نقوس المهدي
كاتب
كيف يرقى فكر الحداثة إلى شعر أديب العربية الأكبر
أبو العلاء المعرّي أحد أكبر مفكري الحضارة العربيّة الإسلاميّة. حمته هذه الحضارة واحتفظت به لروعة شعره ولعظمة فكره، حيث أثّر فيها أكثر ممّا يعترف به معظم ورثة هذا الحضارة اليوم. الخوض في فكر وشعر المعرّي إشكاليّ، لأنّه ذهب بفلسفته أبعد من معاصريه، واستبق الحداثة الغربيّة بقرون، وبقي، مع ضعف صاحبه الجسديّ، واقفاً أمامنا حتّى اليوم يؤرق ويسائل. حيث يأتي تحدّي ترجمة "لزوميّات"ـه إلى الفرنسيّة اليوم كدعوة إلى التمحّص في فكر هذا المبدع وفي إشكالية الحداثة.
ليس في ديوان الأدب العربي على عظمته وجلالة قدرته ما يجزيء عن أدب أبي العلاء المعري من نبيل المقصود وتعدّد المناحي وقوّة الشخصيّة؛ فكلّما تحرّر العقل وسمت المدارك وتهذّبت النفس ازداد الإعجاب بأدب أبي العلاء. لقد جمع المعري في شخصيّته، بالإضافة إلى نبوغه الفطري، الإخلاص في خدمة الحقيقة والقوّة في مهاجمة الفساد، فتمكّن من فسح أفقٍ جديد يستعلي على كلّ ما سبقه. وإن يقرّ الجميع بأنّ فكر المعرّي بعيد الغور واسع الأفاق متشعّب الأغراض، فلم يفهم في رأينا القدماء كما لم يدرِك أبناء هذا العصر مدى أهميّة فكر هذا العبقريّ الكبير بما يخصّ مستقبلنا.
ففي وقتٍ يتخبّط فيه مجتمعنا - بقدر ما يشرِد فيه الغرب - ما بين مذاهب دينيّة متحجّرة ومفاهيم عقلانية غثّة، يصعب على الفكر العربي والإسلامي أن يبتكِر طريقاً حديثاً بعيداً عن الأصوليّة الإسلامية والليبرالية الإنتفاعية. يصعب عليه أن يشقّ سبيلاً ينبثِق من تراثنا العربيّ وينفِذ إلى أفاقٍ جديدة يُرسّخ فيها سلطان العقل دون حسم مسألة الإيمان، بحيث أنّ رفض الدغمائية والإعتقادية لن ينتهي إلى نسبيّةٍ أخلاقية وماديّة شرهة، بل تصبح الحرية والمسؤولية الشخصيّة هي الأصول لاعتناق القيم الإنسانية الكليّة. وفي رأينا، أغلبية المعطيات الفكريّة المطلوبة لحلّ هذه المعضلة شبه المستحيلة موجودة في أدب أبي العلاء.
ولد المعرّي سنة 973م. أصيب في الرابعة من عمره بداء الجدريّ وكفّ بصره. فكُرّست حياته على الدرس والعلم. وبعدما اختبر الحياة وتجاوز الثلاثين انصرف المعري عن زخرف الدنيا إلى الأدب والتفكير واعتزل في بيته بعيداً عن الملذّات (حيث كان نباتياً) يصوم ويألّف ويدرّس ولبث تسعا وأربعين سنة "رهين المحبسين" (أي بيته والبصر) مترقّباً الموت حتى وفاته سنة 1057م. ترك المعرّي تصانيف متعدّدة؛ وكتابه الرئيسيّ الذي ألّفه خلال عزلته هو ديوانه "لزوم ما لا يلزم" (الذي يعرف بـ"اللزوميّات").
ولئن كُتِبَ عن المعرّي الكثير من الأبحاث، فإنّها لم تزل لم تفِه حقّه. إذ ما تزال كتاباته، ولزوميّاته على الأخصّ، لُغزاً محيّراً، لدرجة أنّ الرقابة تمنع نشرها في بعض الدول العربية. في هذه الظروف، عندما تطرّقنا في مؤلّفنا الجديد إلى ترجمة مقتطفات من شعر اللزوميات إلى الفرنسية كان لِزاماً علينا بذل جهدٍ إضافيّ في الولوج إلى فكر الشاعر، بل وشرحه أيضاً ضمن السياق التاريخيّ لتطوّر الفكر العربي.
فكر التناقض
الصعوبة الكبرى التي تفرضها اللزوميات هي بلا شكّ ما يقدّمه فكر الشاعر من اضطرابٍ وتناقض، على الأقلّ ظاهريّاً. فعندما نجِد المعرّي في بعض المقاطع يناشِد العقل ضد العقائد الدينية، فإنّنا نراه في مقاطعٍ أخرى يُظهِر عجز العقل وشلله كي يسلّم أمره إلى رحمة الله.
أمام تلك التناقضات المتعدّدة للزوميات المعري، قام بعض النقاد بتأويل هذه اللزوميات حسب آرائهم الخاصّة، معتمِدين بعض المقاطع دون الأخرى. وبالتالي أصبح المعري في رأي البعض ارتيابيّاً، وفي رأي البعض الأخر عقلانياً. فمنهم من نعته بالتُّقى وحسن العقيدة، ومنهم من حكم عليه بالكفر والإلحاد. كما أنّ بعض المقاطع المنعزلة قد حوّلته تارةً إلى شيعيّ وتارةً أخرى إلى إسماعيلي أو درزي أو صوفي أو برهماني.
لكن المعرّي ذاته يحذّرنا بأن تجزئة الشعر "يغيّر معناه" (ج 2 ص 305) [1]. وبذلك ألاّ يكتفي شرح شعره بمعنىً يفسِّر فقط بعض المقاطع المتطابقة فيما بينها، بل عليه أن يقدّم أيضاً تفسيراً لكلّ المقاطع حتى تلك المتناقضة منها. إذ بحسب رأي بسكال (Pascal) وهو مفكّرٌ فرنسي يُعتبر تناقضيّاً، فإن "فكر كلّ مؤلَّفٍ له معنى يوافق جميع مقاطع كتاباته، إلاّ فإنه سيكون دون معنى" [2].
