نقوس المهدي
كاتب
- I -
مقدمة
اعتاد المسلمون منذ قرون عديدة على الفكرة القائلة إن القرآن بقي محفوظًا في نصه الأصلي منذ زمن الرسول محمد إلى يومنا هذا من دون أن يَمسًّه أي تغيير أو نقصان أو إضافة من أي نوع كانت ومن دون أي تغيير في طريقة قراءته. في الوقت ذاته، يعتقد المسلمون أن هذا الكمال المزعوم للنص القرآني هو دليل على أصله الإلهي بدليل أن الله وحده استطاع الحفاظ على هذا النص. لقد أصبح هذا الشعور قويًا جدًا عندهم لدرجة أنه نادرًا ما نجد باحثًا إسلاميًا يقوم بتحليل نقدي لموضوع جمع القرآن. وكلما ظهرت بوادر محاولة مثل هذه فهي تُقمَعُ في حينها.
لكن ما الذي سنَسْتَنْتِجُه إن نحن استعرضنا الوقائع والمعطيات المتوفرة لدينا حول جمع القرآن في بداية العهد الإسلامي؟
حين نضع الانفعالات العاطفية جانبًا ونقوم بتقييم موضوعي للمعطيات التاريخية المتوفرة فإننا نصل إلى استنتاج مناقض تمامًا لما يزعمون. وسيظهر لنا هذا الكتاب أن ما دُوِّن في إطار الإرث الإسلامي كاف للبرهنة على أن القرآن كان في وقت من الأوقات يحتوي على عدد مختلف من الآيات بل أحيانًا على مقاطع كاملة لا توجد في النص القرآني الحالي. زيادة على هذا فقد كان هناك عدد مهم جدًا من القراءات المختلفة قبل أن يُقَرِّر الخليفة عثمان بن عفان استأصالها جميعها والاحتفاظ بالمصحف الذي وصلنا.
في سنة 1981 نشرت كتيبًا عنوانه The TextualHistory of the Quran -كرد على منشور إسلامي حاول الطعن في موثوقية الإناجيل. وبالرغم من أن هذا البحث اتجه أساسًا نحو دحض ما قيل في موضوع الإنجيل إلا أنه لا يخلو من أدلة تثبت أن نقل القرآن لم يكن أبدًا أوثق من نقل الإناجيل.
في سنة 1986 نُشر مقالان في مجلة البلاغ حاول صاحباهما الرد على كتيبي سالف الذكر. أحد هذين المقالين كتبه الدكتور كوكب الصديق الباحث الإسلامي المتمركز في أمريكا والآخر كتبه الباحث الجنوب إفريقي عبد الصمد عبد القادر. نكتفي هنا بالإشارة إلى أننا سنعود إلى هذين المقالين بالتفصيل لاحقًا.
بعد أبحاث دقيقة في الموضوع، أصدرت سنة 1984 كتيبًا آخر عنونته بـ Evidences for the Collection of the Quran. وقد أثار هذا المؤَلَّف بدوره رد فعل بعض العلماء المسلمين، تُوِّج بنشر كتيب سنة 1987 من طرف "مجلس العلماء" لجنوب إفريقيا. لكن مع الأسف لم يذكر المؤلف إسمه، إلا أنني علمت بأن الأمر يتعلق بالمدعو "مولانا ديزاي" Maulana Desaiالقاطن في مدينة بورت إليزابث وسأشير إليه على هذا الأساس.
أُلف هذا الكتاب أساسًا ليكون تأكيدًا للحجج التي قُدمت في منشوراتي السابقة، وكذلك الاستنتاجات المستخلصة منها. وليكون في نفس الوقت تقييمًا للأجوبة الثلاثة الصادرة عن العلماء المسلمين السالفي الذكر وتفنيدًا لمقولاتهم.
إحدى المصاعب التي يواجهها كاتب في مثل هذه الحالة تتجلى في الحساسية المحيطة بهذا الموضوع في الأوساط الاسلامية، فالشعور السائد عند جل المسلمين يعتقد أن أساس الأصل الإلهي للقرآن يكمن برهانه في الطريقة المثالية التي تم بها إيصاله إلينا عبر العصور. وهذا الشعور يؤدي إلى الإحساس بالخوف من كون أي دليل يناقض ذلك قد يكون برهانًا على عدم ألوهيته.
وهذا ما يمنع العلماء المسلمين من التطرق إلى هذه المسألة بروح موضوعية ومن خلال البحث في المعطيات الخالصة. لا بل نلاحظ أن هناك رغبة مسبقة في البرهنة بأي وسيلة كانت على الشعور السائد المتمثل في الفرضية القائلة إن نص القرآن بقي محفوظًا بطريقة مثالية. لذلك فإن العاطفة تلعب الدور الأهم كلما تعلق الأمر بموضوع القرآن. وبالتالي، ليس من المستغرب أن نجد العلماء المسلمين الثلاثة المذكورين سالفًا لم يستطيعوا التعامل معي ومع كتاباتي على مستوى البحث العلمي المحض ولا على مستوى الوقائع. لهذا نجد الدكتور كوكب الصديق، وفي مقدمة مقاله المعنون، يكتب: "يقول داعية الكذب المسيحي إن القرآن ليس قول الله" (مجلة البلاغ، مجلد 11، عدد 1، فبراير/مارس 1986)، ويحاول مهاجمتي بكل ما أوتي من حسن اللسان حيث يقول: "السيد جلكرايست يحاول تحطيم البنيان القوي للقرآن من خلال جدال حقير لا يليق بالمسألة. الطريقة التي يستعملها توضح لنا هزالة الوسائل التي بحوزته، والوقاحة التي تميز تهجمه تظهر لنا أنه يستند إلى استغلال فرصة عدم وجود أية دراية بالموضوع لدى المسلمين." في حين يصفني ناشر المجلة بأنني "عدو صريح للإسلام يهدف إلى تحطيم بنيانه".
أما مقال السيد عبد القادر عبد الصمد الذي نشر تحديدًا في العدد التالي من نفس المجلة تحت عنوان كيف تم جمع القرآن؟ (مجلة البلاغ، مجلد 11، عدد 2، ماي/يونيه 1986)، فإنه في نهاية مقاله يصف الباحثين من أمثالي بأنهم "أعداء القرآن المجانين الذين تحركهم الغيرة والبغض والعداء والنوايا السَّامة" لا غير.
أما مولانا ديزاي فقد اعتبر هو أيضًا في منشور له تحت عنوان القرآن فوق كل اتهام أنه من الضروري فضح محاولتي واستغنى عن تقديم الدلائل على مزاعمه واكتفى بالشتم. ويزعم هذا الكاتب أنني "قررت نفي أصالة القرآن المجيد" عوض أن يتخد منهجًا أكثر توازنًا قد يؤدي به لا محالة الى اعتبار أنني حاولت فقط أن أركز على المعطيات المتعلقة بموضوع جمع القرآن ومن دون أية فكرة مسبقة. وقد ذهب إلى حد القول إن "مزاعمه لا أساس لها". وفي مكان ما يقول "إن جلكرايست سيلعن نفسه". وفي مكان آخر يتهمني بأني أعاني من "جهل كبير" وبأنني "ذو عقلية لا تقبل النقاش".
إن ردود فعل انفعالية مثل هذه تكشف عن خوف العلماء المسلمين من أية دراسة تاريخية محضة لموضوع جمع القرآن نظرًا لأنها قد تؤدي إلى نفي ما زعم من أنه جُمع وحفظ في ظروف مثالية.
سأبذل كل جهدي في هذا الكتاب لمعرفة إلى أي حد تم نقل وتوصيل النص القرآني بطريقة كاملة ودقيقة. وهي دراسة لن تكون إلا إبرازًا للمعطيات المدوَّنة. مع التأكيد بأن مسألة الأصل الإلهي للقرآن لا يمكن حلها من منطلق طريقة نقله وتوصيله وإنما عن طريق دراسة مضمونه وتعاليمه. وما يهمنا هنا هو فقط استخلاص الدقة التي تم بها تأليفه وجمعه. أما إذا كان هناك علماء مسلمون كالذين تم ذكرهم سالفًا يشعرون بأن دراسة مثل هذه تحطم قناعاتهم بأن القرآن من عند الله (ديزاي يتهمني مرارًا بأنني أهدف إلى "نفي سلامة القرآن الشريف من التحريف") فهذه مشكلتهم لأنهم ينطلقون من الفرضية القائلة بأن جمعًا ونقلاً مثاليين يضمنان الأصل الإلهي لكتاب ما.
وأنا لا أجد مبررًا للرد على هؤلاء العلماء المسلمين بعبارات شاتمة كالتي استعملوها ضدي لأنني أمتلك الحرية الكاملة للخوض في هذا الموضوع من دون أية موانع نفسية ومن دون أية فرضية أو فكرة مسبقة. زيادة على هذا، فأنا أعتقد أنه إذا لم يكن كتاب ما من عند الله فلا يمكن لأي دليل كيفما كان نوعه أن يغير من الأمر شيئًا. إن هؤلاء العلماء يحاولون البرهنة على فرضية محضة وهذا ما يتضح من خلال طريقة تعاملهم مع الموضوع. كل واحد منهم حاول التطرق إلى المسألة بشكل جد مختلف عن الآخرين. فالصديق وديزاي يتناقضان بشكل مكشوف في نقاط عديدة بالرغم من أن كلاهما يحاول التوصل إلى نفس النتيجة ألا وهي كمال النص القرآني وخلوه من النقصان. هذه المعضلة لا يمكن تفسيرها إلا بشيء واحد يقول إنهما يبذلان جهدهما للانتهاء إلى حيث بدءا، أو بعبارة أخرى للرجوع في النهاية إلى ما افترضاه في البداية وهو ما ذكر سالفًا.
لذلك فإنه من المفيد أن نقوم بجرد سريع لمواقف هؤلاء العلماء كل على حدة:
1 - الدكتور كوكب الصديق:
يتخد الصديق الموقف الإسلامي الرسمي. وعبارة "نص واحد لا اختلاف فيه" هي ما عَنْوَنَ به جزأ من مقاله وهو ما يلخص مراده بوضوح. الفرضية تتجلى في القول بوجود نص قرآني واحد لم يضف إليه شيء ولم يقتطع منه شيء ولم يكن أبدًا أي اختلاف في طريقة قراءته. لقد كان على هذا الكاتب أن يقدم بعض الاستفسارات حول ما جاء في الحديث النبوي (وهو من أقدم ما دُوِّن في موضوع جمع القرآن) بخصوص حرق الخليفة عثمان لجميع المصاحف القرآنية باستثناء مصحف حفصة[1] بسبب وجود اختلافات عديدة في كيفية قراءة القرآن في المناطق المختلفة التي كانت تحت النفوذ الإسلامي. الصديق يزعم أن الاختلافات كانت فقط طريقة تلاوة النص وهذا برهان يَسْتَدِل به زمرة من العلماء المسلمون. سنرى فيما بعد أن هذا الدليل غير مقنع بل لا أساس له من الصحة. كما أن الصديق يفضل السكوت عن الأحاديث النبوية التي تظهر بوضوح أن القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو بشكل أو بآخر غير مكتمل.
2 - عبد الصمد عبد القادر:
يفضل هذا الباحث المرور مَرَّ الكرام على الأدلة الثاقبة التي يمكن استخلاصها من الحديث النبوي كما لو كانت غير موجودة بتاتًا، ولهذا فإننا لا نجد أي ذكر لها في مقاله. في المقابل نجده يحاول البرهنة على أن القرآن يحتوي على شهادة كافية بخصوص طريقة جمعه. سأتطرق إلى هذه المسألة في نهاية الجزء الرئيسي من هذا الكتاب مع العلم أن ذلك لا يؤثر عمومًا على الموضوع الذي نحن بصدد دراسته.
3 - مولانا ديزاي:
وهو بالرغم من الشتائم التي وجهها إلي يعترف بموثوقية وصحة أغلب الحقائق التي قدمتها ويعترف بأنه كانت هناك بالفعل اختلافات نصية في المصاحف الأولى وبأن عددًا من المقاطع التي كانت ضمن القرآن فقدت منه لاحقًا. بخصوص الاختلافات في القراءة يعتمد ديزاي على حديث نبوي واحد يروي أن محمدًا قال إن القرآن نزل من عند الله على سبعة أشكال لغوية ولهذا فهو يزعم أن كل هذه القراءات قد شرعها الله وهي التي تشكل ما يعرف بـ"الأحرف السبع" ويتقبل ببالغ السهولة فكرة أن عثمان قام بالفعل بتنحية مصاحف موثوقة، ونجده يبرر هذا الإجراء بكونه هدف إلى ضمان اتساق في القراءة. سنرى فيما بعد أن تفكيرًا كهذا يعرض صاحبه إلى تناقضات خطيرة. بخصوص المقاطع المفقودة من القرآن يعترف ديزاي بوجودها كما ذكرنا سالفًا لكنه يزعم بأن الله نسخها ولذلك فهي لا توجد ضمن النص القرآني الحالي. وأنا متيقن أن هذه المزاعم لن يستسغيها لا كوكب الصديق ولا عبد الصمد عبد القادر، ونفس الشيء بالنسبة لما يتعلق بالقراءات المختلفة. ومع هذا أجد نفسي مضطرًا للقول بأن المولانا هو الوحيد من بين الثلاثة الذي استطاع الاعتراف بإخلاص بموثوقية الأحاديث التي تتحدث عن كيفية جمع القرآن. وبالرغم من أنني أعتبر أن حججه غير مقنعة كما سنرى لاحقًا إلا أنني أجد أن تقبله للحقائق التاريخية أمرًا مسعدًا.
في نهاية هذا الكتاب سأقدم عرضًا موجزًا عن المصاحف القرآنية الأولى التي استطاعت أن تصلنا. هدفي من هذا هو تحديد إمكانية وجود أحد المصاحف العثمانية التي تنوقلت بعد تنحية المصاحف الأخرى. ويتضمن هذا الكتاب صورًا لأقدم المصاحف التي وصلتنا وبالخصوص تلك التي بقيت من القرن الثاني للهجرة قبل أن يشيع استعمال الخط الكوفي في شكله المتطور في أوساط الخطاطين ويصبح معيارًا إلى أن تم استبداله بالخط النسخي.
