نقوس المهدي
كاتب
لقصيدة النثـر العربية اليوم حظوة مهمة في عالم الشعر ومنزلة لا تقل شأناً عن بنات جنسها كقصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية والشعر المنثور والمرسل وغيرها من الأشكال الشعرية، ولقد تمثلت تلك الحظوة في الإقبال المتميز على كتابتها وفي اهتمام متذوقي الشعر ومريديه بها، فضلاً عن المساحة التي أخذت تشهدها هذه القصيدة في المهرجانات والمحافل مستقطبة النقد الأدبي إلى جانبها..
وما كان للحظوة التي نالتها قصيدة النثر اليوم إلا نتاج تحدٍ وعراكٍ حازمين على مدى العقود المنصرمة في سبيل إثبات وجودها وتوكيد مشروعية هويتها وحقيقة اجناسيتها الشعرية وحساسية اللاقالب الذي تنتهجه وخصوصيته.
وكان أهم تحدٍ واجهه مريدوها هو كيفية تقديمها كرؤيا تحولية وشكل تثويري ينفض غبار الثبات والمراوحة ويبحث عن المتغير والمستحدث واللا مألوف فكانت تلك هي بداية سماتها ما بعد الحداثية التي أخذ روّاد قصيدة النثر يبشرون بها ويهيئون الاجواء لها متحملين وزر الخروج عن طاعة المنظومة الشعرية الكلاسيكية والحداثية معلنين ببسالة تمردهم على الأنماط خارجين عنها بملء إرادتهم وهو ما كان قد عدَّ أول الأمر عقوق الأبناء على الآباء والخروج عن الصف والانسلال عن الإرث والأصل.
وما كان للمسيرة التي دشنها اولئك الروّاد أن تستمر لولا مواصلة البناء عليها من قبل جيل لاحق تبنّى طروحات الرواد وأضاف إليها وهكذا صارت الأجيال تتقدم وقصيدة النثر تنضج وتتضح معالمها حتى صارت اليوم كياناً بهياً له سماته وأبعاده وهيأته الشعرية التي لا يمكن أن يختلف إزاءها اثنان.. لكن هل يعني هذا أننا اليوم نشهد قصيدة النثر مقولبة في شكل مخصوص ومضمون معاين ؟!!
إن الجواب على هذا السؤال يكمن في نفيه، اعني أن قصيدة النثر اليوم أوسع من أن يحيط بها شكل أو مضمون، وأنها مهما تقدمت بها الأشواط في التميز والحضور إلا أنها تبقى هيأة غير موصوفة بقالب ما.
والسبب أنها جاءت ضد القالب أصلاً، إنها القصيدة اللا قالب أو أنها القصيدة التي تأبى أن توصف بقالب ما، وهذا سر وجودها وديمومة بقائها، واذا ما انجزت هذه القصيدة قالبها فذلك يعني نهاية وجودها وإعلان موتها.
وبهذا الاستشراف الأدبي تصبح قصيدة النثر هي قصيدة المستقبل التي لن تعتريها كهولة أو شيخوخة ولن تكون تحت رحمة زمكانية ما، كما لن تطالها التجاعيد ولن تعتريها الموهنات ولن يشوبها ضعف أو وهن فهي كالنهر الجاري الذي لا يمكن التكهن بما سيأتي به أو ما سينتهي إليه ويظل المستقبل وقصيدة النثر كالتوأمين لا يوسمان إلا بالتغيير ولا يتميزان الا باللاثبات ولا يمكن بحال من الأحوال معرفة مآلهما أو التكهن بحالهما إذ أن ذلك متروكاً للغيب وفي طي المجهول..
وليس غريباً بعد ذلك أن تشهد كتابة قصيدة النثر في العراق انتعاشاً بيناً وجلياً ويكون لها حضور أنيق في المشهد الشعري والثقافي عبر جيل من الشعراء والشواعر الذين يمثل بعضهم امتداداً للرواد سركون بولص وفاضل العزاوي وحسين مردان وادونيس والماغوط وانسي الحاج.. وبعضهم الآخر لم يستقِ أصوله ولم يبنِ تجربته على قصائد هؤلاء الروّاد وإنما انطلق من شعور باللا اتباعية، تعبيراً عن تجارب ذاتية تلتقي مع تجارب غيرهم من مجايليهم من الشعراء الذين تتجه قصائدهم الى اليومي والحاضر والراهن..
