نقوس المهدي
كاتب
أتمنى على العروبيين والاسلاميين، على القوميين والدينيين، ان يوقفوا جدلهم الشهير الذي لا ينتهي ويعطوا أنفسهم، على الجانيين، لحظة تأمل، ويقرأوا معنا بقلب مفتوح وفكر هادىء الأسطر التالية من "مقدمة ابن خلدون" ليكتشفوا أن القضية التي يعتركون حولها بلا نتيجة، قد "حلها" الرجل قبلهم، وقبلهم بستة قرون، وانه قد حلها لصالحهم جميعاً أي لصالح المعسكرين المتناحرين معا، وأعطى كل ذي حق حقه، وحدد لكل وظيفة دورها بتآلف ودون تنازع..
إذا لنقرأ معا، بهدوء، الأسطر التالية من مقدمة ابن خلدون:
لا نجاح لدعوة دينية من غير ولاء قومي
تحت عنوان "في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم" يقول ابن خلدون: "إن كل أمر نحمل عليه الكافة فلابد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه، وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم (ان لا تخرق له العادة في الغالب بغير عصبية)".
ويقول عن الدينيين الذين لا يدركون أهمية رابطة العصبية في نجاح الحركات السياسية: "ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك.. وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر، كما قدمنا، وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم".
ما أشبه الليلة بالبارحة.. كأن الرجل يشخّص الأوضاع العربية الإسلامية اليوم.. ويأسي لهذه القطيعة بين المثل الدينية والقانون الطبيعي الذي قرره الله، أعني قانون الروابط الطبيعية بين البشر ولكن لنبق حيث نحن مع نصوص المقدمة، فما يزال فيها الكثير من الحكمة لسائر الأطراف المعنية!
بعد أن يقدم ابن خلدون أمثلة على إخفاق حركات الفقهاء والصوفية التي لم تعتمد على عصبية طبيعية اجتماعية يخلص إلى التذكير والتحذير من سلوك طريق التهلكة دون بصيرة واقعية: (وأمثال ذلك كثير، والغلط فيه: من الغفلة اعتبار العصبية في مثلها) أي إغفال دور الرابطة الطبيعية الاجتماعية في مثل هذه الحركات.
ثم ينتقل ابن خلدون إلى تقرير (الوجه الآخر) من هذه الحقيقة، بعد أن قرر وجهها الأول، بمنهجه المتكامل في النظر دائما إلى وجهي المسألة. (وهو المنهج الذي يفتقر إليه العقل العربي العام في الأغلب حتى يومنا هذا رغم انه أنجب مفكرا في مستوى ابن خلدون).
الدعوة الدينية تزيد الدولة قوة
يقول تحت عنوان: (ان الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها في عددها) موضحا كيف تسمو القيم الروحية بالرابطة الاجتماعية الطبيعية الموجودة والقائمة أصلا وكيف توجهها إلى الطريق الانساني السليم: (ذلك أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم.. وهذا وقع للعرب في صدر الإسلام في الفتوحات...).
ويؤكد تضافر العاملين معا، العامل الطبيعي الاجتماعي والعامل الروحي _اللذين يراد اصناع حرب أهلية غير مبررة بينهما اليوم _ فيقول: (والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة. وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في اقامة دينه. قال تعالى: (لو انفقت ما في الأرض جميعا ماألفت بين قلوبهم) وسرّه أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس ونشأ الخلاف، وإذا إنصرفت إلى الحق.. إتحدت وجهتها.. واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة).
ذلك أن الرابطة الطبيعية الاجتماعية التي يطلق عليها ابن خلدون مصطلح (العصبية) تكون في الحقيقة بمثابة (الوعاء) الذي يفتقر إلى (محتوى) يملأه. وطبيعة هذا الوعاء تتعدد بطبيعة ذلك المحتوى الجوهري الذي ينطوي عليه، كإنطواء الجسد على الروح، وسريان الروح في الجسد. والجسد بلا روح مادة ساكنة، والروح بلا جسد لا تحقق لها في عالم الطبيعة البشرية.