وأنا واثق أن هذا الكتاب سيكون بمثابة إسهام في التقييم الحقيقي لمسألة جمع القرآن في بداية التاريخ الإسلامي من خلال دراسة موضوعية للمعطيات المتوفرة لدينا. لذلك فإني لن أعتذر عن كون دراستي هذه لا تأخذ بعين الاعتبار الشعور السائد في الأوساط الإسلامية كما ذكر سابقًا، وأتمنى أن لا تؤدي إلى ردود فعل انفعالية كتلك التي صدرت كجواب على منشوراتي السابقة. وأؤكد مرة أخرى أن هدفي هو الوصول إلى خلاصة مضبوطة ومبنية على الحقائق بخصوص موضوع جمع القرآن لا غير. فأنا لست "عدوًا صريحًا للإسلام" تسيطر عليه رغبة جنونية للإستهزاء بالقرآن أو نفي سلامته من التحريف بأي وسيلة كما يفترض بعض الكتاب الإسلاميين.
جون جلكرايست، 29 يناير 1989
***
أستفدنا في تأليف هذا الكتاب من عدة دراسات ومراجع يبدو لنا من اللائق أن نقدمها حسب أهميتها وعلاقتها بالموضوع وحسب نوعيتها: مراجع رئيسية أو مراجع ثانوية، وكذلك حسب كونها قديمة أو حديثة. وباستثناء القرآن الذي يحتوي على بعض الإشارات إلى طريقة جمعه في عهد محمد فإن المصادر المباشرة المتعلقة بجمعه هي أساسًا كتب السيرة النبوية التي ألفت في فترة مبكرة وكتب الحديث. بالإضافة إلى ذلك، نجد أعمالاً أخرى ألفت في المراحل التالية من قبل كبار المؤرخين المسلمين. وهذه المؤلفات تعطينا معلومات مهمة حول جمع نص القرآن.
إن المصادر المستعملة هي:
1 - كتب السيرة النبوية:
أقدم الكتب التي دَوِّنت تفاصيل جمع القرآن هي التراجم الثلاثة المعروفة بكتب السيرة النبوية:
1. سيرة رسول الله لمحمد بن إسحاق (وقد اعتمد عليه بن هشام في تأليف كتابه حول السيرة النبوية).
2. كتاب الطبقات الكبير لمحمد بن سعد.
3. كتاب المغازي لمحمد بن عمر الواقدي.
2 - كتب الحديث:
أما المصادر التالية التي دَوِّنت حياة محمد وكذلك مراحل جمع القرآن فإنها تتجلى في كتب الحديث التي ينظر إليها في الأوساط الإسلامية على أنها تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن من حيث الأهمية والموثوقية. والمؤلفات التي استعملت حين تأليف هذا الكتاب هي:
1. صحيح البخاري لمحمد بن اسماعيل البخاري.
2. صحيح مسلم لمسلم بن الحجاج.
3. سنن بن أبي داوود لسليمان بن أبي داوود.
4. الجامع الصحيح لأبي عيسى محمد الترمذي.
5. الموطأ لمالك بن أنس.
6. السنن الكبرى لأبي بكر أحمد البيهقي
3 - كتب التفسير:
بعيد الفترة التي ظهرت فيها المراجع المذكورة سابقًا كُتب العديد من مؤلفات التفسير التي كانت بمثابة شروحات وتعليقات حول القرآن من قبل كبار المؤرخين المسلمين. أشهر هذه المؤلفات جامع البيان في تفسير القرآن لأبي جعفر الطبري. (وقد استُفيد من هذا الكتاب بطريقة غير مباشرة من خلال المراجع الحديثة). ورغم أن كتاب الطبري قُصد به التفسير بالدرجة الأولى إلا أنه يحتوي على معلومات بالغة الأهمية حول جمع القرآن في الحقبة الأولى. الشيء نفسه نجده في كتب التفسير الأولى.
وقد كان من الضروري الرجوع إلى الكتابين التاليين نظرًا لاحتواءهما على معلومات بالغة الأهمية رغم أنه لا علاقة مباشرة لهما بالتفسير القرآني:
1. كتاب المصاحف لابن أبي داوود.
2. الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السُيوطي
النسخة الوحيدة المتبقية من كتاب المصاحف توجد حاليًا في المكتبة الظاهرية في دمشق. استنسخ هذا المؤَلف مرتين وإحدى النسختين استعملها Arthur Jefferyفي نشر كتابه Materials for the History of the Text of the Quran وهذا هو النص المشار إليه في هذا الكتاب.
4 - كتب معاصرة تطرقت لموضوع جمع القرآن:
بعض الكتب المعاصرة أهتمت بموضوع جمع القرآن ونذكر منها:
كما رجعنا إلى بعض المقالات التي نشرت في The Muslim Worldالتي نشرتها Hartford Seminary Foundation في الولايات المتحدة الأمريكية. المراجع المذكورة هنا هي تلك التي توجد في المجلدات التي أعيد نشرها من طرف Kraus Reprint Corporationفي نيويورك سنة 1966. والمقالات المتعلقة بموضوع جمع القرآن والمصاحف الأولى هي:
بالإضافة إلى هذه الأعمال سنرجع باستمرار، وعلى الخصوص في المقدمة، إلى الدراسات التالية التي نشرت في جنوب إفريقيا:
* * *
الفصل الأول: المرحلة الأولى لجمع القرآن
1 - تطور القرآن في عهد محمد
إن أي بحث في موضوع جمع القرآن يجب أن يبدأ بالنظر في مميزات الكتاب نفسه كما بلَّغه محمد إلى أصحابه. فالقرآن لم يُبَلَّغ أو يوحى به مرة واحدة كما يعتقد المسلمون بل جاء على أجزاء خلال فترة من الزمن دامت 23 سنة امتدت منذ أن بدأ محمد يدعو إلى الإسلام في مكة سنة 610 ميلادية وحتى وفاته في المدينة المنورة سنة 632 ميلادية. ففي القرآن نفسه نجد:
قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا[2]
وأيضًا، لم تصلنا لا من محمد ولا من أصحابه أية معلومات عن الترتيب الزمني للفقرات حيث أنه حين بُدِءَ في جمعها على شكل سور لم يؤخد بعين الاعتبار لا الموضوع ولا التسلسل من حيث النزول. كل العلماء المسلمون يُقِرُّون بأن جل السور وخاصةً الطويلة منها هي خليط من المقاطع التي ليست بالضرورة متصلة ببعضها البعض حسب التسلسل الزمني. مع مرور الوقت أصبح محمد يقول لكُتَّابه : "ضعوا أية كذا في موضع كذا"[3]، وهكذا أصبحت تضاف إلى الأجزاء التي كانت مجموعة آنذاك مقاطع أخرى إلى أن أصبحت سورة مكتملة. بعض هذه السور كانت لها أسماء في عهد محمد كما يتبين لنا من خلال الحديثين النبويين التاليين:
من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه[4]
من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ من الدجال[5]
وفي نفس الوقت، هناك دلائل على وجود سُوَرٍ لم يعطها محمد أية أسماء. فسورة الإخلاص (رقم 112) على سبيل المثال، لم يُسَمِّها محمدٌ على الرغم من أنه تكلم عنها مُطَوَّلاً وذكر أنها تساوي ثلث القرآن[6].
وحين صارت الآيات القرآنية تتكاثر أصبح أصحاب محمد يكتبون بعضًا منها ويحفظون البعض الآخر عن ظهر قلب. فمن الظاهر أن الحفظ كان يشكل الطريقة الرئيسية للحفاظ على نص القرآن لأن كلمة "قرآن" تعني "القراءة"، ولأن أول كلمة قال محمد إنها نزلت عليه حين حصلت له رؤيا جبريل في غار حراء كانت كلمة "إقرأ"[7] فكانت القراءة الشفهية ذات قيمة عالية وكانت جد متداولة بين الناس. ومع كل هذا ففي القرآن نفسه ما يدل على أنه دوَّنٌ كِتابيًا كما تشهد الآية التالية:
في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي كرام بررة[8]
هناك أيضًا حجج على أن أجزاءًا مما كان موجودًا من القرآن في المرحلة المكية قد كتب آنذاك. هناك رواية تحكي أن عمر بن الخطاب حين كان لا يزال كافرًا ضرب أخته في بيتها بمكة حين سمعها تقرأ بعض القرآن فلما رأى ما أصابها من الدم قال لها:
اعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد[9]
وحين قرأ قسطًا من سورة طه[10] التي كانت أخته وزوجها يقرآنها قرر الدخول في الإسلام. مع هذا يتضح لنا أن الحفظ كان هو المنهج السائد إلى حين وفاة محمد وكانت تعطى له أهمية أكبر. ففي الحديث النبوي ما يدل على أن جبريل كان يحقق ويراجع القرآن مع محمد كل سنة خلال شهر رمضان وفي السنة الأخيرة راجعه معه مرتين. عن فاطمة ابنة محمد جاء:
أسر النبي صلعم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي[11].
لقد كان بعض الصحابة المقربين من محمد يكرسون كل جهدهم لتعلم القرآن حفظًا عن ظهر قلب. من بين هؤلاء نجد من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد وأبو الدرداء[12] بالإضافة إلى مجمع بن جارية الذي قيل أنه لم يحفظ إلا بضعة سور في حين كان عبد الله بن مسعود، وهو من المهاجرين ومن أوائل الصحابة، يحفظ أزيد من تسعين سورة من بين السور المائة وأربعة عشر التي يحتويها القرآن وتعلم البقية من مجمع (بن سعد كتاب الطبقات الكبير مجلد 2)[13].
لا تتوفر لدينا أية معلومات كافية عن مقدار ما تمت كتابته من نص قرآني في عهد محمد. وبالتأكيد ليس هنالك أي دليل على أن مجموع القرآن قد كتب آنذاك في مصحف واحد سواء تحت الإشراف المباشر لمحمد أو غيره. من خلال المعلومات التي تتوفر لدينا حول جمع القرآن بعد وفاة محمد (سنستعرضها لاحقًا) نستنتج أن القرآن لم يتم أبدًا وضعه في مصحف واحد في عهد محمد. توفي هذا الأخير فجأة سنة 632 ميلادية بعد مرض لم يدم طويلاً وبوفاته اكتمل القرآن وانقضى نزوله ولم يعد من الممكن إضافة آيات أخرى إليه نظرًا لانتهاء نبوة محمد. حين كان لا يزال على قيد الحياة كانت هناك دائمًا إمكانية نزول أجزاء جديدة من القرآن ولهذا لم يكن من اللائق جمع النص في كتاب واحد، وهو أيضًا ما يفسر كون القرآن بقي مفرقًا بين ما في ذاكرة بعض الناس وما في مختلف المواد التي كان مكتوبًا عليها وقت وفاة النبي.
سنرى فيما بعد أنه بشهادة القرآن نفسه كان من الوارد نسخ بعض الآيات خلال فترة النزول (بالإضافة إلى ما تم نسخه من قبل) وهذا ما حال دون جمع النص في كتاب واحد ما دامت إمكانية نسخه قائمة.
إضافة إلى كل هذا يظهر لنا أنه لم تكن هناك سوى نزاعات قليلة حول نص القرآن فيما بين الصحابة حين كان محمد لا يزال على قيد الحياة، خلافًا لما سيحدث بعد موته. إن كل هذه العوامل تفسر غياب نص قرآني رسمي وموحد وقت وفاته. إن إمكانية نسخ أجزاء من القرآن واحتمال نزول آيات جديدة - لا يوجد في القرآن ما يدل على تمامه أو على استحالة نزول آيات جديدة - حالا دون محاولة جمعه خلافًا لما قام به أصحاب محمد بعد وفاته. يتبين كذلك أن الآيات القرآنية صارت تنزل على محمد بشكل مكثف قبيل وفاته ولذلك لم يكن ممكنًا جمعها.
حدَّثنا عَمْرُو بن محمد حدَّثنا يعقوب بن إِبراهيم حدَّثنا أَبي عن صالح بن كَيْسَانَ عن ابن شهاب قال أَخْبَرني أنس بن مالك رضي اللَّهم عنهم أنَّ اللَّه تعالى تابع على رسوله صَلَّى اللَّهم عليه وسلَّم الوحي قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي ثمَّ توفِّي رسول اللَّه صلَّى اللَّهم عليه وسلَّم بعد[14].
عند نهاية المرحلة الأولى التي مر بها القرآن نجد أن محتواه كان موزعًا بشكل واسع في ذاكرات الناس، بينما كانت بعض أجزاءه مكتوبة على مختلف المواد التي كانت تستعمل آنذاك في الكتابة. لكن لم يكن هنالك أي نص موحد أمر به للأمة الإسلامية. لقد ذكر السيوطي أن القرآن قد كتب كله في عهد محمد وبقي محافظًا عليه بعناية بالغة لكنه لم يجمع في موضع واحد قبل موته[15] وقيل إنه كان متوفرًا بأكمله مبدئيًا (في ذاكرة الصحابة وأيضًا على شكل مكتوب). أما التسلسل النهائي للسور فقد قيل إن محمد قد أمر به شخصيًا.
2 - أول جمع للقرآن في عهد أبي بكر
إذا كان محمد قد ترك بالفعل نصًا كاملاً ومجموعًا كما يزعم العلماء المسلمون[16] فلماذا كانت هناك حاجة إلى جمعه بعد وفاته؟ لقد كان فعلاً من المنطقي أن لا تبدأ عملية الجمع إلاّ بعد أن تنتهي الرسالة بموت الرسول. الرواية الشائعة حول جمع القرآن في أول الأمر تنسب هذا العمل إلى زيد بن ثابت الذي كان من بين الصحابة الذين كانت لهم دراية عميقة بالقرآن.
سنرى فيما بعد أن هناك أدلة كثيرة على أن صحابة آخرون قاموا هم كذلك بجمع القرآن في المصاحف بشكل مستقل عن زيد وذلك بعد وفاة محمد بفترة وجيزة. لكن المشروع الأكثر أهمية هو ذلك الذي قام به زيد لأنه تم بأمر رسمي من أبي بكر أول خليفة في الإسلام. كتب الحديث النبوي أعطت أهمية بالغة لهذا الجمع الذي قام به زيد بن ثابت والنص الذي نتج عنه هو الذي أصبح ذا طابع رسمي خلال خلافة عثمان.
بعد وفاة محمد مباشرة ارتدت بعض القبائل العربية عن الإسلام بعدما كانت قد اعتنقته قبل مدة قصيرة. على إثر هذا اضطر أبو بكر إلى إرسال جيش مكون من أوائل المسلمين لإخضاعها. فقامت معركة اليمامة التي سقط فيها العديد من صحابة محمد الأقربون الذين أخذوا القرآن مباشرة من عنده. والحديث التالي يصف لنا ما حدث بُعيد هذه الأحداث:
حدثنا موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي اللهم عنهم قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي اللهم عنهم إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى اللهم عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي اللهم عنهمما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم[17].
