نقوس المهدي
كاتب
توفي رجل، لكن في نعشه -زنزانة جمجمته الرمادية - مسرح العالم البالغ الصغر، تظل فكرته الأخيرة. محفوظة إلى الأبد في النهاية الأخرى لوجود تافه عادة، تحت في غيتو الموتى.
هنري على وشك الخروج من منزله إلى ظلمة تشحذها حرارة النجوم المشعة وتحديقة القمر المحذرة. لم يبلغ عامه الأربعين بعد، يرتدي بنطال جينز أزرق وقميصاً قصير الأكمام وخفّاً. يمكن أن تسبر حريته من خلال توقد عينيه، وتقيده من المسافة التي تفصل بين يده ومقبض الباب. شغفه الوحيد مغادرة المنزل. ترك السرير مبعثراً والملاءات نصفها ملقى على الأرض، الملابس تتدلى من الجوارير المفتوحة، المناشف مكومة على الكراسي، تتناثر الجوارب والسراويل التحتية على الأرض. إنه مشهد لفوضى لم يستطع التنبؤ بطول مدته.
تنتظر كاثي في ليل الصيف العابق، في حديقة هنري، مملكة النبات الرطبة. لقد ركضت طوال الطريق من منزلها، دون ثياب. لاهثة قليلاً، تحدق بالباب الذي لن يخرج هنري منه أبداً، تبدو كاثي هادئة، لحمها الحليبي اللون مشع ونضر. تنهمر في الغرر المنقوعة في ضوء القمر -لشجيرة الوردية، وأزهار خشخاش آيسلاندا، وأعشاب الحوذان الفارسية-ظلال بيضاوية الشكل صغيرة على رابيتي مؤخرتها الشبحية البيضاء الضاربة إلى الزرقة. كاثي المسكينة! على وشك أن تصل إلى هنري، أمضت سنوات في وضعية تتراوح بين الوقوف و الانحناء، يعبس مستقبِل ضوء القمر المتواصل.
يبدو كأن بوسع هنري أن يراها هناك، يمكنه أن يرى عريها، لأنه يحمل بعضاً من حاجيات زوجته على إحدى ذراعيه، في حين تنام زوجته جلوريا، المطمئنة في فوضى غرفة النوم بغرابة في ثوبها الحريري الفضفاض بطيور غريبة يومض ريشها القرمزي والأزرق في أغصان خضر مريحة. إنها أجمة صغيرة، جنة من طيور تتنفس مخضوضرة منذ القدم، صامتة بأعجوبة، مقيمة على طول السرير الشاحب الطباشيري اللون. لا تدين لهنري بأي اهتمام، عيناه مثبتتان على الباب الذي يفصله عن كاثي. اهتمام محتوم! لم يهدر هنري لحظات ثمينة، متلقفاً بعض الثياب من أجل كاثي، قد يكون بوسعه الآن أن يحدق بها بلذة سرمدية عند الباب عوض ذلك.
قد يكون هذا مشهداً للذكرى، لو لم يكن متواصلاً، مقبوض على هنري وكاثي في مواقف تذلهما إلى الأبد. اللحظة الخاطئة، تحديداً اللحظة التي تمنح أقل ما يمكن من الرضى، هي خلودهما، لوم القدر على رعونتهما المتعمدة. بإحداث نسخة مضيئة من زلَّتنا، هما شهيدان للعاطفة، حاجان وقعا في شرك الحجاب الشبحي لفكرة ناجية من أفكار ميت.
وهل يعرف أحد من يكون الميت؟ هل هو هنري أو هنري متوَهم؟ على كل حال، يستمر المشهد، إزهاره الأبدي سر الندرة وسر أنفسنا المتبدي لها. لأن مثل تلك الحقائق تمنح لنا في بعض أحايين، عندما نسمع الطنين المحسوس بالكاد لمونولوج الزمن الرتيب وعندما نرى في الهاوية، منزلاً يظهر فجأة تحت البدر في ليلة صيف. يدوم لثانية، بقدر ما تدوم الصورة الخالدة للميت، لكن لا أحد يشتكي. إنها هدية.