المعرّي ليس إذاً روحاً شاردة وكئيبة أو مجرّد ناظم شعرٍ بدون تعمّقٍ فكري، كما يدّعيه بعض النقّاد؛ بل يُمكِن تقديم تفسيرٍ متماسكٍ لكلّ ما قاله. يجب أيضاً الإشارة هنا، أنّه لا يمكِن تفسير التناقضات القائمة في اللزوميات بذريعة التقيّة (أي إخفاء الآراء الدينية للتخلّص من الاضطهاد) كما ظنّ الكثير من الباحثين؛ بدليل أن الادعاءات الأكثر عرضةً للاتهام بالكفر هي الأصرح والأوضح عند الشاعر. بل يلتزِم المعري الصيغ المتناقضة والمجزّأة والمتعدّدة المعاني في الحقيقة لعرض المحتوى المتناقض لفكره، لا خوفاً من المحكمة الدينية. وهناك برأينا نقط بداية لا بدّ من تفصيلها للدخول إلى فكر هذا الشاعر والمفكّر الكبير.
المعرّي يراهن على وجود الله
الله، بالنسبة للمعري هو في علم الغيب؛ حيث يقول "ليس لنا علم بسرّ الله" (ج 2 ص 378). وبالتالي فإنّ وصف المعرّي الله بأنّه "حكيم" (ج 2 ص 104) يفتح باب تساؤله حول حكمة هذا الخالق (ج 2 ص 103) حتى يكاد أن ينظر إلى الخلق كونه عملاً غير معقول؛ فيقول "خلقنا لَمَم"، أي أنّ خلقَنا هو نوعٌ من الجنون (ج 2 394 )، لأنّه في النهاية لا أحد يعرف "مُراد إلهنا" (ج 2 ص 550). وعلى النحو ذاته يردّ المعرّي على القول بأنّ الله "بلا مكان ولا زمان"، بأن هذا الكلام مُبهَم، فـ"معناه ليست لنا عقول" (ج 2 ص 270). كما يردّ على مقولة بأن "الله واحدٌ أحد"، إن هذا التأكيد ليس إلاّ "تقليداً رضينا به" (ج 1 ص 324).
وبما أن التفكير العقلاني لا يفيدنا بأيٌّ أمر إيجابي بشأن الله، فكذلك لا يمكن أن يفيدنا أيضاً أيّ حدسٍ مباشِر أو أيّ تجربةٍ خارقةٍ للطبيعة وفق رأي المعري. ولذلك فإنّنا نجده يهاجم الصوفيين بعنف: فهم يشردون في خيالٍ مُضلِّل وينتشون من وجدهم "كأنّهم ثمالٌ من كميت" (ج 1 ص 240). وفي الحقيقة هم ليسوا "أهل صفو" (ج 2 ص 155)، بل "جندٌ لإبليس" (ج 1 ص 120)، لا يسعون إلا لمتع الدنيا وللذّات "الفرج والبطن" (ج 2 ص 575).
هذا الموقف السلبي (التنزيه) الذي يبعد الله عن كلّ عبارةٍ أو معرفةٍ إيجابية به، يثير شكّ المعرّي حتّى في وجود الخالق. وللدلالة على أنّ وجود الله هو إمكانية لا يمكن إدراكها، يتبنّى المعرّي في ذات الوقت أقوال الذين يرون في بدائع الخليقة إثباتاً لوجود الله فيقول: "صنعة عزّت الأنامَ بلطف وعزتها إلى القدير العوازي" (ج 1 ص 631)؛ كما يتبنّى في الوقت ذاته ارتياب الذين يروا في تلك البدائع حُججاً للشكّ فيقول: "وقد أُمِرنا بفكرٍ في بدائعه وإن تَفَكَّرَ فيه معشرٌ لحدوا" (ج 1 ص 324). وفي مقطعٍ آخر يحيّره الإلحاد والإيمان حتّى لا يمكنه التمييز بين التصديق والإنكار فيقول متعجّباً متهكِّماً: "عجبي للطبيب يلحِدُ في الخالق من بعد درسه التشريحا" (ج 1 ص 294).
ولكن بالرغم من هذه الحيرة، فإنّ المعري يؤمن بالله (ج 1 ص 383). ولكن إذا لم يكُن هذا الإيمان نابعاً عن قناعةٍ عقليّة بوجود الله أو عن إدراكٍ مباشرٍ له، فما الذي يبرّره؟ تحليل شعره وفكره يمكّننا من القول إنّ هذه القناعة تعود إلى إرادةٍ شخصية. حيث أن فكرة الله لا تُثبَت على أيّ مستوى من الواقع؛ بحيث يتطلّب الإيمان دفعةً من الإرادة. وهكذا المعرّي فإنّه "يثبت" لنفسه أنّ الله "خالقٌ حكيم" لكي يبرّئ نفسه "من معشر نُفاة" (ج 1 ص 229).
فالإيمان قيمةٌ غير مشروطة بقدر ما هو خيارٌ نفيسٌ يُمتثل له مهما كُلّف الأمر: " فلتشهد الساعات والأنفاس لي أنّي برئت من الغويّ الجاحد" (ج 1 ص 393). وهذا الإيمان لا ينفصل عن المخافة: " أخاف من الله العقوبة آجلا وأزعم أنّ الأمرَ في يد واحدٍ" (ج 1 ص 366). وهكذا ينجم وجود الله عند المعرّي عن يقينٍ غير مؤكّد يمكن تشبيهه بيقين العقل العملي عند كانط (Kant) أو بيقين القلب عند بسكال (Pascal). هذا اليقين لا ينتج عن برهانٍ ولا إثباتٍ ولا حدس، بل يتولّد عن فرضيّة أو بمعنى أفضل عن مراهنة.
في تلك الظروف، لا يمكن للله أن يكون إلاّ غائباً وظاهراً منذ الأزل؛ فهو موجودٌ ولكنّه لا يظهر وكما يأتي في القرآن الكريم إنّه "الظاهر والباطن"، حيث يقول المعرّي أنّه "محتجبٌ بادٍ" (ج 1 ص 118).
