نقوس المهدي
كاتب
هكذا هي الرياض قبل أكثر من خمسين عاماً أحياء قديمة ارتبطت بأحداث تاريخية لا تكاد في أوج إتساعها.. أن تبلغ عشرالرياض الحالية.. بيوت طينية تجاورها منازل شيدت بالأسمنت والبلوك المسلح، وحالة تحكي لك مرحلة من مراحل النماء الاقتصادي والعمراني، فالمحلات التجارية والمباني متعددة الأدوار والمطاعم الفاخرة والشوارع الواسعة بدأت كواقع ملموس مع بداية ومنتصف الثمانينات، ففي شارع الخزان وشارع الجامعة والمطار القديم مبانٍ مازالت شاهدة على عصر النهوض العمراني وبداية المدنية في مدينة الرياض التي استقبلت المباني الحديثة للوزارات والهيئات الحكومية في شارع المطار القديم، وتزينت بشارع العصارات ولبست حلتها الفاخرة بشارع الخزان وبناية الباخرة وشارع الوزير الذي وصف بأنه من محاسن الدنيا في ذلك الزمان، كما كانت بناية البرج في تقاطع شارع الجامعة مع المطار القديم -أزيلت قبل عام- من شواهد الرياض العامرة، وغير بعيدٍ عنها سوف تطل على حديقة الفوطة ومقهى «سميرا ميس»، ومطعم القباني، وخياط الأمراء، وبوفية «ابولو 11»، وجميعها مواقع يرتادها «الكبارية» الذين لن تجدهم في سوق الثلج «السمك حالياً» أو حراج الكويتية أو «حلة الأحرار».
وفي الوقت الذي كانت فيه إذاعة طامي تبث برامجها أكثر من ساعتين في اليوم كان النوم في أسطح المنازل سمة أهالي الرياض في فصل الصيف؛ الذين وصفهم أحد أبناء الدول العربية بأنهم ينامون «بكير» في حين لا يستنكف بعض أهاليها من ركوب الدباب أو الدراجة التي سميت في زمانٍ مضى «حصان إبليس»؛ في حين كانت الصفقات الرياضية لشراء لاعب «حريف» أو «مدرب» حاذق لا تخرج في سقفها الأعلى عن دباب وبضع المئات من الريالات، ولا عجب في ذلك الوقت أن يقتني المواطن الدباب أو «البسكليت» للذهاب إلى مقر عمله في شارع المطار أو المربع، أو بين الناصرية والفاخرية «الفوارة»، كما لم يكن ثمة بطالة ولا وجود للوافدين ولا تكاد أزقة الرياض تخلو من الباعة المتجولين «عطرنا» و»هريسة» وحتى حمار» القاز» الذي يخافه الصبيان ويزعمون أنهم رأوا بأمهات أعينهم «حمارة القايلة» في أزقة الرياض الضيقة!.
ظاهرة اجتماعية
كانت الرياض في قفزاتها الديموغرافية والاقتصادية تترجم الحالة الاجتماعية لأهالي الرياض الذين يغدون "خماصاً" ويروحون "بطاناً"؛ غير أن ثلة من عابري الطرق من "الطرقية والكدادة" كانوا يتوقفون أمام مقاه ٍومحطات تناثرت حول مدينة الرياض بشاحنتهم "اللوري" و"الأبلكاش" يسبقهم إليها أصحاب "التكاسي" وبعض "الزكرت"؛ لتبدأ الطلبات تنهال على ذلك الصبي الذي لا يكاد يحيط بطلبات زبائنه تارة "أربعة أسود"، وتارة "شاي عدني"، وتارة أخرى نص أو حتى ربع كبسة مع الثلاجة "جيك ماء".
«قهوة العويد» ملتقى «الشلة» و«الطرقية» و«الكدادة».. و«القروية» تمدنوا «كلٍ يولع بدافوره»!
