نقوس المهدي
كاتب
“ليــس مـــن وصــل كـمــن لـم يـصـل”
قال ابن سبعين[1]
قل لمن طاف بكاسات الهوى = ونأى بشربها لما ثمـــَـــــــــلْ
ما مقامات المحبين ســـــــوى = لا ولا العلم جميعا والعمَـــــلْ
ليس من فوه بالوصل لـــــــه = مثل من سِيرَ به حتَّى وصَــلْ
لا ولا الواصل عندي كالذي = قرع الباب وللدار دخَــــــــلْ
لا ولا الداخل عندي كالــذي = صار روه وهو للسر محَـــلْ
لا ولا من سار روه كالَّــذِي = صار إياهم فدعْ عنك العـِـلَلْ
فمحوه عنه فيهم فامَّحــــــى = ثم لما أثبتوه لمْ يــَــــــــــزَلْ
ذاك شيءٌ علقَ القلبَ بـِــــه = لو تَجلَّى ذاكَ للخَلقِ قَتــَـــــلْ[2]
تـــقـــديـــم
إن النص الشعري الصوفي يعكس تجربة حياتية، يتجاوز فيها صاحبها الواقع بكل تجلياته سياسيا ،واجتماعيا وثقافيا… ويطمح إلى استشراف الآفاق المستقبلية الكونية والإنسانية. الإبداع الصوفي الحقيقي،بهذا المعنى، لا ينطلق من صلب الحادثة التاريخية أو النفسية أو الاجتماعية، أو السياسية…. إنما هو كشف ورؤيا وجودية. وليس معنى هذا أن الشعر الرؤيوي لا يشمل الواقعة التاريخية الاجتماعية…. بل تشكل جزء بسيطا من تكوين العمل الإبداعي، لأن كل إبداع هو تجاوزباستمرار، وتفاعل مغاير لتفاعل الإنسان العادي والأشياء والعالم من حوله “ففي الرؤيا لا تجرد الأعمال الإبداعية من محتوياتها الاجتماعية والتاريخية والنفسية، بل بالعكس يكون الترابط قويا، ولكن في مستوى آخر أسمى وأعمق”[3].
الشاعر الحق هو من يتجاوز مقام النقل المباشر الساذج للأشياء في عالمنا الخارجي ويتجاوز مرحلة تركيبها وذاته إلى مقام والرؤيا، حيث لا مقام هناك إلا مقام الكشف،والشطح، والتجلي،وحيث تصير ذات الرائي وذات المرئي “وحدة مطلقة” .
لمقاربة نص ابن سبعين،علينا أن نصغي إلى حرارة تجربة الشاعر وتحولاتها الإيقاعية، ونتأمل من جهة ثانية عالم الأشياء والأكوان، لبلوغ حالة الرؤيا الشعرية. فهل يتحقق في هذه القصيدة مقام الرؤيا؟ كيف السبيل إلى ضبط هذه التجربة الرؤيوية؟ وهل أعاد الشاعر، فعلا، خلق العالم من جديد؟ كيف تتحرك الأحداث والوقائع تحركا شعريا إبداعيا؟ ثم أخيرا هل سننجح في القبض على رؤيا الشاعر ابن سبعين الصوفي؟
القراءة الأولى : إعادة إنشاء النص
نتغيا من خلال القراءة الأولى لقصيدة ابن سبعين، إعادة إنشائها بهدف البحث فيها عما يدهشنا، ننشد إلى عالم الشاعر حيث الدهشة المتولدة عن المعاني الأولية:
تتوزع القصيدة المتواليات التالية:
المتوالية الأولى: مقامات المحبين:(من البيت 1 إلى البيت 2)
المتوالية الثانية: تجربة الوصل:(من البيت 3 إلى البيت 6)
المتوالية الثالثة: التجلي ، موت:(من البيت 7 إلى البيت 8)
على أن محور هذه المتواليات ومنتهاها هو”العشق الإلهي”. فالعشق الإلهي هو أسُّ كل تغيير، من الانتشاء بكاسات الهوى إلى مرحلة الثمالة، ثم من مرحلة الثمالة إلى نشدان الوصول، ومن نشدال الوصول إلى الخوف من القتل/ المحو، الناجم عن التجلي/ القتل.
إن قصيدة ابن سبعين لا يمكن أن نتناولها تناولا عاديا ذلك أن معجمها وإن كان واضح اللفظ فإن دلالاته تغوص في أعماق النفس الإنسانية ،ولا يصل معانيها الخفية إلا من كابد لظى التجربة وثمل بخمرها . سنغامر بتشريح جسدها بمبضع صوفي من جنسها. تتمحور القصيدة حول فكرة رئيسة وهي مفهوم الحب من خلال المقارنة المتدرجة بين حقيقة تصور ابن سبعين له، وبين تصورغيره. يتدرج في توضيح المفهوم إلى أن يصل إلى النبع إلى الرواء إلى … الرؤيا.
يقول:
قل لمن طاف بكاسات الهوى = ونــأى عــن شربه لما ثمل
مــا مقامــات المحبيــن سَـوى = لا ولا العلم جميعا و العمل
فهو يوجه الخطاب إلى مخاطَب مفترَض يأمره بأن يوضح مفهوم الحب ودرجات تأثيره، باعتبار المحبة هي” أساس التجربة الصوفية وجوهرها الثابت، ونفسها الساري في الوجود”[4]. والسكر يعني عند المتصوفة الغيبة بالوارد القوي، وتنشأ عنه غلبة تمنع من التصرف بالاختيار، وهو”معراج السالكين لإفادته محو الحدث …والسالك لا يستغني عن السكر ما لم يخلص عن الصحو الأول، فإذا خلص إلى الصحو الثاني صار غنيا عن السكر”[5].ومقامات المحبين مختلفة في المعرفة والعمل، فالمعرفة هي البغية القصوى،صاحبها ذو انكسار دائم، ودمع عينه أو قلبه مدرار، قال تعالى: ( إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق)[6]،والمعرفة انكشاف يوجب رفع الغطاء عما استتر وتغطى، وهو يكون بحسب كل حضرة ومقام واستعداد وقبول. فالحب الصوفي لا بد لصاحبه من معرفة ذاته حق المعرفة لكي ينتقل بعدها لمعرفة أكبر وأجل : معرفة الله عز وجل” ومن شأن درجة المعرفة هذه أن تعرف المحبوب وتوحده بآن واحد باعتبار الحب الحقيقي لا يسعه سوى قلب واحد، والقلب بدوره لا يتسع إلا لمحبوب واحد بالضرورة”[7]، وكل ما سوى الله ” يتحد بكونه غيرا ووهما وحجابا وحدَّا، مما يهب السِّوى حُضورا مُتعددا بتعدد الإدراكِ من جهةٍ، وبتعددِ انشغالاتِ الناسِ وأوهامِهم من جهة أخْرى”[8]. وقد قال أحد الشعراء:
الطرُق شتى وطرق الحق مفرَدة = والسالكون طريقَ الحق أفرادُ
فشهود حضرة العرفان مانع من شهود الغير في الأكوان، روحٌ حياتها منادمةُ الحبيب عند غيبته وحضوره. ويسترسل العارف بالله ابن سبعين في شرح مفهومه لحقيقة الحب من خلال المقارنة:
لــيس مـــن فــوّه بالوصل له = مثل من سير به حتى وصل
لا ولا الواصلُ عندي كالذِي = قــرعَ البابَ وللـــدارِ دخــل
فكل من الفريقين يجهد نفسه عملا، وتقوى، ومكابدة لبلوغ مرحلة الوصول ، وذلك حسب درجة المحبة، لأن من أحب شيئا هانت عليه الصعاب في تحصيله، وقرب عليه البعد في تنويله، والمحبَّة تسهِّل على المرء خدمةَ محبوبِهِ، وتيسِّر عليه ما صعُبَ لنيلِ مرغوبه، ولذلك تجدُ المرءَ إذا أحب امرأة هان عليه أن يبذل جميع ماله، وإن أحب تجارة قطع في تحصيلها المفاوز. فالمحبة بهذا المعنى على نوعين:”محبة الإقرار،وهو للخاص والعام، ومحبة الوجد من طريق الإصابة، فلا يكون فيه رؤية النفس والخلق، ولا رؤية الأسباب والأحوال ، بل يكون مستغرقا في رؤية ما لله وما منه”[9]، وقال بلسان الحال والقال:أفعال المحبوب محبوبة على كل حال… فكيف بمن أراد محبة الله وقربه، وتوكل عليه، وأراد ما لديه، ومحبة الله ثابتة في كتابه، قال تعالى: ( والذين آمنوا أشد حبا لله ).