النقد المزدوج للدين والعقلانية
يناقض هذا المفهوم للإيمان بشكلٍ جذريّ الديانات العقائدية القائمة التي تؤمِن بأنّ وجود الله أمرٌ لا ريب فيه وأن الوحي هو حقٌّ ويقين. في حين أنّ انتقادات المعرّي تجاه الأديان معروفة : فالأديان ليست في الحقيقة إلاّ "مكرٌ من القدَماءِ أرادوا بها جمع الحطام" (ج 1 ص 64) و"أباطيل زخرفٍ كذّبوه" لخداع الناس (ج 1 ص 87). فلأجل السلب والسيطرة تتزاحم الديانات وتثير بين الناس البغض والنزاعات: "فذا عمرٌ يقول وذا عليّ" (ج 2 ص 641) و "كل شريعة تُبدي لمُضمَرِ غيرها إكفارَها" (ج 1 ص 511). فالحقد الذي تضمّره الديانات يولّد لا محالة في النهاية القتل والإرهاب (ج 1 ص 120).
من ناحية أخرى، تشجّع الديانات برأي المعرّي فساد الأخلاق وتكفل شتى أنواع الفجور. حيث يتساءل "هل أُبيحت نساء الروم عن عرض للعرب إلاّ بأحكام النبوّات؟" (ج 1 ص 228) وهل أدّت البدع الإسماعيلية إلاّ إلى "إحلال نسوتهم معرضات لأهل الباطن الفجر؟" (ج 1 ص 540). حتّى الفروض الدينية ومن بينها صلاة الجمعة (ج 1 ص 114) والصوم المحدود لشهرٍ واحد (ج 1 ص 119) موصومةٌ بالمجاملات والخرافات. وأكثرها غروراً هي الحجّ إلى مكة. فالمعرّي "لم يقضِ فرضاً في منى" (ج 2 ص 289)، لأنّه يعتبر التطواف حول "صخور يُزرنَ فيُستلمنَ ويُلتمسنَه" (ج 2 ص 527) على أمل مغفرة الخطايا (ج 1 ص 588) هو نوعٌ من عبادة الأصنام (ج 1 ص 499). وفي النهاية يرى المعرّي أن هذه الممارسات الدينيّة لا تشكِّل إلا ّعادات كيفيّة تورث "تقليداً" (ج 1 ص 320).
لمواجهة هذه الديانات الدنيوية، هذا الداء القديم الذي يفرض "أباطيله على كلّ جيل" (ج 2 ص 268)، وهذه الغواية الشاملة التي ضلّلت الحنيفة والنصارى واليهود (ج 2 ص 301)، فإنّ السبيل الوحيد والمنهَج السليم هو اللجوء إلى العقل. فلا يوجد "إمامٌ سوى العقل مشيراً في صبحه والمساءِ" (ج 1 ص 66)، ولا يوجد نبيٌّ مخلّص سوى العقل لأنّ "كل عقلٍ نبيّ" (ج 2 ص 642).
ولكن يؤكّد المعرّي من جهةٍ أخرى وبشكلٍ قاطع أنّ العقل ليس له قدرة على الوصول إلى اليقين (ج 1 ص 56 ، 64 ، ...). فكما أن الله موجودٌ ولا يظهر، فالحقيقة أيضاً موجودة ولكنّها تبقى متعذّرة المنال. وبالتالي كل اللذين يزعمون أنّ لهم قدرةٌ عن اقتناص المجهول والكشف عن الأمور الغيبية عن طريق العقل هم خداعون. هذه حالة المتكلّمين، فمشروعهم الجدليّ قد أخضع أساليب العقل إلى مصالح السياسة وأفسد الدين "حتى صار أشرفُه بازاً لبازين أو كلباً لكَلاّب" (ج 1 ص 155)، يعني أداةً معدّة لجمع الأرزاق و"التنافس في الدنيا" (ج 1 ص 321).
هكذا يُنكر المعرّي فكر كلا من رجال الدين و الرجال العقلانيين، من المعتزلة والصوفية، على حدٍّ سواء. فكلّهم في النهاية يشعرون بذات الحرص على الدنيا وبذات عدم المبالاة تجاه الآخرة. فاللذين يعتنقون بدون اعتبار مبادئ العقل (أي الفلاسفة والمتكلّمون) وأولئك الذين لا يحسِبون لمبادئ العقل أيّ حساب (أي رجال الدين والمتصوّفون)، فإن كلاهما لا يسفران سوى فصل العقل عن الدين. وعن ذلك يقول المعرّي: "اثنان أهل الأرض: ذو عقلٍ بلا دين، وآخرٌ دَيّنٌ لا عقل له" (ج 2 ص 301)، "فأمّا الأولون فأهل مكرٍ في اختيال كأنّهم لقومٍ أنبياء" و"أمّا الآخرون فأغبياءٌ لا عقول تُقيم لها الدليل ولا ضياء" (ج 1 ص 51).
الإيمان يأس العقل
طبعاً لا يُدرِك العقل كشف المسائل الجوهرية. لكن هذا لا يمنع المعرّي من أن يبحث عن الحقيقة حتّى الإنهاك. ومن فرط الاستمرار في البحث والمثابرة رغم الإخفاقات المتكرّرة تشعر النفس إنّ هناك غايةٌ لا يمكن إدراكها ولكن يجب دائما السعي إليها ألا وهي الحق.