انتهى الأمر بزيد بن ثابت إلى قبول الفكرة مبدئيًا بعد إقناع أبي بكر وعمر إياه بضرورة الأمر. وقبل أن يجمع القرآن في كتاب واحد. يتضح جليًا من خلال هذه الرواية أن جمع القرآن كان أمرا لم يقم به "رسول الله".
وتردد زيد إزاء المهمة التي أسندت إليه كان سببه من جهة كون محمد نفسه لم يهتم بجمع القرآن، ومن جهة أخرى ضخامة المشروع. ما يدل على أن المهمة لم تكن بالسهلة بتاتًا. فإذا كان زيد يحفظ القرآن جيدًا ويعرفه بأكمله عن ظهر قلب ولا يجهل أي جزء منه وإذا كان عدد من الصحابة يتوفرون كذلك على مقدرة هائلة في مجال الحفظ والإستظهار فإن عملية جمع القرآن لن تكون إلا سهلة (خلافًا لما جاء في حديث البخاري المذكور أعلاه). فلم يكن على زيد إلا أن يكتب ما كان يحفظ من القرآن في ذاكرته ويطلب من الصحابة أن يضبطوا ما كتب. يزعم ديزاي وبعض الكتاب الأخرون أن كل الحفاظ من أصحاب محمد كانوا يعرفون القرآن بأكمله عن ظهر قلب، كلمةً كلمةً وحرفًا حرفًا. وذهب ديزاي بعيدًا في مزاعمه حين قال إن هذه القدرة الهائلة على حفظ القرآن هي موهبة إلهية :
إن قوة الذاكرة ملكة وهبها الله للعرب لدرجة أنهم كانوا يحفظون الآلاف من أبيات الشعر ببالغ السهولة. الاستعمال الكامل لهذه الموهبة هو ما مكن من حفظ القرآن وصيانته من الضياع[18].
يذهب بعد هذا إلى وصف استظهار القرآن بأنه "قوة حفظ ذات طبيعة إلهية". والنتيجة المنطقية لهذا الزعم هي أن جمع القرآن كان من أسهل الأمور. فإذا كان زيد والقراء الآخرون يعرفون القرآن بكامله حتى آخر كلمة منه بدون أي غلط أو نقصان وبرعاية ربانية - هذا ما يدعيه العلماء المسلمون - فمن غير المعقول أن نجده - أي زيد - يقوم بجمع القرآن بالشكل الذي فعله؛ حيث، عوضًا عن أن يعتمد فقط على ذاكرته مباشرة نجده يبحث عن النصوص في مختلف المصادر: "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم"[19].
لقد رأينا سابقًا أن القرآن كان وقت وفاة محمد مفرقًا بين ما كان في ذاكرة الصحابة وما كان مكتوبًا على مختلف المواد التي كانت تستعمل آنذاك في الكتابة. إلى هذه المصادر لجأ الصحابي الشاب حين كان يُعِد لجمع القرآن في مصحف واحد. والمصدران الرئيسيان من بين المصادر التي ذكرت هما "الرقاع" و"صدور الرجال"[20]. لم يعتمد زيد على ذاكرة الناس فقط بل اعتمد كذلك على ما كان مكتوبًا أيّ كانت طريقة كتابته (اللخاف أي الحجارة الرقاق الخ..)، والتجأ إلى كثير من الصحابة وإلى جميع المواد التي كانت أجزاء من القرآن مكتوبة عليها. لم يكن هذا تصرف شخص يعتقد أن الله وهبه ذاكرة خارقة للعادة يمكنه الاعتماد عليها كليًا في مهمته بل تصرف ككاتب نبيه كان يريد جمع القرآن من جميع المصادر الممكنة. كان هذا تصرف رجل يعي كل الوعي أن النص القرآني كان متناثرًا في أماكن عدة لدرجة أنه وجب جمع كل ما أمكن جمعه من أجل الحصول قدر المستطاع على نص كامل نسبيًا.
أقدم الروايات في الإسلام تبين لنا بوضوح أن زيدًا قام ببحث على نطاق واسع بينما نجد أن علماء متأخرين زعموا أنه اعتمد على ما دُون كتابيًا على مختلف المواد: عظام الحيوانات، الرقاع، جلود الحيوانات الخ.. التي كانت محفوظة في بيت محمد. وزعموا أن زيدًا لم يفعل شيئا أكثر من جمعه لهذه النصوص من أجل الاحتفاظ بها في موضع واحد.
يقول الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن إن محمدا كان يأمر بكتابة القرآن ولذلك حين أمر أبو بكر بجمع القرآن في مصحف واحد وُجِدت المواد التي كان مكتوبًا عليها "في دار رسول الله التي نزل فيها"[21] فجُمِعت وحُدِّدت لكي لا يضيع منها شيء. لكن يتضح من خلال ما دُوِّن في إطار الحديث النبوي أن زيدًا قام ببحث واسع النطاق عن هذه المواد التي كتبت عليها أجزاء من القرآن. ديزاي يجاحد قائلاً إن البحث الذي قام به زيد إنما كان مقتصرًا على المواد التي كُتب عليها القرآن "بين يدي رسول الله" لأن زيدًا كان هو الصحابي الوحيد الذي أتيحت له الفرصة لكي يكون جنب محمد حين جاءه جبريل ورتل معه القرآن آخر مرة[22].يضيف ديزاي أنه رغم وجود نصوص قرآنية أخرى في تلك الفترة فهي لم تكن تتمتع بمصداقية كاملة لأنها لم تكتب تحت الإشراف المباشر لمحمد إنما كتبت من طرف أصحابه الذين اعتمدوا في ذلك على ما استطاعوا حفظه في ذاكراتهم. يمتنع ديزاي عن إعطاء أية دلائل أو نصوص من أي نوع كانت ولا يُرينا المصادر التي اعتمد عليها في البرهنة على مزاعمه والتي من المفروض أن تكون من أقدم ما دُوِّن من التراث الإسلامي. في الواقع كون القرآن عُرض مرتين في آخر المطاف كان سرًا لم يبح به محمد سوى لابنته فاطمة الزهراء[23].
قال مسروق عن عائشة عن فاطمة عليها السلام: "أسر إلي النبي صلى اللهم عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي". فكيف أمكن أن يكون هذا سرًا إذا كان زيد بن ثابت حاضرًا في هذه المناسبة؟
وفي نفس السياق نعرف من خلال أقدم ما دُوِّن حول جمع القرآن خلال خلافة أبي بكر أنه لم يكن هناك أي تمييز بين ما كتب من القرآن تحت إمرة محمد أو غيره من المصادر. ولا شيء يوحي بأن زيدًا اعتمد على الأول دون الثاني. وكما سنرى لاحقًا فإن هذه التفاسير الحديثة العهد نسبيًا كان الغرض منها التأكيد على أن القرآن جمع في ظروف مثالية لكنها لا ترتكز على أية نصوص قديمة وأصيلة للبرهنة على مزاعمها.
هناك حكايات مفادها أنه كلما نزل شيء من القرآن كان محمد يطلب من كتابه ومن بينهم زيد أن يكتبوه[24].
حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) (والمجاهدون في سبيل الله) قال النبي صلى اللهم عليه وسلم ادع لي زيدًا وليجئ باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة، ثم قال اكتب (لا يستوي القاعدون) وخلف ظهر النبي صلى اللهم عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم الأعمى قال: يا رسول الله فما تأمرني فإني رجل ضرير البصر فنزلت مكانها (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) (والمجاهدون في سبيل الله ) (غير أولي الضرر).
لكن لا شيء يؤكد أن القرآن كان مجموعًا بأكمله في بيته. هناك أيضًا روايات عديدة في كتاب المصاحف لابن أبي داود تشير إلى أن أبا بكر كان أول من قام بتدوين القرآن نذكر من بينها :
حدثنا عبد الله قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن حفص قال حدثنا خلاد قال حدثنا سفيان عن السدى عن عبد خير عن علي قال: رحمة الله على أبي بكر كان أعظم الناس أجرًا في جمع المصاحف، وهو أول من جمع بين اللوحين[25].
هنا أيضًا نجد أدلة قوية على أن أشخاصًا آخرين سبقوا أبا بكر لجمع القرآن في مصحف واحد:
عن بن بريدة قال: أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة[26].
سالم هذا كان من بين أربعة رجال أمر محمد أصحابه أن يأخذوا القرآن عنهم[27].
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو عن إبراهيم عن مسروق ذكر عبدالله بن عمرو عبدالله بن مسعود فقال لا أزال أحبه سمعت النبي صلى اللهم عليه وسلم يقول خذوا القرآن من أربعة من عبدالله بن مسعود وسالم ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب...
وكان من القراء الذين قتلوا في معركة اليمامة. وبما أن أبا بكر لم يأمر بجمع القرآن إلا بعد هذه المعركة فمن البديهي إذًا أن سالمًا سبق زيد بن ثابت في جمع القرآن.
3 - نظرة عامة حول المرحلة الأولى لجمع القرآن
ونلاحظ هنا أن اتجاهًا معينًا أصبح يبرز بوضوح. الروايات الرسمية تحاول أن تظهر لنا أن المشروع الذي قام به أبو بكر بخصوص جمع القرآن كان الأهم والوحيد الذي تم بعد وفاة محمد. وقد حاول العلماء بعد ذلك أن يدعموا هذه الفكرة مدعين أن زيدًا كان الشخص الوحيد المؤهل للقيام بالمهمة، وأن القرآن كان بشكل أو بآخر موجودًا في بيت محمد، وأن الأشخاص الذين قاموا بعملية الجمع إنما اعتمدوا على ما تمت كتابته تحت الإشراف الفعلي لمحمد نفسه ولا شيء غير هذا. ويذهب العلماء المسلمون أبعد من هذا حيث يزعمون أن المصحف كما تم جمعه كان صورة طبق الأصل لما جاء به محمد لم يضف إليه لا حرف ولا كلمة ولا نقطة ولم يفتقد منه أي شيء من هذا القبيل.
من جهة أخرى وجب القول بأن التحليل الموضوعي لمسألة جمع القرآن في المرحلة البدائية، والذي يجب أن يعتمد على المعطيات المدونة، سيمكننا من إبراز أن النص الذي جمعه زيد والذي أصبح فيما بعد النموذج الذي اعتمد عليه المصحف العثماني ما هو إلا المنتوج النهائي لمحاولة صادقة لجمع القرآن انطلاقًا من مصادر متنوعة كان الرجوع إليها أمرًا ضروريًا.
يجب علينا الآن أن نقوم بتقييم للمصادر التي اعتُمِد عليها بإعادة النظر فيها. اعتمد زيد بن ثابت على صدور الرجال وعلى ما كُتِب من القرآن كيفما كانت المواد التي استعملت في ذلك. لأنه، ومهما كانت المجهودات التي قام بها الصحابة الأوائل لحفظ القرآن بشكل كامل فإن ذاكرة الإنسان تبقى دائمًا عرضة للنقصان والخطأ. وإذا أخذنا بعين الإعتبار طول القرآن (أي ما وجب حفظه) فإنه ليس من الغريب أن نجد اختلافات في طرق قراءة القرآن. ما سيظهر لنا جليًا أن هذا الارتسام مبني على أسس صحيحة.
وفكرة أن زيد اعتمد على ما كان متناثرًا في ذاكرات الصحابة وجب أن تؤدي إلى بعض النتائج المنطقية التي لا مفر منها، حيث هناك احتمال ضياع أجزاء من النص لأن هذا الأخير لم يكن مجموعًا في كتاب واحد بل كان متناثرًا بشكل واسع. وهذا ما سيتضح حين سنقدم الدلائل المأخوذة من التراث الإسلامي القديم.
المثال النموذجي الذي وجب تقديمه بخصوص هذه المسألة يتجلى في الحديث التالي الذي يؤكد بوضوح أن أجزاء من القرآن فُقِدت نهائيًا إثر مقتل بعض الحفاظ من الصحابة في معركة اليمامة:
حدثنا أبو الربيع قال أخبرنا بن وهب قال أخبرني يونس عن بن شهاب قال: بلغنا إنه انزل قرآن كثير فقُتِل علماؤه يوم اليمامة الذين كانوا قد وعوه فلم يُعْلَم بعدهم ولم يُكْتَب، فلما جمع أبو بكر وعمر وعثمان القرآن لم يوجد مع أحد بعدهم[28].
لا يمكن تجاهل كون هذا الحديث يستعمل أسلوب النفي بوضوح : "لم يعلم"، "لم يكتب"، "لم يوجد"؛ تأكيد ثلاثي على أن هذه الأجزاء من القرآن التي كان يحفظها قراء اليمامة فقدت بدون رجعة. وفي المقابل يظهر أنه من الصعب تصور أية زيادة أو تغيير في القرآن بعد وفاة محمد لأن أجزاء النص كانت موجودة بطريقة متناثرة عند الصحابة لكن إمكانية ضياع بعض الأجزاء من النص تبقى واردة كما ذكرنا سالفًا. إذا كان هناك جزء مهم من القرآن قد احتُفِظ به عن طريق الحفظ فهذه ضمانة أكيدة أن لا أحد من الصحابة كان بإمكانه إضافة شيء إلى القرآن دون أن يلقى معارضة الآخرين[29].
وفي النهاية، حين نستعرض المصادر الأصلية يجب ألا نستغرب من كون مصاحف أخرى كانت حيز الجمع زيادة على المصحف الذي كلف زيد بجمعه. كان هنالك عدد من الصحابة الذين كانت لهم دراية واسعة بالقرآن وكان من الحتمي أن يحاولوا توثيق ما كان لا يزال مثبتًا في ذاكراتهم على شكل مصحف مستعينين كذلك بما كان مكتوبًا. كنتيجة حتمية سنرى أن ما توقعناه من نتائج بخصوص جمع كتاب كالقرآن أمر تدعمه النصوص التاريخية خلافًا للفرضية القائلة بأن الحفاظ على الكتاب تم بفضل العناية الربانية دون أدنى نقصان أو تغيير.
وإمكانية فقدان بعض أجزاء النص واردة في عدة أحاديث نبوية تبين بعضها أن محمدًا كان هو نفسه عرضة لنسيان بعض أجزاء القرآن:
حدثنا موسى يعني ابن إسماعيل حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي اللهم عنها أن رجلاً قام من الليل فقرأ فرفع صوته بالقرآن فلما أصبح قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يرحم الله فلانًا كائن من آية أذكرنيها الليلة كنت قد أسقطتها[30].