قال ابن سبعين:
لا ولا الداخل عندي كالذي = سار روه وهو للسِّر محل
لا و لا من سار روه كالذي = صار إياهم فدعْ عنكَ العِلَل
وهذا ينسجم مع رؤيا ابن سبعين الذي يقول بروحانية النفس، فالوصل عنده إدراك الغاية، وهو أول فتوح الدراية، وهو كل ما يفتح على العبد من الله من عبادة في الظاهر، وحلاوة في الباطن. والسر لطيفة مودعة في القلب كالروح، وهو ألطف من الروح، والروح أشرف من القلب، ولازم السر الكَتْمُ.
يقول ابن سبعين:
فمحوه عنه فيـهم فامَّحــا = ثــم لمــا أثبتوهُ لم يزلْ
ذاك شيءٌ علِقَ القلبُ به = لو تجَلَّى ذلكَ للخلقِ قتَلْ
فالمحو رفع أوصاف العادة، والإثبات إقامة أحكام العبادة، فكل من نفى عن نفسه الخصال الذميمة، وأتى بالحميدة فهو صاحب محو وإثبات،قال القشيري رحمه الله: “سمعت أبا علي الدقاق، يقول: قال بعض المشايخ لرجل:أي شيء تمحو،وأي شيء تثبت؟ فسكت الرجل،فقال:أما علمت أن الوقت محو وإثبات، من لا محو له ولا إثبات فهو معطل”[10]، ويقول تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)[11]،قيل: يمحو عن قلوب العارفين ذكر غير الله، ويثبت على ألسنة المريدين ذكر الله. والقلب جوهر نوراني مجرد بسيط بين الروح والنفس، وهو الذي تتحقق به الإنسانية، وقد سماه الحكماء بالنفس الناطقة.
أما التَّجلِّي فهو رفع حجاب البشرية بين العبد وربه، قال القشيري:”العوام في غطاء الستر، والخواص في دوام التجلي، وفي الخبر:إذا الحق لشيء خضع له، وانظر إلى خبر الجبل حين دُك واضمحل، فصاحب التجلي أبدا ينبع خشوعه سرمدا، والستر للعوام عقوبة، وللخواص رحمة، إذ لولا أنه يستُر عليهم ما يكاشفهم به لتلاشوا عند تجلي سلطان الحقيقة”[12]، وهذا هو المقصود بقول ابن سبعين :
ذاك شيء علق القلب به = لو تجلى ذلك للخلق قتل
فشعر ابن سبعين رؤيا ومشاهدة بما تعنيه من مطالعة الجلالِ والجمالِ ببصيرةِ القلبِ بوجهٍ يقوم به العيانُ من حيث لا وهْم ولا كيف، هي رؤيا للحق في كل ذرة من ذَرات الوجودِ.
القراءة الثانية : القراءة الاستعادية
ينهض النص لغويا على:
التكرار: ويظهر من خلال تكرار/ تأكيد ابن سبعين على ألفاظ بعينها، مثلا لا حصرا:
لا: تكرر حرف النفي هذا 8 مرات.
الوصل: تكررت مشتقاته: الوصل، وصل ، 3 مرات.
الذي: تكرر 3 مرات.
سار: تكرر مرتين (سير، سار)
صار: تكرر مرتين، في بداية عجز البيتين 5 و 6
امحى: تكرر مرتين.
والتكرارهاهنا يؤدي وظائف دلالية وتداولية، ويحمل معاني إدراكية، تجذب، وتثير، وتوجه أفق انتظار القارئ. تتضافر هذه المفردات جميعها وتتعالق وتتعانق مما يؤدي إلى رباط وثيق بين أجزائها، ومرد ذلك أن نواتها واحدة، بالرغم من عدم الإعلان عنها بشكل مباشر، وهي “المحبة الإلهية” التي تأتينا عبر متناقضين اثنتين: الوصول ≠ عدم الوصول. “معنى هذا أن أي شعر أو أي شاعر، وخصوصا إذا كان شعر محبة، يحقق الانتظام والتناغم، وإذا ما توقفنا عند هذه الثوابت الكونية الإنسانية، فإن خصوصية الحضارات والثقافات والأشعار وأشعار كل شاعر على حدة لا يمكن التمييز بعضها من بعض”[13]“.
تنهض إذن، قصيدة ابن سبعين على مستويين اثنين: مستوى يمثل الوصول، وتحقيق السعادة والاتحاد، ومستوى آخر يمثل الانكسار وعدم الوصول بسبب عدم اكتوائه بحرارة اللحظة؛ إذ اكتفى بالنأي، والإعلان عن الوصول.
ليس من فوه بالوصل له مثل من سير به حتى وصل
والمستويان يتقاطعان عبر فضاء النص اللغوي في صورتين اثنتين:
أ. صورة الوصول الحقـيقــــــي،
ب. صورة الوصول غير الحقيقي
يشكل البيت الثالث بؤرة توتر النص، فالمسافة بين عالم الوصول، حيث المحو والتجلي/الموت، هي غيرها في عالم “عدم الوصول”، حيث تتلاشى الحدود الفاصلة بين الناسوت واللاهوت، وحيث الاتحاد/المحو الذي يتم بموجبه الذوبان، “وتعلق القلب به”.
اللغة في هذه القصيدة لا تنقل معان محددة وملموسة، لأن ما تمثله هو عوالم متخيلة، تكشف أعماق الشاعر وتتيح إمكانية الحفر في لاوعيه،”إن الشعر تخيل وإبداع، قد يرتبط بهذا الواقع، وقد ينفصل عنه، ثم يكون في الحالين معا مجرد تصور لابد من أن يستقل بوجوده الذاتي، فيمارس فعاليته خارج إطاره الأولي”[14].
التداعي: وهو حالة نفسية ترتبط بالمجال التخيلي الذي يحياه الشاعر العاشق للذات العلوية، حيث لذة القرب، والسكر بلقاء الحبيب، وحيث لا يمكن للرائي أن ينظر صفة من صفات البشرية:
ذاك شيء علق القلب به = لو تجلى ذاك للخلق قتل
ويمكن التمثيل لهذه الحالة من التداعي على النحو التالي:
شرب كاسات الهــوى ± النـــأي بعـــــد الثمالــــة
مقــامــات المحبيـــــن ± الجهد، والعلم، والعمــل
الوصل ليس مجرد كلام ± الوصل جهـــد وألــــم
الــرؤيــة القلــــبيــــــة ± كل تجلى حقيقي مـوت
هذا التداعي، الحر، يشكل بدوره حقلا دلاليا من أهم خصائصه التجاذب بين محورين اثنين، القرب ≠ البعد، القرب من مقام الله والتوحد معه، والبعد عنه لكل من شرب كاسات الهوى وابتعد لما ثمل….
عدم الوضوح: حيث تبدو اللغة، لنا كمتلقين، في أول وهلة أنها لغة عادية، واضحة لا لبس فيها ولا غموض، إلا أنها عكس ذلك، تضعنا في مأزق، بمجرد ما نحاول القبض عليها واستكناه جوهر دلالاتها العميقة، إذ سرعان ما تتحول من لغة عادية بسيطة (كاسات، الهوى، لا، التجلي… الخلق، قتل….) إلى لغة متوترة ومتموجة، ولها قدرة خارقة على الخلق وخلخلة عالم الأشياء، وهذا ينم عن وعي الشاعر ابن سبعين بلغته الشعرية الصوفية، مما أتاح له خلق لغة شعرية جديدة تمتح من الذات (الواصل عندي، الداخل عندي)، وتجعلها- الذات – منطلقلها ومنتهاها.
الصورة الشعرية : ألح الشعراء العرب على دور الخيال في صناعتهم الشعرية، وعلى ما له به صلة مثل الأحلام… والخيال ملكة من الملكات الإنسانية النفسانية، وهو واسطة بين الملكات العقلية وبين الحواس، وهو طرف ثالث ينتج عن معرفة أو موقفا قد يكونان – المعرفة والموقف – مألوفين أو غير مألوفين، قديمين أو جديدين٬يتجلى الخيال في “التشبيهات والاستعارات والمقايسات والقياسات، والتمثيلات والأساطير”[15].