كانت مقاهي الثمانينات ظاهرة اجتماعية لم تحكها لنا طرائف "الجاحظ" ولا رحلات "الأصمعي"، بل قد فاتت -ويا للأسف- عن قلم "بديع الزمان" و"أبن جبير"، ولو قدر الله لك أن تكون من أبناء ذاك الزمان وأعطيت فرصة للتجول في ردهات إحداها لسمعت أذنك في "مقهى العويد" -تقاطع طريق خريص مع خالد بن الوليد "انكاس"- مساجلات ومناكفات عن شؤون وشجون الطريق، وفي زاوية أخرى الحديث عن فيافي الدهناء وهواتف الجن والغول وحتى (العفريت الأزرق)، كما ستصغ إلى قصص "الكدادة" ومغامرات الطريق، ولا بأس من أن تشنف أذنيك ببعض القصائد ومليح الاشعار أبان الرحلات مع "أرامكو" يلقيها رجل من "الطرقية" لم يعتنِ بهندامه بقدراعتنائه بحنجرته، مردداً وهو في طريقه إلى رأس تنورة أبيات الحويفي الشهيرة:
يا عبيد من ينشدك عنا
سكان في رأس تنوره
من فوق سفنٍ يشلنا
عمال والنفس مخطوره
شط البحر قبلة منا
بديار من يلعب الكوره
قل للبني لا تباطنا
يمضي الحول ونزوره
قله ترانا تمدنا
كلن يولع بدافوره
قلبي على شوفكم حنا
وحالي من البعد منسوره
قهوة العويد
و"قهوة العويد" من أشهر المقاهي في الرياض على وجه الإطلاق، يؤمها الرياضيون، والصحافيون، والكتّاب، ورجال الأعمال، حيث يجدون فيها متنفساً لهم من حر المدينة، وليلها الذي يبعث في النفس السأم، والتعب، فيجتمعون كل في حلقة يتسامرون ويتبادلون الأحاديث والنكت وما استجد في مهنهم، أو أعمالهم، فاللاعبون يتحدثون عن أخطاء المباريات، ومفاتيح الفوز، وتكهنات متصدر الدوري، وانتقالات اللاعبين التي يكون ثمنها مغرياً، حيث تتم بشرط إعطاء اللاعب "بوت" جديداً من صناعة "الفلو" الذي كان يقوم بتفصيل "الجزم" للاعبين، أو دراجة نارية للاعب الاستثنائي، أو بين الصحافيين ومناكفاتهم مع بعضهم، ونوادرهم، وحكاياتهم في العمل.
من قصص الصحافيين
كان عدد كبير من الصحافيين يقصدون مقهى العويد بشكل شبه ليلي في الصيف، ومن بين هؤلاء تركي السديري، ومحمد الشعلان، وراشد فهد الراشد، وعبدالله نور، ومحمد سعيد باعشن، وسعد الحميدين، ويوسف الكويليت، والشاعر أيوب طه الذي كان وقتها مذيعاً متعاقداً مع الإذاعة السعودية، وكان صعلوكاً شبه متشرد لايعبأ بالتزام، أو يحافظ على مورد عيش، يأكل في أي مكان، وينام عند من يستقبله بعد أن يهده التعب والإرهاق، ولسانه حاد حاضر النكتة والسخرية.
صحافيون و«كبارية» ولاعبون جمعتهم المقاهي حتى الصباح..شهدت أبرز صفقات اللاعبين ب«بوت» ماركة «الفلو» أو «دباب»
تأخر يوماً عن الحضور قبل نشرة الأخبار بفترة كافية لقراءة النص، وعند خروجه من الاستديو منهياً النشرة علم أن خميس سويدان مدير الإذاعة آن ذاك كتب مسودة حسم عليه، فأخذ ورقة وكتب عليها:
كفى فالحسم لايجدي فتيلاً
إذا كان الموظف مستقيلاً
ستعلم يا "خميس" بأن ظلما
تزاوله جهاراً لن يطولا
وترك الورقة في مكتب مدير الإذاعة، ولحق بالشلة في قهوة العويد، وطرائف أيوب لا تنتهي.
الحديث عن الملاعب
كانت هنالك بعض المقاهي التي لا تبتعد كثيراً عن مقهى "العويد" ويدور فيها الحديث كما يدور في "العويد"، وتتقارب مقاهي خريص مع مقاهي طريق الحجاز "كيلو 6" ويتشابه النزلاء؛ فمن بين طرقي عابر إلى سائق "تاكسي" يعجّل أصحابه ليأخذ عمولته من صاحب المقهى، ولا بأس ببعض المرتادين الذين جمعهم المكان لاحتساء الشاي و"فلة الحجاج"، وهناك أيضاً يدور الحديث بشكل أوسع عن موارد الرزق وهموم الحياة، ولا عجب في الحديث عن دفاعات ناجي عبدالمطلوب، وسلطان مناحي، واختراقات الدنيني ومحمد سعد أو الصاروخ لترسانات أبناء الفصمة، ومحاولات سعيد غراب تحطيم جدران عبدالرزاق أبو داود أو لطفي لبان، ومثل هذه المقاهي "خريص وكيلو 6" لا يرتادها طلاب المدارس من حملة الكتّاب والقلم، بل قد وصف زبائنها "الكداده" بأنهم أصحاب رؤوسٍ منفوشة يلوون غترهم أو يسرّحونها على أكتافهم ويتسمون بحدة الكلام وصلابة الأجسام وتواضع الهندام، ومع هذا فهم رجال أشداء اضطرتهم طبيعة أعمالهم أن يخوضوا غمار تجارب ومغامرات وأن يقطعوا طرق ومفازات، وتحكي لك نظراتهم وحدة طباعهم قدر المعاناة والمتاعب التي يواجهونها، ولو قدر لك أن تسمع لأحدهم لظفر قلمك بحكايات لا تقل عن حكايات ابن الورد والشنفرى بل يستطيع الواحد منهم أن يدّون لك سجلاً -ستنفذ مبيعاته- عن حكاياته مع الطرق الطويلة في الفلوات والخلوات.