فالإيمان ينجم عن الإقرار بالعجز بمقدار ما يُسفِر عن الاعتراف بأنّ ليس بين الإنسان وبين الله مقياسٌ مشترك. لكن هذا لا يعني أنّ العقل يستسلم للاعتقاد؛ بل بالعكس يحتاج الإيمان إلى تمييز العقل ويستنِد إلى حدّة إدراكه وجلاء بصيرته (ومن هنا الرفض القاطع للمعرّي بأن ينتشي ويستغرِق عقله بالسكر والثمالة (ج 2 ص 289 ، 466 ، ...)). لأنّ بصيرة العقل هي التي ترى أنّ هناك صواباً يتجاوز قدرة العقل. فالعقل هو وحده الذي يعى ما وراء العقل. حيث لا توجد حدودٌ قاطعة بين المعرفة والاتقاء، وإنما عقلٌ يقاوم الإيمان، ودائما ينتصر الإيمان على العقل. هكذا يطرح المعري مفارقته: الله هو الحقّ (ج 1 ص 170)، ولكنّ الحق لا يُدرَك. فالحقّ موجودٌ ولكنه متعذّر البلوغ فيقول: "أما الإله فأمرٌ لست مُدركَه" (ج 2 ص 105).
هذا الجهل المتعقِّل، الناتج عن حكمةٍ والمترسِّخ في العقل، يختلف عن ممارسة المتصوّفين الذين يقرّون بعجز العقل لفسح المجال أمام إمكانية المعرفة في القلب من غير استدلال. كما يختلف عن عقيدة المذهب الظاهريّ الذي يقرّ بعجز العقل ليثبت ضرورة الرجوع إلى تطبيقٍ صارمٍ ومخلصٍ للشريعة المنزّلة. فلا يعوّض المعرّي عجز العقل بفرض حقيقةٍ منزّلةٍ ولا بالادعاء بالإلهام والتعرّض للنفحات الإلهية ولا بطمأنينة النفس. فلا يجِد المعري في عجز عقله إلاّ ضرورة البحث المستمرّ عن الله بدون الوصول إليه أبدا.
فالإيمان ليس فكرة، بل انفعال، أو هو الفكر عندما ينفعل أمام معاناة الخيبة والألم والانفصال عن الحق. ونفهم من ذلك إن تلك المحنة وإن تكن دينية، فإنّها لا تبتعد عن التساؤل الفلسفي، إذ أنّ محنة الإيمان هي في النهاية محنة الفلسفة عندما تواجه مسألة الحقيقة. هكذا تحاول اللزوميات أن تروي هذه المحنة وأن تُظهِر انقلابات الفكر ومحاولاته المتعثّرة وخيباته ومشاجراته وافتراضاته، التي تبدو وكأنّها سخيفة، وخواطره الجاهرة بملء الصوت وإن تكن في الحقيقة مُحالة وباطلة؛ إلاّ أن إبداء هذه المحنة يستلزم عند المعرّي ما لا يلزم من الصعوبة والإبداع اللغوي.
الإبداع اللغوي والترجمة
في ظل هذه الظروف، فإنّ الترجمة الوحيدة الصالحة لهذه اللزوميات هي تلك التي تجهد وتعتني بالإبداع ضمن اللغة المترجَم إليها (الفرنسية). فبدايةً، كالتزام المعرّي بالقافية والنظم الكلاسيكي العربي، يبدو أيضاً ضرورياً الالتزام بالقافية والنظم الكلاسيكي الفرنسي. وكما اجتهد المعرّي في اللغة يجب أيضاً الاجتهاد لصياغة تخترِق المعنى وتنوّعه، تُغرِقه في عمقٍ معبّر وبليغٍ يحاول مجاراة العمل الأصلي دون التضحية بأمانة الترجمة. وهنا يُمكن طرح هذا السؤال: هل تكون الترجمة الصحيحة للنصّ الشعري بنقلٍ حرفيّ ومبتذَل إلى اللغة المترجَمة أم هي بسبر لأعماق النصّ الأصلي بغية الوصول إلى معنى هذا النص وإبرازه باللغة الجديدة ؟
كما أشرنا إليه هنا، يتبلور فكر المعري شيئاً فشيئاً شرط أن يؤخذ النص بجديّة، دون حذفٍ أو تشويه بتأويلاتٍ رمزيّة أو باطنية. وإن اتُّبع هذا المنهج يتبيّن في النهاية أنّ فكر المعري يشكّل قفزةً في الفكر العربي والإسلامي، ترفّع بعيداً عن التقليد وتخطّى الفلسفة الغربية الحديثة قبل بلورتها بمئات الأعوام. إذ يمكن إثبات أن فكر المعري يحتوي على رؤيةٍ عقلانية انتقاديّة وتصوّرٍ للتقى الديني ونظريّة للذات خطت إلى الفكر الانتقادي لكانط (Kant) والتقوى المأساوية لبسكال (Pascal) والوجودية اليائسة لكيرغارد (Kierkegaard). فهل هذا كافٍ لإثبات أنّ فكر الحداثة قد بدأ في الشرق؟ على أيّ حال وممّا لا شك فيه، ما تزال اللزوميات هي إحدى الأعمال المؤسّسة للفكر العربي والإسلامي الحديث.
* باحث وكاتب سوري، أصدر بالشراكة مع الكاتب الفرنسي Hoa Hoï Vuong عدّة ترجمات بالفرنسيّة للشعر العربي: "الذهب والمواسم" Ors et Saisons : Une anthologie de la Poésie Arabe Classique و"ديوان بغداد" Le Dîwân de Baghdad : Le Siècle d’Or de la Poésie Arabe؛ كلاهما لدى دار Actes Sud، على التوالي 2006 و2008. وصدر عنهما في تشرين الثاني/نوفمبر 2009 ترجمةٌ لجزءٍ من اللزوميات تحت عنوان: Les Impératifs ; Actes Sud.
* أصدر بالشراكة مع الباحث والكاتب السوري باتريك مكربنة عدّة ترجمات بالفرنسيّة للشعر العربي: "الذهب والمواسم" Ors et Saisons : Une anthologie de la Poésie Arabe Classique و"ديوان بغداد" Le Dîwân de Baghdad : Le Siècle d’Or de la Poésie Arabe؛ كلاهما لدى دار Actes Sud، على التوالي 2006 و2008. وصدر عنهما في تشرين الثاني/نوفمبر 2009 ترجمةٌ لجزءٍ من اللزوميات تحت عنوان: Les Impératifs ; Actes Sud.
[1] جميع النصوص من لزوميات المعرّي مأخوذة من نشرة دار صادر، الجزء الأول والثاني، بيروت.