يتجسد الخيال في نص ابن سبعين عبر استغلال طاقات المجاز، كصورة شعرية تنقل القارئ من المألوف إلى غير المألوف: فلننظر إلى :”قل لمن طاف بكاسات الهوى” / “وهو للسر محل” / “ذاك شيء علق القلب به”…. هكذا يعمد الشاعر إلى المجاز المرسل يعبر به عن تجربته الرؤيوية، لتقريب المعنى الصوفي لذهن المتلقي، بإلباس المعاني الخفية الغامضة لباسا حسيا، يوضحها ويقربها إلى الإدراك والفهم.
القصيدة، ككل، استعارة موسعة / صورة كبرى، تعكس مدى انزياح الشاعر عن المتداول اليومي، وخرقا لقانون اللغة “إن العلاقة بين الأشياء تتشابك وتتعقد في الاستعارة أكثر منها في التشبيه. (….) وكلما دخلت العلاقات في صورها المعقدة، كان الشعر أقرب إلى الإبداع الحق”[16].
إن الصورة / الصور، تشكل قوة خلاقة قادرة على نقل تجربة المبدع وحالته النفسية، وهي بذلك تمثل روح الشعر: فصورة: ( طاف بكاسات الهوى) لا تمثل المعنى الحقيقي، لأننا لو سلمنا بذلك لفسد المعنى الجوهري للنص، فما يعنيه الشاعر بكاسات الهوى، لحظة السكرفي مقام التجلي، ولو أخذنا المعنى الحرفي للجملة/ الصورة لقلنا: إن للهوى كؤوس والهوى هنا مجرد غير ملموس، غير حسي، في حين أن الكؤوس مميزاتها المقولية أنها ملموسة، مادية، إذن إسناد ملموس لغير ملموس يؤدي إلى فجوة التوتر بين النص كخطاب أدبي، ومتلقيه كحامل لحمولات معرفية إيديولوجية، دينية. تصوير الهيام/العشق الإلهي يختلف تماما عن تصوير الهيام الحسي، وبالوصول إلى العشق المطلق، السرمدي تذوب الحدود والفواصل بين الإنسي والإلهي، وهنا بالذات تكمن مطلقية وحقيقة النص الصوفي.
“إن الخيال بأنواعه هو الوجود الإنساني نفسه، فهوما يقتضي نجاح الإنسان في هذا الكون أو فشله ، الخيال ما يشيد مقارنات بين أطراف متعددة لربط صلات بينها حتى يمكن التنقل في مجالاتها وحماها، الخيال جسور بين جزر الكائنات ، الخيال منظم للكون وجوهر الشعر الخلاق ، الشاعر إذن ينظم الكون وينتظمه ، والشاعر ينظم ذاته وينظمها قبل تنظيم الكون ونظمه” [17].
القصيدة صورة كبرى مركبة من صور صغرى جزئية محكومة بتيمات العشق، والتوحد والفناء …تنثال الصور تباعا لتأثيث فضاء النص وخلق جو رؤيوي من أخص خصائص الانزياح والبعد عن اللغة العادية.
إن المرئيات هنا تأخذ شكلا جديدا ينبع من نفس الشاعر ووجدانه، إنها ليست المرئيات الظاهرة المألوفة في عالم الناس، ولكنها تجربة روحية تفتح أمامنا أفقا مغايرا لكل ما هو معتاد، حسي … وبالرغم من استعمالات المجاز، فهي ليست قريبة المتناول لأنه يصعب هنا الحديث عن القلب بالمفهوم الحقيقي له أو المجازي، كذلك النفس والاشتياق، ذلك أن لغة الصوفية لا يفهمها إلا الصوفية أنفسهم ، وكل مقاربة من نوع ما للقبض عن المعاني الحقيقية للنص هي من قبيل التجنِّي والرميِ بالغيبِ .
الشعر الصوفي، شعر خيال ورمز بامتياز، والرمز كما يعرفه أدونيس : “هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئا آخر وراء النص فالرمز هو قبل كل شيء معنى خفي وإيحاء “[18] إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، إنه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالما لا حدود له . لذلك هو إضاءة للوجود المعتم ، واندفاع صوب الجوهر”[19].
التشاكل الصوتي
بالنسبة للتوازي/التشاكل الصوتي في النص، يتمظهر عبر تكرار الأصوات اللغوية، والوزن الشعري. هذا التكرار لا يؤدي ضرورة وحتما إلى الرتابة والجمود، بل إلى اكتناه الفاعلية الرؤيوية المتأصلة، أساسا، في الذات الإنسانية التي تنزع نحو الخلود، وذات المتصوف المتشوقة دوما إلى التوحد بالذات الإلهية.
اعتمد ابن سبعين على تبئير صوت اللام عبر تكراره 37 مرة طول جسد القصيدة، وهو صوت جهير يشاكل لحظة عنف الاشتياق. فقد ولد تكراره، أولا، توازنا إيقاعيا داخليا، وثانيا اقترن بذات الشاعر المتوثبة المتأهبة التي تشعر بقوة، وجسامة لحظة التجلي – القتل- التي تمحى فيها الحدود والفواصل بين الذات المبدعة، والذات العلوية، موضوع المحبة: الله.
فإذا كان التكرار الصوتي وغير الصوتي في الخطاب غير الشعري عبارة عن حشو وإطناب لا مبرر له، فإنه في الخطاب الشعري إطناب معنوي يقصد إلى إيراده عنوة، وهذا ما حصل بالفعل في القصيدة التي بين أيدينا.
يتبين أن الصامت “اللام” ورد في البيت الأول والثاني أربع مرات، وفي البيت الثالث والرابع والخامس خمس مرات، أما البيت السادس فورد فيه صوت اللام أربع مرات، وفي البيت السابع ثلاث مرات، أما في البيت الثامن فسبع مرات. على أن هناك ملاحظة يجب الإشارة إليها، وهي أن الأبيات: 3 و 4 و 5 و 6، تبتدأ بصوت اللام، وتختتم بالصوت ذاته، مما يقوي التجانس الصوتي بين مكونات الأبيات الشعرية، ويعضد الصناعة الفنية، بمضارعة الأبيات وتماثلها، فهي “لا تؤالف إلا لتخالف”[20]، والمخالفة تتم هنا من خلال مناقضة صدر بعض الأبيات بعجزها: البيت 2 والبيت 3 والبيت 4 والبيت 5 والبيت 6، وهذا يعني أن الشاعر ضاعف من التماثل المبني على الاختلاف، التماثل الصوتي “التجنيسي” الذي يقابله “التضاد المعنوي”. نستنتج أن التكرار قد يكون لفظيا (لا، صار، الذي…) يفيد معنى التأكيد أو التكثير، وقد يكون أيضا تكرارا لبعض الصيغ الصرفية، أي اعتماد بنية صرفية واحدة، (لا ولا…. كالذي)، هذا التكرار ولَّدَ إيقاعا موسيقيا مطَّردا.
تتكرر ظاهرة الاشتقاق والترديد، وقد استعملها ابن سبعين استعمالا ملحوظا: الواصل، الوصل، وصل / سير، سار / محوه، امحى وتتميز هذه الاشتقاقات بتقوية الاختلاف الدلالي المومئ إليه سابقا.
ليس من فوه بالوصل له = مثل من سير به حتى وصل
فكلمة (الوصل) مسبوقة بحرف النفي ليس، في حين (وصل) تثبت الوصول الحقيقي الذي يتغياه الشاعر، (بالوصل) سلب، و (وصل) “إيجاب”، وهذا هو سر الاختلاف المعنوي، ويمكن ان نقيس ذلك على بقية الأبيات التي تبرز فيها هذه الظاهرة.
عروضيا: نظم ابن سبعين قصيدته على قالب وزني موحد هو بحر الرمل:
فاعلان فعلاتن فاعلن = فاعلاتن فعلاتن فاعلن
جاءت العروضة محذوفة (فاعلن)، والضرب مثلها (فاعلن) ، معنى ذلك أن الصدر والعجز متعادلان في الطول وفي عدد التفاعيل، ثلاثة في كل شطر شعري: التفعيلة الأولى من كل شطر صحيحة (فاعلاتن)، والثانية مخبونة (فعلاتن)، والثالثة محذوفة (فاعلن)، مما جعل البنية الصوتية المجردة للوزن الشعري تتكرر بشكل متواز، متساو على مدار القصيدة. وأن تسير القصيدة على نمط واحد يكسبها تشكلا موسيقيا متناغما، ووحدة إيقاعية قد تقربها إلى الرتابة.
إلتزم ابن سبعين في نهاية كل بيت شعري بتكرار وحدة موسيقية من أول النص إلى آخره (فاعلن): إنها القافية، كعنصر بنائي، ومكون إيقاعي يسهم بدوره في بناء البيت الشعري /القصيدة، بتكرار حركاتها وحرفها الأخير: الروي، فالروى هنا هو صوت اللام المجهور.