لقد وضع مترجم المرجع السابق إلى الإنجليزية ملاحظة هامشية بين فيها أن محمدًا لم ينس بعض الآيات تلقائيًا بل إن الله هو الذي أنساه إياها مقيمًا بذلك عبرة للمسلمين. ومهما كانت الغاية والأسباب فالمهم هو أن محمدًا تعرض لنسيان بعض القرآن الذي أقر أنه أوحي إليه. والقول بأن النسيان كان من الله إنما يعتمد على الآية التالية:
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير[31].
كلمة آية تعني النص القرآني ذاته وكلمة ننسها أصلها من فعل نسي الذي يعني، أينما وجد في القرآن (وردت 45 مرة على مختلف الأشكال)، فقدان الشيء من ذاكرة الإنسان.
لنعطي الآن خلاصة لما قيل في هذا الجزء.
حاول زيد بن ثابت، الذي كان من الصحابة ذوي المعرفة العميقة بالقرآن، أن يدون قدر مستطاعه مصحفًا أقرب ما يكون إلى الموثوقية. وروح الأمانة التي اتصف بها خلال قيامه بمشروعه ليست موضع شك. لذلك يمكننا أن نقول بأن المصحف الذي قدمه في النهاية إلى أبي بكر لم يكن إلا تعبيرًا صادقًا عما جمعه من صدور القراء ومن ما كتب على مختلف المواد، لأن هذا هو ما تعكسه النصوص المأخوذة من التراث الإسلامي الأصيل. نفس النصوص تنفي الفرضية الحديثة القائلة بأن المصحف الحالي هو نسخة طبق الأصل للقرآن الأول لم يحذف منها شيء ولم يمسسها أي تغيير. وليس هناك ما يدل على أن النص تعرض للتحريف، وكل محاولة لتأكيد ذلك (كما فعل بعض الباحثين الغربيين) يمكن دحضها بسهولة. بالمقابل هناك أدلة عديدة على أن القرآن كان غير مكتمل وقت تدوينه في مصحف واحد (كما رأينا سابقًا) وأن كثيرًا من فقراته وآياته انتقلت على أشكال مختلفة. سنتمكن من خلال هذا الكتاب من استعراض الوقائع التي تبرهن على مقولاتنا وكذا نتائجها الحتمية.
4 - الآيات التي فقدت ثم وجدت عند أبي خزيمة الأنصاري
قبل أن نسدل الستار على بحثنا حول جمع القرآن في عهد أبي بكر ارتئينا أنه من المفيد تحليل ما ذكره زيد بخصوص آيتين قال إنه لم يجدهما إلا عند أبي خزيمة الأنصاري. نص الحديث هو كالتالي:
... حتَّى وجدتُ آخر سورة التَّوبة مع أَبي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لمْ أجدها مع أحدٍ غيره (لقد جاءكمْ رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّمْ) حتى خاتمة براءة فكانت الصُّحُفُ عند أبي بكر حتى توفَّاهُ اللَّه ثمَّ عند عُمَرَ حَيَاتَهُ ثمَّ عند حَفْصَةَ بنت عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهم[32].
يتبين من خلال هذا الحديث أن زيد بن ثابث اعتمد بخصوص الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة على مصدر واحد فقط لأن لا أحد غير أبي خزيمة كان على دراية بهما ولو لم يكن الأمر كذلك لفقدتا من القرآن. فمن المستبعد إذن أن يكون كثير من الحفاظ قد علموا جميع القرآن إلى آخر حرف منه لأنه كان متناثرًا لدرجة أن بعض المقاطع لم يكن يعرفها إلا القليل من الصحابة، وفي الحالة التي نحن بصددها كان هناك شاهد واحد عليها فقط - أبي خُزيمة الأنصاري.
إن التأويل الطبيعي لهذه الرواية يحطم الشعور السائد في الأوساط الإسلامية الذي مفاده أن القرآن بقي مصونًا محفوظًا لأن محتواه كان شائعًا بين الصحابة الذين لم يبخلوا بجهدهم لحفظه. تفسير ديزاي لهذه الرواية يستخلص من المقطع التالي من كتيبه The Quraan Unimpeachable:
يتضح جليًا مما قاله حضرة زيد أن من بين الصحابة الذين كتبوا القرآن بين يدي رسول الله كان أبو خزيمة الأنصاري الوحيد الذي وُجِدت عنده الآيتين الأخيرتين من سورة براءة[33].
نرى هنا أن ديزاي يدعي أن قولة زيد تعني أن أبا خزيمة كان فقط الوحيد الذي أتيحت له فرصة كتابة الآيتين تحت الإشراف المباشر لمحمد على الرغم من أن الحديث كما دَوَّنه البخاري لا يشير بتاتًا إلى شيء من هذا القبيل. يضيف ديزاي:
لم يكن هناك أدنى شك أن الآيتين كانتا من ضمن القرآن حيث كان مئات الصحابة يحفظونهما. زيادة على هذا فقد كانتا مكتوبتين عند كل الصحابة الذين كانوا يحفظون القرآن بأجمعه لكن خلافًا لأبي خزيمة لم يكتبوهما بين يدي رسول الله صلعم[34].
لم يُحَمِّل مولانا نفسه عبء تقديم أية أدلة على مزاعمه هذه. وبالتأكيد لا توجد أية روايات من الحديث توحي بأن مئات من الصحابة كانوا يعرفون هاتين الآيتين وأن بعضهم أتيحت له فرصة كتابتهما عبر النقل الغير المباشر وأن أبا خزيمة كان الوحيد من بين من كتبهما بعد أن تلقاهما بغير واسطة أي من عند محمد مباشرة. امتناع ديزاي عن تقديم أدلة أو نصوص تؤكد مزاعمه أمر له مغزى عميق.
في مقال له نُشر في مجلة البلاغ يزعم الصديق أيضًا أن زيدًا حين قال "لم أجد آية كذا.." كان يعني في واقع الأمر أنه لم يجدها مكتوبة. وكما قيل سابقًا، ليس في نص الحديث ما يبرر تأويلاً من هذا النوع. فما هو إذًا المصدر الذي استوحى منه هؤلاء العلماء النوابغ مواقفهم؟ للجواب عن هذا السؤال يجب الرجوع إلى مقطع من كتاب فتح الباري في شرح البخاري لابن حجر العسقلاني:
قوله: (لم أجدها مع أحد غيره) أي مكتوبة لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة. ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة[35].
المصدر الذي استُنبطت منه هذه المواقف لا يعتبر من أقدم المصادر التي تحدثت عن موضوع جمع القرآن إذ لا يعد إلا تفسيرًا لصحيح البخاري ألفه في زمن متأخر نسبيًا العلامة المشهور بن حجر العسقلاني الذي عاش بين سنة 773 هـ (1372 م) وسنة 852 هـ (1451 م). هذا التأويل الخاص لقولة زيد يفصله إذن ما لا يقل على ثمانية قرون عن زمن محمد حيث أنه منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا أصبحت الفكرة السائدة في الأوساط الإسلامية هي أن الصحابة كانوا يحفظون القرآن بأكمله ولا يجهلون أي جزء منه. فالأمر إذن يتعلق فقط بتأويل مريح الغرض منه إثبات فرضية حديثة العهد نسبيًا. لكن مع الأسف ليس في نص الحديث ذاته ما يدعم هذا التأويل. يضيف بن حجر: "ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها كما تذكرها زيد[36]".
في الوقت الذي يعلن فيه ديزاي بجرأة لا مثيل لها أن الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة كانتا "بدون أدنى شك" ضمن القرآن وأنهما كانتا معروفتين لدى المئات من الصحابة عن طريق الحفظ وأن صحابة آخرين ذهبوا إلى حد كتابتهما، في الوقت نفسه نجد أن النص الذي يستشهد به لا يذهب أبعد من القول بأنه من المحتمل أن يكون زيد حين أخذ الآيتين من أبي خزيمة قد أعطى الفرصة للصحابة الآخرين أن يتذكروا سماعهما من قبل، وهذا هو المقصود من عبارة "لعلهم". بدون أدنى حشمة يُحَول ديزاي اقتراحًا مليئًا بالحذر مفاده أن صحابة آخرين من المحتمل أن يكونوا قد تذكروا سماع الآيتين من قبل إلى إعلان أنهما كانتا معروفتين عند مئات الصحابة "بدون أدنى شك".
يتضح لنا إذن أن العلماء المسلمين الحديثين يبذلون كل جهدهم لإثبات فرضية غالية على قلوبهم - كمال القرآن غير القابل للنقاش - عوض تقديم الأدلة الموضوعية كما تتضح من خلال المصادر الإسلامية القديمة. بالرغم من أن المصدر الذي اعتمد عليه ديزاي ينتمي إلى حقبة تارخية حديثة نسبيًا إلا أنه لا يستطيع مقاومة اندفاعاته ليجعل منه ادعاء يهم الوقائع وليس فقط الفرضيات والتآويل. يضيف بن حجر في نفس الصفحة:
وحكى ابن التين عن الداودي قال: لم يتفرد بها أبو خزيمة بل شاركه زيد ابن ثابت فعلى هذا تثبت برجلين[37].
وهذا ما يدل على أن بعض العلماء الآخرين كانوا يعتقدون أن قولة زيد يجب أن تستعمل كبرهان على أن الآيتين لم تكونا مكتوبتين لهذا وجب أن تأخذ بمعناها الواضح والمباشر الذي يبين بجلاء أن الآيتين لم يكن يعرفهما أحد غير أبي خزيمة.
لقد جاء في كتاب المصاحف لابن أبي داود ما يُفَنِّد مزاعم هؤلاء العلماء:
فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين فلم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخر السورة، فقال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فكيف ترى أن تجعلهما؟ قال: أختم بهما آخر ما نزل من القرآن فختمت بها براءة.
هذه الرواية تشير إلى أن الحدث كان في زمن عثمان وليس أثناء جمع القرآن في عهد أبي بكر لكن ليس هناك اختلاف جوهري مع الحدث الذي نحن بصدد مناقشته. ميزة هذه الرواية هي أنها تبرز بوضوح أن زيد والصحابة الآخرون افتقدوا كليًا هاتين الآيتين عند نسخ القرآن. في الواقع القول بأن زيدًا وجدهما عند أبي خزيمة يعني أن هذا الأخير هو الذي أثار الانتباه حول وجودهما ولولاه لما كانتا ضمن القرآن، فبالتأكيد لم يعثر عليهما زيد على إثر البحث الذي قام به لجمع القرآن. يتضح كذلك من خلال النص المذكور أن أبا خزيمة سئل عن موضعهما داخل المصحف فاقترح أن يضافا إلى آخر ما نزل من الوحي يعني آخر سورة التوبة.
إذا سَلَّمْنا بحقيقة هذه الرواية بالإضافة إلى ما ورد من حديث البخاري وجب الاعتراف ببعض الحقائق التي لا مفر منها: فُقِدَت آيتان كليًا وما وجدتا إلا بمبادرة شخصية من أبي خزيمة الذي أوضح بنفس المناسبة موضعهما داخل المصحف. لذلك لا يمكن للعلماء المسلمين أن يتبثوا فرضيتهم القائلة بوجود عدد كبير من الصحابة الذين كانوا يعرفون الآيتين إلا إذا جعلوا كلمة "تلقيت" تعني أن الطريقة التي تم بها توصيل الآيتين من محمد إلى أبي خزيمة كانت كتابية. لكن من المؤكد أن كلمة "تلقيت" عنى بها أبو خزيمة أنه أخذ الآيتين مباشرة من عند محمد وليس بالضرورة كتابيًا. وما أراد قوله هو أنه لم يأخذهما من مصدر ثانوي بل من محمد نفسه إذ ليس هناك ما يبرر أن الصحابي تلقاهما من محمد بشكل كتابي.
إن هذه التآويل المريحة تنافي بشكل مكشوف ما جاء في الروايات المدونة. على سبيل المثال لو كان زيد يعرف الآيتين جيدًا لما غفل عنهما ولما اضْطَرَّ أبو خزيمة لإثارة الانتباه إلى وجودهما بعدما نُسِيَتا بالكامل. وجب هنا أن نطرح على العلماء المسلمين هذا السؤال: انطلاقًا من التأويل الذي قمتم به هل يمكننا أن نعرف ما إذا كان زيد سيضيف هاتين الآيتين إلى القرآن لو لم يجدهما مكتوبتين بين يدي محمد على الرغم من أنهما كانتا معروفتين عند بعض الصحابة ومكتوبتين عند البعض الآخر دون أن يكون ذلك تحت الإشراف المباشر لمحمد؟
يتبين لنا من خلال هذا البحث أن المشروع الذي قام به زيد في عهد أبي بكر لم يكن سوى تجميعًا لنصوص قرآنية من مصادر مختلفة كانت متناثرة داخلها. كنتيجة لهذه الحالة فُقِدت أجزاء من القرآن على إثر وفاة بعض القراء في معركة اليمامة. ونجد في حالة أخرى أن جزء من القرآن لم يشهد عليه إلا شخص واحد (أبو خزيمة الأنصاري). قال زيد: تتبعت القرآن أجمعه... معلنًا بذلك أنه لم يكن يتوقع أن يجد القرآن بأكمله عند صحابي معين أو بشكل مكتوب في موضع واحد.
المصحف الذي جمعه زيد جاء نتيجة بحث موسع شمل ما كان يحفظه الصحابة وما كان مكتوبًا. اختلاف المصادر وتنوعها (الرقاع، اللخاف، صدور الرجال) لا يؤيد فكرة أن القرآن الذي جُمع كان كاملاً إلى أدنى نقطة أو حرف منه، ما يعني أن الفرضية التي يطرحها العلماء المسلمون ما هي إلا نتيجة شعور مبني على رغبة مسبقة وليس على الحقيقة والواقع الذي يمكن استخلاصه من المنقول الإسلامي القديم.
وللبحث صلة...
مترجم مجهول
تدقيق: أكرم أنطاكي
مقدمة
اعتاد المسلمون منذ قرون عديدة على الفكرة القائلة إن القرآن بقي محفوظًا في نصه الأصلي منذ زمن الرسول محمد إلى يومنا هذا من دون أن يَمسًّه أي تغيير أو نقصان أو إضافة من أي نوع كانت ومن دون أي تغيير في طريقة قراءته. في الوقت ذاته، يعتقد المسلمون أن هذا الكمال المزعوم للنص القرآني هو دليل على أصله الإلهي بدليل أن الله وحده استطاع الحفاظ على هذا النص. لقد أصبح هذا الشعور قويًا جدًا عندهم لدرجة أنه نادرًا ما نجد باحثًا إسلاميًا يقوم بتحليل نقدي لموضوع جمع القرآن. وكلما ظهرت بوادر محاولة مثل هذه فهي تُقمَعُ في حينها.