اللواري مظهر
وأما مراكبهم فمن "اللوري" إلى "الأبلكاش" وهي شاحنات ذوات صناديق من خشب مطرزة باللون الأخضر، وأحياناً تزدان بالأحمر يوضع على مقدمتها ريش النعام وتزدهي ببعض الرسومات للعيون الحور، والجفون الرهيفة وعبارات متناثرة هنا وهناك "عين الحسود فيها عود"، و"مرّ وعدي وأصحى التحدي"، وآخر يأخذ مساحة كافية في صندوق شاحنته ليسطر مشاعره الخاصة ويشكو لواهيب الحب والهوى:
يا ناس ذاك البيت لا تهدمونه
خلوه يبقى للمحبين تذكار
وتبقى "بواري" تلك الشاحنات علامة فارقة عما سواها من شاحنات المدن إذ لا يكتفي "العربجي" كما يحلو للبعض تسميته بمنبه واحد أو اثنين، بل يترك لجوانب شاحنته مساحة عشر أو ربما اثنا عشر "بوري"، وربما يلبس السائق نظارته الشمسية في الليل أو وسط الغيوم الملبدة.
كانت مقاعد "مقهى العويد" منشورة خارج المقهى ولا إضاءات حولها، وعلى الزبائن أن يطلبوا ما يشاءون من "أربعة أسود والحلى برا" أو "الكندادراي" و"كراش" أو حتى "الكعكي كولا"، وما عليهم إلاّ أن يتحملوا ضجيج الشاحنات على الطريق وتساقط الجراد و"طوير علي" على أكوابهم وفق أنوفهم.
مقاهي وسط المدينة
كان "مقهى الغرابي" يجمع المسافرين وبعض عامة أهل الرياض ومنه تنطلق "التكاسي"، وبه يجتمع "الكدادة"، ويشتهر مقهى الغرابي بتقديم "الشيشة" أيام كانت ممنوعة يعاقب متعاطيها بالجلد والسجن، وكان في المقهى أقبية وممرات متداخلة لمن يريد أن "يشيش"، كما كان مقهى "مروان" في طريق المطار القديم، ومقهى "المربع" في شارع الوشم "شمال قسم شرطة المربع الآن"، وكذا مقهى "الشميسي" و"المنتزه" ديوان تجمع "للزكرتيه"، أما من يغلبه النوم من "الطرقية"؛ فسوف يجد له في مقاعد و "مراكيز" تلك المقاهي سريراً قد لا يجده في منزله، إلاّ أنه سيضطر مع الصباح لدفع ريالين قيمة فراشه الوثير الذي لم يسلم فيه من البعوض ولا حتى من أبخرة "الجراك" المتصاعدة رغم ما يبذله "النواب" -رجال الهيئة- من محاولات لتنقية أجواء المدينة منه.
قهوة "عمر الخيام"
تتعدد أطياف الزبائن بتعدد أحيائهم وكانت قهوة "عمر الخيام"؛ التي تحولت بعد حرب 1973 إلى مقهى "6 اكتوبر" -كما سماها البعض- إحدى هذه المقاهي التي تتغنى بإحياء ما سمى الإرث العربي؛ في حين كانت محطات بعض الدول العربية تتغنى عبر مذياع في أطراف مقهى الخيام:
غنت فيروز مغردةً
وقلوب الشعب لها تسمع
الآن الآن وليس غداً
أجراس العودة فلتقرع
من أين العودة فيروزٌ
والعودة يلزمها مدفع
والمدفع يلزمه كفٌ
والكف يلزمه أصبع
والأصبع دوماً منغمسٌ
في "أذن" الشعب له مرتع
كان موقع مقهى "عمر الخيام" -شمال البنك الأهلي في زاوية مجمع السليمان الآن-، كما كان في المتنبي "الشارع المهجور والشاعر المشهور" مقهى باسمه؛ ترتاده العامة وبعض من لهم في الأدب والشعر هذا قبل أن تدب فيه الحياة ويصبح سوقاً تجارياً حيوياً للملابس والأزياء النسائية مطلع الثمنينات الميلادية.