وما ذلك المحتوى الجوهري الذي يعطي الرابطة الطبيعية حيويتها المهذبة المتسامية في نظر ابن خلدون، سوى القيم الروحية التي تكون وازعا لعصبية الأمة ومرشدا لحافزها القومي، لأن هذا الوازع يكون على حد قوله مزيلا: (الغلطة والأنفة.. ومذمومات الأخلاق) ودافعاً الأمة إلى الأخذ بمحمودها، فتتألف كلمة القوم لإظهار الحق.. ويتم اجتماعهم، ويحصل لهم التغلب.
إذا لنقرأ معا، بهدوء، الأسطر التالية من مقدمة ابن خلدون:
لا نجاح لدعوة دينية من غير ولاء قومي
تحت عنوان "في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم" يقول ابن خلدون: "إن كل أمر نحمل عليه الكافة فلابد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه، وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم (ان لا تخرق له العادة في الغالب بغير عصبية)".
ويقول عن الدينيين الذين لا يدركون أهمية رابطة العصبية في نجاح الحركات السياسية: "ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك.. وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر، كما قدمنا، وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم".
ما أشبه الليلة بالبارحة.. كأن الرجل يشخّص الأوضاع العربية الإسلامية اليوم.. ويأسي لهذه القطيعة بين المثل الدينية والقانون الطبيعي الذي قرره الله، أعني قانون الروابط الطبيعية بين البشر ولكن لنبق حيث نحن مع نصوص المقدمة، فما يزال فيها الكثير من الحكمة لسائر الأطراف المعنية!
بعد أن يقدم ابن خلدون أمثلة على إخفاق حركات الفقهاء والصوفية التي لم تعتمد على عصبية طبيعية اجتماعية يخلص إلى التذكير والتحذير من سلوك طريق التهلكة دون بصيرة واقعية: (وأمثال ذلك كثير، والغلط فيه: من الغفلة اعتبار العصبية في مثلها) أي إغفال دور الرابطة الطبيعية الاجتماعية في مثل هذه الحركات.
ثم ينتقل ابن خلدون إلى تقرير (الوجه الآخر) من هذه الحقيقة، بعد أن قرر وجهها الأول، بمنهجه المتكامل في النظر دائما إلى وجهي المسألة. (وهو المنهج الذي يفتقر إليه العقل العربي العام في الأغلب حتى يومنا هذا رغم انه أنجب مفكرا في مستوى ابن خلدون).
الدعوة الدينية تزيد الدولة قوة
يقول تحت عنوان: (ان الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها في عددها) موضحا كيف تسمو القيم الروحية بالرابطة الاجتماعية الطبيعية الموجودة والقائمة أصلا وكيف توجهها إلى الطريق الانساني السليم: (ذلك أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم.. وهذا وقع للعرب في صدر الإسلام في الفتوحات...).
ويؤكد تضافر العاملين معا، العامل الطبيعي الاجتماعي والعامل الروحي _اللذين يراد اصناع حرب أهلية غير مبررة بينهما اليوم _ فيقول: (والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة. وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في اقامة دينه. قال تعالى: (لو انفقت ما في الأرض جميعا ماألفت بين قلوبهم) وسرّه أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس ونشأ الخلاف، وإذا إنصرفت إلى الحق.. إتحدت وجهتها.. واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة).
ذلك أن الرابطة الطبيعية الاجتماعية التي يطلق عليها ابن خلدون مصطلح (العصبية) تكون في الحقيقة بمثابة (الوعاء) الذي يفتقر إلى (محتوى) يملأه. وطبيعة هذا الوعاء تتعدد بطبيعة ذلك المحتوى الجوهري الذي ينطوي عليه، كإنطواء الجسد على الروح، وسريان الروح في الجسد. والجسد بلا روح مادة ساكنة، والروح بلا جسد لا تحقق لها في عالم الطبيعة البشرية.
وما ذلك المحتوى الجوهري الذي يعطي الرابطة الطبيعية حيويتها المهذبة المتسامية في نظر ابن خلدون، سوى القيم الروحية التي تكون وازعا لعصبية الأمة ومرشدا لحافزها القومي، لأن هذا الوازع يكون على حد قوله مزيلا: (الغلطة والأنفة.. ومذمومات الأخلاق) ودافعاً الأمة إلى الأخذ بمحمودها، فتتألف كلمة القوم لإظهار الحق.. ويتم اجتماعهم، ويحصل لهم التغلب.