لكن ما الذي سنَسْتَنْتِجُه إن نحن استعرضنا الوقائع والمعطيات المتوفرة لدينا حول جمع القرآن في بداية العهد الإسلامي؟
حين نضع الانفعالات العاطفية جانبًا ونقوم بتقييم موضوعي للمعطيات التاريخية المتوفرة فإننا نصل إلى استنتاج مناقض تمامًا لما يزعمون. وسيظهر لنا هذا الكتاب أن ما دُوِّن في إطار الإرث الإسلامي كاف للبرهنة على أن القرآن كان في وقت من الأوقات يحتوي على عدد مختلف من الآيات بل أحيانًا على مقاطع كاملة لا توجد في النص القرآني الحالي. زيادة على هذا فقد كان هناك عدد مهم جدًا من القراءات المختلفة قبل أن يُقَرِّر الخليفة عثمان بن عفان استأصالها جميعها والاحتفاظ بالمصحف الذي وصلنا.
في سنة 1981 نشرت كتيبًا عنوانه The TextualHistory of the Quran -كرد على منشور إسلامي حاول الطعن في موثوقية الإناجيل. وبالرغم من أن هذا البحث اتجه أساسًا نحو دحض ما قيل في موضوع الإنجيل إلا أنه لا يخلو من أدلة تثبت أن نقل القرآن لم يكن أبدًا أوثق من نقل الإناجيل.
في سنة 1986 نُشر مقالان في مجلة البلاغ حاول صاحباهما الرد على كتيبي سالف الذكر. أحد هذين المقالين كتبه الدكتور كوكب الصديق الباحث الإسلامي المتمركز في أمريكا والآخر كتبه الباحث الجنوب إفريقي عبد الصمد عبد القادر. نكتفي هنا بالإشارة إلى أننا سنعود إلى هذين المقالين بالتفصيل لاحقًا.
بعد أبحاث دقيقة في الموضوع، أصدرت سنة 1984 كتيبًا آخر عنونته بـ Evidences for the Collection of the Quran. وقد أثار هذا المؤَلَّف بدوره رد فعل بعض العلماء المسلمين، تُوِّج بنشر كتيب سنة 1987 من طرف "مجلس العلماء" لجنوب إفريقيا. لكن مع الأسف لم يذكر المؤلف إسمه، إلا أنني علمت بأن الأمر يتعلق بالمدعو "مولانا ديزاي" Maulana Desaiالقاطن في مدينة بورت إليزابث وسأشير إليه على هذا الأساس.
أُلف هذا الكتاب أساسًا ليكون تأكيدًا للحجج التي قُدمت في منشوراتي السابقة، وكذلك الاستنتاجات المستخلصة منها. وليكون في نفس الوقت تقييمًا للأجوبة الثلاثة الصادرة عن العلماء المسلمين السالفي الذكر وتفنيدًا لمقولاتهم.
إحدى المصاعب التي يواجهها كاتب في مثل هذه الحالة تتجلى في الحساسية المحيطة بهذا الموضوع في الأوساط الاسلامية، فالشعور السائد عند جل المسلمين يعتقد أن أساس الأصل الإلهي للقرآن يكمن برهانه في الطريقة المثالية التي تم بها إيصاله إلينا عبر العصور. وهذا الشعور يؤدي إلى الإحساس بالخوف من كون أي دليل يناقض ذلك قد يكون برهانًا على عدم ألوهيته.
وهذا ما يمنع العلماء المسلمين من التطرق إلى هذه المسألة بروح موضوعية ومن خلال البحث في المعطيات الخالصة. لا بل نلاحظ أن هناك رغبة مسبقة في البرهنة بأي وسيلة كانت على الشعور السائد المتمثل في الفرضية القائلة إن نص القرآن بقي محفوظًا بطريقة مثالية. لذلك فإن العاطفة تلعب الدور الأهم كلما تعلق الأمر بموضوع القرآن. وبالتالي، ليس من المستغرب أن نجد العلماء المسلمين الثلاثة المذكورين سالفًا لم يستطيعوا التعامل معي ومع كتاباتي على مستوى البحث العلمي المحض ولا على مستوى الوقائع. لهذا نجد الدكتور كوكب الصديق، وفي مقدمة مقاله المعنون، يكتب: "يقول داعية الكذب المسيحي إن القرآن ليس قول الله" (مجلة البلاغ، مجلد 11، عدد 1، فبراير/مارس 1986)، ويحاول مهاجمتي بكل ما أوتي من حسن اللسان حيث يقول: "السيد جلكرايست يحاول تحطيم البنيان القوي للقرآن من خلال جدال حقير لا يليق بالمسألة. الطريقة التي يستعملها توضح لنا هزالة الوسائل التي بحوزته، والوقاحة التي تميز تهجمه تظهر لنا أنه يستند إلى استغلال فرصة عدم وجود أية دراية بالموضوع لدى المسلمين." في حين يصفني ناشر المجلة بأنني "عدو صريح للإسلام يهدف إلى تحطيم بنيانه".
أما مقال السيد عبد القادر عبد الصمد الذي نشر تحديدًا في العدد التالي من نفس المجلة تحت عنوان كيف تم جمع القرآن؟ (مجلة البلاغ، مجلد 11، عدد 2، ماي/يونيه 1986)، فإنه في نهاية مقاله يصف الباحثين من أمثالي بأنهم "أعداء القرآن المجانين الذين تحركهم الغيرة والبغض والعداء والنوايا السَّامة" لا غير.
أما مولانا ديزاي فقد اعتبر هو أيضًا في منشور له تحت عنوان القرآن فوق كل اتهام أنه من الضروري فضح محاولتي واستغنى عن تقديم الدلائل على مزاعمه واكتفى بالشتم. ويزعم هذا الكاتب أنني "قررت نفي أصالة القرآن المجيد" عوض أن يتخد منهجًا أكثر توازنًا قد يؤدي به لا محالة الى اعتبار أنني حاولت فقط أن أركز على المعطيات المتعلقة بموضوع جمع القرآن ومن دون أية فكرة مسبقة. وقد ذهب إلى حد القول إن "مزاعمه لا أساس لها". وفي مكان ما يقول "إن جلكرايست سيلعن نفسه". وفي مكان آخر يتهمني بأني أعاني من "جهل كبير" وبأنني "ذو عقلية لا تقبل النقاش".
إن ردود فعل انفعالية مثل هذه تكشف عن خوف العلماء المسلمين من أية دراسة تاريخية محضة لموضوع جمع القرآن نظرًا لأنها قد تؤدي إلى نفي ما زعم من أنه جُمع وحفظ في ظروف مثالية.
سأبذل كل جهدي في هذا الكتاب لمعرفة إلى أي حد تم نقل وتوصيل النص القرآني بطريقة كاملة ودقيقة. وهي دراسة لن تكون إلا إبرازًا للمعطيات المدوَّنة. مع التأكيد بأن مسألة الأصل الإلهي للقرآن لا يمكن حلها من منطلق طريقة نقله وتوصيله وإنما عن طريق دراسة مضمونه وتعاليمه. وما يهمنا هنا هو فقط استخلاص الدقة التي تم بها تأليفه وجمعه. أما إذا كان هناك علماء مسلمون كالذين تم ذكرهم سالفًا يشعرون بأن دراسة مثل هذه تحطم قناعاتهم بأن القرآن من عند الله (ديزاي يتهمني مرارًا بأنني أهدف إلى "نفي سلامة القرآن الشريف من التحريف") فهذه مشكلتهم لأنهم ينطلقون من الفرضية القائلة بأن جمعًا ونقلاً مثاليين يضمنان الأصل الإلهي لكتاب ما.
وأنا لا أجد مبررًا للرد على هؤلاء العلماء المسلمين بعبارات شاتمة كالتي استعملوها ضدي لأنني أمتلك الحرية الكاملة للخوض في هذا الموضوع من دون أية موانع نفسية ومن دون أية فرضية أو فكرة مسبقة. زيادة على هذا، فأنا أعتقد أنه إذا لم يكن كتاب ما من عند الله فلا يمكن لأي دليل كيفما كان نوعه أن يغير من الأمر شيئًا. إن هؤلاء العلماء يحاولون البرهنة على فرضية محضة وهذا ما يتضح من خلال طريقة تعاملهم مع الموضوع. كل واحد منهم حاول التطرق إلى المسألة بشكل جد مختلف عن الآخرين. فالصديق وديزاي يتناقضان بشكل مكشوف في نقاط عديدة بالرغم من أن كلاهما يحاول التوصل إلى نفس النتيجة ألا وهي كمال النص القرآني وخلوه من النقصان. هذه المعضلة لا يمكن تفسيرها إلا بشيء واحد يقول إنهما يبذلان جهدهما للانتهاء إلى حيث بدءا، أو بعبارة أخرى للرجوع في النهاية إلى ما افترضاه في البداية وهو ما ذكر سالفًا.
لذلك فإنه من المفيد أن نقوم بجرد سريع لمواقف هؤلاء العلماء كل على حدة:
1 - الدكتور كوكب الصديق:
يتخد الصديق الموقف الإسلامي الرسمي. وعبارة "نص واحد لا اختلاف فيه" هي ما عَنْوَنَ به جزأ من مقاله وهو ما يلخص مراده بوضوح. الفرضية تتجلى في القول بوجود نص قرآني واحد لم يضف إليه شيء ولم يقتطع منه شيء ولم يكن أبدًا أي اختلاف في طريقة قراءته. لقد كان على هذا الكاتب أن يقدم بعض الاستفسارات حول ما جاء في الحديث النبوي (وهو من أقدم ما دُوِّن في موضوع جمع القرآن) بخصوص حرق الخليفة عثمان لجميع المصاحف القرآنية باستثناء مصحف حفصة[1] بسبب وجود اختلافات عديدة في كيفية قراءة القرآن في المناطق المختلفة التي كانت تحت النفوذ الإسلامي. الصديق يزعم أن الاختلافات كانت فقط طريقة تلاوة النص وهذا برهان يَسْتَدِل به زمرة من العلماء المسلمون. سنرى فيما بعد أن هذا الدليل غير مقنع بل لا أساس له من الصحة. كما أن الصديق يفضل السكوت عن الأحاديث النبوية التي تظهر بوضوح أن القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو بشكل أو بآخر غير مكتمل.
2 - عبد الصمد عبد القادر:
يفضل هذا الباحث المرور مَرَّ الكرام على الأدلة الثاقبة التي يمكن استخلاصها من الحديث النبوي كما لو كانت غير موجودة بتاتًا، ولهذا فإننا لا نجد أي ذكر لها في مقاله. في المقابل نجده يحاول البرهنة على أن القرآن يحتوي على شهادة كافية بخصوص طريقة جمعه. سأتطرق إلى هذه المسألة في نهاية الجزء الرئيسي من هذا الكتاب مع العلم أن ذلك لا يؤثر عمومًا على الموضوع الذي نحن بصدد دراسته.
3 - مولانا ديزاي:
وهو بالرغم من الشتائم التي وجهها إلي يعترف بموثوقية وصحة أغلب الحقائق التي قدمتها ويعترف بأنه كانت هناك بالفعل اختلافات نصية في المصاحف الأولى وبأن عددًا من المقاطع التي كانت ضمن القرآن فقدت منه لاحقًا. بخصوص الاختلافات في القراءة يعتمد ديزاي على حديث نبوي واحد يروي أن محمدًا قال إن القرآن نزل من عند الله على سبعة أشكال لغوية ولهذا فهو يزعم أن كل هذه القراءات قد شرعها الله وهي التي تشكل ما يعرف بـ"الأحرف السبع" ويتقبل ببالغ السهولة فكرة أن عثمان قام بالفعل بتنحية مصاحف موثوقة، ونجده يبرر هذا الإجراء بكونه هدف إلى ضمان اتساق في القراءة. سنرى فيما بعد أن تفكيرًا كهذا يعرض صاحبه إلى تناقضات خطيرة. بخصوص المقاطع المفقودة من القرآن يعترف ديزاي بوجودها كما ذكرنا سالفًا لكنه يزعم بأن الله نسخها ولذلك فهي لا توجد ضمن النص القرآني الحالي. وأنا متيقن أن هذه المزاعم لن يستسغيها لا كوكب الصديق ولا عبد الصمد عبد القادر، ونفس الشيء بالنسبة لما يتعلق بالقراءات المختلفة. ومع هذا أجد نفسي مضطرًا للقول بأن المولانا هو الوحيد من بين الثلاثة الذي استطاع الاعتراف بإخلاص بموثوقية الأحاديث التي تتحدث عن كيفية جمع القرآن. وبالرغم من أنني أعتبر أن حججه غير مقنعة كما سنرى لاحقًا إلا أنني أجد أن تقبله للحقائق التاريخية أمرًا مسعدًا.
في نهاية هذا الكتاب سأقدم عرضًا موجزًا عن المصاحف القرآنية الأولى التي استطاعت أن تصلنا. هدفي من هذا هو تحديد إمكانية وجود أحد المصاحف العثمانية التي تنوقلت بعد تنحية المصاحف الأخرى. ويتضمن هذا الكتاب صورًا لأقدم المصاحف التي وصلتنا وبالخصوص تلك التي بقيت من القرن الثاني للهجرة قبل أن يشيع استعمال الخط الكوفي في شكله المتطور في أوساط الخطاطين ويصبح معيارًا إلى أن تم استبداله بالخط النسخي.
وأنا واثق أن هذا الكتاب سيكون بمثابة إسهام في التقييم الحقيقي لمسألة جمع القرآن في بداية التاريخ الإسلامي من خلال دراسة موضوعية للمعطيات المتوفرة لدينا. لذلك فإني لن أعتذر عن كون دراستي هذه لا تأخذ بعين الاعتبار الشعور السائد في الأوساط الإسلامية كما ذكر سابقًا، وأتمنى أن لا تؤدي إلى ردود فعل انفعالية كتلك التي صدرت كجواب على منشوراتي السابقة. وأؤكد مرة أخرى أن هدفي هو الوصول إلى خلاصة مضبوطة ومبنية على الحقائق بخصوص موضوع جمع القرآن لا غير. فأنا لست "عدوًا صريحًا للإسلام" تسيطر عليه رغبة جنونية للإستهزاء بالقرآن أو نفي سلامته من التحريف بأي وسيلة كما يفترض بعض الكتاب الإسلاميين.