مارك ستراند شاعر أميركي (1934-2014)
هنري على وشك الخروج من منزله إلى ظلمة تشحذها حرارة النجوم المشعة وتحديقة القمر المحذرة. لم يبلغ عامه الأربعين بعد، يرتدي بنطال جينز أزرق وقميصاً قصير الأكمام وخفّاً. يمكن أن تسبر حريته من خلال توقد عينيه، وتقيده من المسافة التي تفصل بين يده ومقبض الباب. شغفه الوحيد مغادرة المنزل. ترك السرير مبعثراً والملاءات نصفها ملقى على الأرض، الملابس تتدلى من الجوارير المفتوحة، المناشف مكومة على الكراسي، تتناثر الجوارب والسراويل التحتية على الأرض. إنه مشهد لفوضى لم يستطع التنبؤ بطول مدته.
تنتظر كاثي في ليل الصيف العابق، في حديقة هنري، مملكة النبات الرطبة. لقد ركضت طوال الطريق من منزلها، دون ثياب. لاهثة قليلاً، تحدق بالباب الذي لن يخرج هنري منه أبداً، تبدو كاثي هادئة، لحمها الحليبي اللون مشع ونضر. تنهمر في الغرر المنقوعة في ضوء القمر -لشجيرة الوردية، وأزهار خشخاش آيسلاندا، وأعشاب الحوذان الفارسية-ظلال بيضاوية الشكل صغيرة على رابيتي مؤخرتها الشبحية البيضاء الضاربة إلى الزرقة. كاثي المسكينة! على وشك أن تصل إلى هنري، أمضت سنوات في وضعية تتراوح بين الوقوف و الانحناء، يعبس مستقبِل ضوء القمر المتواصل.
يبدو كأن بوسع هنري أن يراها هناك، يمكنه أن يرى عريها، لأنه يحمل بعضاً من حاجيات زوجته على إحدى ذراعيه، في حين تنام زوجته جلوريا، المطمئنة في فوضى غرفة النوم بغرابة في ثوبها الحريري الفضفاض بطيور غريبة يومض ريشها القرمزي والأزرق في أغصان خضر مريحة. إنها أجمة صغيرة، جنة من طيور تتنفس مخضوضرة منذ القدم، صامتة بأعجوبة، مقيمة على طول السرير الشاحب الطباشيري اللون. لا تدين لهنري بأي اهتمام، عيناه مثبتتان على الباب الذي يفصله عن كاثي. اهتمام محتوم! لم يهدر هنري لحظات ثمينة، متلقفاً بعض الثياب من أجل كاثي، قد يكون بوسعه الآن أن يحدق بها بلذة سرمدية عند الباب عوض ذلك.
قد يكون هذا مشهداً للذكرى، لو لم يكن متواصلاً، مقبوض على هنري وكاثي في مواقف تذلهما إلى الأبد. اللحظة الخاطئة، تحديداً اللحظة التي تمنح أقل ما يمكن من الرضى، هي خلودهما، لوم القدر على رعونتهما المتعمدة. بإحداث نسخة مضيئة من زلَّتنا، هما شهيدان للعاطفة، حاجان وقعا في شرك الحجاب الشبحي لفكرة ناجية من أفكار ميت.
وهل يعرف أحد من يكون الميت؟ هل هو هنري أو هنري متوَهم؟ على كل حال، يستمر المشهد، إزهاره الأبدي سر الندرة وسر أنفسنا المتبدي لها. لأن مثل تلك الحقائق تمنح لنا في بعض أحايين، عندما نسمع الطنين المحسوس بالكاد لمونولوج الزمن الرتيب وعندما نرى في الهاوية، منزلاً يظهر فجأة تحت البدر في ليلة صيف. يدوم لثانية، بقدر ما تدوم الصورة الخالدة للميت، لكن لا أحد يشتكي. إنها هدية.
مارك ستراند شاعر أميركي (1934-2014)