[2] الأفكار (Les Pensées) ، قطعة 684.
أبو العلاء المعرّي أحد أكبر مفكري الحضارة العربيّة الإسلاميّة. حمته هذه الحضارة واحتفظت به لروعة شعره ولعظمة فكره، حيث أثّر فيها أكثر ممّا يعترف به معظم ورثة هذا الحضارة اليوم. الخوض في فكر وشعر المعرّي إشكاليّ، لأنّه ذهب بفلسفته أبعد من معاصريه، واستبق الحداثة الغربيّة بقرون، وبقي، مع ضعف صاحبه الجسديّ، واقفاً أمامنا حتّى اليوم يؤرق ويسائل. حيث يأتي تحدّي ترجمة "لزوميّات"ـه إلى الفرنسيّة اليوم كدعوة إلى التمحّص في فكر هذا المبدع وفي إشكالية الحداثة.
ليس في ديوان الأدب العربي على عظمته وجلالة قدرته ما يجزيء عن أدب أبي العلاء المعري من نبيل المقصود وتعدّد المناحي وقوّة الشخصيّة؛ فكلّما تحرّر العقل وسمت المدارك وتهذّبت النفس ازداد الإعجاب بأدب أبي العلاء. لقد جمع المعري في شخصيّته، بالإضافة إلى نبوغه الفطري، الإخلاص في خدمة الحقيقة والقوّة في مهاجمة الفساد، فتمكّن من فسح أفقٍ جديد يستعلي على كلّ ما سبقه. وإن يقرّ الجميع بأنّ فكر المعرّي بعيد الغور واسع الأفاق متشعّب الأغراض، فلم يفهم في رأينا القدماء كما لم يدرِك أبناء هذا العصر مدى أهميّة فكر هذا العبقريّ الكبير بما يخصّ مستقبلنا.
ففي وقتٍ يتخبّط فيه مجتمعنا - بقدر ما يشرِد فيه الغرب - ما بين مذاهب دينيّة متحجّرة ومفاهيم عقلانية غثّة، يصعب على الفكر العربي والإسلامي أن يبتكِر طريقاً حديثاً بعيداً عن الأصوليّة الإسلامية والليبرالية الإنتفاعية. يصعب عليه أن يشقّ سبيلاً ينبثِق من تراثنا العربيّ وينفِذ إلى أفاقٍ جديدة يُرسّخ فيها سلطان العقل دون حسم مسألة الإيمان، بحيث أنّ رفض الدغمائية والإعتقادية لن ينتهي إلى نسبيّةٍ أخلاقية وماديّة شرهة، بل تصبح الحرية والمسؤولية الشخصيّة هي الأصول لاعتناق القيم الإنسانية الكليّة. وفي رأينا، أغلبية المعطيات الفكريّة المطلوبة لحلّ هذه المعضلة شبه المستحيلة موجودة في أدب أبي العلاء.
ولد المعرّي سنة 973م. أصيب في الرابعة من عمره بداء الجدريّ وكفّ بصره. فكُرّست حياته على الدرس والعلم. وبعدما اختبر الحياة وتجاوز الثلاثين انصرف المعري عن زخرف الدنيا إلى الأدب والتفكير واعتزل في بيته بعيداً عن الملذّات (حيث كان نباتياً) يصوم ويألّف ويدرّس ولبث تسعا وأربعين سنة "رهين المحبسين" (أي بيته والبصر) مترقّباً الموت حتى وفاته سنة 1057م. ترك المعرّي تصانيف متعدّدة؛ وكتابه الرئيسيّ الذي ألّفه خلال عزلته هو ديوانه "لزوم ما لا يلزم" (الذي يعرف بـ"اللزوميّات").
ولئن كُتِبَ عن المعرّي الكثير من الأبحاث، فإنّها لم تزل لم تفِه حقّه. إذ ما تزال كتاباته، ولزوميّاته على الأخصّ، لُغزاً محيّراً، لدرجة أنّ الرقابة تمنع نشرها في بعض الدول العربية. في هذه الظروف، عندما تطرّقنا في مؤلّفنا الجديد إلى ترجمة مقتطفات من شعر اللزوميات إلى الفرنسية كان لِزاماً علينا بذل جهدٍ إضافيّ في الولوج إلى فكر الشاعر، بل وشرحه أيضاً ضمن السياق التاريخيّ لتطوّر الفكر العربي.
فكر التناقض
الصعوبة الكبرى التي تفرضها اللزوميات هي بلا شكّ ما يقدّمه فكر الشاعر من اضطرابٍ وتناقض، على الأقلّ ظاهريّاً. فعندما نجِد المعرّي في بعض المقاطع يناشِد العقل ضد العقائد الدينية، فإنّنا نراه في مقاطعٍ أخرى يُظهِر عجز العقل وشلله كي يسلّم أمره إلى رحمة الله.
أمام تلك التناقضات المتعدّدة للزوميات المعري، قام بعض النقاد بتأويل هذه اللزوميات حسب آرائهم الخاصّة، معتمِدين بعض المقاطع دون الأخرى. وبالتالي أصبح المعري في رأي البعض ارتيابيّاً، وفي رأي البعض الأخر عقلانياً. فمنهم من نعته بالتُّقى وحسن العقيدة، ومنهم من حكم عليه بالكفر والإلحاد. كما أنّ بعض المقاطع المنعزلة قد حوّلته تارةً إلى شيعيّ وتارةً أخرى إلى إسماعيلي أو درزي أو صوفي أو برهماني.
لكن المعرّي ذاته يحذّرنا بأن تجزئة الشعر "يغيّر معناه" (ج 2 ص 305) [1]. وبذلك ألاّ يكتفي شرح شعره بمعنىً يفسِّر فقط بعض المقاطع المتطابقة فيما بينها، بل عليه أن يقدّم أيضاً تفسيراً لكلّ المقاطع حتى تلك المتناقضة منها. إذ بحسب رأي بسكال (Pascal) وهو مفكّرٌ فرنسي يُعتبر تناقضيّاً، فإن "فكر كلّ مؤلَّفٍ له معنى يوافق جميع مقاطع كتاباته، إلاّ فإنه سيكون دون معنى" [2].