مقاهي الرياض تاريخ اجتماعي لحقبة زمنية مرت على العاصمة الرياض قبل أن تتحول إلى مدن داخل مدينة، ويتسع فضاؤها الجغرافي إلى مساحات قد لاتتواصل كثيراً
وفي الوقت الذي كانت فيه إذاعة طامي تبث برامجها أكثر من ساعتين في اليوم كان النوم في أسطح المنازل سمة أهالي الرياض في فصل الصيف؛ الذين وصفهم أحد أبناء الدول العربية بأنهم ينامون «بكير» في حين لا يستنكف بعض أهاليها من ركوب الدباب أو الدراجة التي سميت في زمانٍ مضى «حصان إبليس»؛ في حين كانت الصفقات الرياضية لشراء لاعب «حريف» أو «مدرب» حاذق لا تخرج في سقفها الأعلى عن دباب وبضع المئات من الريالات، ولا عجب في ذلك الوقت أن يقتني المواطن الدباب أو «البسكليت» للذهاب إلى مقر عمله في شارع المطار أو المربع، أو بين الناصرية والفاخرية «الفوارة»، كما لم يكن ثمة بطالة ولا وجود للوافدين ولا تكاد أزقة الرياض تخلو من الباعة المتجولين «عطرنا» و»هريسة» وحتى حمار» القاز» الذي يخافه الصبيان ويزعمون أنهم رأوا بأمهات أعينهم «حمارة القايلة» في أزقة الرياض الضيقة!.
ظاهرة اجتماعية
كانت الرياض في قفزاتها الديموغرافية والاقتصادية تترجم الحالة الاجتماعية لأهالي الرياض الذين يغدون "خماصاً" ويروحون "بطاناً"؛ غير أن ثلة من عابري الطرق من "الطرقية والكدادة" كانوا يتوقفون أمام مقاه ٍومحطات تناثرت حول مدينة الرياض بشاحنتهم "اللوري" و"الأبلكاش" يسبقهم إليها أصحاب "التكاسي" وبعض "الزكرت"؛ لتبدأ الطلبات تنهال على ذلك الصبي الذي لا يكاد يحيط بطلبات زبائنه تارة "أربعة أسود"، وتارة "شاي عدني"، وتارة أخرى نص أو حتى ربع كبسة مع الثلاجة "جيك ماء".
«قهوة العويد» ملتقى «الشلة» و«الطرقية» و«الكدادة».. و«القروية» تمدنوا «كلٍ يولع بدافوره»!
كانت مقاهي الثمانينات ظاهرة اجتماعية لم تحكها لنا طرائف "الجاحظ" ولا رحلات "الأصمعي"، بل قد فاتت -ويا للأسف- عن قلم "بديع الزمان" و"أبن جبير"، ولو قدر الله لك أن تكون من أبناء ذاك الزمان وأعطيت فرصة للتجول في ردهات إحداها لسمعت أذنك في "مقهى العويد" -تقاطع طريق خريص مع خالد بن الوليد "انكاس"- مساجلات ومناكفات عن شؤون وشجون الطريق، وفي زاوية أخرى الحديث عن فيافي الدهناء وهواتف الجن والغول وحتى (العفريت الأزرق)، كما ستصغ إلى قصص "الكدادة" ومغامرات الطريق، ولا بأس من أن تشنف أذنيك ببعض القصائد ومليح الاشعار أبان الرحلات مع "أرامكو" يلقيها رجل من "الطرقية" لم يعتنِ بهندامه بقدراعتنائه بحنجرته، مردداً وهو في طريقه إلى رأس تنورة أبيات الحويفي الشهيرة:
يا عبيد من ينشدك عنا
سكان في رأس تنوره
من فوق سفنٍ يشلنا
عمال والنفس مخطوره
شط البحر قبلة منا
بديار من يلعب الكوره
قل للبني لا تباطنا
يمضي الحول ونزوره
قله ترانا تمدنا
كلن يولع بدافوره
قلبي على شوفكم حنا
وحالي من البعد منسوره
قهوة العويد
و"قهوة العويد" من أشهر المقاهي في الرياض على وجه الإطلاق، يؤمها الرياضيون، والصحافيون، والكتّاب، ورجال الأعمال، حيث يجدون فيها متنفساً لهم من حر المدينة، وليلها الذي يبعث في النفس السأم، والتعب، فيجتمعون كل في حلقة يتسامرون ويتبادلون الأحاديث والنكت وما استجد في مهنهم، أو أعمالهم، فاللاعبون يتحدثون عن أخطاء المباريات، ومفاتيح الفوز، وتكهنات متصدر الدوري، وانتقالات اللاعبين التي يكون ثمنها مغرياً، حيث تتم بشرط إعطاء اللاعب "بوت" جديداً من صناعة "الفلو" الذي كان يقوم بتفصيل "الجزم" للاعبين، أو دراجة نارية للاعب الاستثنائي، أو بين الصحافيين ومناكفاتهم مع بعضهم، ونوادرهم، وحكاياتهم في العمل.