وكان المتحصل اليوم قصيدة نثر ليست ذات شكل معين ولا كيان محدد وإذا كان هذا هو المطلوب فكيف يمكن اذن وصف هذه القصيدة نقدياً؟ أيحق لنا القول إن قصيدة النثر عندنا ما زالت وليدة لم تتضح ملامحها بعد وأنها لم ولن تبلغ النضوج والاكتمال؟ أم نقول إنها ليست وليدة بل هي كيان فارع في شكل ذي هيأة ناضجة ولكنها ما زالت شبحية الملامح غير منجزة كونها مستمرة المعالم متعددة الوجوه متنوعة القوالب؟
وإذا آثرنا حيازة الرد على السؤال الأول وأقررنا أن قصيدة النثر ما زالت فتية؛ فإن ذلك سيتطلب منا أن نبدأ من حيث انتهينا وهذا ما لا تقبله منطقية التطور وحتميته التضادية التي تقر بأنّ لكل فعل ما يضده ولكل ثبات تغيراته ولكل ركون استاتيكي بعد ديداكتيكي يضاده ويختلف معه..
أما إذا أقررنا بايجابية الرد على السؤال الثاني وأكدنا أن قصيدة النثر ناضجة بلا قالب وتامة بلا شكل، فذلك يعني حكماً قطعياً بأنها بنية مشوهة وصورة هجينة وهذا أيضاً لا تقبل به نظريات الأجناس الأدبية التي تعد الجمالية من أولى سمات المجنس أياً كان شكله ومضمونه.
وبغض النظر عما يتجلى عن السؤالين السابقين، فإن من الممكن الافصاح، بأن قصيدة النثر لا تعدو أن تكون أشبه بمتاهة جميس جويس، ففضاؤها المكاني رحب لكنه محدود بينما الزمن فيها سارح بلا نهاية ومفتوح بلا حدود، فهل هذا هو سر اشكاليتها الفنية والموضوعية؟ أم أنه مفتاح شهرتها وذيوعها ؟ أم أنه الحبل الخفي الذي يجر الشعراء نحوها؟
وهل اختلفت قصيدة النثر اليوم عما كتبه سركون وفاضل العزاوي وجان دمو وصلاح فائق بوصفهم رواد قصيدة النثر في العراق ؟ ولماذا لا يحسن شاعر هذه القصيدة اليوم الاستعارة من التراث ؟
لماذا لا نجد عند شعراء قصيدة النثر اهتماماً بالمرجعية الثقافية للنص كاستلهام التراثي والشعبي والأسطوري والأنا الجمعي والاشتغال على العجائبي بدلاً من الانجرار وراء اليومي والركض صوب الحاضر لا الماضي والواقعي لا التأريخي؟
ثم ما موقع قصيدة النثر من موضوعات الايديولوجيا والهوية ؟ وهل مارس شاعر قصيدة النثر التخريب ليبني عليه التجريب؟ وما مدى صحة الحديث عن أجيال قصيدة النثر وهي التي ترفض التجييل لأنها بلا أبوة وهذا ما يجعلها لا تمت للقواعد بصلة ولا تسلم للتشكل بأيّ حال ولا تستحضر الأنماط بل تغيبها ؟
ولماذا نجد أكثر كتاب قصيدة النثر استنساخيين لتجاربهم بحيث أن معجمهم الشعري لا يكاد أن يتغير؟ وماذا عن واقعية رؤيا العالم وتراجيديتها أو فنتازية غرائبيتها أو صوفية رمزيتها وسريالية اشراقيتها أو غنائية رومانسيتها ونرجسية ذاتها؟
وغير ذلك من الاسئلة التي تدور في خلد من يبغي استبصار قصيدة النثر ومعاينتها في ناظور ثلاثي الأبعاد لا يفصل الشكل عن المضمون ولا يغيّب التقانات عن الثيمات، أو الدوال عن المدلولات وهذا ما يجعل المهمة معقدة كون التعاطي النقدي مع هذا الجنس الشعري لن يكون معتاداً أو على شاكلة التعاطي النظري والإجرائي مع أشكال شعرية أخرى ليست بميوعة قصيدة النثر وزئبقيتها وهلامية تشكل هويتها ووجودها.