التكرار، قانون يحكم العمل الفني الأدبي، ويتخذ أشكالا متعددة، تكرار الصوامت،تكرارالصوائت،تكرارالكلمات،تكرارالقافية،تكرارالروي،تكرارالتفاعيل، وتكرار البحر الشعري على امتداد النص الشعري، وهذا ما يفسر قوة الفاعلية الصوتية والدلالية للتكرار، لما حققه من وظائف الإلحاح والتوكيد والربط والتماسك في البناء الشكلي للنص وتشييد دلالاته.
القراءة الثالثة : رؤيا الشاعر
رحلة الشاعر ابن سبعين لم تكن جغرافية ولا طوبوغرافية، لا واقعية ولا خيالية، رحلة مليئة مساراتها بالمحبة الإلهية، تطول مسافاتها وتطول معها رحلة الشاعر، بحثا عن التوحد مع اللانهائي، المطلق.
لا يتوقف الشاعر عن الشدو الصوفي، حيث ينتفي الحقد والكراهية، وتمتزج الحياة بالفناء، حينها، وحينها فقط يعلن شاعرنا الانتصار، وينتشى بخمرة وجمرة الحروف في محراب التجلي الإلهي، في معبد الحب المقدس لا المدنس، فتتبخر الكلمات (لا، لا…) لتستحيل نسيما إذا استشفه شهريار مثلا، ينسي غدر النساءـ وتشفى جراحات قلبه. ويعشوشب الأمل من جديد لاستكمال رحلة التوق لقطع المسافات اللامتناهية.
الشاعر يستشرف الآتي ويحاول أن يتعرف ملامح المجهول، ويستكشف اللحظة بكل تجلياتها، وبرود الآفاق البعيدة ليطل من خلل ذلك على مصيره٬ قدره الخاص والعام، وذلك أن الشاعر في رحلته الوجودية، النبوئية، الرؤيوية، الفكرية والإنسانية يعرف، قطعا، أن رحلته لا تنتهي في فراغ الوقت والأشياء، حيث مواجهته الجادة حميمة وقاسية وصعبة مع الفكرة، فكرة التوحد مع الذات الإلهية، حيث تمة مقام السكر والفناء السرمدي.
إن ابن سبعين يعد من مفكري الإسلام الأكثر بحثا في موضوع الوجود “فالله هو مبدع الوجود، وكل ما هو موجود قد فاض عن الحق، مبدؤه وتمامه، مرده إلى مبدعه الأول، والفيض متواصل ومستمر، فلا خلق من عدم مطلق، بل فيض وجدودي لا ينقطع”[21]. هذا الفيض / التجلي تعلقُ القلبِ بالذات العلوية، لأنه “لو تجلى ذاك للخلق قتل”، على هذا الأساس، فرؤيوية ابن سبعين تتمثل عنده في معاني النص، ومبناه، وتناغمهما مع الكون وتجلياته، ومعنى ذلك “أن المعرفة الشعرية الخالصة هي التي تكشف بحق عن تلك العلاقات المعقدة التي تجمع بين الأشياء ويعكسها نوع من البناء اللغوي يتسم بالغرابة، وصفة الغرابة هذه ليست سوى استجابة ضرورية لمعطيات الرؤيا”[22].
أ- المصادر: القرآن الكريم
ب - المراجع
أحمد الطريسي أعراب:
- التصور المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي، والشعري، طبعة 1989.
- الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب، طبعة المؤسسة الحديثة، الدار البيضاء والدار العالمية، بيروت، لبنان.
- الشعرية بين المشابهة والرمزية، دراسة في مستويات الخطاب الشعري، منشورات بابل، الرباط، ط 1991.
إدريس بلمليح:
المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب من خلال المفضليات وحماسة أبي تمام، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، رقم 20، طبعة 1995.
أدونيس :
- زمن الشعر دار العودة ، بيروت 1978 .
- الشعرية العربية ، دار الآداب، طبعة 1 ، 1985.
القشيري :
الرسالة القشيرية ،دار الكتاب العربي ،طبعة 2013
خالد بلقاسم:
الصوفية والفراغ، الكتابة الصوفية عند النفري، المركز الثقافي العربي،ط 1، 2012 .
عبد المنعم الحفني:
معجم مصطلحات الصوفية، دار المسيرة، بيروت – لبنان، ص.132.
محمد العمري :
اتجاهات التوازن الصوتي في الشعر العربي، مطبعة النجاح الجديدة، 1990.
محمد العدلوني الإدريسي:
- التصوف الأندلسي،أسسه النظرية وأهم مدارسه، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة 1 / 2005.
- نظرات في التصوف المغربي ، تأليف وتنسيق، دار الثقافة ، مطبعة النجاح ، الدار البيضاء ، الطبعة 1/2006.
محمد الراشد:
نظرية الحب والاتحاد في التصوف الإسلامي، من الحب الإلهي إلى دوامات الاتحاد المستحيل،دار النشر صفحات، ط4، 2010.
محمد الظريف:
الحركة الصوفية وأثرها في أدب الصحراء المغربية (1800-1956) ،منشورات جامعة الحسن الثاني،المحمدية، المملكة المغربية،ط1،2002 .
محمد مفتاح:
- الشعر وتناغم الكون، التخييل، الموسيقي، المحبة، مطبعة المدارس، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2002
[1] – هو أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر (614 هـ / 669 هـ) .عرف بابن سبعين المكي المرسي الأندلسي ثم البستي المغربي ، درس العربية والآداب بالأندلس. من تلاميذ ابن عربي الحاتمي. من مؤلفاته نذكر: بد المعارف وعقيدة المحقق المقرب الكاشف وطريق السالك المتبتل العاكف – كتاب الدرج – الدرة المُضية والخافية الشمسية ….
[2] - نظرات في التصوف المغربي ، تأليف وتنسيق محمد العدولوني الإدريسي دار الثقافة ، مطبعة النجاح ، الدار البيضاء ، الطبعة 1/2006 ص. 105 .
[3] – أحمد الطريسي أعراب، التصور المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي والشعري، طبعة 1989، ص. 47.
[4] – محمد الظريف، الحركة الصوفية وأثرها في أدب الصحراء المغربية (1800-1956) ،منشورات جامعة الحسن الثاني،المحمدية، المملكة المغربية،ط1،2002 ، ص.298.
[5] – عبد المنعم الحفني، معجم مصطلحات الصوفية، دار المسيرة، بيروت – لبنان، ص.132.
[6] – الأنفال:17
[7] – محمد الراشد، نظرية الحب والاتحاد في التصوف الإسلامي، من الحب الإلهي إلى دوامات الاتحاد المستحيل،دار النشر صفحات، ط4، 2010، ص.111 .
[8] – خالد بلقاسم، الصوفية والفراغ، الكتابة الصوفية عند النفري، المركز الثقافي العربي،ط 1، 2012 ، ص.117.
[9] – محمد الراشد، نظرية الحب والاتحاد في التصوف الإسلامي، من الحب الإلهي إلى دوامات الاتحاد المستحيل،ص.68.
[10] – الرسالة القشيرية،ج.1،ص.241.
[11] – الرعد،الآية 39.
[12] – الرسالة القشيرية ،ج.1،ص243.
[13] – محمد مفتاح، الشعر وتناغم الكون، التخييل، الموسيقى، المحبة، الطبعة الأولى، 2002، ص.153.
[14] – إدريس بلمليح، المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب من خلال المفضليات وحماسة أبي تمام، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، رقم 20، طبعة 1995، ص 30.
[15] – محمد مفتاح، الشعر وتناغم الكون، ص 150.
[16] – أحمد الطريسي أعراب، الشعرية المشابهة والرمزية، دراسة في مستويات الخطاب الشعري، ص 23.
[17] – محمد مفتاح ، الشعر وتناغم الكون، ص. 158/159
[18] – الشعرية العربية، دار الآداب ، طبعة 1985،ص.56.
[19] – أدونيس، زمن الشعر، ص. 160.
[20] – محمد العمري، اتجاهات التوازن الصوتي في الشعر العربي، مطبعة النجاح الجديدة، 1990، ص 28.
-[21]محمد العدلوني الإدريسي، التصوف الأندلسي، أسسه النظرية وأهم مدارسه، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة1، 2005، ص. 225.
-[22] أحمد الطريسي أعراب، الشعرية بين المشابهة والرمزية، دراسة في مستويات الخطاب الشعري، ص. 20.