جون جلكرايست، 29 يناير 1989
***
أستفدنا في تأليف هذا الكتاب من عدة دراسات ومراجع يبدو لنا من اللائق أن نقدمها حسب أهميتها وعلاقتها بالموضوع وحسب نوعيتها: مراجع رئيسية أو مراجع ثانوية، وكذلك حسب كونها قديمة أو حديثة. وباستثناء القرآن الذي يحتوي على بعض الإشارات إلى طريقة جمعه في عهد محمد فإن المصادر المباشرة المتعلقة بجمعه هي أساسًا كتب السيرة النبوية التي ألفت في فترة مبكرة وكتب الحديث. بالإضافة إلى ذلك، نجد أعمالاً أخرى ألفت في المراحل التالية من قبل كبار المؤرخين المسلمين. وهذه المؤلفات تعطينا معلومات مهمة حول جمع نص القرآن.
إن المصادر المستعملة هي:
1 - كتب السيرة النبوية:
أقدم الكتب التي دَوِّنت تفاصيل جمع القرآن هي التراجم الثلاثة المعروفة بكتب السيرة النبوية:
1. سيرة رسول الله لمحمد بن إسحاق (وقد اعتمد عليه بن هشام في تأليف كتابه حول السيرة النبوية).
2. كتاب الطبقات الكبير لمحمد بن سعد.
3. كتاب المغازي لمحمد بن عمر الواقدي.
2 - كتب الحديث:
أما المصادر التالية التي دَوِّنت حياة محمد وكذلك مراحل جمع القرآن فإنها تتجلى في كتب الحديث التي ينظر إليها في الأوساط الإسلامية على أنها تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن من حيث الأهمية والموثوقية. والمؤلفات التي استعملت حين تأليف هذا الكتاب هي:
1. صحيح البخاري لمحمد بن اسماعيل البخاري.
2. صحيح مسلم لمسلم بن الحجاج.
3. سنن بن أبي داوود لسليمان بن أبي داوود.
4. الجامع الصحيح لأبي عيسى محمد الترمذي.
5. الموطأ لمالك بن أنس.
6. السنن الكبرى لأبي بكر أحمد البيهقي
3 - كتب التفسير:
بعيد الفترة التي ظهرت فيها المراجع المذكورة سابقًا كُتب العديد من مؤلفات التفسير التي كانت بمثابة شروحات وتعليقات حول القرآن من قبل كبار المؤرخين المسلمين. أشهر هذه المؤلفات جامع البيان في تفسير القرآن لأبي جعفر الطبري. (وقد استُفيد من هذا الكتاب بطريقة غير مباشرة من خلال المراجع الحديثة). ورغم أن كتاب الطبري قُصد به التفسير بالدرجة الأولى إلا أنه يحتوي على معلومات بالغة الأهمية حول جمع القرآن في الحقبة الأولى. الشيء نفسه نجده في كتب التفسير الأولى.
وقد كان من الضروري الرجوع إلى الكتابين التاليين نظرًا لاحتواءهما على معلومات بالغة الأهمية رغم أنه لا علاقة مباشرة لهما بالتفسير القرآني:
1. كتاب المصاحف لابن أبي داوود.
2. الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السُيوطي
النسخة الوحيدة المتبقية من كتاب المصاحف توجد حاليًا في المكتبة الظاهرية في دمشق. استنسخ هذا المؤَلف مرتين وإحدى النسختين استعملها Arthur Jefferyفي نشر كتابه Materials for the History of the Text of the Quran وهذا هو النص المشار إليه في هذا الكتاب.
4 - كتب معاصرة تطرقت لموضوع جمع القرآن:
بعض الكتب المعاصرة أهتمت بموضوع جمع القرآن ونذكر منها:
- كتاب Geschichte des Qorans الذي نشر أصلاً في ثلاث مجلدات غير أن المجلدين الثاني والثالث هما اللذان لهما علاقة مباشرة بالموضوع. المجلد الثاني تحث عنوان Die Sammlung des Qorans كتب من طرف نولدكه وشفالي Noeldecke & Schwally. وهذا الجزء يتطرًّق إلى موضوع جمع القرآن بمعنى الكلمة، بينما الجزء الثالث المعنون بـ Die Geschichte des Korantext الذي كتبه برتزل وبرغشتراسر Pretzl & Bergstrasserفإنه يتمحور حول كتابة القرآن وقراءاته المختلفة. الجزءان يتطرقان بشكل مطول إلى نسختي عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب اللتان أحرقتا بأمر من الخليفة عثمان بسبب أختلافهما عن النص القرآني الذي أُريد له أن يكون نصًا رسميًا أي Textus receptusوهذا هو النص الذي استطاع أن يصل إلينا عبر التاريخ الإسلامي.
كما رجعنا إلى بعض المقالات التي نشرت في The Muslim Worldالتي نشرتها Hartford Seminary Foundation في الولايات المتحدة الأمريكية. المراجع المذكورة هنا هي تلك التي توجد في المجلدات التي أعيد نشرها من طرف Kraus Reprint Corporationفي نيويورك سنة 1966. والمقالات المتعلقة بموضوع جمع القرآن والمصاحف الأولى هي:
بالإضافة إلى هذه الأعمال سنرجع باستمرار، وعلى الخصوص في المقدمة، إلى الدراسات التالية التي نشرت في جنوب إفريقيا:
* * *
الفصل الأول: المرحلة الأولى لجمع القرآن
1 - تطور القرآن في عهد محمد
إن أي بحث في موضوع جمع القرآن يجب أن يبدأ بالنظر في مميزات الكتاب نفسه كما بلَّغه محمد إلى أصحابه. فالقرآن لم يُبَلَّغ أو يوحى به مرة واحدة كما يعتقد المسلمون بل جاء على أجزاء خلال فترة من الزمن دامت 23 سنة امتدت منذ أن بدأ محمد يدعو إلى الإسلام في مكة سنة 610 ميلادية وحتى وفاته في المدينة المنورة سنة 632 ميلادية. ففي القرآن نفسه نجد:
قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا[2]
وأيضًا، لم تصلنا لا من محمد ولا من أصحابه أية معلومات عن الترتيب الزمني للفقرات حيث أنه حين بُدِءَ في جمعها على شكل سور لم يؤخد بعين الاعتبار لا الموضوع ولا التسلسل من حيث النزول. كل العلماء المسلمون يُقِرُّون بأن جل السور وخاصةً الطويلة منها هي خليط من المقاطع التي ليست بالضرورة متصلة ببعضها البعض حسب التسلسل الزمني. مع مرور الوقت أصبح محمد يقول لكُتَّابه : "ضعوا أية كذا في موضع كذا"[3]، وهكذا أصبحت تضاف إلى الأجزاء التي كانت مجموعة آنذاك مقاطع أخرى إلى أن أصبحت سورة مكتملة. بعض هذه السور كانت لها أسماء في عهد محمد كما يتبين لنا من خلال الحديثين النبويين التاليين:
من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه[4]
من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ من الدجال[5]
وفي نفس الوقت، هناك دلائل على وجود سُوَرٍ لم يعطها محمد أية أسماء. فسورة الإخلاص (رقم 112) على سبيل المثال، لم يُسَمِّها محمدٌ على الرغم من أنه تكلم عنها مُطَوَّلاً وذكر أنها تساوي ثلث القرآن[6].
وحين صارت الآيات القرآنية تتكاثر أصبح أصحاب محمد يكتبون بعضًا منها ويحفظون البعض الآخر عن ظهر قلب. فمن الظاهر أن الحفظ كان يشكل الطريقة الرئيسية للحفاظ على نص القرآن لأن كلمة "قرآن" تعني "القراءة"، ولأن أول كلمة قال محمد إنها نزلت عليه حين حصلت له رؤيا جبريل في غار حراء كانت كلمة "إقرأ"[7] فكانت القراءة الشفهية ذات قيمة عالية وكانت جد متداولة بين الناس. ومع كل هذا ففي القرآن نفسه ما يدل على أنه دوَّنٌ كِتابيًا كما تشهد الآية التالية:
في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي كرام بررة[8]
هناك أيضًا حجج على أن أجزاءًا مما كان موجودًا من القرآن في المرحلة المكية قد كتب آنذاك. هناك رواية تحكي أن عمر بن الخطاب حين كان لا يزال كافرًا ضرب أخته في بيتها بمكة حين سمعها تقرأ بعض القرآن فلما رأى ما أصابها من الدم قال لها:
اعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد[9]
وحين قرأ قسطًا من سورة طه[10] التي كانت أخته وزوجها يقرآنها قرر الدخول في الإسلام. مع هذا يتضح لنا أن الحفظ كان هو المنهج السائد إلى حين وفاة محمد وكانت تعطى له أهمية أكبر. ففي الحديث النبوي ما يدل على أن جبريل كان يحقق ويراجع القرآن مع محمد كل سنة خلال شهر رمضان وفي السنة الأخيرة راجعه معه مرتين. عن فاطمة ابنة محمد جاء:
أسر النبي صلعم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي[11].
لقد كان بعض الصحابة المقربين من محمد يكرسون كل جهدهم لتعلم القرآن حفظًا عن ظهر قلب. من بين هؤلاء نجد من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد وأبو الدرداء[12] بالإضافة إلى مجمع بن جارية الذي قيل أنه لم يحفظ إلا بضعة سور في حين كان عبد الله بن مسعود، وهو من المهاجرين ومن أوائل الصحابة، يحفظ أزيد من تسعين سورة من بين السور المائة وأربعة عشر التي يحتويها القرآن وتعلم البقية من مجمع (بن سعد كتاب الطبقات الكبير مجلد 2)[13].
لا تتوفر لدينا أية معلومات كافية عن مقدار ما تمت كتابته من نص قرآني في عهد محمد. وبالتأكيد ليس هنالك أي دليل على أن مجموع القرآن قد كتب آنذاك في مصحف واحد سواء تحت الإشراف المباشر لمحمد أو غيره. من خلال المعلومات التي تتوفر لدينا حول جمع القرآن بعد وفاة محمد (سنستعرضها لاحقًا) نستنتج أن القرآن لم يتم أبدًا وضعه في مصحف واحد في عهد محمد. توفي هذا الأخير فجأة سنة 632 ميلادية بعد مرض لم يدم طويلاً وبوفاته اكتمل القرآن وانقضى نزوله ولم يعد من الممكن إضافة آيات أخرى إليه نظرًا لانتهاء نبوة محمد. حين كان لا يزال على قيد الحياة كانت هناك دائمًا إمكانية نزول أجزاء جديدة من القرآن ولهذا لم يكن من اللائق جمع النص في كتاب واحد، وهو أيضًا ما يفسر كون القرآن بقي مفرقًا بين ما في ذاكرة بعض الناس وما في مختلف المواد التي كان مكتوبًا عليها وقت وفاة النبي.
سنرى فيما بعد أنه بشهادة القرآن نفسه كان من الوارد نسخ بعض الآيات خلال فترة النزول (بالإضافة إلى ما تم نسخه من قبل) وهذا ما حال دون جمع النص في كتاب واحد ما دامت إمكانية نسخه قائمة.
إضافة إلى كل هذا يظهر لنا أنه لم تكن هناك سوى نزاعات قليلة حول نص القرآن فيما بين الصحابة حين كان محمد لا يزال على قيد الحياة، خلافًا لما سيحدث بعد موته. إن كل هذه العوامل تفسر غياب نص قرآني رسمي وموحد وقت وفاته. إن إمكانية نسخ أجزاء من القرآن واحتمال نزول آيات جديدة - لا يوجد في القرآن ما يدل على تمامه أو على استحالة نزول آيات جديدة - حالا دون محاولة جمعه خلافًا لما قام به أصحاب محمد بعد وفاته. يتبين كذلك أن الآيات القرآنية صارت تنزل على محمد بشكل مكثف قبيل وفاته ولذلك لم يكن ممكنًا جمعها.
حدَّثنا عَمْرُو بن محمد حدَّثنا يعقوب بن إِبراهيم حدَّثنا أَبي عن صالح بن كَيْسَانَ عن ابن شهاب قال أَخْبَرني أنس بن مالك رضي اللَّهم عنهم أنَّ اللَّه تعالى تابع على رسوله صَلَّى اللَّهم عليه وسلَّم الوحي قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي ثمَّ توفِّي رسول اللَّه صلَّى اللَّهم عليه وسلَّم بعد[14].
عند نهاية المرحلة الأولى التي مر بها القرآن نجد أن محتواه كان موزعًا بشكل واسع في ذاكرات الناس، بينما كانت بعض أجزاءه مكتوبة على مختلف المواد التي كانت تستعمل آنذاك في الكتابة. لكن لم يكن هنالك أي نص موحد أمر به للأمة الإسلامية. لقد ذكر السيوطي أن القرآن قد كتب كله في عهد محمد وبقي محافظًا عليه بعناية بالغة لكنه لم يجمع في موضع واحد قبل موته[15] وقيل إنه كان متوفرًا بأكمله مبدئيًا (في ذاكرة الصحابة وأيضًا على شكل مكتوب). أما التسلسل النهائي للسور فقد قيل إن محمد قد أمر به شخصيًا.
2 - أول جمع للقرآن في عهد أبي بكر
إذا كان محمد قد ترك بالفعل نصًا كاملاً ومجموعًا كما يزعم العلماء المسلمون[16] فلماذا كانت هناك حاجة إلى جمعه بعد وفاته؟ لقد كان فعلاً من المنطقي أن لا تبدأ عملية الجمع إلاّ بعد أن تنتهي الرسالة بموت الرسول. الرواية الشائعة حول جمع القرآن في أول الأمر تنسب هذا العمل إلى زيد بن ثابت الذي كان من بين الصحابة الذين كانت لهم دراية عميقة بالقرآن.
سنرى فيما بعد أن هناك أدلة كثيرة على أن صحابة آخرون قاموا هم كذلك بجمع القرآن في المصاحف بشكل مستقل عن زيد وذلك بعد وفاة محمد بفترة وجيزة. لكن المشروع الأكثر أهمية هو ذلك الذي قام به زيد لأنه تم بأمر رسمي من أبي بكر أول خليفة في الإسلام. كتب الحديث النبوي أعطت أهمية بالغة لهذا الجمع الذي قام به زيد بن ثابت والنص الذي نتج عنه هو الذي أصبح ذا طابع رسمي خلال خلافة عثمان.