المعرّي ليس إذاً روحاً شاردة وكئيبة أو مجرّد ناظم شعرٍ بدون تعمّقٍ فكري، كما يدّعيه بعض النقّاد؛ بل يُمكِن تقديم تفسيرٍ متماسكٍ لكلّ ما قاله. يجب أيضاً الإشارة هنا، أنّه لا يمكِن تفسير التناقضات القائمة في اللزوميات بذريعة التقيّة (أي إخفاء الآراء الدينية للتخلّص من الاضطهاد) كما ظنّ الكثير من الباحثين؛ بدليل أن الادعاءات الأكثر عرضةً للاتهام بالكفر هي الأصرح والأوضح عند الشاعر. بل يلتزِم المعري الصيغ المتناقضة والمجزّأة والمتعدّدة المعاني في الحقيقة لعرض المحتوى المتناقض لفكره، لا خوفاً من المحكمة الدينية. وهناك برأينا نقط بداية لا بدّ من تفصيلها للدخول إلى فكر هذا الشاعر والمفكّر الكبير.
المعرّي يراهن على وجود الله
الله، بالنسبة للمعري هو في علم الغيب؛ حيث يقول "ليس لنا علم بسرّ الله" (ج 2 ص 378). وبالتالي فإنّ وصف المعرّي الله بأنّه "حكيم" (ج 2 ص 104) يفتح باب تساؤله حول حكمة هذا الخالق (ج 2 ص 103) حتى يكاد أن ينظر إلى الخلق كونه عملاً غير معقول؛ فيقول "خلقنا لَمَم"، أي أنّ خلقَنا هو نوعٌ من الجنون (ج 2 394 )، لأنّه في النهاية لا أحد يعرف "مُراد إلهنا" (ج 2 ص 550). وعلى النحو ذاته يردّ المعرّي على القول بأنّ الله "بلا مكان ولا زمان"، بأن هذا الكلام مُبهَم، فـ"معناه ليست لنا عقول" (ج 2 ص 270). كما يردّ على مقولة بأن "الله واحدٌ أحد"، إن هذا التأكيد ليس إلاّ "تقليداً رضينا به" (ج 1 ص 324).
وبما أن التفكير العقلاني لا يفيدنا بأيٌّ أمر إيجابي بشأن الله، فكذلك لا يمكن أن يفيدنا أيضاً أيّ حدسٍ مباشِر أو أيّ تجربةٍ خارقةٍ للطبيعة وفق رأي المعري. ولذلك فإنّنا نجده يهاجم الصوفيين بعنف: فهم يشردون في خيالٍ مُضلِّل وينتشون من وجدهم "كأنّهم ثمالٌ من كميت" (ج 1 ص 240). وفي الحقيقة هم ليسوا "أهل صفو" (ج 2 ص 155)، بل "جندٌ لإبليس" (ج 1 ص 120)، لا يسعون إلا لمتع الدنيا وللذّات "الفرج والبطن" (ج 2 ص 575).
هذا الموقف السلبي (التنزيه) الذي يبعد الله عن كلّ عبارةٍ أو معرفةٍ إيجابية به، يثير شكّ المعرّي حتّى في وجود الخالق. وللدلالة على أنّ وجود الله هو إمكانية لا يمكن إدراكها، يتبنّى المعرّي في ذات الوقت أقوال الذين يرون في بدائع الخليقة إثباتاً لوجود الله فيقول: "صنعة عزّت الأنامَ بلطف وعزتها إلى القدير العوازي" (ج 1 ص 631)؛ كما يتبنّى في الوقت ذاته ارتياب الذين يروا في تلك البدائع حُججاً للشكّ فيقول: "وقد أُمِرنا بفكرٍ في بدائعه وإن تَفَكَّرَ فيه معشرٌ لحدوا" (ج 1 ص 324). وفي مقطعٍ آخر يحيّره الإلحاد والإيمان حتّى لا يمكنه التمييز بين التصديق والإنكار فيقول متعجّباً متهكِّماً: "عجبي للطبيب يلحِدُ في الخالق من بعد درسه التشريحا" (ج 1 ص 294).
ولكن بالرغم من هذه الحيرة، فإنّ المعري يؤمن بالله (ج 1 ص 383). ولكن إذا لم يكُن هذا الإيمان نابعاً عن قناعةٍ عقليّة بوجود الله أو عن إدراكٍ مباشرٍ له، فما الذي يبرّره؟ تحليل شعره وفكره يمكّننا من القول إنّ هذه القناعة تعود إلى إرادةٍ شخصية. حيث أن فكرة الله لا تُثبَت على أيّ مستوى من الواقع؛ بحيث يتطلّب الإيمان دفعةً من الإرادة. وهكذا المعرّي فإنّه "يثبت" لنفسه أنّ الله "خالقٌ حكيم" لكي يبرّئ نفسه "من معشر نُفاة" (ج 1 ص 229).
فالإيمان قيمةٌ غير مشروطة بقدر ما هو خيارٌ نفيسٌ يُمتثل له مهما كُلّف الأمر: " فلتشهد الساعات والأنفاس لي أنّي برئت من الغويّ الجاحد" (ج 1 ص 393). وهذا الإيمان لا ينفصل عن المخافة: " أخاف من الله العقوبة آجلا وأزعم أنّ الأمرَ في يد واحدٍ" (ج 1 ص 366). وهكذا ينجم وجود الله عند المعرّي عن يقينٍ غير مؤكّد يمكن تشبيهه بيقين العقل العملي عند كانط (Kant) أو بيقين القلب عند بسكال (Pascal). هذا اليقين لا ينتج عن برهانٍ ولا إثباتٍ ولا حدس، بل يتولّد عن فرضيّة أو بمعنى أفضل عن مراهنة.
في تلك الظروف، لا يمكن للله أن يكون إلاّ غائباً وظاهراً منذ الأزل؛ فهو موجودٌ ولكنّه لا يظهر وكما يأتي في القرآن الكريم إنّه "الظاهر والباطن"، حيث يقول المعرّي أنّه "محتجبٌ بادٍ" (ج 1 ص 118).