من قصص الصحافيين
كان عدد كبير من الصحافيين يقصدون مقهى العويد بشكل شبه ليلي في الصيف، ومن بين هؤلاء تركي السديري، ومحمد الشعلان، وراشد فهد الراشد، وعبدالله نور، ومحمد سعيد باعشن، وسعد الحميدين، ويوسف الكويليت، والشاعر أيوب طه الذي كان وقتها مذيعاً متعاقداً مع الإذاعة السعودية، وكان صعلوكاً شبه متشرد لايعبأ بالتزام، أو يحافظ على مورد عيش، يأكل في أي مكان، وينام عند من يستقبله بعد أن يهده التعب والإرهاق، ولسانه حاد حاضر النكتة والسخرية.
صحافيون و«كبارية» ولاعبون جمعتهم المقاهي حتى الصباح..شهدت أبرز صفقات اللاعبين ب«بوت» ماركة «الفلو» أو «دباب»
تأخر يوماً عن الحضور قبل نشرة الأخبار بفترة كافية لقراءة النص، وعند خروجه من الاستديو منهياً النشرة علم أن خميس سويدان مدير الإذاعة آن ذاك كتب مسودة حسم عليه، فأخذ ورقة وكتب عليها:
كفى فالحسم لايجدي فتيلاً
إذا كان الموظف مستقيلاً
ستعلم يا "خميس" بأن ظلما
تزاوله جهاراً لن يطولا
وترك الورقة في مكتب مدير الإذاعة، ولحق بالشلة في قهوة العويد، وطرائف أيوب لا تنتهي.
الحديث عن الملاعب
كانت هنالك بعض المقاهي التي لا تبتعد كثيراً عن مقهى "العويد" ويدور فيها الحديث كما يدور في "العويد"، وتتقارب مقاهي خريص مع مقاهي طريق الحجاز "كيلو 6" ويتشابه النزلاء؛ فمن بين طرقي عابر إلى سائق "تاكسي" يعجّل أصحابه ليأخذ عمولته من صاحب المقهى، ولا بأس ببعض المرتادين الذين جمعهم المكان لاحتساء الشاي و"فلة الحجاج"، وهناك أيضاً يدور الحديث بشكل أوسع عن موارد الرزق وهموم الحياة، ولا عجب في الحديث عن دفاعات ناجي عبدالمطلوب، وسلطان مناحي، واختراقات الدنيني ومحمد سعد أو الصاروخ لترسانات أبناء الفصمة، ومحاولات سعيد غراب تحطيم جدران عبدالرزاق أبو داود أو لطفي لبان، ومثل هذه المقاهي "خريص وكيلو 6" لا يرتادها طلاب المدارس من حملة الكتّاب والقلم، بل قد وصف زبائنها "الكداده" بأنهم أصحاب رؤوسٍ منفوشة يلوون غترهم أو يسرّحونها على أكتافهم ويتسمون بحدة الكلام وصلابة الأجسام وتواضع الهندام، ومع هذا فهم رجال أشداء اضطرتهم طبيعة أعمالهم أن يخوضوا غمار تجارب ومغامرات وأن يقطعوا طرق ومفازات، وتحكي لك نظراتهم وحدة طباعهم قدر المعاناة والمتاعب التي يواجهونها، ولو قدر لك أن تسمع لأحدهم لظفر قلمك بحكايات لا تقل عن حكايات ابن الورد والشنفرى بل يستطيع الواحد منهم أن يدّون لك سجلاً -ستنفذ مبيعاته- عن حكاياته مع الطرق الطويلة في الفلوات والخلوات.