بعد وفاة محمد مباشرة ارتدت بعض القبائل العربية عن الإسلام بعدما كانت قد اعتنقته قبل مدة قصيرة. على إثر هذا اضطر أبو بكر إلى إرسال جيش مكون من أوائل المسلمين لإخضاعها. فقامت معركة اليمامة التي سقط فيها العديد من صحابة محمد الأقربون الذين أخذوا القرآن مباشرة من عنده. والحديث التالي يصف لنا ما حدث بُعيد هذه الأحداث:
حدثنا موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي اللهم عنهم قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي اللهم عنهم إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى اللهم عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي اللهم عنهمما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم[17].
انتهى الأمر بزيد بن ثابت إلى قبول الفكرة مبدئيًا بعد إقناع أبي بكر وعمر إياه بضرورة الأمر. وقبل أن يجمع القرآن في كتاب واحد. يتضح جليًا من خلال هذه الرواية أن جمع القرآن كان أمرا لم يقم به "رسول الله".
وتردد زيد إزاء المهمة التي أسندت إليه كان سببه من جهة كون محمد نفسه لم يهتم بجمع القرآن، ومن جهة أخرى ضخامة المشروع. ما يدل على أن المهمة لم تكن بالسهلة بتاتًا. فإذا كان زيد يحفظ القرآن جيدًا ويعرفه بأكمله عن ظهر قلب ولا يجهل أي جزء منه وإذا كان عدد من الصحابة يتوفرون كذلك على مقدرة هائلة في مجال الحفظ والإستظهار فإن عملية جمع القرآن لن تكون إلا سهلة (خلافًا لما جاء في حديث البخاري المذكور أعلاه). فلم يكن على زيد إلا أن يكتب ما كان يحفظ من القرآن في ذاكرته ويطلب من الصحابة أن يضبطوا ما كتب. يزعم ديزاي وبعض الكتاب الأخرون أن كل الحفاظ من أصحاب محمد كانوا يعرفون القرآن بأكمله عن ظهر قلب، كلمةً كلمةً وحرفًا حرفًا. وذهب ديزاي بعيدًا في مزاعمه حين قال إن هذه القدرة الهائلة على حفظ القرآن هي موهبة إلهية :
إن قوة الذاكرة ملكة وهبها الله للعرب لدرجة أنهم كانوا يحفظون الآلاف من أبيات الشعر ببالغ السهولة. الاستعمال الكامل لهذه الموهبة هو ما مكن من حفظ القرآن وصيانته من الضياع[18].
يذهب بعد هذا إلى وصف استظهار القرآن بأنه "قوة حفظ ذات طبيعة إلهية". والنتيجة المنطقية لهذا الزعم هي أن جمع القرآن كان من أسهل الأمور. فإذا كان زيد والقراء الآخرون يعرفون القرآن بكامله حتى آخر كلمة منه بدون أي غلط أو نقصان وبرعاية ربانية - هذا ما يدعيه العلماء المسلمون - فمن غير المعقول أن نجده - أي زيد - يقوم بجمع القرآن بالشكل الذي فعله؛ حيث، عوضًا عن أن يعتمد فقط على ذاكرته مباشرة نجده يبحث عن النصوص في مختلف المصادر: "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم"[19].
لقد رأينا سابقًا أن القرآن كان وقت وفاة محمد مفرقًا بين ما كان في ذاكرة الصحابة وما كان مكتوبًا على مختلف المواد التي كانت تستعمل آنذاك في الكتابة. إلى هذه المصادر لجأ الصحابي الشاب حين كان يُعِد لجمع القرآن في مصحف واحد. والمصدران الرئيسيان من بين المصادر التي ذكرت هما "الرقاع" و"صدور الرجال"[20]. لم يعتمد زيد على ذاكرة الناس فقط بل اعتمد كذلك على ما كان مكتوبًا أيّ كانت طريقة كتابته (اللخاف أي الحجارة الرقاق الخ..)، والتجأ إلى كثير من الصحابة وإلى جميع المواد التي كانت أجزاء من القرآن مكتوبة عليها. لم يكن هذا تصرف شخص يعتقد أن الله وهبه ذاكرة خارقة للعادة يمكنه الاعتماد عليها كليًا في مهمته بل تصرف ككاتب نبيه كان يريد جمع القرآن من جميع المصادر الممكنة. كان هذا تصرف رجل يعي كل الوعي أن النص القرآني كان متناثرًا في أماكن عدة لدرجة أنه وجب جمع كل ما أمكن جمعه من أجل الحصول قدر المستطاع على نص كامل نسبيًا.
أقدم الروايات في الإسلام تبين لنا بوضوح أن زيدًا قام ببحث على نطاق واسع بينما نجد أن علماء متأخرين زعموا أنه اعتمد على ما دُون كتابيًا على مختلف المواد: عظام الحيوانات، الرقاع، جلود الحيوانات الخ.. التي كانت محفوظة في بيت محمد. وزعموا أن زيدًا لم يفعل شيئا أكثر من جمعه لهذه النصوص من أجل الاحتفاظ بها في موضع واحد.
يقول الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن إن محمدا كان يأمر بكتابة القرآن ولذلك حين أمر أبو بكر بجمع القرآن في مصحف واحد وُجِدت المواد التي كان مكتوبًا عليها "في دار رسول الله التي نزل فيها"[21] فجُمِعت وحُدِّدت لكي لا يضيع منها شيء. لكن يتضح من خلال ما دُوِّن في إطار الحديث النبوي أن زيدًا قام ببحث واسع النطاق عن هذه المواد التي كتبت عليها أجزاء من القرآن. ديزاي يجاحد قائلاً إن البحث الذي قام به زيد إنما كان مقتصرًا على المواد التي كُتب عليها القرآن "بين يدي رسول الله" لأن زيدًا كان هو الصحابي الوحيد الذي أتيحت له الفرصة لكي يكون جنب محمد حين جاءه جبريل ورتل معه القرآن آخر مرة[22].يضيف ديزاي أنه رغم وجود نصوص قرآنية أخرى في تلك الفترة فهي لم تكن تتمتع بمصداقية كاملة لأنها لم تكتب تحت الإشراف المباشر لمحمد إنما كتبت من طرف أصحابه الذين اعتمدوا في ذلك على ما استطاعوا حفظه في ذاكراتهم. يمتنع ديزاي عن إعطاء أية دلائل أو نصوص من أي نوع كانت ولا يُرينا المصادر التي اعتمد عليها في البرهنة على مزاعمه والتي من المفروض أن تكون من أقدم ما دُوِّن من التراث الإسلامي. في الواقع كون القرآن عُرض مرتين في آخر المطاف كان سرًا لم يبح به محمد سوى لابنته فاطمة الزهراء[23].
قال مسروق عن عائشة عن فاطمة عليها السلام: "أسر إلي النبي صلى اللهم عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي". فكيف أمكن أن يكون هذا سرًا إذا كان زيد بن ثابت حاضرًا في هذه المناسبة؟
وفي نفس السياق نعرف من خلال أقدم ما دُوِّن حول جمع القرآن خلال خلافة أبي بكر أنه لم يكن هناك أي تمييز بين ما كتب من القرآن تحت إمرة محمد أو غيره من المصادر. ولا شيء يوحي بأن زيدًا اعتمد على الأول دون الثاني. وكما سنرى لاحقًا فإن هذه التفاسير الحديثة العهد نسبيًا كان الغرض منها التأكيد على أن القرآن جمع في ظروف مثالية لكنها لا ترتكز على أية نصوص قديمة وأصيلة للبرهنة على مزاعمها.
هناك حكايات مفادها أنه كلما نزل شيء من القرآن كان محمد يطلب من كتابه ومن بينهم زيد أن يكتبوه[24].
حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) (والمجاهدون في سبيل الله) قال النبي صلى اللهم عليه وسلم ادع لي زيدًا وليجئ باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة، ثم قال اكتب (لا يستوي القاعدون) وخلف ظهر النبي صلى اللهم عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم الأعمى قال: يا رسول الله فما تأمرني فإني رجل ضرير البصر فنزلت مكانها (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) (والمجاهدون في سبيل الله ) (غير أولي الضرر).
لكن لا شيء يؤكد أن القرآن كان مجموعًا بأكمله في بيته. هناك أيضًا روايات عديدة في كتاب المصاحف لابن أبي داود تشير إلى أن أبا بكر كان أول من قام بتدوين القرآن نذكر من بينها :
حدثنا عبد الله قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن حفص قال حدثنا خلاد قال حدثنا سفيان عن السدى عن عبد خير عن علي قال: رحمة الله على أبي بكر كان أعظم الناس أجرًا في جمع المصاحف، وهو أول من جمع بين اللوحين[25].
هنا أيضًا نجد أدلة قوية على أن أشخاصًا آخرين سبقوا أبا بكر لجمع القرآن في مصحف واحد:
عن بن بريدة قال: أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة[26].
سالم هذا كان من بين أربعة رجال أمر محمد أصحابه أن يأخذوا القرآن عنهم[27].
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو عن إبراهيم عن مسروق ذكر عبدالله بن عمرو عبدالله بن مسعود فقال لا أزال أحبه سمعت النبي صلى اللهم عليه وسلم يقول خذوا القرآن من أربعة من عبدالله بن مسعود وسالم ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب...
وكان من القراء الذين قتلوا في معركة اليمامة. وبما أن أبا بكر لم يأمر بجمع القرآن إلا بعد هذه المعركة فمن البديهي إذًا أن سالمًا سبق زيد بن ثابت في جمع القرآن.
3 - نظرة عامة حول المرحلة الأولى لجمع القرآن
ونلاحظ هنا أن اتجاهًا معينًا أصبح يبرز بوضوح. الروايات الرسمية تحاول أن تظهر لنا أن المشروع الذي قام به أبو بكر بخصوص جمع القرآن كان الأهم والوحيد الذي تم بعد وفاة محمد. وقد حاول العلماء بعد ذلك أن يدعموا هذه الفكرة مدعين أن زيدًا كان الشخص الوحيد المؤهل للقيام بالمهمة، وأن القرآن كان بشكل أو بآخر موجودًا في بيت محمد، وأن الأشخاص الذين قاموا بعملية الجمع إنما اعتمدوا على ما تمت كتابته تحت الإشراف الفعلي لمحمد نفسه ولا شيء غير هذا. ويذهب العلماء المسلمون أبعد من هذا حيث يزعمون أن المصحف كما تم جمعه كان صورة طبق الأصل لما جاء به محمد لم يضف إليه لا حرف ولا كلمة ولا نقطة ولم يفتقد منه أي شيء من هذا القبيل.
من جهة أخرى وجب القول بأن التحليل الموضوعي لمسألة جمع القرآن في المرحلة البدائية، والذي يجب أن يعتمد على المعطيات المدونة، سيمكننا من إبراز أن النص الذي جمعه زيد والذي أصبح فيما بعد النموذج الذي اعتمد عليه المصحف العثماني ما هو إلا المنتوج النهائي لمحاولة صادقة لجمع القرآن انطلاقًا من مصادر متنوعة كان الرجوع إليها أمرًا ضروريًا.
يجب علينا الآن أن نقوم بتقييم للمصادر التي اعتُمِد عليها بإعادة النظر فيها. اعتمد زيد بن ثابت على صدور الرجال وعلى ما كُتِب من القرآن كيفما كانت المواد التي استعملت في ذلك. لأنه، ومهما كانت المجهودات التي قام بها الصحابة الأوائل لحفظ القرآن بشكل كامل فإن ذاكرة الإنسان تبقى دائمًا عرضة للنقصان والخطأ. وإذا أخذنا بعين الإعتبار طول القرآن (أي ما وجب حفظه) فإنه ليس من الغريب أن نجد اختلافات في طرق قراءة القرآن. ما سيظهر لنا جليًا أن هذا الارتسام مبني على أسس صحيحة.
وفكرة أن زيد اعتمد على ما كان متناثرًا في ذاكرات الصحابة وجب أن تؤدي إلى بعض النتائج المنطقية التي لا مفر منها، حيث هناك احتمال ضياع أجزاء من النص لأن هذا الأخير لم يكن مجموعًا في كتاب واحد بل كان متناثرًا بشكل واسع. وهذا ما سيتضح حين سنقدم الدلائل المأخوذة من التراث الإسلامي القديم.
المثال النموذجي الذي وجب تقديمه بخصوص هذه المسألة يتجلى في الحديث التالي الذي يؤكد بوضوح أن أجزاء من القرآن فُقِدت نهائيًا إثر مقتل بعض الحفاظ من الصحابة في معركة اليمامة:
حدثنا أبو الربيع قال أخبرنا بن وهب قال أخبرني يونس عن بن شهاب قال: بلغنا إنه انزل قرآن كثير فقُتِل علماؤه يوم اليمامة الذين كانوا قد وعوه فلم يُعْلَم بعدهم ولم يُكْتَب، فلما جمع أبو بكر وعمر وعثمان القرآن لم يوجد مع أحد بعدهم[28].
لا يمكن تجاهل كون هذا الحديث يستعمل أسلوب النفي بوضوح : "لم يعلم"، "لم يكتب"، "لم يوجد"؛ تأكيد ثلاثي على أن هذه الأجزاء من القرآن التي كان يحفظها قراء اليمامة فقدت بدون رجعة. وفي المقابل يظهر أنه من الصعب تصور أية زيادة أو تغيير في القرآن بعد وفاة محمد لأن أجزاء النص كانت موجودة بطريقة متناثرة عند الصحابة لكن إمكانية ضياع بعض الأجزاء من النص تبقى واردة كما ذكرنا سالفًا. إذا كان هناك جزء مهم من القرآن قد احتُفِظ به عن طريق الحفظ فهذه ضمانة أكيدة أن لا أحد من الصحابة كان بإمكانه إضافة شيء إلى القرآن دون أن يلقى معارضة الآخرين[29].
وفي النهاية، حين نستعرض المصادر الأصلية يجب ألا نستغرب من كون مصاحف أخرى كانت حيز الجمع زيادة على المصحف الذي كلف زيد بجمعه. كان هنالك عدد من الصحابة الذين كانت لهم دراية واسعة بالقرآن وكان من الحتمي أن يحاولوا توثيق ما كان لا يزال مثبتًا في ذاكراتهم على شكل مصحف مستعينين كذلك بما كان مكتوبًا. كنتيجة حتمية سنرى أن ما توقعناه من نتائج بخصوص جمع كتاب كالقرآن أمر تدعمه النصوص التاريخية خلافًا للفرضية القائلة بأن الحفاظ على الكتاب تم بفضل العناية الربانية دون أدنى نقصان أو تغيير.