النقد المزدوج للدين والعقلانية
يناقض هذا المفهوم للإيمان بشكلٍ جذريّ الديانات العقائدية القائمة التي تؤمِن بأنّ وجود الله أمرٌ لا ريب فيه وأن الوحي هو حقٌّ ويقين. في حين أنّ انتقادات المعرّي تجاه الأديان معروفة : فالأديان ليست في الحقيقة إلاّ "مكرٌ من القدَماءِ أرادوا بها جمع الحطام" (ج 1 ص 64) و"أباطيل زخرفٍ كذّبوه" لخداع الناس (ج 1 ص 87). فلأجل السلب والسيطرة تتزاحم الديانات وتثير بين الناس البغض والنزاعات: "فذا عمرٌ يقول وذا عليّ" (ج 2 ص 641) و "كل شريعة تُبدي لمُضمَرِ غيرها إكفارَها" (ج 1 ص 511). فالحقد الذي تضمّره الديانات يولّد لا محالة في النهاية القتل والإرهاب (ج 1 ص 120).
من ناحية أخرى، تشجّع الديانات برأي المعرّي فساد الأخلاق وتكفل شتى أنواع الفجور. حيث يتساءل "هل أُبيحت نساء الروم عن عرض للعرب إلاّ بأحكام النبوّات؟" (ج 1 ص 228) وهل أدّت البدع الإسماعيلية إلاّ إلى "إحلال نسوتهم معرضات لأهل الباطن الفجر؟" (ج 1 ص 540). حتّى الفروض الدينية ومن بينها صلاة الجمعة (ج 1 ص 114) والصوم المحدود لشهرٍ واحد (ج 1 ص 119) موصومةٌ بالمجاملات والخرافات. وأكثرها غروراً هي الحجّ إلى مكة. فالمعرّي "لم يقضِ فرضاً في منى" (ج 2 ص 289)، لأنّه يعتبر التطواف حول "صخور يُزرنَ فيُستلمنَ ويُلتمسنَه" (ج 2 ص 527) على أمل مغفرة الخطايا (ج 1 ص 588) هو نوعٌ من عبادة الأصنام (ج 1 ص 499). وفي النهاية يرى المعرّي أن هذه الممارسات الدينيّة لا تشكِّل إلا ّعادات كيفيّة تورث "تقليداً" (ج 1 ص 320).
لمواجهة هذه الديانات الدنيوية، هذا الداء القديم الذي يفرض "أباطيله على كلّ جيل" (ج 2 ص 268)، وهذه الغواية الشاملة التي ضلّلت الحنيفة والنصارى واليهود (ج 2 ص 301)، فإنّ السبيل الوحيد والمنهَج السليم هو اللجوء إلى العقل. فلا يوجد "إمامٌ سوى العقل مشيراً في صبحه والمساءِ" (ج 1 ص 66)، ولا يوجد نبيٌّ مخلّص سوى العقل لأنّ "كل عقلٍ نبيّ" (ج 2 ص 642).
ولكن يؤكّد المعرّي من جهةٍ أخرى وبشكلٍ قاطع أنّ العقل ليس له قدرة على الوصول إلى اليقين (ج 1 ص 56 ، 64 ، ...). فكما أن الله موجودٌ ولا يظهر، فالحقيقة أيضاً موجودة ولكنّها تبقى متعذّرة المنال. وبالتالي كل اللذين يزعمون أنّ لهم قدرةٌ عن اقتناص المجهول والكشف عن الأمور الغيبية عن طريق العقل هم خداعون. هذه حالة المتكلّمين، فمشروعهم الجدليّ قد أخضع أساليب العقل إلى مصالح السياسة وأفسد الدين "حتى صار أشرفُه بازاً لبازين أو كلباً لكَلاّب" (ج 1 ص 155)، يعني أداةً معدّة لجمع الأرزاق و"التنافس في الدنيا" (ج 1 ص 321).
هكذا يُنكر المعرّي فكر كلا من رجال الدين و الرجال العقلانيين، من المعتزلة والصوفية، على حدٍّ سواء. فكلّهم في النهاية يشعرون بذات الحرص على الدنيا وبذات عدم المبالاة تجاه الآخرة. فاللذين يعتنقون بدون اعتبار مبادئ العقل (أي الفلاسفة والمتكلّمون) وأولئك الذين لا يحسِبون لمبادئ العقل أيّ حساب (أي رجال الدين والمتصوّفون)، فإن كلاهما لا يسفران سوى فصل العقل عن الدين. وعن ذلك يقول المعرّي: "اثنان أهل الأرض: ذو عقلٍ بلا دين، وآخرٌ دَيّنٌ لا عقل له" (ج 2 ص 301)، "فأمّا الأولون فأهل مكرٍ في اختيال كأنّهم لقومٍ أنبياء" و"أمّا الآخرون فأغبياءٌ لا عقول تُقيم لها الدليل ولا ضياء" (ج 1 ص 51).
الإيمان يأس العقل
طبعاً لا يُدرِك العقل كشف المسائل الجوهرية. لكن هذا لا يمنع المعرّي من أن يبحث عن الحقيقة حتّى الإنهاك. ومن فرط الاستمرار في البحث والمثابرة رغم الإخفاقات المتكرّرة تشعر النفس إنّ هناك غايةٌ لا يمكن إدراكها ولكن يجب دائما السعي إليها ألا وهي الحق.
فالإيمان ينجم عن الإقرار بالعجز بمقدار ما يُسفِر عن الاعتراف بأنّ ليس بين الإنسان وبين الله مقياسٌ مشترك. لكن هذا لا يعني أنّ العقل يستسلم للاعتقاد؛ بل بالعكس يحتاج الإيمان إلى تمييز العقل ويستنِد إلى حدّة إدراكه وجلاء بصيرته (ومن هنا الرفض القاطع للمعرّي بأن ينتشي ويستغرِق عقله بالسكر والثمالة (ج 2 ص 289 ، 466 ، ...)). لأنّ بصيرة العقل هي التي ترى أنّ هناك صواباً يتجاوز قدرة العقل. فالعقل هو وحده الذي يعى ما وراء العقل. حيث لا توجد حدودٌ قاطعة بين المعرفة والاتقاء، وإنما عقلٌ يقاوم الإيمان، ودائما ينتصر الإيمان على العقل. هكذا يطرح المعري مفارقته: الله هو الحقّ (ج 1 ص 170)، ولكنّ الحق لا يُدرَك. فالحقّ موجودٌ ولكنه متعذّر البلوغ فيقول: "أما الإله فأمرٌ لست مُدركَه" (ج 2 ص 105).