اللواري مظهر
وأما مراكبهم فمن "اللوري" إلى "الأبلكاش" وهي شاحنات ذوات صناديق من خشب مطرزة باللون الأخضر، وأحياناً تزدان بالأحمر يوضع على مقدمتها ريش النعام وتزدهي ببعض الرسومات للعيون الحور، والجفون الرهيفة وعبارات متناثرة هنا وهناك "عين الحسود فيها عود"، و"مرّ وعدي وأصحى التحدي"، وآخر يأخذ مساحة كافية في صندوق شاحنته ليسطر مشاعره الخاصة ويشكو لواهيب الحب والهوى:
يا ناس ذاك البيت لا تهدمونه
خلوه يبقى للمحبين تذكار
وتبقى "بواري" تلك الشاحنات علامة فارقة عما سواها من شاحنات المدن إذ لا يكتفي "العربجي" كما يحلو للبعض تسميته بمنبه واحد أو اثنين، بل يترك لجوانب شاحنته مساحة عشر أو ربما اثنا عشر "بوري"، وربما يلبس السائق نظارته الشمسية في الليل أو وسط الغيوم الملبدة.
كانت مقاعد "مقهى العويد" منشورة خارج المقهى ولا إضاءات حولها، وعلى الزبائن أن يطلبوا ما يشاءون من "أربعة أسود والحلى برا" أو "الكندادراي" و"كراش" أو حتى "الكعكي كولا"، وما عليهم إلاّ أن يتحملوا ضجيج الشاحنات على الطريق وتساقط الجراد و"طوير علي" على أكوابهم وفق أنوفهم.
مقاهي وسط المدينة
كان "مقهى الغرابي" يجمع المسافرين وبعض عامة أهل الرياض ومنه تنطلق "التكاسي"، وبه يجتمع "الكدادة"، ويشتهر مقهى الغرابي بتقديم "الشيشة" أيام كانت ممنوعة يعاقب متعاطيها بالجلد والسجن، وكان في المقهى أقبية وممرات متداخلة لمن يريد أن "يشيش"، كما كان مقهى "مروان" في طريق المطار القديم، ومقهى "المربع" في شارع الوشم "شمال قسم شرطة المربع الآن"، وكذا مقهى "الشميسي" و"المنتزه" ديوان تجمع "للزكرتيه"، أما من يغلبه النوم من "الطرقية"؛ فسوف يجد له في مقاعد و "مراكيز" تلك المقاهي سريراً قد لا يجده في منزله، إلاّ أنه سيضطر مع الصباح لدفع ريالين قيمة فراشه الوثير الذي لم يسلم فيه من البعوض ولا حتى من أبخرة "الجراك" المتصاعدة رغم ما يبذله "النواب" -رجال الهيئة- من محاولات لتنقية أجواء المدينة منه.
قهوة "عمر الخيام"
تتعدد أطياف الزبائن بتعدد أحيائهم وكانت قهوة "عمر الخيام"؛ التي تحولت بعد حرب 1973 إلى مقهى "6 اكتوبر" -كما سماها البعض- إحدى هذه المقاهي التي تتغنى بإحياء ما سمى الإرث العربي؛ في حين كانت محطات بعض الدول العربية تتغنى عبر مذياع في أطراف مقهى الخيام:
غنت فيروز مغردةً
وقلوب الشعب لها تسمع
الآن الآن وليس غداً
أجراس العودة فلتقرع
من أين العودة فيروزٌ
والعودة يلزمها مدفع
والمدفع يلزمه كفٌ
والكف يلزمه أصبع
والأصبع دوماً منغمسٌ
في "أذن" الشعب له مرتع
كان موقع مقهى "عمر الخيام" -شمال البنك الأهلي في زاوية مجمع السليمان الآن-، كما كان في المتنبي "الشارع المهجور والشاعر المشهور" مقهى باسمه؛ ترتاده العامة وبعض من لهم في الأدب والشعر هذا قبل أن تدب فيه الحياة ويصبح سوقاً تجارياً حيوياً للملابس والأزياء النسائية مطلع الثمنينات الميلادية.
مقاهي الرياض تاريخ اجتماعي لحقبة زمنية مرت على العاصمة الرياض قبل أن تتحول إلى مدن داخل مدينة، ويتسع فضاؤها الجغرافي إلى مساحات قد لاتتواصل كثيراً