وإمكانية فقدان بعض أجزاء النص واردة في عدة أحاديث نبوية تبين بعضها أن محمدًا كان هو نفسه عرضة لنسيان بعض أجزاء القرآن:
حدثنا موسى يعني ابن إسماعيل حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي اللهم عنها أن رجلاً قام من الليل فقرأ فرفع صوته بالقرآن فلما أصبح قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يرحم الله فلانًا كائن من آية أذكرنيها الليلة كنت قد أسقطتها[30].
لقد وضع مترجم المرجع السابق إلى الإنجليزية ملاحظة هامشية بين فيها أن محمدًا لم ينس بعض الآيات تلقائيًا بل إن الله هو الذي أنساه إياها مقيمًا بذلك عبرة للمسلمين. ومهما كانت الغاية والأسباب فالمهم هو أن محمدًا تعرض لنسيان بعض القرآن الذي أقر أنه أوحي إليه. والقول بأن النسيان كان من الله إنما يعتمد على الآية التالية:
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير[31].
كلمة آية تعني النص القرآني ذاته وكلمة ننسها أصلها من فعل نسي الذي يعني، أينما وجد في القرآن (وردت 45 مرة على مختلف الأشكال)، فقدان الشيء من ذاكرة الإنسان.
لنعطي الآن خلاصة لما قيل في هذا الجزء.
حاول زيد بن ثابت، الذي كان من الصحابة ذوي المعرفة العميقة بالقرآن، أن يدون قدر مستطاعه مصحفًا أقرب ما يكون إلى الموثوقية. وروح الأمانة التي اتصف بها خلال قيامه بمشروعه ليست موضع شك. لذلك يمكننا أن نقول بأن المصحف الذي قدمه في النهاية إلى أبي بكر لم يكن إلا تعبيرًا صادقًا عما جمعه من صدور القراء ومن ما كتب على مختلف المواد، لأن هذا هو ما تعكسه النصوص المأخوذة من التراث الإسلامي الأصيل. نفس النصوص تنفي الفرضية الحديثة القائلة بأن المصحف الحالي هو نسخة طبق الأصل للقرآن الأول لم يحذف منها شيء ولم يمسسها أي تغيير. وليس هناك ما يدل على أن النص تعرض للتحريف، وكل محاولة لتأكيد ذلك (كما فعل بعض الباحثين الغربيين) يمكن دحضها بسهولة. بالمقابل هناك أدلة عديدة على أن القرآن كان غير مكتمل وقت تدوينه في مصحف واحد (كما رأينا سابقًا) وأن كثيرًا من فقراته وآياته انتقلت على أشكال مختلفة. سنتمكن من خلال هذا الكتاب من استعراض الوقائع التي تبرهن على مقولاتنا وكذا نتائجها الحتمية.
4 - الآيات التي فقدت ثم وجدت عند أبي خزيمة الأنصاري
قبل أن نسدل الستار على بحثنا حول جمع القرآن في عهد أبي بكر ارتئينا أنه من المفيد تحليل ما ذكره زيد بخصوص آيتين قال إنه لم يجدهما إلا عند أبي خزيمة الأنصاري. نص الحديث هو كالتالي:
... حتَّى وجدتُ آخر سورة التَّوبة مع أَبي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لمْ أجدها مع أحدٍ غيره (لقد جاءكمْ رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّمْ) حتى خاتمة براءة فكانت الصُّحُفُ عند أبي بكر حتى توفَّاهُ اللَّه ثمَّ عند عُمَرَ حَيَاتَهُ ثمَّ عند حَفْصَةَ بنت عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهم[32].
يتبين من خلال هذا الحديث أن زيد بن ثابث اعتمد بخصوص الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة على مصدر واحد فقط لأن لا أحد غير أبي خزيمة كان على دراية بهما ولو لم يكن الأمر كذلك لفقدتا من القرآن. فمن المستبعد إذن أن يكون كثير من الحفاظ قد علموا جميع القرآن إلى آخر حرف منه لأنه كان متناثرًا لدرجة أن بعض المقاطع لم يكن يعرفها إلا القليل من الصحابة، وفي الحالة التي نحن بصددها كان هناك شاهد واحد عليها فقط - أبي خُزيمة الأنصاري.
إن التأويل الطبيعي لهذه الرواية يحطم الشعور السائد في الأوساط الإسلامية الذي مفاده أن القرآن بقي مصونًا محفوظًا لأن محتواه كان شائعًا بين الصحابة الذين لم يبخلوا بجهدهم لحفظه. تفسير ديزاي لهذه الرواية يستخلص من المقطع التالي من كتيبه The Quraan Unimpeachable:
يتضح جليًا مما قاله حضرة زيد أن من بين الصحابة الذين كتبوا القرآن بين يدي رسول الله كان أبو خزيمة الأنصاري الوحيد الذي وُجِدت عنده الآيتين الأخيرتين من سورة براءة[33].
نرى هنا أن ديزاي يدعي أن قولة زيد تعني أن أبا خزيمة كان فقط الوحيد الذي أتيحت له فرصة كتابة الآيتين تحت الإشراف المباشر لمحمد على الرغم من أن الحديث كما دَوَّنه البخاري لا يشير بتاتًا إلى شيء من هذا القبيل. يضيف ديزاي:
لم يكن هناك أدنى شك أن الآيتين كانتا من ضمن القرآن حيث كان مئات الصحابة يحفظونهما. زيادة على هذا فقد كانتا مكتوبتين عند كل الصحابة الذين كانوا يحفظون القرآن بأجمعه لكن خلافًا لأبي خزيمة لم يكتبوهما بين يدي رسول الله صلعم[34].
لم يُحَمِّل مولانا نفسه عبء تقديم أية أدلة على مزاعمه هذه. وبالتأكيد لا توجد أية روايات من الحديث توحي بأن مئات من الصحابة كانوا يعرفون هاتين الآيتين وأن بعضهم أتيحت له فرصة كتابتهما عبر النقل الغير المباشر وأن أبا خزيمة كان الوحيد من بين من كتبهما بعد أن تلقاهما بغير واسطة أي من عند محمد مباشرة. امتناع ديزاي عن تقديم أدلة أو نصوص تؤكد مزاعمه أمر له مغزى عميق.
في مقال له نُشر في مجلة البلاغ يزعم الصديق أيضًا أن زيدًا حين قال "لم أجد آية كذا.." كان يعني في واقع الأمر أنه لم يجدها مكتوبة. وكما قيل سابقًا، ليس في نص الحديث ما يبرر تأويلاً من هذا النوع. فما هو إذًا المصدر الذي استوحى منه هؤلاء العلماء النوابغ مواقفهم؟ للجواب عن هذا السؤال يجب الرجوع إلى مقطع من كتاب فتح الباري في شرح البخاري لابن حجر العسقلاني:
قوله: (لم أجدها مع أحد غيره) أي مكتوبة لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة. ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة[35].
المصدر الذي استُنبطت منه هذه المواقف لا يعتبر من أقدم المصادر التي تحدثت عن موضوع جمع القرآن إذ لا يعد إلا تفسيرًا لصحيح البخاري ألفه في زمن متأخر نسبيًا العلامة المشهور بن حجر العسقلاني الذي عاش بين سنة 773 هـ (1372 م) وسنة 852 هـ (1451 م). هذا التأويل الخاص لقولة زيد يفصله إذن ما لا يقل على ثمانية قرون عن زمن محمد حيث أنه منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا أصبحت الفكرة السائدة في الأوساط الإسلامية هي أن الصحابة كانوا يحفظون القرآن بأكمله ولا يجهلون أي جزء منه. فالأمر إذن يتعلق فقط بتأويل مريح الغرض منه إثبات فرضية حديثة العهد نسبيًا. لكن مع الأسف ليس في نص الحديث ذاته ما يدعم هذا التأويل. يضيف بن حجر: "ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها كما تذكرها زيد[36]".
في الوقت الذي يعلن فيه ديزاي بجرأة لا مثيل لها أن الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة كانتا "بدون أدنى شك" ضمن القرآن وأنهما كانتا معروفتين لدى المئات من الصحابة عن طريق الحفظ وأن صحابة آخرين ذهبوا إلى حد كتابتهما، في الوقت نفسه نجد أن النص الذي يستشهد به لا يذهب أبعد من القول بأنه من المحتمل أن يكون زيد حين أخذ الآيتين من أبي خزيمة قد أعطى الفرصة للصحابة الآخرين أن يتذكروا سماعهما من قبل، وهذا هو المقصود من عبارة "لعلهم". بدون أدنى حشمة يُحَول ديزاي اقتراحًا مليئًا بالحذر مفاده أن صحابة آخرين من المحتمل أن يكونوا قد تذكروا سماع الآيتين من قبل إلى إعلان أنهما كانتا معروفتين عند مئات الصحابة "بدون أدنى شك".
يتضح لنا إذن أن العلماء المسلمين الحديثين يبذلون كل جهدهم لإثبات فرضية غالية على قلوبهم - كمال القرآن غير القابل للنقاش - عوض تقديم الأدلة الموضوعية كما تتضح من خلال المصادر الإسلامية القديمة. بالرغم من أن المصدر الذي اعتمد عليه ديزاي ينتمي إلى حقبة تارخية حديثة نسبيًا إلا أنه لا يستطيع مقاومة اندفاعاته ليجعل منه ادعاء يهم الوقائع وليس فقط الفرضيات والتآويل. يضيف بن حجر في نفس الصفحة:
وحكى ابن التين عن الداودي قال: لم يتفرد بها أبو خزيمة بل شاركه زيد ابن ثابت فعلى هذا تثبت برجلين[37].
وهذا ما يدل على أن بعض العلماء الآخرين كانوا يعتقدون أن قولة زيد يجب أن تستعمل كبرهان على أن الآيتين لم تكونا مكتوبتين لهذا وجب أن تأخذ بمعناها الواضح والمباشر الذي يبين بجلاء أن الآيتين لم يكن يعرفهما أحد غير أبي خزيمة.
لقد جاء في كتاب المصاحف لابن أبي داود ما يُفَنِّد مزاعم هؤلاء العلماء:
فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين فلم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخر السورة، فقال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فكيف ترى أن تجعلهما؟ قال: أختم بهما آخر ما نزل من القرآن فختمت بها براءة.
هذه الرواية تشير إلى أن الحدث كان في زمن عثمان وليس أثناء جمع القرآن في عهد أبي بكر لكن ليس هناك اختلاف جوهري مع الحدث الذي نحن بصدد مناقشته. ميزة هذه الرواية هي أنها تبرز بوضوح أن زيد والصحابة الآخرون افتقدوا كليًا هاتين الآيتين عند نسخ القرآن. في الواقع القول بأن زيدًا وجدهما عند أبي خزيمة يعني أن هذا الأخير هو الذي أثار الانتباه حول وجودهما ولولاه لما كانتا ضمن القرآن، فبالتأكيد لم يعثر عليهما زيد على إثر البحث الذي قام به لجمع القرآن. يتضح كذلك من خلال النص المذكور أن أبا خزيمة سئل عن موضعهما داخل المصحف فاقترح أن يضافا إلى آخر ما نزل من الوحي يعني آخر سورة التوبة.
إذا سَلَّمْنا بحقيقة هذه الرواية بالإضافة إلى ما ورد من حديث البخاري وجب الاعتراف ببعض الحقائق التي لا مفر منها: فُقِدَت آيتان كليًا وما وجدتا إلا بمبادرة شخصية من أبي خزيمة الذي أوضح بنفس المناسبة موضعهما داخل المصحف. لذلك لا يمكن للعلماء المسلمين أن يتبثوا فرضيتهم القائلة بوجود عدد كبير من الصحابة الذين كانوا يعرفون الآيتين إلا إذا جعلوا كلمة "تلقيت" تعني أن الطريقة التي تم بها توصيل الآيتين من محمد إلى أبي خزيمة كانت كتابية. لكن من المؤكد أن كلمة "تلقيت" عنى بها أبو خزيمة أنه أخذ الآيتين مباشرة من عند محمد وليس بالضرورة كتابيًا. وما أراد قوله هو أنه لم يأخذهما من مصدر ثانوي بل من محمد نفسه إذ ليس هناك ما يبرر أن الصحابي تلقاهما من محمد بشكل كتابي.
إن هذه التآويل المريحة تنافي بشكل مكشوف ما جاء في الروايات المدونة. على سبيل المثال لو كان زيد يعرف الآيتين جيدًا لما غفل عنهما ولما اضْطَرَّ أبو خزيمة لإثارة الانتباه إلى وجودهما بعدما نُسِيَتا بالكامل. وجب هنا أن نطرح على العلماء المسلمين هذا السؤال: انطلاقًا من التأويل الذي قمتم به هل يمكننا أن نعرف ما إذا كان زيد سيضيف هاتين الآيتين إلى القرآن لو لم يجدهما مكتوبتين بين يدي محمد على الرغم من أنهما كانتا معروفتين عند بعض الصحابة ومكتوبتين عند البعض الآخر دون أن يكون ذلك تحت الإشراف المباشر لمحمد؟
يتبين لنا من خلال هذا البحث أن المشروع الذي قام به زيد في عهد أبي بكر لم يكن سوى تجميعًا لنصوص قرآنية من مصادر مختلفة كانت متناثرة داخلها. كنتيجة لهذه الحالة فُقِدت أجزاء من القرآن على إثر وفاة بعض القراء في معركة اليمامة. ونجد في حالة أخرى أن جزء من القرآن لم يشهد عليه إلا شخص واحد (أبو خزيمة الأنصاري). قال زيد: تتبعت القرآن أجمعه... معلنًا بذلك أنه لم يكن يتوقع أن يجد القرآن بأكمله عند صحابي معين أو بشكل مكتوب في موضع واحد.
المصحف الذي جمعه زيد جاء نتيجة بحث موسع شمل ما كان يحفظه الصحابة وما كان مكتوبًا. اختلاف المصادر وتنوعها (الرقاع، اللخاف، صدور الرجال) لا يؤيد فكرة أن القرآن الذي جُمع كان كاملاً إلى أدنى نقطة أو حرف منه، ما يعني أن الفرضية التي يطرحها العلماء المسلمون ما هي إلا نتيجة شعور مبني على رغبة مسبقة وليس على الحقيقة والواقع الذي يمكن استخلاصه من المنقول الإسلامي القديم.
وللبحث صلة...
مترجم مجهول
تدقيق: أكرم أنطاكي