الدكتور مولاي حفيظ العلوي
قال ابن سبعين[1]
قل لمن طاف بكاسات الهوى = ونأى بشربها لما ثمـــَـــــــــلْ
ما مقامات المحبين ســـــــوى = لا ولا العلم جميعا والعمَـــــلْ
ليس من فوه بالوصل لـــــــه = مثل من سِيرَ به حتَّى وصَــلْ
لا ولا الواصل عندي كالذي = قرع الباب وللدار دخَــــــــلْ
لا ولا الداخل عندي كالــذي = صار روه وهو للسر محَـــلْ
لا ولا من سار روه كالَّــذِي = صار إياهم فدعْ عنك العـِـلَلْ
فمحوه عنه فيهم فامَّحــــــى = ثم لما أثبتوه لمْ يــَــــــــــزَلْ
ذاك شيءٌ علقَ القلبَ بـِــــه = لو تَجلَّى ذاكَ للخَلقِ قَتــَـــــلْ[2]
تـــقـــديـــم
إن النص الشعري الصوفي يعكس تجربة حياتية، يتجاوز فيها صاحبها الواقع بكل تجلياته سياسيا ،واجتماعيا وثقافيا… ويطمح إلى استشراف الآفاق المستقبلية الكونية والإنسانية. الإبداع الصوفي الحقيقي،بهذا المعنى، لا ينطلق من صلب الحادثة التاريخية أو النفسية أو الاجتماعية، أو السياسية…. إنما هو كشف ورؤيا وجودية. وليس معنى هذا أن الشعر الرؤيوي لا يشمل الواقعة التاريخية الاجتماعية…. بل تشكل جزء بسيطا من تكوين العمل الإبداعي، لأن كل إبداع هو تجاوزباستمرار، وتفاعل مغاير لتفاعل الإنسان العادي والأشياء والعالم من حوله “ففي الرؤيا لا تجرد الأعمال الإبداعية من محتوياتها الاجتماعية والتاريخية والنفسية، بل بالعكس يكون الترابط قويا، ولكن في مستوى آخر أسمى وأعمق”[3].
الشاعر الحق هو من يتجاوز مقام النقل المباشر الساذج للأشياء في عالمنا الخارجي ويتجاوز مرحلة تركيبها وذاته إلى مقام والرؤيا، حيث لا مقام هناك إلا مقام الكشف،والشطح، والتجلي،وحيث تصير ذات الرائي وذات المرئي “وحدة مطلقة” .
لمقاربة نص ابن سبعين،علينا أن نصغي إلى حرارة تجربة الشاعر وتحولاتها الإيقاعية، ونتأمل من جهة ثانية عالم الأشياء والأكوان، لبلوغ حالة الرؤيا الشعرية. فهل يتحقق في هذه القصيدة مقام الرؤيا؟ كيف السبيل إلى ضبط هذه التجربة الرؤيوية؟ وهل أعاد الشاعر، فعلا، خلق العالم من جديد؟ كيف تتحرك الأحداث والوقائع تحركا شعريا إبداعيا؟ ثم أخيرا هل سننجح في القبض على رؤيا الشاعر ابن سبعين الصوفي؟
القراءة الأولى : إعادة إنشاء النص
نتغيا من خلال القراءة الأولى لقصيدة ابن سبعين، إعادة إنشائها بهدف البحث فيها عما يدهشنا، ننشد إلى عالم الشاعر حيث الدهشة المتولدة عن المعاني الأولية:
تتوزع القصيدة المتواليات التالية:
المتوالية الأولى: مقامات المحبين:(من البيت 1 إلى البيت 2)
المتوالية الثانية: تجربة الوصل:(من البيت 3 إلى البيت 6)
المتوالية الثالثة: التجلي ، موت:(من البيت 7 إلى البيت 8)
على أن محور هذه المتواليات ومنتهاها هو”العشق الإلهي”. فالعشق الإلهي هو أسُّ كل تغيير، من الانتشاء بكاسات الهوى إلى مرحلة الثمالة، ثم من مرحلة الثمالة إلى نشدان الوصول، ومن نشدال الوصول إلى الخوف من القتل/ المحو، الناجم عن التجلي/ القتل.
إن قصيدة ابن سبعين لا يمكن أن نتناولها تناولا عاديا ذلك أن معجمها وإن كان واضح اللفظ فإن دلالاته تغوص في أعماق النفس الإنسانية ،ولا يصل معانيها الخفية إلا من كابد لظى التجربة وثمل بخمرها . سنغامر بتشريح جسدها بمبضع صوفي من جنسها. تتمحور القصيدة حول فكرة رئيسة وهي مفهوم الحب من خلال المقارنة المتدرجة بين حقيقة تصور ابن سبعين له، وبين تصورغيره. يتدرج في توضيح المفهوم إلى أن يصل إلى النبع إلى الرواء إلى … الرؤيا.
يقول:
قل لمن طاف بكاسات الهوى = ونــأى عــن شربه لما ثمل
مــا مقامــات المحبيــن سَـوى = لا ولا العلم جميعا و العمل
فهو يوجه الخطاب إلى مخاطَب مفترَض يأمره بأن يوضح مفهوم الحب ودرجات تأثيره، باعتبار المحبة هي” أساس التجربة الصوفية وجوهرها الثابت، ونفسها الساري في الوجود”[4]. والسكر يعني عند المتصوفة الغيبة بالوارد القوي، وتنشأ عنه غلبة تمنع من التصرف بالاختيار، وهو”معراج السالكين لإفادته محو الحدث …والسالك لا يستغني عن السكر ما لم يخلص عن الصحو الأول، فإذا خلص إلى الصحو الثاني صار غنيا عن السكر”[5].ومقامات المحبين مختلفة في المعرفة والعمل، فالمعرفة هي البغية القصوى،صاحبها ذو انكسار دائم، ودمع عينه أو قلبه مدرار، قال تعالى: ( إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق)[6]،والمعرفة انكشاف يوجب رفع الغطاء عما استتر وتغطى، وهو يكون بحسب كل حضرة ومقام واستعداد وقبول. فالحب الصوفي لا بد لصاحبه من معرفة ذاته حق المعرفة لكي ينتقل بعدها لمعرفة أكبر وأجل : معرفة الله عز وجل” ومن شأن درجة المعرفة هذه أن تعرف المحبوب وتوحده بآن واحد باعتبار الحب الحقيقي لا يسعه سوى قلب واحد، والقلب بدوره لا يتسع إلا لمحبوب واحد بالضرورة”[7]، وكل ما سوى الله ” يتحد بكونه غيرا ووهما وحجابا وحدَّا، مما يهب السِّوى حُضورا مُتعددا بتعدد الإدراكِ من جهةٍ، وبتعددِ انشغالاتِ الناسِ وأوهامِهم من جهة أخْرى”[8]. وقد قال أحد الشعراء:
الطرُق شتى وطرق الحق مفرَدة = والسالكون طريقَ الحق أفرادُ
فشهود حضرة العرفان مانع من شهود الغير في الأكوان، روحٌ حياتها منادمةُ الحبيب عند غيبته وحضوره. ويسترسل العارف بالله ابن سبعين في شرح مفهومه لحقيقة الحب من خلال المقارنة:
لــيس مـــن فــوّه بالوصل له = مثل من سير به حتى وصل
لا ولا الواصلُ عندي كالذِي = قــرعَ البابَ وللـــدارِ دخــل
فكل من الفريقين يجهد نفسه عملا، وتقوى، ومكابدة لبلوغ مرحلة الوصول ، وذلك حسب درجة المحبة، لأن من أحب شيئا هانت عليه الصعاب في تحصيله، وقرب عليه البعد في تنويله، والمحبَّة تسهِّل على المرء خدمةَ محبوبِهِ، وتيسِّر عليه ما صعُبَ لنيلِ مرغوبه، ولذلك تجدُ المرءَ إذا أحب امرأة هان عليه أن يبذل جميع ماله، وإن أحب تجارة قطع في تحصيلها المفاوز. فالمحبة بهذا المعنى على نوعين:”محبة الإقرار،وهو للخاص والعام، ومحبة الوجد من طريق الإصابة، فلا يكون فيه رؤية النفس والخلق، ولا رؤية الأسباب والأحوال ، بل يكون مستغرقا في رؤية ما لله وما منه”[9]، وقال بلسان الحال والقال:أفعال المحبوب محبوبة على كل حال… فكيف بمن أراد محبة الله وقربه، وتوكل عليه، وأراد ما لديه، ومحبة الله ثابتة في كتابه، قال تعالى: ( والذين آمنوا أشد حبا لله ).