د. نادية هناوي
عن المدى
وما كان للحظوة التي نالتها قصيدة النثر اليوم إلا نتاج تحدٍ وعراكٍ حازمين على مدى العقود المنصرمة في سبيل إثبات وجودها وتوكيد مشروعية هويتها وحقيقة اجناسيتها الشعرية وحساسية اللاقالب الذي تنتهجه وخصوصيته.
وكان أهم تحدٍ واجهه مريدوها هو كيفية تقديمها كرؤيا تحولية وشكل تثويري ينفض غبار الثبات والمراوحة ويبحث عن المتغير والمستحدث واللا مألوف فكانت تلك هي بداية سماتها ما بعد الحداثية التي أخذ روّاد قصيدة النثر يبشرون بها ويهيئون الاجواء لها متحملين وزر الخروج عن طاعة المنظومة الشعرية الكلاسيكية والحداثية معلنين ببسالة تمردهم على الأنماط خارجين عنها بملء إرادتهم وهو ما كان قد عدَّ أول الأمر عقوق الأبناء على الآباء والخروج عن الصف والانسلال عن الإرث والأصل.
وما كان للمسيرة التي دشنها اولئك الروّاد أن تستمر لولا مواصلة البناء عليها من قبل جيل لاحق تبنّى طروحات الرواد وأضاف إليها وهكذا صارت الأجيال تتقدم وقصيدة النثر تنضج وتتضح معالمها حتى صارت اليوم كياناً بهياً له سماته وأبعاده وهيأته الشعرية التي لا يمكن أن يختلف إزاءها اثنان.. لكن هل يعني هذا أننا اليوم نشهد قصيدة النثر مقولبة في شكل مخصوص ومضمون معاين ؟!!
إن الجواب على هذا السؤال يكمن في نفيه، اعني أن قصيدة النثر اليوم أوسع من أن يحيط بها شكل أو مضمون، وأنها مهما تقدمت بها الأشواط في التميز والحضور إلا أنها تبقى هيأة غير موصوفة بقالب ما.
والسبب أنها جاءت ضد القالب أصلاً، إنها القصيدة اللا قالب أو أنها القصيدة التي تأبى أن توصف بقالب ما، وهذا سر وجودها وديمومة بقائها، واذا ما انجزت هذه القصيدة قالبها فذلك يعني نهاية وجودها وإعلان موتها.
وبهذا الاستشراف الأدبي تصبح قصيدة النثر هي قصيدة المستقبل التي لن تعتريها كهولة أو شيخوخة ولن تكون تحت رحمة زمكانية ما، كما لن تطالها التجاعيد ولن تعتريها الموهنات ولن يشوبها ضعف أو وهن فهي كالنهر الجاري الذي لا يمكن التكهن بما سيأتي به أو ما سينتهي إليه ويظل المستقبل وقصيدة النثر كالتوأمين لا يوسمان إلا بالتغيير ولا يتميزان الا باللاثبات ولا يمكن بحال من الأحوال معرفة مآلهما أو التكهن بحالهما إذ أن ذلك متروكاً للغيب وفي طي المجهول..
وليس غريباً بعد ذلك أن تشهد كتابة قصيدة النثر في العراق انتعاشاً بيناً وجلياً ويكون لها حضور أنيق في المشهد الشعري والثقافي عبر جيل من الشعراء والشواعر الذين يمثل بعضهم امتداداً للرواد سركون بولص وفاضل العزاوي وحسين مردان وادونيس والماغوط وانسي الحاج.. وبعضهم الآخر لم يستقِ أصوله ولم يبنِ تجربته على قصائد هؤلاء الروّاد وإنما انطلق من شعور باللا اتباعية، تعبيراً عن تجارب ذاتية تلتقي مع تجارب غيرهم من مجايليهم من الشعراء الذين تتجه قصائدهم الى اليومي والحاضر والراهن..