هذا الجهل المتعقِّل، الناتج عن حكمةٍ والمترسِّخ في العقل، يختلف عن ممارسة المتصوّفين الذين يقرّون بعجز العقل لفسح المجال أمام إمكانية المعرفة في القلب من غير استدلال. كما يختلف عن عقيدة المذهب الظاهريّ الذي يقرّ بعجز العقل ليثبت ضرورة الرجوع إلى تطبيقٍ صارمٍ ومخلصٍ للشريعة المنزّلة. فلا يعوّض المعرّي عجز العقل بفرض حقيقةٍ منزّلةٍ ولا بالادعاء بالإلهام والتعرّض للنفحات الإلهية ولا بطمأنينة النفس. فلا يجِد المعري في عجز عقله إلاّ ضرورة البحث المستمرّ عن الله بدون الوصول إليه أبدا.
فالإيمان ليس فكرة، بل انفعال، أو هو الفكر عندما ينفعل أمام معاناة الخيبة والألم والانفصال عن الحق. ونفهم من ذلك إن تلك المحنة وإن تكن دينية، فإنّها لا تبتعد عن التساؤل الفلسفي، إذ أنّ محنة الإيمان هي في النهاية محنة الفلسفة عندما تواجه مسألة الحقيقة. هكذا تحاول اللزوميات أن تروي هذه المحنة وأن تُظهِر انقلابات الفكر ومحاولاته المتعثّرة وخيباته ومشاجراته وافتراضاته، التي تبدو وكأنّها سخيفة، وخواطره الجاهرة بملء الصوت وإن تكن في الحقيقة مُحالة وباطلة؛ إلاّ أن إبداء هذه المحنة يستلزم عند المعرّي ما لا يلزم من الصعوبة والإبداع اللغوي.
الإبداع اللغوي والترجمة
في ظل هذه الظروف، فإنّ الترجمة الوحيدة الصالحة لهذه اللزوميات هي تلك التي تجهد وتعتني بالإبداع ضمن اللغة المترجَم إليها (الفرنسية). فبدايةً، كالتزام المعرّي بالقافية والنظم الكلاسيكي العربي، يبدو أيضاً ضرورياً الالتزام بالقافية والنظم الكلاسيكي الفرنسي. وكما اجتهد المعرّي في اللغة يجب أيضاً الاجتهاد لصياغة تخترِق المعنى وتنوّعه، تُغرِقه في عمقٍ معبّر وبليغٍ يحاول مجاراة العمل الأصلي دون التضحية بأمانة الترجمة. وهنا يُمكن طرح هذا السؤال: هل تكون الترجمة الصحيحة للنصّ الشعري بنقلٍ حرفيّ ومبتذَل إلى اللغة المترجَمة أم هي بسبر لأعماق النصّ الأصلي بغية الوصول إلى معنى هذا النص وإبرازه باللغة الجديدة ؟
كما أشرنا إليه هنا، يتبلور فكر المعري شيئاً فشيئاً شرط أن يؤخذ النص بجديّة، دون حذفٍ أو تشويه بتأويلاتٍ رمزيّة أو باطنية. وإن اتُّبع هذا المنهج يتبيّن في النهاية أنّ فكر المعري يشكّل قفزةً في الفكر العربي والإسلامي، ترفّع بعيداً عن التقليد وتخطّى الفلسفة الغربية الحديثة قبل بلورتها بمئات الأعوام. إذ يمكن إثبات أن فكر المعري يحتوي على رؤيةٍ عقلانية انتقاديّة وتصوّرٍ للتقى الديني ونظريّة للذات خطت إلى الفكر الانتقادي لكانط (Kant) والتقوى المأساوية لبسكال (Pascal) والوجودية اليائسة لكيرغارد (Kierkegaard). فهل هذا كافٍ لإثبات أنّ فكر الحداثة قد بدأ في الشرق؟ على أيّ حال وممّا لا شك فيه، ما تزال اللزوميات هي إحدى الأعمال المؤسّسة للفكر العربي والإسلامي الحديث.
* باحث وكاتب سوري، أصدر بالشراكة مع الكاتب الفرنسي Hoa Hoï Vuong عدّة ترجمات بالفرنسيّة للشعر العربي: "الذهب والمواسم" Ors et Saisons : Une anthologie de la Poésie Arabe Classique و"ديوان بغداد" Le Dîwân de Baghdad : Le Siècle d’Or de la Poésie Arabe؛ كلاهما لدى دار Actes Sud، على التوالي 2006 و2008. وصدر عنهما في تشرين الثاني/نوفمبر 2009 ترجمةٌ لجزءٍ من اللزوميات تحت عنوان: Les Impératifs ; Actes Sud.
* أصدر بالشراكة مع الباحث والكاتب السوري باتريك مكربنة عدّة ترجمات بالفرنسيّة للشعر العربي: "الذهب والمواسم" Ors et Saisons : Une anthologie de la Poésie Arabe Classique و"ديوان بغداد" Le Dîwân de Baghdad : Le Siècle d’Or de la Poésie Arabe؛ كلاهما لدى دار Actes Sud، على التوالي 2006 و2008. وصدر عنهما في تشرين الثاني/نوفمبر 2009 ترجمةٌ لجزءٍ من اللزوميات تحت عنوان: Les Impératifs ; Actes Sud.
[1] جميع النصوص من لزوميات المعرّي مأخوذة من نشرة دار صادر، الجزء الأول والثاني، بيروت.
[2] الأفكار (Les Pensées) ، قطعة 684.