قال ابن سبعين:
لا ولا الداخل عندي كالذي = سار روه وهو للسِّر محل
لا و لا من سار روه كالذي = صار إياهم فدعْ عنكَ العِلَل
وهذا ينسجم مع رؤيا ابن سبعين الذي يقول بروحانية النفس، فالوصل عنده إدراك الغاية، وهو أول فتوح الدراية، وهو كل ما يفتح على العبد من الله من عبادة في الظاهر، وحلاوة في الباطن. والسر لطيفة مودعة في القلب كالروح، وهو ألطف من الروح، والروح أشرف من القلب، ولازم السر الكَتْمُ.
يقول ابن سبعين:
فمحوه عنه فيـهم فامَّحــا = ثــم لمــا أثبتوهُ لم يزلْ
ذاك شيءٌ علِقَ القلبُ به = لو تجَلَّى ذلكَ للخلقِ قتَلْ
فالمحو رفع أوصاف العادة، والإثبات إقامة أحكام العبادة، فكل من نفى عن نفسه الخصال الذميمة، وأتى بالحميدة فهو صاحب محو وإثبات،قال القشيري رحمه الله: “سمعت أبا علي الدقاق، يقول: قال بعض المشايخ لرجل:أي شيء تمحو،وأي شيء تثبت؟ فسكت الرجل،فقال:أما علمت أن الوقت محو وإثبات، من لا محو له ولا إثبات فهو معطل”[10]، ويقول تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)[11]،قيل: يمحو عن قلوب العارفين ذكر غير الله، ويثبت على ألسنة المريدين ذكر الله. والقلب جوهر نوراني مجرد بسيط بين الروح والنفس، وهو الذي تتحقق به الإنسانية، وقد سماه الحكماء بالنفس الناطقة.
أما التَّجلِّي فهو رفع حجاب البشرية بين العبد وربه، قال القشيري:”العوام في غطاء الستر، والخواص في دوام التجلي، وفي الخبر:إذا الحق لشيء خضع له، وانظر إلى خبر الجبل حين دُك واضمحل، فصاحب التجلي أبدا ينبع خشوعه سرمدا، والستر للعوام عقوبة، وللخواص رحمة، إذ لولا أنه يستُر عليهم ما يكاشفهم به لتلاشوا عند تجلي سلطان الحقيقة”[12]، وهذا هو المقصود بقول ابن سبعين :
ذاك شيء علق القلب به = لو تجلى ذلك للخلق قتل
فشعر ابن سبعين رؤيا ومشاهدة بما تعنيه من مطالعة الجلالِ والجمالِ ببصيرةِ القلبِ بوجهٍ يقوم به العيانُ من حيث لا وهْم ولا كيف، هي رؤيا للحق في كل ذرة من ذَرات الوجودِ.
القراءة الثانية : القراءة الاستعادية
ينهض النص لغويا على:
التكرار: ويظهر من خلال تكرار/ تأكيد ابن سبعين على ألفاظ بعينها، مثلا لا حصرا:
لا: تكرر حرف النفي هذا 8 مرات.
الوصل: تكررت مشتقاته: الوصل، وصل ، 3 مرات.
الذي: تكرر 3 مرات.
سار: تكرر مرتين (سير، سار)
صار: تكرر مرتين، في بداية عجز البيتين 5 و 6
امحى: تكرر مرتين.
والتكرارهاهنا يؤدي وظائف دلالية وتداولية، ويحمل معاني إدراكية، تجذب، وتثير، وتوجه أفق انتظار القارئ. تتضافر هذه المفردات جميعها وتتعالق وتتعانق مما يؤدي إلى رباط وثيق بين أجزائها، ومرد ذلك أن نواتها واحدة، بالرغم من عدم الإعلان عنها بشكل مباشر، وهي “المحبة الإلهية” التي تأتينا عبر متناقضين اثنتين: الوصول ≠ عدم الوصول. “معنى هذا أن أي شعر أو أي شاعر، وخصوصا إذا كان شعر محبة، يحقق الانتظام والتناغم، وإذا ما توقفنا عند هذه الثوابت الكونية الإنسانية، فإن خصوصية الحضارات والثقافات والأشعار وأشعار كل شاعر على حدة لا يمكن التمييز بعضها من بعض”[13]“.
تنهض إذن، قصيدة ابن سبعين على مستويين اثنين: مستوى يمثل الوصول، وتحقيق السعادة والاتحاد، ومستوى آخر يمثل الانكسار وعدم الوصول بسبب عدم اكتوائه بحرارة اللحظة؛ إذ اكتفى بالنأي، والإعلان عن الوصول.
ليس من فوه بالوصل له مثل من سير به حتى وصل
والمستويان يتقاطعان عبر فضاء النص اللغوي في صورتين اثنتين:
أ. صورة الوصول الحقـيقــــــي،
ب. صورة الوصول غير الحقيقي
يشكل البيت الثالث بؤرة توتر النص، فالمسافة بين عالم الوصول، حيث المحو والتجلي/الموت، هي غيرها في عالم “عدم الوصول”، حيث تتلاشى الحدود الفاصلة بين الناسوت واللاهوت، وحيث الاتحاد/المحو الذي يتم بموجبه الذوبان، “وتعلق القلب به”.
اللغة في هذه القصيدة لا تنقل معان محددة وملموسة، لأن ما تمثله هو عوالم متخيلة، تكشف أعماق الشاعر وتتيح إمكانية الحفر في لاوعيه،”إن الشعر تخيل وإبداع، قد يرتبط بهذا الواقع، وقد ينفصل عنه، ثم يكون في الحالين معا مجرد تصور لابد من أن يستقل بوجوده الذاتي، فيمارس فعاليته خارج إطاره الأولي”[14].
التداعي: وهو حالة نفسية ترتبط بالمجال التخيلي الذي يحياه الشاعر العاشق للذات العلوية، حيث لذة القرب، والسكر بلقاء الحبيب، وحيث لا يمكن للرائي أن ينظر صفة من صفات البشرية:
ذاك شيء علق القلب به = لو تجلى ذاك للخلق قتل
ويمكن التمثيل لهذه الحالة من التداعي على النحو التالي:
شرب كاسات الهــوى ± النـــأي بعـــــد الثمالــــة
مقــامــات المحبيـــــن ± الجهد، والعلم، والعمــل
الوصل ليس مجرد كلام ± الوصل جهـــد وألــــم
الــرؤيــة القلــــبيــــــة ± كل تجلى حقيقي مـوت
هذا التداعي، الحر، يشكل بدوره حقلا دلاليا من أهم خصائصه التجاذب بين محورين اثنين، القرب ≠ البعد، القرب من مقام الله والتوحد معه، والبعد عنه لكل من شرب كاسات الهوى وابتعد لما ثمل….
عدم الوضوح: حيث تبدو اللغة، لنا كمتلقين، في أول وهلة أنها لغة عادية، واضحة لا لبس فيها ولا غموض، إلا أنها عكس ذلك، تضعنا في مأزق، بمجرد ما نحاول القبض عليها واستكناه جوهر دلالاتها العميقة، إذ سرعان ما تتحول من لغة عادية بسيطة (كاسات، الهوى، لا، التجلي… الخلق، قتل….) إلى لغة متوترة ومتموجة، ولها قدرة خارقة على الخلق وخلخلة عالم الأشياء، وهذا ينم عن وعي الشاعر ابن سبعين بلغته الشعرية الصوفية، مما أتاح له خلق لغة شعرية جديدة تمتح من الذات (الواصل عندي، الداخل عندي)، وتجعلها- الذات – منطلقلها ومنتهاها.
الصورة الشعرية : ألح الشعراء العرب على دور الخيال في صناعتهم الشعرية، وعلى ما له به صلة مثل الأحلام… والخيال ملكة من الملكات الإنسانية النفسانية، وهو واسطة بين الملكات العقلية وبين الحواس، وهو طرف ثالث ينتج عن معرفة أو موقفا قد يكونان – المعرفة والموقف – مألوفين أو غير مألوفين، قديمين أو جديدين٬يتجلى الخيال في “التشبيهات والاستعارات والمقايسات والقياسات، والتمثيلات والأساطير”[15].
يتجسد الخيال في نص ابن سبعين عبر استغلال طاقات المجاز، كصورة شعرية تنقل القارئ من المألوف إلى غير المألوف: فلننظر إلى :”قل لمن طاف بكاسات الهوى” / “وهو للسر محل” / “ذاك شيء علق القلب به”…. هكذا يعمد الشاعر إلى المجاز المرسل يعبر به عن تجربته الرؤيوية، لتقريب المعنى الصوفي لذهن المتلقي، بإلباس المعاني الخفية الغامضة لباسا حسيا، يوضحها ويقربها إلى الإدراك والفهم.