وكان المتحصل اليوم قصيدة نثر ليست ذات شكل معين ولا كيان محدد وإذا كان هذا هو المطلوب فكيف يمكن اذن وصف هذه القصيدة نقدياً؟ أيحق لنا القول إن قصيدة النثر عندنا ما زالت وليدة لم تتضح ملامحها بعد وأنها لم ولن تبلغ النضوج والاكتمال؟ أم نقول إنها ليست وليدة بل هي كيان فارع في شكل ذي هيأة ناضجة ولكنها ما زالت شبحية الملامح غير منجزة كونها مستمرة المعالم متعددة الوجوه متنوعة القوالب؟
وإذا آثرنا حيازة الرد على السؤال الأول وأقررنا أن قصيدة النثر ما زالت فتية؛ فإن ذلك سيتطلب منا أن نبدأ من حيث انتهينا وهذا ما لا تقبله منطقية التطور وحتميته التضادية التي تقر بأنّ لكل فعل ما يضده ولكل ثبات تغيراته ولكل ركون استاتيكي بعد ديداكتيكي يضاده ويختلف معه..
أما إذا أقررنا بايجابية الرد على السؤال الثاني وأكدنا أن قصيدة النثر ناضجة بلا قالب وتامة بلا شكل، فذلك يعني حكماً قطعياً بأنها بنية مشوهة وصورة هجينة وهذا أيضاً لا تقبل به نظريات الأجناس الأدبية التي تعد الجمالية من أولى سمات المجنس أياً كان شكله ومضمونه.
وبغض النظر عما يتجلى عن السؤالين السابقين، فإن من الممكن الافصاح، بأن قصيدة النثر لا تعدو أن تكون أشبه بمتاهة جميس جويس، ففضاؤها المكاني رحب لكنه محدود بينما الزمن فيها سارح بلا نهاية ومفتوح بلا حدود، فهل هذا هو سر اشكاليتها الفنية والموضوعية؟ أم أنه مفتاح شهرتها وذيوعها ؟ أم أنه الحبل الخفي الذي يجر الشعراء نحوها؟
وهل اختلفت قصيدة النثر اليوم عما كتبه سركون وفاضل العزاوي وجان دمو وصلاح فائق بوصفهم رواد قصيدة النثر في العراق ؟ ولماذا لا يحسن شاعر هذه القصيدة اليوم الاستعارة من التراث ؟
لماذا لا نجد عند شعراء قصيدة النثر اهتماماً بالمرجعية الثقافية للنص كاستلهام التراثي والشعبي والأسطوري والأنا الجمعي والاشتغال على العجائبي بدلاً من الانجرار وراء اليومي والركض صوب الحاضر لا الماضي والواقعي لا التأريخي؟
ثم ما موقع قصيدة النثر من موضوعات الايديولوجيا والهوية ؟ وهل مارس شاعر قصيدة النثر التخريب ليبني عليه التجريب؟ وما مدى صحة الحديث عن أجيال قصيدة النثر وهي التي ترفض التجييل لأنها بلا أبوة وهذا ما يجعلها لا تمت للقواعد بصلة ولا تسلم للتشكل بأيّ حال ولا تستحضر الأنماط بل تغيبها ؟
ولماذا نجد أكثر كتاب قصيدة النثر استنساخيين لتجاربهم بحيث أن معجمهم الشعري لا يكاد أن يتغير؟ وماذا عن واقعية رؤيا العالم وتراجيديتها أو فنتازية غرائبيتها أو صوفية رمزيتها وسريالية اشراقيتها أو غنائية رومانسيتها ونرجسية ذاتها؟
وغير ذلك من الاسئلة التي تدور في خلد من يبغي استبصار قصيدة النثر ومعاينتها في ناظور ثلاثي الأبعاد لا يفصل الشكل عن المضمون ولا يغيّب التقانات عن الثيمات، أو الدوال عن المدلولات وهذا ما يجعل المهمة معقدة كون التعاطي النقدي مع هذا الجنس الشعري لن يكون معتاداً أو على شاكلة التعاطي النظري والإجرائي مع أشكال شعرية أخرى ليست بميوعة قصيدة النثر وزئبقيتها وهلامية تشكل هويتها ووجودها.
د. نادية هناوي
عن المدى