 1989، الدار التونسية للنشر)