القصيدة، ككل، استعارة موسعة / صورة كبرى، تعكس مدى انزياح الشاعر عن المتداول اليومي، وخرقا لقانون اللغة “إن العلاقة بين الأشياء تتشابك وتتعقد في الاستعارة أكثر منها في التشبيه. (….) وكلما دخلت العلاقات في صورها المعقدة، كان الشعر أقرب إلى الإبداع الحق”[16].
إن الصورة / الصور، تشكل قوة خلاقة قادرة على نقل تجربة المبدع وحالته النفسية، وهي بذلك تمثل روح الشعر: فصورة: ( طاف بكاسات الهوى) لا تمثل المعنى الحقيقي، لأننا لو سلمنا بذلك لفسد المعنى الجوهري للنص، فما يعنيه الشاعر بكاسات الهوى، لحظة السكرفي مقام التجلي، ولو أخذنا المعنى الحرفي للجملة/ الصورة لقلنا: إن للهوى كؤوس والهوى هنا مجرد غير ملموس، غير حسي، في حين أن الكؤوس مميزاتها المقولية أنها ملموسة، مادية، إذن إسناد ملموس لغير ملموس يؤدي إلى فجوة التوتر بين النص كخطاب أدبي، ومتلقيه كحامل لحمولات معرفية إيديولوجية، دينية. تصوير الهيام/العشق الإلهي يختلف تماما عن تصوير الهيام الحسي، وبالوصول إلى العشق المطلق، السرمدي تذوب الحدود والفواصل بين الإنسي والإلهي، وهنا بالذات تكمن مطلقية وحقيقة النص الصوفي.
“إن الخيال بأنواعه هو الوجود الإنساني نفسه، فهوما يقتضي نجاح الإنسان في هذا الكون أو فشله ، الخيال ما يشيد مقارنات بين أطراف متعددة لربط صلات بينها حتى يمكن التنقل في مجالاتها وحماها، الخيال جسور بين جزر الكائنات ، الخيال منظم للكون وجوهر الشعر الخلاق ، الشاعر إذن ينظم الكون وينتظمه ، والشاعر ينظم ذاته وينظمها قبل تنظيم الكون ونظمه” [17].
القصيدة صورة كبرى مركبة من صور صغرى جزئية محكومة بتيمات العشق، والتوحد والفناء …تنثال الصور تباعا لتأثيث فضاء النص وخلق جو رؤيوي من أخص خصائص الانزياح والبعد عن اللغة العادية.
إن المرئيات هنا تأخذ شكلا جديدا ينبع من نفس الشاعر ووجدانه، إنها ليست المرئيات الظاهرة المألوفة في عالم الناس، ولكنها تجربة روحية تفتح أمامنا أفقا مغايرا لكل ما هو معتاد، حسي … وبالرغم من استعمالات المجاز، فهي ليست قريبة المتناول لأنه يصعب هنا الحديث عن القلب بالمفهوم الحقيقي له أو المجازي، كذلك النفس والاشتياق، ذلك أن لغة الصوفية لا يفهمها إلا الصوفية أنفسهم ، وكل مقاربة من نوع ما للقبض عن المعاني الحقيقية للنص هي من قبيل التجنِّي والرميِ بالغيبِ .
الشعر الصوفي، شعر خيال ورمز بامتياز، والرمز كما يعرفه أدونيس : “هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئا آخر وراء النص فالرمز هو قبل كل شيء معنى خفي وإيحاء “[18] إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، إنه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالما لا حدود له . لذلك هو إضاءة للوجود المعتم ، واندفاع صوب الجوهر”[19].
التشاكل الصوتي
بالنسبة للتوازي/التشاكل الصوتي في النص، يتمظهر عبر تكرار الأصوات اللغوية، والوزن الشعري. هذا التكرار لا يؤدي ضرورة وحتما إلى الرتابة والجمود، بل إلى اكتناه الفاعلية الرؤيوية المتأصلة، أساسا، في الذات الإنسانية التي تنزع نحو الخلود، وذات المتصوف المتشوقة دوما إلى التوحد بالذات الإلهية.
اعتمد ابن سبعين على تبئير صوت اللام عبر تكراره 37 مرة طول جسد القصيدة، وهو صوت جهير يشاكل لحظة عنف الاشتياق. فقد ولد تكراره، أولا، توازنا إيقاعيا داخليا، وثانيا اقترن بذات الشاعر المتوثبة المتأهبة التي تشعر بقوة، وجسامة لحظة التجلي – القتل- التي تمحى فيها الحدود والفواصل بين الذات المبدعة، والذات العلوية، موضوع المحبة: الله.
فإذا كان التكرار الصوتي وغير الصوتي في الخطاب غير الشعري عبارة عن حشو وإطناب لا مبرر له، فإنه في الخطاب الشعري إطناب معنوي يقصد إلى إيراده عنوة، وهذا ما حصل بالفعل في القصيدة التي بين أيدينا.
يتبين أن الصامت “اللام” ورد في البيت الأول والثاني أربع مرات، وفي البيت الثالث والرابع والخامس خمس مرات، أما البيت السادس فورد فيه صوت اللام أربع مرات، وفي البيت السابع ثلاث مرات، أما في البيت الثامن فسبع مرات. على أن هناك ملاحظة يجب الإشارة إليها، وهي أن الأبيات: 3 و 4 و 5 و 6، تبتدأ بصوت اللام، وتختتم بالصوت ذاته، مما يقوي التجانس الصوتي بين مكونات الأبيات الشعرية، ويعضد الصناعة الفنية، بمضارعة الأبيات وتماثلها، فهي “لا تؤالف إلا لتخالف”[20]، والمخالفة تتم هنا من خلال مناقضة صدر بعض الأبيات بعجزها: البيت 2 والبيت 3 والبيت 4 والبيت 5 والبيت 6، وهذا يعني أن الشاعر ضاعف من التماثل المبني على الاختلاف، التماثل الصوتي “التجنيسي” الذي يقابله “التضاد المعنوي”. نستنتج أن التكرار قد يكون لفظيا (لا، صار، الذي…) يفيد معنى التأكيد أو التكثير، وقد يكون أيضا تكرارا لبعض الصيغ الصرفية، أي اعتماد بنية صرفية واحدة، (لا ولا…. كالذي)، هذا التكرار ولَّدَ إيقاعا موسيقيا مطَّردا.
تتكرر ظاهرة الاشتقاق والترديد، وقد استعملها ابن سبعين استعمالا ملحوظا: الواصل، الوصل، وصل / سير، سار / محوه، امحى وتتميز هذه الاشتقاقات بتقوية الاختلاف الدلالي المومئ إليه سابقا.
ليس من فوه بالوصل له = مثل من سير به حتى وصل
فكلمة (الوصل) مسبوقة بحرف النفي ليس، في حين (وصل) تثبت الوصول الحقيقي الذي يتغياه الشاعر، (بالوصل) سلب، و (وصل) “إيجاب”، وهذا هو سر الاختلاف المعنوي، ويمكن ان نقيس ذلك على بقية الأبيات التي تبرز فيها هذه الظاهرة.
عروضيا: نظم ابن سبعين قصيدته على قالب وزني موحد هو بحر الرمل:
فاعلان فعلاتن فاعلن = فاعلاتن فعلاتن فاعلن
جاءت العروضة محذوفة (فاعلن)، والضرب مثلها (فاعلن) ، معنى ذلك أن الصدر والعجز متعادلان في الطول وفي عدد التفاعيل، ثلاثة في كل شطر شعري: التفعيلة الأولى من كل شطر صحيحة (فاعلاتن)، والثانية مخبونة (فعلاتن)، والثالثة محذوفة (فاعلن)، مما جعل البنية الصوتية المجردة للوزن الشعري تتكرر بشكل متواز، متساو على مدار القصيدة. وأن تسير القصيدة على نمط واحد يكسبها تشكلا موسيقيا متناغما، ووحدة إيقاعية قد تقربها إلى الرتابة.
إلتزم ابن سبعين في نهاية كل بيت شعري بتكرار وحدة موسيقية من أول النص إلى آخره (فاعلن): إنها القافية، كعنصر بنائي، ومكون إيقاعي يسهم بدوره في بناء البيت الشعري /القصيدة، بتكرار حركاتها وحرفها الأخير: الروي، فالروى هنا هو صوت اللام المجهور.
التكرار، قانون يحكم العمل الفني الأدبي، ويتخذ أشكالا متعددة، تكرار الصوامت،تكرارالصوائت،تكرارالكلمات،تكرارالقافية،تكرارالروي،تكرارالتفاعيل، وتكرار البحر الشعري على امتداد النص الشعري، وهذا ما يفسر قوة الفاعلية الصوتية والدلالية للتكرار، لما حققه من وظائف الإلحاح والتوكيد والربط والتماسك في البناء الشكلي للنص وتشييد دلالاته.
القراءة الثالثة : رؤيا الشاعر
رحلة الشاعر ابن سبعين لم تكن جغرافية ولا طوبوغرافية، لا واقعية ولا خيالية، رحلة مليئة مساراتها بالمحبة الإلهية، تطول مسافاتها وتطول معها رحلة الشاعر، بحثا عن التوحد مع اللانهائي، المطلق.
لا يتوقف الشاعر عن الشدو الصوفي، حيث ينتفي الحقد والكراهية، وتمتزج الحياة بالفناء، حينها، وحينها فقط يعلن شاعرنا الانتصار، وينتشى بخمرة وجمرة الحروف في محراب التجلي الإلهي، في معبد الحب المقدس لا المدنس، فتتبخر الكلمات (لا، لا…) لتستحيل نسيما إذا استشفه شهريار مثلا، ينسي غدر النساءـ وتشفى جراحات قلبه. ويعشوشب الأمل من جديد لاستكمال رحلة التوق لقطع المسافات اللامتناهية.
الشاعر يستشرف الآتي ويحاول أن يتعرف ملامح المجهول، ويستكشف اللحظة بكل تجلياتها، وبرود الآفاق البعيدة ليطل من خلل ذلك على مصيره٬ قدره الخاص والعام، وذلك أن الشاعر في رحلته الوجودية، النبوئية، الرؤيوية، الفكرية والإنسانية يعرف، قطعا، أن رحلته لا تنتهي في فراغ الوقت والأشياء، حيث مواجهته الجادة حميمة وقاسية وصعبة مع الفكرة، فكرة التوحد مع الذات الإلهية، حيث تمة مقام السكر والفناء السرمدي.
إن ابن سبعين يعد من مفكري الإسلام الأكثر بحثا في موضوع الوجود “فالله هو مبدع الوجود، وكل ما هو موجود قد فاض عن الحق، مبدؤه وتمامه، مرده إلى مبدعه الأول، والفيض متواصل ومستمر، فلا خلق من عدم مطلق، بل فيض وجدودي لا ينقطع”[21]. هذا الفيض / التجلي تعلقُ القلبِ بالذات العلوية، لأنه “لو تجلى ذاك للخلق قتل”، على هذا الأساس، فرؤيوية ابن سبعين تتمثل عنده في معاني النص، ومبناه، وتناغمهما مع الكون وتجلياته، ومعنى ذلك “أن المعرفة الشعرية الخالصة هي التي تكشف بحق عن تلك العلاقات المعقدة التي تجمع بين الأشياء ويعكسها نوع من البناء اللغوي يتسم بالغرابة، وصفة الغرابة هذه ليست سوى استجابة ضرورية لمعطيات الرؤيا”[22].
أ- المصادر: القرآن الكريم
ب - المراجع
أحمد الطريسي أعراب:
- التصور المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي، والشعري، طبعة 1989.
- الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب، طبعة المؤسسة الحديثة، الدار البيضاء والدار العالمية، بيروت، لبنان.
- الشعرية بين المشابهة والرمزية، دراسة في مستويات الخطاب الشعري، منشورات بابل، الرباط، ط 1991.
إدريس بلمليح:
المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب من خلال المفضليات وحماسة أبي تمام، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، رقم 20، طبعة 1995.
أدونيس :
- زمن الشعر دار العودة ، بيروت 1978 .
- الشعرية العربية ، دار الآداب، طبعة 1 ، 1985.
القشيري :
الرسالة القشيرية ،دار الكتاب العربي ،طبعة 2013
خالد بلقاسم:
الصوفية والفراغ، الكتابة الصوفية عند النفري، المركز الثقافي العربي،ط 1، 2012 .
عبد المنعم الحفني:
معجم مصطلحات الصوفية، دار المسيرة، بيروت – لبنان، ص.132.
محمد العمري :
اتجاهات التوازن الصوتي في الشعر العربي، مطبعة النجاح الجديدة، 1990.
محمد العدلوني الإدريسي:
- التصوف الأندلسي،أسسه النظرية وأهم مدارسه، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة 1 / 2005.
- نظرات في التصوف المغربي ، تأليف وتنسيق، دار الثقافة ، مطبعة النجاح ، الدار البيضاء ، الطبعة 1/2006.
محمد الراشد:
نظرية الحب والاتحاد في التصوف الإسلامي، من الحب الإلهي إلى دوامات الاتحاد المستحيل،دار النشر صفحات، ط4، 2010.
محمد الظريف:
الحركة الصوفية وأثرها في أدب الصحراء المغربية (1800-1956) ،منشورات جامعة الحسن الثاني،المحمدية، المملكة المغربية،ط1،2002 .
محمد مفتاح:
- الشعر وتناغم الكون، التخييل، الموسيقي، المحبة، مطبعة المدارس، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2002
[1] – هو أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر (614 هـ / 669 هـ) .عرف بابن سبعين المكي المرسي الأندلسي ثم البستي المغربي ، درس العربية والآداب بالأندلس. من تلاميذ ابن عربي الحاتمي. من مؤلفاته نذكر: بد المعارف وعقيدة المحقق المقرب الكاشف وطريق السالك المتبتل العاكف – كتاب الدرج – الدرة المُضية والخافية الشمسية ….
[2] - نظرات في التصوف المغربي ، تأليف وتنسيق محمد العدولوني الإدريسي دار الثقافة ، مطبعة النجاح ، الدار البيضاء ، الطبعة 1/2006 ص. 105 .
[3] – أحمد الطريسي أعراب، التصور المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي والشعري، طبعة 1989، ص. 47.
[4] – محمد الظريف، الحركة الصوفية وأثرها في أدب الصحراء المغربية (1800-1956) ،منشورات جامعة الحسن الثاني،المحمدية، المملكة المغربية،ط1،2002 ، ص.298.
[5] – عبد المنعم الحفني، معجم مصطلحات الصوفية، دار المسيرة، بيروت – لبنان، ص.132.
[6] – الأنفال:17
[7] – محمد الراشد، نظرية الحب والاتحاد في التصوف الإسلامي، من الحب الإلهي إلى دوامات الاتحاد المستحيل،دار النشر صفحات، ط4، 2010، ص.111 .
[8] – خالد بلقاسم، الصوفية والفراغ، الكتابة الصوفية عند النفري، المركز الثقافي العربي،ط 1، 2012 ، ص.117.
[9] – محمد الراشد، نظرية الحب والاتحاد في التصوف الإسلامي، من الحب الإلهي إلى دوامات الاتحاد المستحيل،ص.68.
[10] – الرسالة القشيرية،ج.1،ص.241.
[11] – الرعد،الآية 39.
[12] – الرسالة القشيرية ،ج.1،ص243.
[13] – محمد مفتاح، الشعر وتناغم الكون، التخييل، الموسيقى، المحبة، الطبعة الأولى، 2002، ص.153.
[14] – إدريس بلمليح، المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب من خلال المفضليات وحماسة أبي تمام، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، رقم 20، طبعة 1995، ص 30.
[15] – محمد مفتاح، الشعر وتناغم الكون، ص 150.
[16] – أحمد الطريسي أعراب، الشعرية المشابهة والرمزية، دراسة في مستويات الخطاب الشعري، ص 23.
[17] – محمد مفتاح ، الشعر وتناغم الكون، ص. 158/159
[18] – الشعرية العربية، دار الآداب ، طبعة 1985،ص.56.
[19] – أدونيس، زمن الشعر، ص. 160.
[20] – محمد العمري، اتجاهات التوازن الصوتي في الشعر العربي، مطبعة النجاح الجديدة، 1990، ص 28.
-[21]محمد العدلوني الإدريسي، التصوف الأندلسي، أسسه النظرية وأهم مدارسه، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة1، 2005، ص. 225.
-[22] أحمد الطريسي أعراب، الشعرية بين المشابهة والرمزية، دراسة في مستويات الخطاب الشعري، ص. 20.
الدكتور مولاي حفيظ العلوي